موسوعة بطل العلقمي الجزء الثالث

اسم الکتاب : موسوعة بطل العلقمي الجزء الثالث

المؤلف : أليف سماحة آية الله المحقق الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر قدس سره
المطبعة : مؤسسة الشيخ المظفر الثقافية العراق النجف الاشرف مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت لبنان

 

 

 

 

 

المسجد مفترشا عبائته المرقعة، ومن كانت هذه حالته كيف يكون محتجباً، وما قيل أن حاجبه يرفأ كما قيل حاجب علي «عليه السلام» قنبر مولاه إنما يعنون الخادم المختص الذي يقف أمامه وفي بابه لقضاء حاجاته فأشبه الحاجب وأطلق عليه.
وقيل: أول من أحدث الحجاب في الإسلام عثمان بن عفان، وقيل معاوية بن أبي سفيان، وأصوب الأقوال هو المتوسط لأن معاوية أقتدي بعثمان وأقتفى أثره وما قيل أحدثه لما ضربه الخارجي فوهم لم يحدثه ذلك الوقت إنما شدده فالذي أحدث المقصور والحجاب في الصلاة هو عثمان عقيب اغتيال عمر بن الخطاب.
قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي الشافعي في سر العالمين(1): روى أبو هريرة قال: لما فتح عمر بن الخطاب مدينة القدس وأمر فيها عبد الله بن مسعود أتيته مهاجراً فدخلت عليه فلم أرى له حاجبا ولا بواباً فسألته عن ذلك، فقال: سيظهر عثمان ثم تسمعون بمنزلها.
وقال جلال الدين السيوطي الشافعي في تاريخ الخلفاء(2) في أوليات عثمان آبن عفان: هو أول من أتخذ صاحب شرطة، وأول من أتخذ المقصورة في المسجدة خوفا أن يصيبه ما أصاب عمر.
وقال ابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي في الشرح(3) وابن عبد ربه المالكي في العقد الفرید(4): وقف أبو سفيان بباب عثمان بن عفان وقد أشتغل ببعض مصالح المسلمين فحجب فقال له رجل وأراد أن يغريه، فقال: يا أبا سفيان! ما كنت أرى أن تقف بباب مضري فيحجبك! فقال أبو سفيان: لا عدمت من قومي من أقف ببابه فيحجبني.
قال ابن خلدون المالكي في المقدمة (5): وأما مدافعة ذوي الحاجات عن أبوابهم فكان محضورة في الشريعة فلم يفعلوه، فلما أنقلبت الخلافة إلى الملك وجاءت رسوم السلطان وألقابه كان أول شيء بدأ به من الدولة شأن الباب وسده دون الجمهور بما كانوا يخشون على أنفسهم من اغتيال الخوارج كما وقع بعمر وعلي ومعاوية وعمرو بن العاص وغيرهم مع ما في فتحه من أزدحام الناس عليهم وشغلهم بهم عن المهمات فأقعدوا من يقوم لهم بذلك وسموه الحاجب.
_____________
(1) سر العالمين : ص35. (۲) تاریخ الخلفاء: ص۱۱۱.
(۳) شرح نهج البلاغة: 4/ ۱۸۳. (4) العقد الفرید 4/ ۱4۳.
(5) مقدمة ابن خلدون: ص۱۹۸.

(68)

وقد جاء أن عبد الملك بن مروان لما ولی حاجبه قال له: قد وليتك حجابة بابي إلا عن ثلاث: المؤذن للصلاة فإنه داعي الله، وصاحب البريد فإنه أمر ما جاء به، وصاحب الطعام لئلا يفسد.
قال ابن أبي الحديد في الشرح(1): حجب معاوية أبا الدرداء، فقيل لأبي الدرداء: حجب معاوية، فقال: من يغشى أبواب الملوك يهن أو يكرم، ومن صادف بابة مغلقة عليه وجد إلى جانبه بابا مفتوحاً، إن الله إن شئل أعطى، وإن دعي أجاب، وإن كان معاوية قد أحتجب فرب معاوية لم يحتجب، إنتهى، وذكرها ابن عبد ربه في العقد الفريد، والراغب في المحاضرات.
وفي المستطرف(۲): أستأذن سعد بن مالك (هو ابن أبي وقاص) على معاوية فحجب فتهتف بالبكاء فأتي إليه الناس وفيهم كعب، فقالوا: ما يبكيك يا سعد؟ فقال: كيف لا أبكي وقد ذهب الأعلام من أصحاب رسول الله ومعاوية يلعب بهذه الأمة، قال كعب: إبك فإن في الجنة قصر من ذهب يقال له عدن، أهله الصديقون والشهداء وأنا أرجو أن تكون منهم، إنتهی .
کعب في هذه القصة هو كعب الأحبار .
وفي المستطرف أيضاً: قال عمرو بن مرة الجهيني لمعاوية: سمعت رسول الله (ص) يقول: ما من أمير يغلق بابه دون ذوي الحاجات والخلة والمسألة إلا وأغلقت أبواب السماوات دون حاجته وخلته ومسألته .
دعوی لبعض الكتاب مزيفة يزعم أن النبي (ص) ومن بعده من الخلفاء قد استعملوا الحجاب يريد يثبت أن هذا العمل الجبار سنة وهذا البغيض البعيد من الرحمة يراه حضارة إسلامية يتزلف إلى أمراء وقته ويباهت الغرب بما أنتقده من إهمال الإسلام الأمور مدنية وقد أخطأ من حيث ظن أنه أصاب، ونحن قد بينا أنه كان للنبي ولأمير المؤمنين علي «عليه السلام» وللخليفتين السابقين خدم خاصة يشبهون الحجاب لا أنهم حجاب حقيقة وقد عرفناك مشيهم في الأسواق منفردين وأختلاطهم بالناس وما كان يصنعه رسول الله (ص) والخليفة عمر بن الخطاب.
وأما حال أمير المؤمنين «عليه السلام» فمعروفة وأنه كان يمشي في الأسواق يحمل الدرة كأنه أعرابي ويقف على البزاز ويساومه في ثوب الكرباس، ويقف
__________
(۱) شرح نهج البلاغة 4/ ۱4۳. (۲) المستطرف 1/193.

(69)

على التمارين وغيرهم يأمر بأرجاح الوزن وحسن المعاملة وينهاهم عن النجش، هكذا كانت حاله مدة خلافته قد روى ذلك ثقات العلماء، وقد كان يدخل عليه الداخل بغير أستئذان كما ورد ذلك في حديث الثقفي وغيره.
فهذا الكاتب الماهر بل الفقيه المفتي قد أخطأ خطئة فاضحة وعثر عثرة لا تقال ولا تستقال وهو الشيخ محمد بخيت المطبعي المفتي بالديار المصرية وهذا لفظه في كتابه حقيقة الإسلام وأصول الحكم(1): في حجاب النبي (ص) و قد ثبت أن أنس ابن مالك كان حاجب النبي (ص) رواه مسلم عن جابر وعن عمر، وهكذا للخلفاء الأربعة حجاب فكان حاجب أبي بكر شديدة مولاه، وقيل سريق مولاه، وحجب لعمر مولاه يرفأ وكان يرفأ حاجب عمر يدعو صهيبة وبلالا وخبابا وعمارة وسلمان قبل الناس ويدخل الناس بعدهم على مراتبهم حتى تمر وجه الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وحکیم ورجال من أجلة قريش وسادات العرب، فلما رأی سهيل بن عمرو ذلك وكان فيهم قال : لم تمعر ألوانكم؟ دعوا ودعينا فأسرعوا وأبطئنا، فلئن حسدتموهم على باب عمر وجفانه لما أعد لهم في الجنة أكثر فليطل حسدكم.
هذا كلامه بلفظه وقد أفتضح هذا الكاتب الماهر والفقيه المفتي بهذا الاستدلا الركيك افتضاح العفيف بين السكارى حيث لم يكن أنس بن مالك حاجبا للنبي (ص) ولم يسمه أحد من علماء الحديث والتأريخ حاجبة وإنما إسمه إلى اليوم الخادم وقد صرحت الأحاديث الصحيحة أنه خادم النبي (ص) إلا أن يريد المطبعي أن يسمي الأغوات (المخاصي) خدام الكعبة حجاب الكعبة تسمية يصطلح عليها هو نفسه ولا مشاحة في الاصطلاح لكنه غير الحاجب المصطلح عليه ، وسواء فرقنا بين الحاجب والبواب كما هو الحق أم وحدنا بينهما إنما يكون ذلك لدار الإمارة أو القصر الملكي البلاط قاعدة الحكم وليست للنبي (ص) وابي بكر وعمر وعلي «عليه السلام» دار إمارة، إنما هو لعثمان فقط، وبلاط الحكم عندهم الجامع الأعظم.
وهذه دكة القضاء في جامع الكوفة معروفة إلى اليوم وهي التي كان يقضي عندها أمير المؤمنين علي «عليه السلام»، ولما أنصرف من حرب الجمل إلى الكوفة قالوا له: إنزل قصر الإمارة، فقال: قصر الخبال لا تنزلونيه، فنزل على ابن أخته جعدة بن هبيرة المخزومي وكانت محكمته الجامع الأعظم لا يخالف في ذلك
___________
(1) حقيقة الإسلام وأصول الحكم: ص ۱۳۰.

(70)

مؤرخ، فأول من شيد البلاط وبنى القصر الملكي للحكم وأنفق عليه أموالا طائلة من بيت مال المسلمين هو عثمان وكانت هذه أحد الأسباب التي نقمها عليه الصحابة والمسلمون وعابوها عليه وأنكروها منه لأنها نفقة باهضة ولا تخلو عن أمرين مجمع على تحريمها إن كانت من ماله كما زعمه المتعصب له فهو إسراف محرم بنص القرآن والسنة وإجماع الأمة، وإن كان من مال المسلمين فأشد حرمة لأنه غصب وخيانة وجناية على المسلمين وهذا الاستبداد ومخالفة سيرة من تقدمه هیأت أسباب الثورة عليه فأعقبها قتله.
أما كون النبي (ص) لا يأذن لأحد عليه فذاك حيث يكون مع نسائه وفي دار عائلته التي ضرب الله تعالى عليها الحجاب وهذا موضع وجب الحجاب فيه شرعا القوله تعالى: (وإذا سألتموهن متعا فسئلوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن)(1) وعقلا فإن فيه صونا للعرض عن الابتذال وحفظة له عن الهتك وقمعة الطماح السفيه الذي يستخفه طيش الصبا ونزق نزوة الشباب وكسرة لتهور الأعراب والبداة الذين لا أدب لهم ولا تحفظ عن الإخلال بواجب الاحترام وقد تحدث نقلة الحديث عن الكلابي الذي دخل عليه قبل ضرب الحجاب وجعل يلحظ عائشة ويقول: يا محمد! إن لي زوجتين جميلتين ألا أنزل لك عن واحدة منهما تتزوجها بدلا عن هذه الحميراء؟!
وإذا نظرت إلى أبطاء الثلاثة من أصحابه وهم من أجلة الصحابة عن الخروج وإطالتهم الجلوس يتحدثون حتى ألموه وأغضبوه فأغفلوا كل أدب ديني ووضعي رسمه لهم الدين والعقل وضيعوا واجب الاحترام له وخرقوا سياج الحرمة حتى أنزل الله فيهم ولهم النهي عن الجلوس عند النبي (ص) في دار حرمه إلا ريثما يأكلون طعام الوليمة غير متوانين في الخروج ولا متلبثين بعد الأكل ولو ريثما ينظرون الأواني وصرح لهم إن تلك الجلسة الطويلة كانت تؤذي النبي (ص) فدلت هذه الآيات على صلف هؤلاء مع كونهم من قدماء الصحابة وأعيان المهاجرين.
وإذا صدر هذا من مثل هؤلاء فما ظنك بالأعراب والبدو وحديث العهد بالإسلام أو المؤلف والمستسلم کرهة فالحجاب في مثل هذا الموضع واجب شرعا وعقلا وليس الجهة التي نحن بصددها ويريدها هذا المفتي وهي حجب الرجل العظيم شخصه عن رعينه فإن كان أنس حاجبا كما يدعي كذبأ فهو حاجب في دار الحرم لا دار الحكم.
________________
(۱) الأحزاب: 53.

(71)

وكذلك كان علي بن أبي طالب أمير المؤمنين «عليه السلام» وقد تحدث الثقفي أنه دخل عليه ولم يجد على بابه أحداً، راجع القصة في ذخائر العقبی والرياض النضرة للمحب الطبري الشافعي وغيرهما .
وكذلك الخليفتان أبو بكر وعمر قد يحجبان الناس في دار الحرم وما نقله عن القرشيين مع سلمان وأصحابه فذاك حيث يكون عمر في دار حرمه لا في دار حكمه وقد علم كل أحد أن دار حكمهما المسجد.
وإذا سمي مثل هذا حجاباً فكل إنسان له حاجب إذ لا يخلو أحد من الناس من حاجب عند القيلولة والأستراحة وخلو المرء بزوجته ولو بأن يغلق بابه فإن الرجل إذا خلا بنفسه ترك التقيد وكذلك العائلة إذا آمنت النظار تبذلت، وهنا يحكم العقل بلزوم هذا الحجاب تحفظاً وصوناً كما حكم الشرع بذلك واستئذان الخدام والأولاد على مواليهم وآبائهم قبل بلوغهم الحلم في وقت الخلوة من الأدب الديني المطابق لحكم العقل الصحيح فقد ورد الحث عليه في السنة النبوية وندب إليه كتاب الله تعالى في ثلاث مواضع هي مظنة الأبتذال سماها عورات، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ)(1) الآية الشريفة.
وهذه الأوقات الثلاثة هي مظنة التبذل، أوقات خلوة الرجل بأهله، وفي بعض هذه الأوقات يعني وقت القيلولة والأستراحة كان وفد بني تميم يطوف بحجر النبي (ص) ويهتف: أخرج إلينا يامحمد لنفاخرك، فأنزل الله تعالى : (نَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(۲) يعني حجر نسائه (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ)(3)، فأين الحاجب ليكفهم ويردعهم؟ وأين الحجاب ممن يخرج إلى الوفد ويظهر للقاصدين ويجلسهم في المجالس العامة والأندية المحتشدة ويفاخر من أراد مفاخرته؟ ولو كان محجوبة لما قال ((حتی تخرج إليهم)) بل قال : حتى تأذن لهم، إلا أن يدعي المطبعي أنه أعرف بمواقع الخطاب من القرآن المجيد فقد دلت هذه الآية الشريفة على نفي الحجاب عن رسول الله (ص).
____________
(۱) النور: 5۸. (2) الحجرات 4.
(3) الحجرات 5.

(72)

ولو أثبت المدعي دليلاً وأتي بحجة لنظرنا فيها ولكنه ساق الدعوى فأحتج بها مجازفة والاستدلال بعین الدعوى مصادرة، وأين الحجاب ممن بني له في مسجده صفة يجتمع بها الفقراء وهم بين الأربعمائة إلى الثمنمائة على أختلاف القولين وكلهم يتحدثون بمجالسته لهم وتحدثه معهم فيسليهم ويصبرهم مرة ويسعفهم ويعينهم مرة أخرى، وفي الحالين يلاطفهم ويوءنسهم ويأكل معهم أحياناً رفعة لما في أنفسهم من كسر الفاقة وأهتضام الفقر، وقد ملأ أبو هريرة حجة أهل السنة المطولات من الكتب بنقل أمثال ما ذكرنا.
لكن هؤلاء المتجددون من مزيج المصريين الأقباط (المتفرنجين) يريدون أن يثبتوا كل طريقة رومانية وشريعة يونانية محقها الشرع الإسلامي ومحاها الدين المحمدي بأن يجعلوا لها أصلاً في الشريعة بظنهم القاصر أن المدينة الجديدة تسري مع شريعة الإسلام جنب لجنب، وتساير حضارة الغرب الممقوتة في كل أتجاهاتها المخلة بمجد الإنسانية والعقل والدين فيريدون أن يجعلوا تخیلات الغربيين وأوهام الأفرنجيين التي تحبذها مدنيتهم وتدعوا إليها حضارتهم ووسموها بألقاب فارغة كالحضارة والحرية والمدنية فزعموا أنها مقتبسة من دين الإسلام دين الله القويم الذي هو منزه عن كثير من هذه العادات القبيحة كأحتجاب الرجال وسفور النساء فجاهلية الغرب شر من جاهلية الشرق العربي قبل الإسلام وإن سمیت تلك حضارة وهذه جاهلية.
فالشريعة الإسلامية والسنة المحمدية مصونة بقداستها عن مثل هذه الأوهام والخيالات مدنية الإسلام وحضارة الشرع وحرية الدين تبع لنصوص الشرع في عزائمه ورخصه لا مطلقة طبقا لأفكار المتجددین وتشهيات العصريين، نعم حجابة النبي (ص) ومختص ببيت نسائه كما في آية (فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ)(1) والمراد بالحجاب فيها ملازمة الخدر وإسدال الستور لا إقامة البواب والحاجب حتى في هذه الصورة.
وسبب نزول هذه الآية الشريفة في ضرب الحجاب على نساء النبي (ص) ما ذكره البرهان الحلبي الشافعي في سيرته في حديث تزویج رسول الله (ص) بزینب بنت جحش من قصة يقول فيها: فأولم رسول الله (ص) له بما لم يولم به على نسائه ذبح شاة وأطعم فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام فشق ذلك على رسول الله (ص) ففي البخاري جعل النبي (ص) لا يخرج ثم يرجع وهم يتحدثون،
_____________
(1) الأحزاب: 53. (۲) السير الحلبية ۲/ ۲۲۷.

(73)

قال أنس وكان النبي (ص) و شديد الحياء فخرج فطلبها إلى حجرة عائشة فأخبر أن القوم قد خرجوا فرجع حتى وضع رجله في أسكفة البيت داخله وأخرى خارجه وأرخى الستر بينه وبينها فنزلت آية الحجاب .
قال في الكشاف : هي أدب أدب الله به الثقلاء.
وفي مسلم: عن عائشة قالت: خرجت سودة بعد ما ضرب علينا الحجاب تقضي حاجتها بالمناصع محل كان أزواج النبي (ص) يخرجن إليه بالليل للتبرز وكانت امرأة جسيمة فرآها عمر بن الخطاب فقال: يا سودة والله ما تخفين علينا فأنظري كيف تخرجين، فأنكفأت راجعة ورسول الله (ص) في بيتي يتعشى وفي يده عرق فدخلت فقالت: يارسول الله! إني خرجت فقال لي عمر كذا وكذا، فأوحى الله إليه وإن العرق في يده ما وضعه فقال : إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن الخ.
وهؤلاء الثلاثة الثقلاء مصرح بأسمائهم في الأحادیث ورواها بعض أهل السنة ولكني لا أشتهي ذكرهم، أما قصة عمر بن الخطاب في حجب القرشيين فقد كانت في وليمة والدار لا تتسع لجميعهم وقد جاءت أحاديث كثيرة في أن النبي (ص) في كثير من الولائم كان يأمر أنس وغيره من الخدام بإدخال عشرة عشرة وليست دور الصحابة كقصور ملوكنا اليوم الحديقة وحدها تكفي لمائة صحابي أن يتخذوها دورة لسكناهم فقد كانت دار الواحد منهم ما تتسع لعياله فإن زاد بيت يعني غرفة هدموه لأنهم لا يبنون ما لا يسكنون، فدار السلطان عمر لا تزيد على دور رعيته فلا تتسع لدخول المدعويين إلا مرتبین، فرتبهم على فضيلة الإسلام لا على شرف الأحساب وهذا صریح قول سهيل بن عمرو العامري القرشي لئن حسدتموهم على جفان عمر.
ثم القصص الاتفاقية والنادرة لا تعد أصلا ولا يستدل بها على ملازمة الحجاب، ثم إن العمر مجلس خاص في داره و منزل نسائه يجتمع إليه فيه الصحابة من المهاجرين فيأمر خادمه بإدخال أهل السابقة من المسلمين ويؤخر أشراف قریش أهل الزهو والخيلاء ليذلل من جماحهم ويروض طماحهم ولم يقتصر على تقديمهم في الدخول على قريش بل يجعل لهم صدر المجلس ويصغي إليهم بمسامعه وإذا سبق القرشي مسلما قديم الإسلام محقرة في نظر قريش أخر القرشي وقدم ذلك المسلم، وهذا غرض سیاسي له غور بعید وقعر عميق لا يسبره عقل المطبعي وأمثاله، إنه يثير الحماس في نفوس الأنفين وذوي النخوة والكبرياء من تقديم من

(74)

يعدونهم عبيداً وخدماً لهم فيرغبوا في الجهاد ليحصلوا درجة هؤلاء التي فاتتهم من إبطائهم عن الدخول في الإسلام فأثرت هذه السياسة في الوقت وطلب إليه الحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل المخزومیان وسهيل بن عمرو العامري وغيرهم أن يسيرهم إلى الشام فسيرهم فلم يرجع منهم إلا نفر يسير وقتل سهيل وعكرمة والحارث، أهذا هو الأحتجاب الملوکي حتی يستدل به المطبعي إنها البلادة.


ذم الحجاب للرجال


الأحاديث في ذمه كثيرة رواها حفاظ الفريقين وقد مر بعضها ومنها من طريق الشيعة ما رواه ثقة الإسلام الكليني (رحمه الله) في أصول الكافي(1) عن الإمام الصادق «عليه السلام» قال: أيما مؤمن كان بينه وبين مؤمن حجاب ضرب الله عز وجل بينه وبين الجنة سبعين ألف سور، ما بين السور إلى السور مسيرة ألف عام.
ومن طريق أهل السنة الإسحاقي الشافعي في تاريخه(2) قال: روى الإمام أحمد في مسنده والترمذي وذكر عن عمرو بن مرة ما تقدم قال : وعن ابن عباس قال : خطبنا رسول الله (ص) فقال: أيها الناس! من ولي منكم عملا فحجب بابه عن ذوي الحاجة من المسلمین حجبه الله يوم القيامة أن يلج الجنة فليس شيء أحب إلى الله من قضاء حوائج المسلمين الخ.
وقال أبو الفرج ابن الجوزي الحنبلي في تلبيس إبليس(۳): روى أبو مریم الاسدي عن النبي (ص) وقال: من ولاه الله شيئا من أمر المسلمين فأحتجب دون حاجتهم وخلتهم أحتجب الله دون حاجته وفقره .
أما الآثار فكثيرة منها ما رواه في المستطرف(4) قال ميمون بن مهران: کنت عند عمر بن عبد العزيز فقال لحاجبه: من بالباب؟ قال رجل أناخ راحلته يزعم أنه من ولد بلال مؤذن رسول الله (ص) ، فأذن له أن يدخل، فلما دخل قال: حدثني أبي أنه مع رسول الله (ص) يقول: من ولي شيئا من أمور المسلمين ثم حجب حجبه الله يوم القيامة، فقال عمر لحاجبه: إلزم بيتك فما رؤي على بابه بعد ذلك حاجب، إنتهى، وهذا حديث وأثر.
_____________
(1) أصول الكافي: ص 36۱. (۲) تاريخ الإسحاني: ص ۱۸۸.
(۳) تلبيس إبليس: ص۱۳۲.
(4) المستطرف 1/92.

(75)

سهولة الحجاب وشدته وطبقات الحجاب
ربما كان بعض الملوك سهل الحجاب وفي الحقيقة يكون كأنه حاجب نفسه بنفسه وإنما أقام شخصا بالباب وسماه حاجبا ليظهر أبهة الملك وعظمة السلطان، ومنهم من كان شديد الحجاب والغاية عنده في التشديد نزاهة النفس الملوكية عن الأختلاط بمن هو دونها ذهابا بنفسه في البذخ والتعاظم أن لا يرى له كفوا في مملكته فيتخذه نديماً أو جليساً محدثاً وهذا خلق وعر وطبع شرس.
يذكر عن جذيمة الأبرش المعروف بالوضاح أنه كان ينادم الكواكب ذهابا بنفسه أنه ليس له نظير حتى ينادمه ولا كفؤ فيجالسه.
ومنهم من يشدد الحجاب لأستهتاره بالفواجر والفجور من المعازف والمطربات والمشروبات الروحية فلا يمر عليه وقت إلا وهو منغمس في لذة طرب أو نشوة سكرة أو معتنقاً أمرداً أو محتضناً مومسة أو راقصاً ثم أو مائساً سكراً وهذا خلق يتصف به كثير من بني أمية وبني العباس؛ فمن الأمويين يزيد بن معاوية وهو المعروف عند أهل زمانه بیزید الفجور، یزید الخمور، منادم الفهود، المسابق على القرود لأنه كان يلعب بالكلاب والفهود ويسابق في الحلبة بقرد يسمى أبا قش على أتان وحشية، وهناك حكایات كثيرة أستوفيناها في كتابنا «السياسة العلوية».
منها ما ذكره البيهقي الشافعي في المحاسن والمساوي(1): قيل: شرب یزید بن معاوية ذات يوم وعنده الأخطل فلما ثمل قال: يا أخطل! أهجني ولا تفحش، فأنشأ يقول:
ألا أسلم سلمت أبا خالد وحياك ربك بالعنقز
وروي عظامك بالخندريس قبیل الممات ولم تعجز
أكلت الدجاج فأفنيتها فهل في الخنابيص من مغمز
ودينك حقا كدين الحما ربل أنت أكفر من هرمز

فرفع يده ولطمه وقال: يا أبن اللغناء! ما بكل هذا أمرتك.
وقال الدميري الشافعي في حياة الحيوان(2): قد درب قرد ليزيد على ركوب الحمار وسابق به مع الخيل وفيه يقول يزيد لما سبق بأتان ركبها فارساً:
من مبلغ القرد الذي سبقت به جواد أمير المؤمنين أتان
___________
(1) المحاسن والمساوي 1/204. (2) حياة الحيوان ۲/ ۲۱۲.

(76)

تمسك أبا قش بها إن ركبتها فليس عليها إن هلكت ضمان
إنتهى، ذكرناها بصورة أوسع من هذه في ترجمة يزيد بن معاوية وذكرنا الأبيات كلها.
ویزید بن عبد الملك بن مروان وهو ابن عاتكة بنت یزید بن معاوية ورث الخلاعة من جده يزيد وهو صاحب سلامة وحبابة وكان مستهتراً بالشراب، وطأ حبابة يوماً وآذنه المؤذن بالصلاة فألبسها ثيابه وأخرجها فصلت بالناس وهی جنب، وغنته يوما فطرب فقال لها: أطير والله، فقالت: وعلى من تخلف المسلمين؟ فقال: عليك وقبل رأسها، وبلغت هذه الكلمة بعض العلماء فقال: طر إلى النار.
وابنه الوليد بن يزيد أشهر خلق الله بالفجور وأشدهم خلاعة وأعظهم إلحاداً وزندقة، كانت له بركة خمر ينغمس فيها كل يوم خمس مرات فيشرب حتى يقيء، وأخبار هذين الفاجرين أستوفيناها في كتابنا «الميزان الراجح».
ومن بني العباس (الأمين) محمد بن هارون الرشید وهو ابن زبيدة أم جعفر وهو الخليع المشهور صاحب کوثر المخنف (والمتوكل) جعفر بن المعتصم صاحب عبادة المخنث أشد خلق الله تهتكاً واستهتاراً، يشبه الوليد في بني أمية، وقتل بین دنان الخمر وآلات الطرب، (وإبراهيم بن المهدي) أستاذ المغنيين ورئيس المخنثين والطنبوريين لم يفق ساعة من السكر وفيه قيل:
خليفة مصحفه البربط یا معشر الأجناد لا تقنطوا

ومن الملوك من يشدد الحجاب ليتفرغ للنظر في المشاريع السياسية ومناهج الإدارة وهذا كثير من الملوك ذوي الحزم واليقظة وقد يكون التشدد في الحجاب المحض الجبروتية ووعورة النفس وشراسة الأخلاق كما هو الحال في خلق عبد الملك بن مروان في الأمويين، والمنصور في العباسيين، وكان المنصور لشراسته وغلظته يقول لأولاده: إذا أخذت مجلس الحكم فغيبوا عني أشخاصكم لئلا ينالكم مني مكروه.
أما تعدد الحجاب، فكفانا أمره ابن خلدون فإنه جعل الحجاب ثلاثة مترتبة طبقاتهم:
الأول: لحجب العامة، الثاني: لحجب الخاصة سوى الندمان، الثالث: لحجب كل داخل على الملك حتى الندمان لضرب من السياسة، فقال في

(77)

المقدمة(1): إن الدولة تكون في أول أمرها بعيدة عن منازع الملك فالدولة إن كان قيامها للدين فإنه بعيد عن منازع الملك، وإن كان قيامها بعز القلب فقط فالبداوة التي يحصل بها عز الملك بعيدة عن منازع الملك ومذاهبه فإذا كانت الدولة أول أمرها بدوية كان صاحبها على حال الفضاضة والبداوة والقرب من الناس وسهولة الإذن فإذا رسخ عزه وصار إلى الانفراد بالمجد واحتاج إلى الانفراد بنفسه من الناس للحديث مع أوليائه وخواصه فيطلب الانفراد عن العامة ما استطاع فيتخذ الأذن ببابه على من يأمنه من أوليائه وأهل دوته ويتخذ حاجبا له عن الناس يقيمه وراء بابه لهذه الوظيفة.
ثم إذا استفحل الملك وجاءت مذاهبه ومنازعه أستحالت خلق صاحب الدولة إلى خلق الملك وهي خلق غريبة مخصوصة يحتاج مباشرتها إلى مداراتها، ومعاملتها بما يجب لها، وربما جهل تلك الخلق منهم بعض من يباشرهم فوقع فيما لا يرضيهم فسخطوه وصاروا إلى حالة الإنتقام منه فأنفرد بمعرفة هذه الآداب الخواص من أوليائه وحجبوا غير أولئك الخاصة عن لقائهم في كل وقت حفظاً على أنفسهم من معاينة ما يسخطهم على الناس من التعرض للقائهم فصار لهم حجاب آخر أخص من الحجاب الأول يفضي إليهم منه خواصهم من الأولياء ويحجب دونه من سواهم من العامة، والحاجب الثاني يفضي إلى مجلس الأولياء ويحجب دونه من سواهم، والحجاب الأول يكون أول الدولة كما حدث أيام معاوية وعبد الملك وخلفاء بني أمية، وكان القائم على ذلك الحجاب يسمى عندهم الحاجب جريا على مذهب الاشتقاق الصحيح.
ثم لما جاءت دولة بني العباس وجدت الدولة من الترف والعز ما هو معروف ، وكملت خلق الملك على ما يجب فيها فدعا ذلك إلى الحجاب الثاني وصار إسم الحاجب أخص به وصار بباب الخلفاء العباسية داران: دار للعامة ودار للخاصة، ثم حدث في الدول حجاب ثالث أخص من الأوليين وهو عند محاولة الحجر على صاحب الدولة وذلك أن أهل الدولة وخواص الملك إذا نصبوا الأبناء من الأعقاب وحاولوا الاستبداد عليهم فأول ما يبدأ به ذلك المستبد أن يحجب عنه بطانة ابنه وخواص أوليائه يوهمه أن في مباشرتهم إياه خرق حجاب الهيبة وفساد قانون الأدب ليقطع بذلك لقاء الغير ويعود ملابسة أخلاقه حتى لا يستبدل به سواه إلى أن يستحکم الاستيلاء عليه فيكون هذا الحجاب من دواعيه، وهذا
_____________
(۱) مقدمة ابن خلدون: ص۲4۳.

(78)

الحجاب لا يقع في الغالب إلا في أواخر الدولة ويكون دليلاً على هرم الدولة ونفاذ قوتها وهو مما يخشاه أهل الدول على أنفسهم لأن القائمين بالدولة يحاولون على ذلك بطباعهم عند هرم الدولة وذهاب الأسبتداد من أعقاب ملوكهم لما ركب في النفوس من محبة الاستبداد بالملك وخصوصاً مع الترشيح لذلك مع حصول دواعيه ومباديه الخ.
تقريع من شدد الحجاب:
قال في العقد الفريد(1): سعید بن مسلم قال: كنت والياً بأرمينية فغبر أبو دهمان ببابي أياماً فلما وصل إلى مثل قائماً بين السماطين وقال: والله إني لأعرف أقواماً لو علموا أن سف التراب يقيم من أود أصلابهم لجعلوه مسكة لأرماقهم إيثاراً للتنزه عن عیش رفيق الحواشي، أما والله لا يثنيني عنك إلا ما يصرفك عني، ولئن أكون مقلاً مقرباً خير من أن أكون مكثراً مبعداً، والله ما نسأل عملاً إلا ونضبطه، ولا مالاً إلا ونحن أكثر منه، وهذا الذي قد صار إليك وفي يدك قد كان في يد غيرك فأمسوا والله حديثاً؛ إن خيراً فخيرا وإن شراً فشر، فتحبب إلى عباد الله بحسن البشر ولين الجانب وتسهيل الحجاب فإن حب عباد الله موصول بحب الله، وبغضه موصول ببغضهم، لأنهم شهداء الله على خلقه ورقباؤه على من أعوج عن سبيله، إنتهی .
أوردنا كثيراً من أمثال هذه القصص في كتابنا «السياسة العلوية» وذكرنا وصايا لبعض الملوك وحكماً وأشعاراً فراجعها، وقد استبان من جميع ما ذكرنا أن الحجاب خلق الجبارين والمتکبرین .


الاستئذان


أما الاستئذان في زيارة الصديق لصديقه والرحم لذوي رحمه والضيف المضيفه والسائل الطارق في الأوقات التي هي مظنه الوحشة أو الخلوة فإن ذلك من الأداب المحبوبة والسنن المؤكدة التي ينبغي مراعاتها عقلاً والمواظبة عليها شرعاً فالالتزام بها نجات من إسداء الإسائة لمقصوده فإن الإنسان إذا انفرد وخلا بنفسه وأمن نظرات الناظرين تبذل بخلع الملابس وفعل ما ينافي الأحتشام ويضاد الوقار ملابسة لحال الاختلاء ومجانسة لصفة الانفراد، والنساء المصونات والعقائل المخدرات في الحجول والأكلة يرفعن أروقة الحجب ویزلن ستور الحجل
_________________
(1) العقد الفريدة 1/40 .

(79)
أنساً بخلو القاعة من النظار وخلوداً إلى غيبة المطلعين، وربما سقط الخمار وأنكشف الرأس، وربما وقع الإزار والعباءة فلا تبادر إلى لبسه أتكالا على حجابها واعتماداً على سدتها المسدولة عليها ، وثقة بحصانة الدار ومنعة البيت، وتبقنا أن لا يدخل داخل مفاجئ، فإذا خرق الطارق سياج الآداب وهتك حرمة الاحترام بترك الاستئذان ودخوله غفلة وعلى حين غرة من أهله ودهمهم على غير أستعداد من دون أشعار صادف من رب المنزل ما يكره لأنه قد رآه على غير ما يحب ويهوى .
وبهذا الأدب الديني البديع أدب الله عبادة خاصة وعامة فقال في خصوص ببوت رسوله (ص): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ)(1)، وقال في خصوص الخدم والأولاد ما سمعت من الآية الكريمة التي تقدمت، وقال في عموم الناس: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا )(۲) وغيرها من الآيات الشريفة في معناها .
وفي الخبر المشهور: من اطلع في بيت بغير إذن فقئت عينه فهي هدر، وفي معناه أحاديث كثيرة، وإجماع الفقهاء على وجوب الاستئذان في الجملة واستحبابه المؤكد في جميع الوجوه عملا بسيرة رسول الله (ص) وأئمة أهل البيت «عليهم السلام» فقد كان رسول الله (ص) وهو كالأب للمسلمين لا يدخل دارا حتى يسلم ويستأذن بل حتى بيت أبنته فاطمة الزهراء «عليها السلام» فكان إذا أراد زیارتها أقبل حتى يقف على باب حجرتها ويقول: السلام علیکم أأدخل، وفي ذلك أحاديث كثيرة ذكرناها في فضائلها «عليها السلام» وذكرنا بعضها في رسالتنا «ردع الناكب» كحديث عمران بن حصین وجابر بن عبد الله المرويين بطريق أهل السنة والشيعة وسواهما من الأحاديث، وكذلك كانت سيرة أمير المؤمنين علي والسبطين الحسن والحسين والأئمة «عليهم السلام» جميعاً ولا يحتمل هذا الكتاب نقل الأحاديث فأطلبها من غيره.
حجابة العباس الأكبر للحسين «عليهما السلام»
حجابة العباس الأكبر «عليه السلام» كيف كانت؟
قد عرفت بالبيان الذي رسمناه لك أنه لم يكن لرسول الله (ص) ولا لأحد من عترته «علیهم السلام» جميعاً حجاب وليس هذا الكتاب موضع نقل الأحاديث في
______________
(1) الأحزاب: 53. (۲) النور: ۲۷.

(80)

هذا المعنى فليس لهم كما للملوك الجبابرة وطواغيت الأمم حجبة وبوابون وإنما لهم خدم وعندهم رجال مختصون مخصصون لقضاء حوائجهم يلازمون أبوابهم في سائر الأوقات أشبه شيء بخدم الخاصة للملوك من غير عبيدهم ومماليكهم يسمونهم بوابين إشعاراً بالاختصاص وإشارة إلى المواظبة ويطلق عليهم إسم الحجاب توسعة في الكلام على ضرب من المجاز تمييزا لهم عن العبيد الأرقاء وموالي العتاقة لأنهم أحرار كأنس بن مالك عند النبي (ص) وجويرية بن مسهر العبدي عند أمير المؤمنين «عليه السلام» وحذيفه الغفاري عند الحسن بن علي
«عليهما السلام»، والعباس بن علي وعلي بن الحسين عند الحسين «عليهما السلام».
للمؤلف:
أبو الفضل عند ابن النبي مقدم بإخلاصه من بين أهل واصحاب
فقد كان مختصاً به ومقرباً لديه لهذا لقبوه ببواب
ولم تك عند السبط دار إمارة فيحتاج مثل الطائشين لحجاب
فقد كان مستناً بسنة جده وسيرته المثلى وافضل آداب
تری بابه مفتوحة أمها الورى يحييهم بشراً بأهل وترحاب
إذا ما لقى المحتاج يلقاه باسماً ولم يمزج العطف الجميل بإرهاب
ومن رام إرشاداً وعلماً يمده ومن رام إسعافاً حباه بإيجاب
فهاتيك أخلاق النبي وهذه شمائله الحسنى تفيض بإرغاب

فحجابة العباس لأخيه الحسين «عليهما السلام» من نمط ما ذكرنا عن النبي وعترته فإنه كان يلازم بابه ليقوم بقضاء حوائجه ومهماته، فإذا أراد أمراً يتعلق بشأن من شئونه التي هي خارج السدة الشريفة آمر أخاه العباس أو ولده علي الأكبر «عليهما السلام» بذلك فسارعا إلى قضاء ذلك اللازم وأسرعا في إنجاز ذلك المهم الذي عرض له «عليه السلام» لأنهما مخصصان لهذه الوظيفة.
قال أبو جعفر الطبري في التاريخ(1) في حديث کربلاء: فلما دنا منه القوم دعا براحلته فركبها ثم نادى بصوت عال يسمع جل الناس: أيها الناس! إسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بما يحق لكم علي وحتى أعتذر إليكم من مقدمي
_______________
(1) تاريخ الطبري 6/243.

(81)

عليكم فإن قبلتم عذري وصدقتم قولي وأعطيتموني النصف کنتم بذلك أسعد ولم يكن لكم على سبيل، وإن لم تقبلوا مني العذر ولم تعطوني النصف من أنفسكم (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ)(1)، (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَـزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)(2). فلما سمع إخواته كلامه صحن وبكين وبکی بناته وأرتفعت أوصواتهن أرسل إليهن أخاه العباس بن علي وعلياً إبنه وقال لهما: سکتاهن فلعمري ليكثرن بكائهن الخ.
وهذه وإن لم تدل صراحة على الحجابة بمعناها السالف لكنها صريحة بملازمتهما له وأختصاصهما به وترشيحهما لما يهمه وقد مرت شواهد كثيرة تدل على مواضبتهما للخدمة الحسينية وخاصة العباس «عليه السلام» الذي لم يدع ملازمته آناً ما سفراً وحضراً حتى في آخر حياته كما سيجيء في مقتله وشهادته عن الشيخ المفيد وغيره أنه «عليه السلام» قصد المسناة وبين يديه أخوه العباس «عليه السلام». .
فقد ظهر مما ذكرناه أن للعباس «عليه السلام» عند أخيه الحسين صلوات الله عليه أربعة وظائف مهمة هي السفير والعميد والمرافق والحاجب سوى وظائف عسكرية أخرى تلقاها يوم العاشر من المحرم أقتضتها حراجة الموقف سنشير إليها في الخطط العسكرية وهذه الوظائف الأربعة وظائف سامية ورتب نبيلة كما عرفتها. للمؤلف:
جمعت وظائف ساميات جمة للشهم عباس بن ساقي الكوثر
فله السفارة والحجابة دائماً وهو المرافق بل عميد العسكر
قد خصه فيها الحسين فزاده فضلاً على فضل له لم ينكر
بذ الكرام بما حبى من رتبة وصفاته العليا وطيب العنصر
فرم مشا للموت دون إمامه طلق المحيا مشية المتبختر
باع النفيس ونفسه في كربلاء لكن سوى طيب الثنا لم يشتر

___________
(1) يونس: ۷۱. (۲) الأعراف: 196.

(82)

الدخول إلى الحرب


تشكيل الخطط الحربية بكربلاء وغيرها
الخطط الحربية تتشكل بشكلين لا ثالث لهما: خطة هجوم وخطة دفاع عند سائر الأمم الحاضرة والغابرة وفي جميع الحروب النظامية وغير النظامية وسواء كانت الطريقة هي الكر والفر أو الأصطفاف أو الكردسة أو تفرقة الجند على طريقة الحضارة الحادثة كل ذلك سواء في طريقي الهجوم والدفاع لا يشذ عن هذا غير أسلوب اللصوص وخطط القرصان وقطاع الطريق وأهل الغارات والسرايا المغيرة والبعوث التي ترسلها الملوك وقوات الثغور المرابطة قد تتبع هذا النظام وقد تغایره لكن الجيوش المنظمة المتقابلة هذه خططها وهذه أنظمتها سواء تكافأ الجيشان في القوة أم أختلفا لا بد من تنظيم خطتين: أحدهما للهجوم، والأخرى للدفاع كما ستعرف.
فالحسين بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليهما السلام» اختار خطة للدفاع بديعة جدا نظرة منه لقلة عسکره وضخامة جيش الأعداء وانقطاع المدد من جيشه الصغير واتصال الأمداد بجيش عدوه الكبير فإن القوات تتلو القوات والجحافل تقفو الجحافل حتى قيل:
ملأوا القفار على ابن بنت محمد جنداً وملؤ صدورهم ذحل
بجحافل بالطف أولها وأخيرها بالشام متصل
أما قائد قوات الأعداء عمر بن سعد فقد أختار في تنظيم جيشه الكبير المقابل الجيش الحسين الصغير ما تفعله الجيوش الصغيرة في مقابلة الجيوش الكبيرة وتعتمده الأجناد القليلة في ملاقات الأجناد الكثيرة وهو الكردسة.
وهذا النظام الذي اختاره عمر بن سعد يدل أن قوة ثبات جيش الحسين «عليه السلام» الصغير أعظم من قوة جيشه الجرار وهو كما ظن الخبيث فإن السبعين فرساً في جيش الحسين «عليه السلام» لم تقف أمامها العشرة آلاف فرس في جيش عمر بن سعد كما جيء تحريره وهذا مقام يستدعي التوسع فإن معرفة تشكيل الجيشين يوم كربلاء تجر إلى بيان الأنظمة العسكرية التي تستعملها الأمم

(83)
قديماً وحديثاً، وكيف كان رسول الله (ص) وأمير المؤمنين علي «عليه السلام» ينظمان جيوشهما ومعرفة هل الطرز الحديث المدني هو النظام المستحدث أم القديم وحصلت فيه تعديلات وتحسنات وزيدت فيه زيادات المناسبة الأسلحة النارية الجديدة كالبنادق والمدافع واستحداث الأليات كالطائرات والدبابات والسيارات المدرعة والمصفحة والبوارج والطرادات والناسفات والغواصات وكيفية استعمال الطوربيد وإلقاء القاذفات المتلفة من القنابل والطاقات وإطلاق العيارات النارية والخراطيش وماشابه ذلك ونحن قد كتبنا في «السياسة العلوية» شرح عهد أمير المؤمنين «عليه السلام» فصلاً أطول مما نكتبه هنا بكثير مستوعباً العامة التنظيمات الحديثة والقديمة.
ونحن نبدأ بتعبئة الجيشين المتقابلين في كربلاء: جيش سيد الشهداء الحسين ابن علي «عليهما السلام» وجيش قائد القوات الأموية الكوفية عمر بن سعد فإني لم أجد أحدا من المهرة الفنيين والأساتذة القديرين من رسم لنا الخطتين بصورة مفهومة وانا أرسم ذلك إن شاء الله مستنتجة ما أحرره من أسفار التاريخ ومقتضبا له من مجموعة الأثار المنصدية لإيراد وقائع ذلك اليوم الفظيع والموقعة المؤلمة والمذبحة النكراء التي هي أفضع مذبحة بشرية واجهها التاريخ ضحي فيها بسلالات الأنبياء، وأضع أمام ذلك خريطة ليفهم القارئ أن جيش الحسين «عليه السلام» كان في ضمن جيوش الأعداد كنقطة في دائرة أو خرزة في وسط حلقة.
وخذ رسم الخريطة:
خطة الدفاع
الخطة التي رسمها الحسين «عليه السلام» لجنده اليسير في الدفاع والدفع لذلك الجيش العرمرم ولا خفاء أن جیش عمر بن سعد على أقل ما روي اثنان وعشرون ألفاً فيه عشرة الاف فارس، وجيش الحسين «عليه السلام» قيل ألف رجل وهذا قول المسعودي في مروج الذهب وهو محمول على أنه كان قبل أن يأمر الأعراب بالتفرق وإلا فيعتبر شاذاً لأنه «عليه السلام» تبعه أناس من أعراب وأرباب أطماع حسبوا أن ملك العراق له فلما أعلمهم بخذلان أهل الكوفة له وتظاهرهم بعداوته وانه قادم على الأسنة والسيوف لا محالة تركوه وتفرقوا عنه في مياههم ویواديهم فبقي معه خلص أصحابه وخواص شیعته .
وقيل: سبعون ويحمل على الفرسان منهم، وقيل: مائة وعشرون: وقيل:

(84)

مائة وخمسون: وقيل : مائة وأربعون وهو المروي عن الإمام الباقر «عليه السلام» وأختاره الطبري المؤرخ وهو أعدل الأقوال إن شاء الله فكان معه «علیه السلام» سبعون فارسة وسبعون راجلاً، وفي جيش عمر بن سعد عشرة آلاف فارس وعشرة آلاف رامي بناء على ما هو أعدل الأقوال وهو المروي عن الإمام زین العابدین «عليه السلام» والإمامين الباقر والصادق «عليهما السلام» أن جيش عمر بن سعد ثلاثون ألفة وهذا أصح ما قيل وهو وسط بين القول بالزيادة والنقصان.
فهذا الجيش الضخم أحاط بجيش الحسين «عليه السلام» من جميع الجهات، وإن الحسين «عليه السلام» رأي عند نزوله بكربلاء تلاعاً ثلاثة متقاربة ترسم بصورة هلال فتيقن أنها تكون مكناً ومكمناً لخيول الأعداء وذلك حيث يقول النافع بن هلال: خرجت أتفقد هذه التلاع مخافة أن تكون مكناً لخيول الأعداء يوم تحملون ويحملون، فهذا أوجب عنده أن يحتاط منها لئلا يأتيه العدو من خلف كما وقع لجيش النبي (ص) يوم أحد وجيشه لقلته لا يستطيع الممانعة والمدافعة مستقبلاً ومستدبراً، وإذا فرقته الحملة لم يستطع أن يحمي ما وراء ظهره وإنما يستطيع الممانعة والمدافعة للعدو بأجتماعه وأنضمام بعضه بعض فرأى من لوازم الحزم واليقظة أتخاذ وسيلة لصد هجمات العدو عليه من خلفه وليضطره إلى المكافحة من أمام فأحتفر خندقة من وراء المخيم يحيط بجميع الخيم من جهات ثلاثة على شكل هلال أيضا فكان الخندق محيطة بجيشه ومخيمه من الجنبات الثلاثة: اليمين واليسار والوراء، وملأه بالحطب حتى إذا شب القتال ونشبت الحرب أضرم فيه النار فيمنع من أراد الأقتحام من ناحيته ويرد من حاول الهجوم عليه من هذه الجنبات فيكون قتاله للأعداء من جهة واحدة ويلقاهم من وجه واحد لأن الخندق المضطرم بالنار لا يقتحمة فارس ولا يقتحمه راجل فأصبح هو والتلال الثلاثة المشرفة كأمنع حصن وأحصن سد وأقوى أستحکام يقيمه محارب الجيش مصحر لعدوه.
تعبئة الحسين «عليه السلام» لجنده
ثم إن الحسين «عليه السلام» عبأ أصحابه وقسم جنده إلى ثلاثة أقسام فتكونت له ثلاث كتائب صغيرة فجعل واحدة في الوسط وهو القلب واثنين مجنبتين ميمنة وميسرة، وهذا التقسيم للرجالة المشاة فجعل قائدة المجنبة اليمنى وهي عشرون رجلاً زهير أبن القين البجلي، وقائد المجنبة اليسرى وهي أيضاً عشرون

(85)

رجلاً حبیب بن مظاهر الأسدي، وجعل قائد كتيبة القلب وهي ثلاثون رجلا أخاه العباس بن علي «عليهما السلام» ودفع إليه لواء العسكر وهو لوائه الأعظم، ووضع له کرسي فجلس عليه في مركز القلب خلف موقف حامل اللواء.
وهذه الكتائب الثلاثة أقامها حرساً للأخبية والبيوت ولتصد هجمات العدو على تخوم ذلك المناخ، وجعل قائد القوات جميعاً أخاه العباس «عليهما السلام»، وجعل له حرساً خاصاً أقامه على رأسه ليدفع عنه من قصده من مردة الأعداء، وهذا الحرس مؤلف من أربعة أبطال من أنصاره وهم: نافع بن هلال الجملي البجلي، وحنظلة بن أسعد الشبامي الهمداني، وأبو ثمامة الصائدي الهمداني، وسعيد بن عبد الله الحنفي، ورأس عليهم ابنه علي الأكبر «عليه السلام»؛ فعلي الأكبر «عليه السلام» رئيس الحرس الحسيني الخاص، ونافع بن هلال تلقى وظيفة إمارة الرماة فكان من رجال الحرس الخاص و قائدة للرماة .
ثم ألف «عليه السلام» كتيبة رابعة وهي كتيبة الخيالة الفرسان ويبلغ عدد فرسانها سبعین فارساً جعلها كبكبة واحدة تحت قيادة الحر بن یزید الرياحي التميمي وجعل كتيبة الرماة أمام كتيبة الخيل حامية لها من هجمات الأعداء المفاجئة وجعلها صفاً واحداً أمام فرسانه، وفي هذه الكتيبة من مهرة الرماة الفنانين وخبرائهم ومن لا تخطى له رمية إلا نادراً؛ أمير الكتيبة نافع بن هلال وأبو الشعثاء يزيد بن المهاصر الكندي أحد بني هند وكانت معه مائة نبلة نثلها أمام قدمي الحسين «عليه السلام» وكان يقول: «بنو بهدلة فتيان العرجلة» فأخطأ بخمس نبال وأصاب بخمسة وتسعين نبلة، وكان كلما رمی نبلة قال الحسين «عليه السلام»: اللهم سدد رميته وأجعل ثواب عمله الجنة، وكذلك فعل نافع بن هلال وكان يكتب على النبلة إسمه واسم أبيه فيرمي فلا يخطئ، وأطلب تراجمهم من کتابنا «أعلام النهضة الحسينية) وكتابنا «الميزان الراجح» .
تعبئة جيش عمر بن سعد «لعنه الله»
أما عمر بن سعد «لعنه الله» فجعل تلك الخيل الكثيرة كراديساً (والكردوس تعرفه العوام بالصموم) وهو عبارة عن كوكبة واحدة مجموعة من فرسان وأمرها أن تحوم على عسكر الحسين «عليه السلام» من جهاته الأربعة وجعل على الخيل كلها عزرة أبن قیس الأحمسي البجلي، وعبأ العسكر تعبئة الحرب على النظام المعمول به في تلك العصور: فقسم إلى ميمينة وميسرة وهما المجنبنان، وقلب وساقه،

(86)