موسوعة بطل العلقمي الجزء الثالث

اسم الکتاب : موسوعة بطل العلقمي الجزء الثالث

المؤلف : أليف سماحة آية الله المحقق الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر قدس سره
المطبعة : مؤسسة الشيخ المظفر الثقافية العراق النجف الاشرف مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت لبنان

 

 

 

 

 

 

       الحرب وأساليبها، محنكاً ذا مهارة فنية وثقافة حربية وخبرة تامة بشؤون الإقدام والإحجام والتقدم والتأخر ليقي نفسه وجيشه من العطب إن لم يكن مستميتاً فإن عميد الجيش ما دام في مركزه يخفق لواؤه على رأسه فالعساكر ثابتة في مراكزها على نظامها وترتيبها الذي رتبه فإذا زال عن مركزه ولم يكن أنسحاباً بأنتظام يعلم به القواد أو قتل ولم يقم مقامه نظيره أختل النظام وتبدد الجيش ونال العدو منه ما يريد ولهذا قال القائل وقد سئل عن مالك الأشتر بعد موته: ما أقول بمن هزمت حياته أهل الشام، وهزم موته أهل العراق.

معنى العميد لغة:

       قال في القاموس: والسيد كالعميد ورئيس العسكر.

      وفي مجمع البحرين: وعميد القوم وعمودهم سيدهم ومنه قوله «عليه السلام»: من عميد هذا الجيش أي كبيرهم الذي إليه المرجع.

      وقال الزمخشري في أساس البلاغة: وهو عميد قومه وعمود حيه أي قوامهم.

      قالت أخت حجر بن عدي الكندي:

فإن تهلك فكل عمود قوم    من الدينا إلى هلك يصير

       وفي المنجد: عميد القوم سيدهم وسندهم وظاهر في مقدم الجيش لأنهم يسندون أمرهم إليه ويستندون عليه كما يستند البناء على العمود.

ما تلفظه العوام ولا تعرف معناه:

        وهو لفظه «العجيد» لمقدم الغزو ويلقبون العباس بن أمير المؤمنين «عليهما السلام» بالعجيد وما أدري ما يعنون بالعجيد أهو العقيد المصطلح عليه عند الدول المتمدنة الحديثة الذي هو دون العميد بمرتبتين، لا أظن أنهم يعرفون هذا الأصطلاح العسكري الجديد خصوصاً وقد عاشوا أزمنة الأتراك المشبعة الألفاظ التركية كيوزباشي وبميباشي وأمثالهما أم يعنون به الرئيس كما هو في لغة الرب، هذا هو الأقرب لإصالة عدم النقل ولأن العامة يطلقونه على مقدم الغزو وقد عرفنا ذلك بكثرة خلطتنا للعشائر فعرفنا أنهم يسمون الرئيس الغازي ودليل الغازين منهم إذا دلهم على عدو لهم أو على محل تحصل لهم فيه (نهيبة) غنيمة العجيد فيقولون فلان عجيد الغزو وفلان عجيد الريبة وعجيد السرية، وتاه العجيد يعنون الدليل، في هذا الأخير.

(51)

      ثم للعميد عندهم شروط:

     أحدها: أن يكون رئيساً.

     الثاني: أن يكون شجاعاً ويطلقون عليه لفظ رجال زين.

     الثالث: أن يكون خبيراً بالطريق ودليلاً حاذقاً يسلك بهم على غير الجواد المسلوكة والطرق المألوفة خوفاً من الأنذار للمغزويين وحذراً من الطلب إذا كروا راجعين ولهم حكايات وأقاصيص في دلالة هؤلاء بالأهوار والبوادي يكاد يستريب الإنسان بصحة نقولهم كحكايات أقاصيص أهل الجاهلية عن لصوص العرب أمثال دعيميص الرمل العبدي وسليك بن السلكة السعدي وغيرهما من لصوص العرب وقطاع الطريق.

       والعجيد عند الغازين من عوام العشائر اليوم هو الآمر والناهي فبأمره يقدمون، وبنهيه يحجمون، وامره مطاع نافذ فيهم يتبعونه كما يتبع قطيع الغنم رعاته وفيهم بقية من الجاهلية وهو أنه المفضل والقاسم بينهم فله أن يختار من الغنيمة ومن السلب والنهيبة الحلوب من البقر والإبل لنفسه دون حصته يسمونها رأس الجسمة (القسمة) فلا يقسمون حتى تعزل للعجيد وله أن يأخذ لولده أو لزوجته سهماً (حصة) وأن يكافي الغازية فربما كان للعجيد ثلث (النهيبة) الغنيمة تقريباً إلى آخر ما هو معروف عندهم وعند من أطلع على عاداتهم وسيرهم.

        ويتبين أن المعنى العامي هو المعنى اللغوي وأن العجيد هو العميد، وأن عليه اعتماد الغازين سواء كان دليلاً فقط أو دليلاً ورئيساَ معاً على أن العميد هو رئيس الجيش الأول، وربما كان عند العوام الرئيس الثاني إذا كان الرئيس العام يعني رئيس القبائل معهم فيقولون الشيخ سعدون السعدون وعجيد الجوارين ابن كبيح، وعجيد البدور شرشاب، وعجيد الغزي ابن حبيب وهكذا.

العميد عند الدول المتمدنة

       وظيفته وظيفة عسكرية متوسطة من وظائف الجيش العالية بين الركنية والفريقية.

       في الدليل العراقي ما لفظه(1): نظام وزارة الدفاع على أن وزير الدفاع هو المرجع الأول في الوزارة والمسؤول عن إدارتها وحسن قيام جميع الضباط والموظفين والتابعين لها بواجباتهم قسم النظام المذكور في الدفاع إلى الشعبتين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الدليل العراقي: ص426.

(52)

الرئيستين وهما:

    1- ديوان الوزارة.

    2- مجلس الدفاع.

     يتألف ديوان الوزارة من:

    1- سكرتير الوزارة.

    2- المرافقية

    ويتألف مجلس الدفاع من رئاسة أركان الجيش والدوائر الأخرى في الوزارة، ويجتمع برئاسة أركان الجيش وعضوية كل من مدير الحركات ومدير الإدارة ومدير الميرة ومدير التموين والإعاشة، وبصفة كونهم أعضاء أصليين في المجلس المذكور والمجلس يقوم بمساعدة الوزير في إدارة شؤون قوات الدفاع وبإسداء المشورة إليه عند نشوب الحرب، رئاسة أركان الجيش يتولى شؤونها رئيس أركان الجيش وهو من الأمراء برتبة فريق والمرجع الاستشاري الاعلى في وزارة الدفاع وترتبط به شعبة الترجمة وشعبة الخريطة ومديرية الطيران العسكري والمدني.

         ثم ذكر(1) مراتب القواد والضباط ورتبهم مرتبة هكذا الأمراء المشير العميد الفريق وراتبه 75 دينار عراقي، أمير اللواء وراتبه 65 دينار عراقي، ثم القادة الزعيم راتبه 50 ديناراً عراقي، العقيد 42، المقدم 36، الرئيس الأول 30، الرئيس الثاني 26، الاعوان ملازم أول 21، ملازم ثاني 17 الخ.

       قد كتبنا في كتابنا «السياسة العلوية» فصلاً مطولاً ونافعاً جداً في القواد والقيادة وثمراتها واسالسيبها ومراتب القواد وما قام به مهرة القواد من الأعمال الجليلة واظهروه من الفنون العجيبة التي تدل على كفاءة ومقدرة بديعة وذكرنا فيه قواد جيش النبي (ص) وجيش أمير المؤمنينعلي بن أبي طالب «عليه السلام» والخفاء وبعض قواد الدولتين الأموية والعباسية وغيرها من الدول وما قاموا به من الأعمال الجليلة في الحروب الطاحنة تركناه هنا للاختصار.

       فالعباس الأكبر هو عميد عسكر الحسين «عليه السلام» مفاد ما دلت عليه الروايات الواردة في كتب المقاتل والتي أعتنى بضبطها علماء هذا الشأن وقد عبر عنها الحسين «عليه السلام» بقوله: أنت مجمع عددي والعلامة من عسكري، وقول

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الدليل العراقي: ص346.

(53)

العباس «عليه السلام» له لما أراد حمله إلى خيمة الشهداء: أنا مجمع عددك والعلامة من عسكرك، وقد تقدمت في الفصول السابقة وهي صرحة في إرادة العميد لأنه مجمع العسكر والعلامة لهم لأنه حامل لوائهم والإشارة النظامية معه.

      قال في معالي السبطين(1): كان لواء الحسين «عليه السلام» معه وكان أميراً ووزيراً وسفيراً الخ. للمؤلف:

هو العميد لجيش السبط يوم دعا      أنصاره جاهدوا الكفار في الدين

قوموا إلى الموت ذي رسل العداة لكم       يعني السهام وحوطوا آل ياسين

فقام أنصاره الأفذاذ واستبقوا                للموت شوقاً إلى الولدان والعين

دعا العميد معي خلفي فأتبعه                 أصحابه الغر زحفاً للميادين

كأنما الحرب زفت في الجلاد لهم          أبهى عروس من البيض الخواتين

ما مثل موقفهم بالطف معركة                لايوم أحد ولا أيام صفين

سبعون شهم من الأبطال يرهبهم          سبعون ألف من الشوس الملاعين

طعانهم بحراب السمر تحسبه                أجناد كوفان فيها نفث طاعون

هبت بجيش ابن سعد الرجس زوبعة           من عزمهم نسفته دون توهين

 ورب عاصفة هوجاء قد قلعت                 ما حصنته البرايا أي تحصين

جدد لهم ذكريات المجد محتفلاً                  بمنتدى الفخر ممزوجاً بتابين

مثل على مسرح العليا عميدهم                 تمثيل حي شعور راسخ الدين

وأروي لهم عزمه العالي وهمته                       بما يلذ ويحلو من أفانين

الحاجب والمرافق

       ومن وظائف العباس بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليهما السلام» الحجابة لأنه الحاجب والمرافق للحسين «عليه السلام» حيث أن الحسين «عليه السلام» كملك سياسي يحتاج إلى سفير وعميد للجيش لا بد له مما لا يستغني عنه ملك سياسي أو ديني وهو المرافق الخاص بأصطلاح المدنيين والحاجب بأصطلاح القدماء وإن لم يكن محتجباً حقيقة ليتولى شؤونه الخاصة ولا يفارقه في سفر ولا حضر، ولا في قيام ولا قعود لأمور شتى إلا في شئونه النفسية وتلك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) معالي السبطين: ص271.

(54)

الأمور التي يلازمه لأجلها منها أن يتولى المدافعة عند إذا اراد اغتياله أحد أعدائه لأن من كان بهذا المنصب من العظمة وأرتفاع الشأن فلا ريب إنه بمعرض الخطر من ناحية الإغتيال السري والفتك العلني وقد علمت ما جرى للخليفتين عمر وعلي، وفي مولانا أمير المؤمنين يقول ابن عبدون في قصيدته:

فليتها إذ فدت عمراً بخارجة       فدت علياً بما شائت من البشر

        وتغزل عمر بن الوردي مشيراً إلى اعتيال الخليفة الثاني بقوله:

مر بنا مقرطق         ووجه يحكي القمر

قلت أبو لؤلؤة          منه خذوا ثار عمر

        ولولا أن معاوية تحصن بأسته لما نجى من سيف الخارجي وقد كفانا التأريخ تسجيل أسماء من وقع عليهم الاغتيال  وعلقوا بحبال الفتك من عظماء الرجال فالمرافق في مثل هذه الحال يدافع عن صاحبه، وهذا أمير المؤمنين «عليه السلام» ودفاعه  عن النبي (ص) يوم أحد وحنين وقد فر عنه جميع الصحابة مشهور، وقول النبي (ص) له في يوم أحد: رد عني هذه الكتيبة وهذه الكتيبة، رواه الطبري والمفيد وغيرهما.

         وكما أنه يحتاجه لذلك يحتاجه إلى إرسال رسول أو إحضار شخص أو ما شاكله من المهمات الفوتية فيقوم الحاجبأو المرافق بمباشرة هذه الأعمال ولا بد فيه من الكفاءة والمعرفة والعقل والشجاعة والعلم واليقظة والبصيرة والإخلاص لمن ولاه ذلك هذه الوظيفة كان يتولاها أبو الفضل العباس بن أمير المؤمنين «عليه السلام» عند أخيه الحسين «عليهما السلام» لاجتماع هذه الاصفات فيه وهي لا تحوجنا إلى تقديم الشاهد وأستدعاء الحجة للاتفاق على أن أخص بني هاشم بالحسين «عليه السلام» واقربهم منه أخوه العباس الأكبر وابنه علي الأكبر «عليهما السلام»، والعباس «عليه السلام» أكثر مباشرة لأعمال الحسين «عليه السلام».

معنى المرافق لغة وعرفاً:

        معنى المرافق قديماً وحديثاً ومعلوم أن المعنى اللغوي للمرافق هو الرفيق المصاحب ما دام في رفقته وصحبته فإذا فارقه زال الأسم عنه كما نص عليه صاحب القاموس وغيره وهذا المعنى هو المرتكز في أذهان العوام والسائد على أفهامهم لكن ذكر اللغويون للمرافق معناً قريب المأخذ ينطبق على ما نريد وهو أن الرمافق الحاذق الماهر المتأني في حوائجه والطبيب الحاذق، ومن مجموع هذه

(55)

المعاني أخذ صفة المرافق للملك عند المدنيين.

عدد المرافقين عند المدنيين:

المرافقون عند المدنيين ثلاثة وهو يرافقون الملك في تجوالاته الأسترواحية واكتشافاته الاستطلاعية ويقومون بواجب الخدمات في البلاط الملكي ومنهم من رئيس الديون الملكي ورئيس التشريفات يتألف مجلس الديوان الملكي.

قال في الدليل العراقي(1): يتألف البلاط الملكي:

1- الديوان الملكي

2- الأمناء والتشريفات.

3- مرافقي الملك

(1) الديوان الملكي: هو المرجع المختص بالشئون الرسمية بين صاحب الجلالة والحكومة ويتألف من رئيس الديوان وهو أكبر موظف في البلاط والمسئول عن شؤنه بوجه عام وعن الديوان بوجه خاص، وهو الواسطة لتبليغ الأوامر السنية وهو إضافة إلى ذلك سكرتير صاحب الجلالة الخاص معاون رئيس الديوان الملكي يقوم بمساعدة رئيس الديوان الملكي وينوب عنه في غيابه وهنالك ملاحظ وكتاب آخرون مساعدون.

(2) الأمناء والتشريفاتك رئيس التشريفات وهو المسئول عن تنظيم الحفلات والمراسي والولائم الملكية وجميع المقابلات الرسمية مع الحضرة الملكية مساعد رئيس التشريفات يقوم بمساعدة رئيس التشريفات ومعه بعض الكتاب المساعدون.

(3) المرافقونك وهم ثلاثة يرافقون صاحب الجلالة في جميع تجوالاته وأسفاره وهم مسئولون عن محافظته وهو يوزعون أعمال الشرطة ورجال الأنضباط العسكريين الملحقين بالبلاط الخ.

قد كان في العصور القديمة يتولى المقابلات الرسمية وعرض القضايا والمخابرات موظف واحد يطلقون عليه اسم الحاجب كرئيس الديوان اليوم، وله وظيفة المقابلات من قسم التشريفات وله أعوان ومساعدون، وأما البواب فهو الذي يلازم الباب برسم الخدمة، وبقية التشريفات يتولاها موظف خاص يطلقون عليه اسم صاحب الطعام وصاحب المائدة وهو يرأس إدارة المطعم كما أن من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الدليل العراقي: ص15.

(56)

يتولى أمر المشروبات يقال له الشرابي وصاحب الشراب، وصاحب الطعام وهو رئيس الولائم الملوكية واغذية الملك واطعمته بتنظيمه وتحت إدارته جميع الطباخين والطهات والقلائين والشرابين المختصين بشروبات الملك وإدارة الولائم والدعوات الملكوية تسمى دار الضيافة.

أما الحاجب فهو ومعاونة يرافقان الملك في تجوالاته واسفاره ويلازمان بابه سفراً وحضراً ولا يفرقون بين الحاجب والمرافق وهو المسئول عن حفظ الملك فمتى أدخل أحداً بدون أمره أو دخل داخل لا يعلم به عوقب أشد العقوبة وجوزي بأوجع الجزاء.

وإذا عرفت وظيفة المرافق قديماً وحديثاً تعرف أن للحسين بن علي «عليهما السلام» مرافين فقط وهما أخوه أبو الفضل العباس وابنه علي الأكبر فإنهما كانا يلازمان بابه ويمشيان في ركباه وإذا دخل على بعض الأمراء كانا معه كل ذلك حفظاً له وحياطة له وقياماً بواجب أمره.

فقد تحدث المؤرخون وأرباب المقاتل في قصة دخول الحسين «عليه السلام» على الوليد بن عتبة والي يزيد على المدينة وقد دعاه ليلاً إلى بيعة الفاجر يزيد، وإن الحسين «عليه السلام» جمع فتيانه وجعلهم على باب الوليد.

ويتحدث اليزدي في مصائب المعصومين(1) في أخبار كربلاء قال: ثم أرسل الحسين «عليه السلام»إلى عمر بن سعد: إني أريد أن أكلمك فالقني الليلة بين عسكري وعسكرك، فخرج إليه ابن سعد في عشرين وخرج إليه الحسين «عليه السلام»في مثل ذاكن فلما ألتقيا أمر الحسين «عليه السلام» أصحابه فتنحوا عنه وبقي معه أخوه العباس وابنه علي الأكبر، وأمر عمر بن سعد أصحابه فتنحوا عنه وبقي معه ابنه حفص وغلام له، فقال له الحسين «عليه السلام»ويلك! أما تتقي الله الذي غليه معادك أتقاتلني وأنا ابن من قد علمت؟ دع هؤلاء القوم وكن معي فإنه أقرب لك إلى الله، فقال عمر بن سعد «لعنه الله»: أخاف أن تهدم داري! فقال له الحسين «عليه السلام»: أنا أبنيها لك، فقال: أخاف أن تؤخذ ضيعتي! فقال الحسين «عليه السلام»: أنا أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز، فقال: لي عيال واخاف عليهم من ابن زياد! ثم سكت ولم يجبه إلى شيء، فأنصرف عنه الحسين «عليه السلام» وهو يقول: مالك ذبحك الله على فراشك عاجلاً ولا غفر لك يوم حشرك فوالله إني لأرجو أن لا تأكل من بر العراق إلى يسيراً، فقال ابن

__________

(1) مصائب المعصومين: ص224.

(57)

سعد «لعنه الله»: في الشعير كفاية عن البر – مستهزءاً بذلك القول – الخ.

                                                                                                                                                                                        للمؤلف:

أبا الفضل إن السبط سبط محمد                                   مليك بني الدنيا وأنت المرافق

تقوم على أعتاب سدة بابه                                 تبادر في حاجته وتسابق

ويوم أتى دار الوليد صحبته                                     وحولك من عدنان غر غرانق

ويوم ابن سعد قمت والسيف مصلت                                   على رأسه والسبط فيك لواثق

وإن شمرت عن ساقها الحرب عنوة                               وسالت كزخار السيوف فيالق

تسل رهيف الشفرتين وما اتقت                                          مضاربه أدراعها واليلامق

وتترك أشتاتاً من الرع صيدها                             فسيح الفضل فيما تراه مضائق

فلمتعطهم قواتهم قط قوة                                   ولا نفعتهم سمرهم والبوارق

وفروا ولكن مثل حمر بقفرة                        لها القسور الدامي البراثن سائق

تكدست القتلى فكانت روابيا                                 وبحر الدما فيه الخيول زوارق

وقايضهم بالحتف سيفك في الوغى                              لدى الضرب لكن النفوس وثائق

أصاعقة ذاك الحسام أم أنه                                      شهاب هوى أنقضت وراه الصواعق

أبوك الذي لم تشهد الحرب مثله                                مغاربها تعنوا له والمشارق

فقد كان في فن الشجاعة معجزاً                            ومعجزه في كل هيجاء خارق

فبدر وأحد بل حنين وخيبر                               شواهد في أعجازه ومصادق

وصفين بل يوم الخريبة إذ أتى                        بسوق لظعن الأم بالشر سائق

وانت ابنه تروي لنا حملاته                                     وقد كان ما ترويه بالضرب صادق

تقد كما قد قد شطرين قرنه                         وقد هدرت للمعلمين شقائق

تقط كما قط اليراع رقابهم                                 وتبري كما تبري القداح مرافق

الحجابة والحاجب والعباس هو حاجب الحسين «عليهما السلام»

وكما يحتاج الملك إلى السفير والعميد والمرافق في السفر ومقامات الخطر يحتاج إلى الحاجب ليقوم بعرض الكتب الواردة عليه من الآفاق ويأخذ الأجوبة منه فيدفعها إلى أربابها ويتناول من يده الرسائل فيسيرها إلى البلدان والنواحي النائية والدانية ويتولى أمر إدخال الواردين عليه من الآفاق من الوفود ورسل

(58)

الملوك ورؤساء القبائل وأمراس الجيوش وقادة الجنود وولاة المدن وأمراء الخراج والجباة ومدراء الاستخبار وأصحاب الاسرار وعامة ذوي الحاجات وكل هذه الأمور تناط قديماً بموظف يمسى بالحاجب وربما كان المرافق هو الحاجب، وربما كان غيره وهذا العنوان أي عنوان الحجابة من العناوين المهمة قديماً وقد طرأت عليه تطورات كثيرة وترقيات وتحسينات وأحياناً تفاجئه آفات سقوط فما زال بين طورين ضعف وقوة تتجاذبه قوتان هبوط وصعود ارتفاع وانخفاض إلى أن وصل إلى هذا الزمان فأكتسب الحجابة دائرة كبرى وسمت بإدارة الديوان وإن نسخ اسم الحجابة لفظاً فقد ثبت معناه كما سمعت في المرافق.

ولأسباب التطورات على هذه الوظيفة ونظراً إلى كثرة التغيير والتبديل في مراسم هذه الوظيفة ووسام هذا المنصب المهم لزمنا إطلاق العنان للقلم ليجري في هذا الميدان مرحاً بين صفي الإطناب والإيجاز ونحن في كتابنا «السياسة العلوية» قد وفينا البحث فيها حقه واختصرناه هنا لأن التطويل لا يناسب هذا الكتاب.

وأول مهم نلفت إليه أنظار القراء وننبه المطالعين عليه أن نسبه الحجاب لرسول (ص) وائمة أهل البيت النبوي «عليهم السلام» وكذا حال الخليفتين أبي بكر وعمر ليست حقيقية بل هو شبه حجاب لأنهم لم يحتجبوا عن الناس إنما كانوا يختلطون بهم والبلاط الملكي في عهد النبي وأمير المؤمنين علي والخليفتين أبي بكر وعمر إنما هو المسجد الأعظم وهذه سيرهم تنطق بأختلاطهم بالناس ومجالستهم للعامة وأنهم يؤاكلون الفقراء وربما أفترش أحدهم عبائته ونام في المسجد وربما توسد ذراعه وأنضجع على التراب وكل هذه الأعمال مما تنفي عنهم أتخاذ الحجاب الحقيقي الذي أحدثته الجبروتية الأموية في الإسلام، واول مؤسس له في الملة معاوية بن أبي سفيان.

أما ما يحكى في النواد أنهم أتخذوا حجاباً إنما هو على أبواب بيوت الحرم خوفاً من الأبتذال وجرأة أوباش العرب ومن سلب الآداب من أهل البادية فقد يقتحم بيت الحرم الجافي والجلف من الأعراب مفاجأة تجرياً وجرياً مع عادة البدو الغلاظ أهل الشراسة والوعورة الذين لا يراعون حرمة ولا يدينون بأحترام كبير مهما بلغ في العظمة والشأنية، وأنى لأليف الضب ونديم اليربوع الأدب النفسي؟ وكيف لرعاة الإبل والشاة بالتهذيب الخلقي فربما يطرق الطارق من هؤلاء البلداء فيحصل ما لا تحتمله النفس الحرة ويقع ما تنفر منه الطباع البشرية العازفة

(59)

عن نقائص الأفعال ورذائلها وقد لا تطيق الروح الكريمة صبراً على أمثال هذه الجلفيات المدنسة للإنسانية الكاملة وما لا تحمد مغبته وعاقبته من خرق سجاف الأداب وتمزيق جلباب الاحترام.

     كما حصل لرسول الله (ص) من وفد بني تميم فإن هؤلاء كانوا بدواً وحشيين وأعراباً سائحين في فيافيهم وبواديهم من الأضبة واليرابيع بعيدين عن كل أدب مدني وثقافة حضرية، وإن كانوا في منتهى الزعامة والشرف فوردوا وقت القائلة والنبي (ص) في بيت نسائه فجعلوا يدورون حول حجره ويطوف بها ويصيحون: يا محمد! أخرج إلينا لنفاخرك ولولا الحجاب لا قتحموا عليه حجر نسائه ودخلوا في ساعة خلوته، فذمهم الله تعالى بقوله: (إن الذين ينادونك من وراء الحجرت أكثرهم لا يعقلون)(1) لم ينفي عنهم سبحانه وتعالى العقل الفطري بل هم عقلاء من هذه الوجهة ومن أعظم العقلاء وإنما نفى العقل المكتسب وهو المستفاد من التجارب والتمارين فلو أنهم عقلوا ولو من باب الفحص والسؤال فضيلة هذا النبي وعظمته لما خاطبوه بذلك الخطاب الجافي البعيد عن سنن الآداب وليكن هذا على ذكر منك لما سنورده في هذا المبحث.

حقيقة الحجاب:

     هي التستر عن الناظرين والترفع عن مخالطة الناس وهو ضد السفور والأبتذال بكل معنى لأن السفور البروز والظهور على حالة التكشف والأبتذال فالأحتجاب ضده وهو الأختفاء عن النظار وهو محمود في النساء مذموم في الرجال لأن العقائل عند العرب أعز من نفائس الأموال المثمنة التي تصان وتحفظ في صناديق الحديد كالجواهر الفريدة والعقود النفيسة ذات الأثمان الراقية فيقفل عليها بالأقفال الثقيلة ويرتج عليها أقوى رتاج بعد أن تستودع الخزائن الحريزة، أما الرجال فكالأسلحة أحسن حالاتها حين تشهر وأفضل أوقاتها حين تظهر من أوعيتها وتستل من أغمادها والحجاب مفهوم بسيط.

معنى الحجاب لغة:

    قال الفيروزآبادي في القاموس: حجبه حجباً وحجاباً ستره وقد أحتجب والحاجب البواب جمع حجبة والحجاب ما أحتجب به.

    وقال الفيومي في المصباح: حجبه حجاباً في باب قتل منعه، ومنه قيل للستر

______________

(1) الحجرات: 4.

(60)

حجاباً لأنه يمنع المشاهدة، وقيل للبواب حاجب لأنه يمنع من الدخول، والأصل في الحجاب جسم حائل بين جسدين وقد أستعمل في المعاني فقيل: العجز حجاب بين الإنسان ومراده، والمعصية حجاب بين العبد وربه الخ.

    أما الشريف الجرجاني الحنفي فذكر معناه اللغوي والشرعي والصوفي فقال في التعريفات(1): الحجب في اللغة المنع، وفي الاصطلاح (يعني اصطلاح الفقهاء) منع شخص معين عن ميراثه إما كله أو بعضه بوجود شخص آخر، ويسمى الأول حجب حرمان، والثاني حجب نقصان، الحجاب كلما يستر الملوك وهو عند أهل الحق (يعني أهل التصوف) انطباع الصور الكونية في القلب المانعة لقبول تجلي الحق، إنتهى.

    ونحن لا نريد ذكر الحقيقة الشرعية والصوفية.

الحجاب عند الملوك

    قد عرفت في المرافق أن الحجابة وظيفة ولهذا تحتاج إلى تفسيرها لتعرف محلها عند الملوك.   

     قال أحمد بن أبي الربيع في سلوك المالك(2): وأما الحاجب فهو واسطة بين الملك وبين من يريد لقائه ليرتب الناس بين يدي الملك كما يليق بمجلسه الخ.

بيان وإيضاح للحجاب:

كان العصر الجاهلي وصدر الإسلام لا يعرف الحجاب إلا بما عرفناك ولما أحدثه الأمويون تقليداً للقياصرة والأكاسرة كان في أوله بسيطاً لأنه كان يسمى حاجباً  وبواباً معاً ثم تطور وأرتقى إلى مرتبة أعظم من ذلك فصار يرأس البوابين والبواب هو الفراش في اصطلاح الحكومات الجديدة ففرقوا بين البواب والحاجب فأختص البواب بمن يلازم الباب وهو الفراش، وأختص الحاجب بمن يتوسط في الإذن بين الملك ومن يريد مواجهته ويأمر وينهي وتيصرف في مهمات البلاط فهو رئيس الديوان الملكي ثم ترقى في بعض الدول والحكومات اللإسلامية في القرون الوسطى فأطلق  عليه لقب الوزير.

      قال ابن خلدون المالكي في المقدمة(3): في توزيع الدولة المروانية

___________

(1) التعريفات: ص56.                (2) سلوك المالك في تدبير الممالك: ص40.

(3) مقدمة ابن خلدون: ص399.

(61)

بالأندلس (أسبانيا) للوزارة أنواع أتخذوا لكل نوع منها وزيراً وأفردوا للتردد بينهم وبين الخليفة واحدة منهم أرتفع عنهم بمباشرة السلطان في كل وقت فارتفع مجلسه عن مجلسهم وخصوه بأسم الحاجب ولم يزل الشأن هذا إلى آخر دولتهم فارتفعت خطة الحاجب ومرتبته على سائر الرتب حتى صار ملوك الطوائف ينتحلون لقبها فأكثرهم يومئذ يسمى الحاجب.

     ثم ذكر أمر الدولتين الدولة الفاطمية ودولة الموحدين وأنهم أهملوه أولا ثم رجعوا إلى خطة الأمويين أخيراً، وإن الموحدين أختصوا باسم الوزير لمن يحجب الملك في مجلسه ويقف بالوفود والداخلين على السلطان عند الحدود في تحيتهم وخطابهم والآداب التي تلزم في الكون بين يديه ورفعوا خطة الحاجب عنه ما  شاؤوا ولم يزل الشأن إلى هذا العهد - يعني زمانه -.

    قال: وأما في دولة الترك بالمشرق - يعني العثمانية- والجراكسة فيسمون هذا الذي يقف بالناس على حدود الآداب في اللقاء والتحية في مجالس السلطان والتقدم بالوفود بين يديه الدويدار.

   وقال(1): قدمنا أن هذا اللقب كان مخصوصا في الدولة الأموية والعباسية بمن يحجب السلطان عن العامة ويغلق بابه دونهم ويفتحه لهم على قدره في مواقيته وكانت هذه منزلة يومئذ من الخطط مرؤسة لها إذ الوزير متصرف فيها بما يراه وهكذا كانت سائر أيام بني العباس إلى هذا العهد بمصر فهي مرؤسه لصاحب الخطة العليا المسمى بالنائب.

   واما في الدولة الأموية في الأندلس فكان الحجابة لمن يحجب السلطان من الخاصة والعامة ويكون واسطة بينه وبين الوزراء فمن دونهم فكانت في دولتهم رفيعة غاية وجاء الاستبداد على الدولة أخته المستبد باسم الحجابة لشرفها، وجاء من بعدهم ملوك الطوائف فلم يتركوا لقبها وكانوا يعدونه شرفاً لهم.

   ثم لم يكن في دولة المغرب وأفريقية ذكر لهذا الأسم للبدواة التي كانت فيهم وربما يوجد في دولة العبيديين بمصر عند أستعظامها وحفاوتها إلا أنه قليل.

     ولما جاءت دولة الموحدين لم يستكمل فيها الحضارة الباعثة إلى أنتحال الألقاب فلم يكن عندهم من الرئيسات إلا الوزير ولم يكن إسم الحاجب معروفا في دولتهم.

______________

(1) نفسه ص ۲۰۰.

(62)

 

     وأما دولة بني أبي حفص بأفريقية فأحتاج سلطانهم لأتساع المملكة وكثرة المرتزقين إلى قهرمان خاص بداره في أحواله يجريها على قدرها وترتيبها من رزق وعطاء وكسوة ونفقة في المطابخ والأصطبلات وغيرها، وحصر الذخيرة وتنفيذ ما يحتاج إليه في ذلك على أهل الجباية فحصوه بإسم الحاجب وربما أصاروا إليه كتابة العلامة على السجلات إذا كان يحسن الكتابة واستمر الأمر على ذلك وحجب السلطان نفسه من الناس فصار هذا الحاجب واسطة بين السلطان وأهل الرتب كلهم ثم جمع له أخر الدولة السيف والحرب ثم الرأي والمشورة فصارت هذه الخطة أرفع الرتب وأوعبها للخطط.

     ثم جاء الاستبداد والحجر مدة بعد السلطان الثاني عشر منهم ثم استبد بعد ذلك حفيده السلطان أبو العباس علي على نفسه وأذهب آثار الحجر والاستبداد بإذهاب خطة الحجاب التي كانت سلماً إليه ثم باشر أموره كلها بنفسه من غير استعانة بأحد، والأمر على ذلك لهذا العهد.

     فأما دولة زناتة بالمغرب وأعظمها دولة بني مرين فلا أثر لأسم الحاجب عندهم، وأما باب السلطان وحجبه عن العامة فهي رتبة سمي عندهم صاحبها المزدار ومعناه المقدم على الجنادرة والمتصرفين بباب السلطان في تنفيذ أوامره وتصريف عقوباته وإنزال سطواته وحفظ المعتقلين في سجونه والعريف عليهم في ذلك، فالباب له وأخذ الناس بالوقوف عند الحدود في دار العامة راجع إليه، فكانت وزارة صغرى.

     وأما دولة بني عبد الواد فلا أثر عندهم لشيء من هذه الألقاب لبداوة دولتهم وإنما يخصون بأسم الحاجب في بعض الأحوال منفذ الخاص عند السلطان في داره كما كان في دولة بني أبي حفص لأنهم في تبعتها والقائمين بدعوتها.

     وأما دولة الترك بمصر فأسم الحاجب عندهم موضوع لحاكم من أهل الشوكة وهم الترك فينفذ الأحكام في المدينة وهم متعددون وهذه الوظيفة دون وظيفة النيابة التي لها الحكم في الدولة وفي العامة على الإطلاق، وللحاجب الحكم فقط في

طبقات العامة والجند عند الترافع إليه وإجبار من أبى الأنقياد وطورهم من طور النيابة، والوزير في دولة الترك هو صاحب جباية الأموال في الدولة على اختلاف أصنافها وله مع ذلك التولية والعزل في سائر العمال المباشرين لهذه الجباية ، إنتهی ملخصاً.

(63)

شروط الحاجب عند من يعتبر الحجابة:

   قال أحمد بن أبي الربيع في سلوك المالك(1): وصفته أن يكون فهما ذا خلق واسع ومنطق بارع، وأن يكون طويلا جسيماً وسيماً لتروع العيون هيبته وهيئته، وأن يكون ذا عقل وحكمة يدلانه على صواب ما يأتي ويذر، وينبغي أن يكون لا مكفهراً ولا سهلاً، لين الأنقياد، ويجب عليه أن يعرف مراتب الداخلين على الملك فينزلهم منازلهم، وينبغي له في الإذن عند جلوس الملك ولا يطلقه عند خلوته ، ويجب أن يعرف سير الملوك وقواعدهم وخاصة الملك وعامته ليعرف عذر من تاخر منهم ليجيب السلطان إن سأل عنه، وليأمر من يسير بين يدي الملك فيبعدهم من ركابه، وليمنع العوام من التعرض لرکابه بالقسم، ويأمر بأخذها منهم، ويجب عليه مراعاة الوزير والأمتثال لأمره لأنه المشار إليه دونه، وينبغي أن يعرف أخبار الملك في كل وقت ويوصل إليه الأخبار، وليامر البوابين بإنهاء ما يرد عليهم لئلا يخفی من دار الملك شيء، وليعرف الأوقات التي يجلس فيها الملك والأوقات التي يكون فيها في خلوته، وينبغي له أن يراعي خواص الملك ويكرمهم ويعرف مواضعهم ولا يفسح لأحد بالدخول عليه إلا بإذنه ولو كان ولداً، إنتهی.

    ولا تعتبر هذه الشروط في عصورنا هذه بل حسبه أن يكون خريجاً من أحد الكليات الحقوقية وعالماً بالقانون الوضعي وعارفة بالسياسة مهما كانت أخلاقه شرسة وطباعه فظة ومعاملته سيئة، وسواء كان قصيراً نحيفاً أو جسيماً ضخماً كل ذلك سواء.

أسباب الحجاب ودواعيه في نظر المؤلف:

     هي كثيرة جدا: منها: التكبر والانفة من مخالطة الناس وخصوصا العامة والضعفاء وأكثر ما يكون هذا في الولاة والأمراء الشامخين برتبهم ووظائفهم.

      ومنها: الخوف من الاغتيال إما فتكاً علنياً أو تحيلاً بما يجر إلى التلف، وأكثر ما يكون هذا في عظماء الملوك خصوصا الكثير الأعداء وصاحب السطوة الجبار والمحتل لبلاد أجنبية.

    ومنها: مخافة الإنفاق والبذل على الوافدين والسائلين من ذوي الحاجة الماسة والفرر والبؤس وهذا كثير في طبقات الملوك والأمراء والوزراء وسائر الموظفين الكبار والمتمولين من التجار والرؤساء بل وحتى في بعض الفقهاء في

____________

(1) سلوك المالك في تدبير الممالك: ص۱۰۱.

(64)

 

هذه الأزمنة وسبب ذلك في الجميع أمران أقواهما الشح والبخل وأضعفهما العوز وقلة ذات اليد فيستحي من الظهور الذي يقرن به الاعتذار السمج في نظر الكريم لكن الاعتذار المحمود في مثل هذه الحال خير من التوازي الذي يجر إلى صاحبه نسبة البخل والنبز بالتكبر.

     ومنها: الضجر والتبرم بکثبرة الأشغال ومباشرة الأعمال وأكثر ما يكون هذا في الوزراء ومن داناهم في الرتبة والمنصب.

   ومنها: حب الأنفراد والعزلة ويقع هذا السببين محبة الفراغ لأجل التفكير في سعادة الدينا في التمتع بالعلوم والتزود من الحكم والآداب ومراجعة السير الملوكية وكتب السياسة والأخلاق وسعادة الدين بالتفرغ للعبادة وقراءة القرآن وتلاوته وقراءة الأدعية والأذكار والتفقه في الدين ومطالعة التفاسير والحديث وأمثالهما.

    وأهل هذين الصنفين جماعة من الملوك السعداء من أهل الدنيا كالحكماء والفلاسفة، ومن أهل الدين الجادون المجتهدون في تحصيل الرتب الأُخروية فإنهم يقصدون التخلي والأفراد بأنفسهم عن مخالطة العامة بتحصيل ما به سعادة الأخرة.

    ويرسم لك الحقيقة مصورة كتمثال حسي ملموس خلواة امير المؤمنين على ابن أبي طالب «عليه السلام» التي يختارها لنفسه ويجب أن تكون ليلا حسبما حدث به أبو الدرداء من ناحية تضرعه وأبتهاله عند شويحطات بني النجار وانه تأخده الغشية التي لم يشك أبو الدرداء له معها الموت، وما تحدث به فرار الضبائي في مجلس معاوية وقد سأله أن يصفه فأخبره أنه رآه في خلوته الليلية يتململ تململ السليم، وكما تحدث كميل بن زياد الذي أقتفى أثره في الخلوة التي أختار لها الجبانة (المقابر) ليناجي ربه وينادم الأموات، وكذلك تحدث ابن عباس فعاد من بركة تلك الخلوة بعلم كثير، وكما تحدث نوف البكالي إذ رآه يرمق السماء بطرفه في الليل الدامس ليعتبر الكواكب والنجوم المتقلبة في مشارقها ومغاربها طلوعاً وأفولاً ويتخذ من ذلك دليلا على الفناء وعدم البقاء فصبت تلك الفكرة المباركة على توف شؤبوباً من الرحمة بالتفكر والاعتبار.

     أو محبة الفراغ لأجل قضاء الأوطار وإعطاء النفس شهوتها من التمتع بالمسكرات والاغاني والمطربات وقد تسمى هذه الخلاعة وهذا العزف مدنية وحضارة فالملاهي والراقصات معادن الفجور التي تلقب لديهم بالأنسات تستوعب

(65)

 

من وقت الملك والوزير ومن دونهما الثمين فيستوعب ساعات أو ليالي وأياما واكثر أهل هذه الخلاعة بختلطون بالناس سوى الملوك يختصون المجالس وينفردون في أوقات الطرب إلا مع أمثالهم لأن هذا الصنف کثیر أهله، جم رائده ، من أهل الترف والرفاهية في العيش، والقسم المنحط من هؤلاء ينغمس في الفجور وينهمك في الفساد خصوصا أبناء التجار والملاكين وأصاغر الموظفين ويترفع عنه أكابر الملوك والوزراء ويأنفون من ذا ولكن يرون التلهي ترويحاً للأنفس ويتخذونه دليلاً على الأريحية.

     ومنها: محبة الظلم والجور فيحتجب خوفاً أنت ترفع إليه قصص المظالم فيحتاج إلى ردها وخذ بعض الشواهد لما ذكرنا:

    منها ما قاله أبو الفرج ابن الجوزي الحنبلي في تلبيس إبليس(1) وذكر أموراً ثلاثة قال: الثالث أنه يخوفهم الأعداء ويأمر بتشديد الحجاب فلا يصل إليهم أمل المظالم ويتواني من جعل بصدد رفع المظالم.

    وقال الأبشيهي الشافعي في المستطرف(2): كان خالد بن عبد الله القسري يقول لحاجبه: إذا أخذت مجلسي فلا تحجبن عني أحداً فإن الوالي لا يحتجب إلا الثلاث: عيب يكره أن يطلع عليه أحد، أو ريبة يخاف أن تظهر لأحد، أو بخل يكره معه أن يسأل شيئا.

     ثم قال بعد کلام: وقف رجل من خراسان بباب أبي دلف العجلي حينا فلم يؤذن له فكتب رقعة وتلطف في وصولها إليه، وفيها:

إذا كان الكريم له حجاب                فما فضل الكريم على اللئيم

فأجابه أبو دلف بقوله:

إذا كان الكريم قليل مال                      ولم يعذر تعلل بالحجاب

وأبواب الملوك محجبات                     فلا تستنكرن حجاب بابي

وقال محمود الوراق كما ذكره ابن أبي الحديد في الشرح (۳):

إذا أعتصم الوالي بإغلاق بابه                     ورد ذوي الحاجات دون حجابه

ظننت به إحدى ثلاث وربما                        رجمت بظن واقع بصوابه

أقول به مس من العي ظاهر                          ففي إذنه للناس إظهار ما به

__________________

(1) تلبيس إبليس: ص 132.                      (۲) المستطرف 1/92.

(۳) شرح نهج البلاغة 4/ 143.

(66)

فإن لم يكن عي اللسان فغالب                    من البخل يحمي ماله عن طلابه

وإن لم يكن لا ذا ولا ذا فريبة                     يكتمها مستورة في ثيابه

     قال الراغب الأصفهاني الشافعي في المحاضرات(1): قيل يحجب الوالي لسوء فيه أو لبخل منه، ثم أنشد

والستر دون الفاحشات ولا                  يلقاك دون الخير من ستر

أول من أسس الحجاب وسنه في الإسلام

 

           لا خفاء أن الحجاب من آثار الأكاسرة والقياصرة وكانت شدة الحجاب في ملوك التبابعة في العرب كما ذكرنا في كتابنا «الميزان الراجح» وكتابنا «السياسة العلوية» في ترجمة ذي الكلاع الحميري أن رجلا من همدان أقام ببابه سنة لا يصل إليه وإنما سرى إليهم من ملوك الأعاجم، أما الإسلام فبعيد عن هذه العادات الجبارة، منزه عن مثل هذا التعاظم الخيلائي الممقوت، ومصون عن هذه السجايا الماحقة لسنة الرأفة والحنان والرقة والعطف، فقد قامت الشريعة الإسلامية بمقاومة الجبروتية والكبرياء وإبادة الزهو والخيلاء، ونهضت بمكافحة كل سنة جبارة وتغيير كل عادة جائرة عن القصد القویم ونهج العدل المستقيم.

     فقد كان سيد الأنبياء وخاتم المرسلين يمشي في الأسواق ويجالس الفقراء والمساكين ويقف للضعيف والارملة، وعلم (ص) أن هذه السيرة السهلة المعتدلة ذات الرأفة والحنان واللطف والشفقة ستنقلب إلى جبروتية وكبرياء وتباذخ وتعاظم، وتسير ملوك بني امية سير کسری وقيصر فنهى عن ذلك نهية متتابعة وقال أقوالا مشهورة تناقلها الفريقان الشيعة والسنة في التهديد والوعيد لمن أحتجب عن الأمة وأغلق بابه دونها فمن فعل ذلك فهو کسروي التبعية لا محمدي التابعية.

    وأختلف الناس في أول من أحدث الحجاب في الإسلام فقيل عمر بن الخطاب وحاجبه يرفأ مولاه، وهذا قول ضعيف لا نحفل به لأن المعلوم من سيرة عمر بن الخطاب الأبتذال والأختلاط بالناس فقد كان يتلقى الركبان يسألهم عن الغزات فلا تفرق الرسل بينه وبين أفراد العامه وكم رسول قال له الخبر تسمعه عند أمير المؤمنين فيسير ورائه مهرولا وكان يفترش مرقعته وينام في المسجد ويحمل درته ويسير في الطرقات وحده، ولما جيء بالهرمزان أحد ملوك الفرس وجده نائمة في

_______________

(1) المحاضرات 1/101.

 (67)