موسوعة بطل العلقمي الجزء الثالث

اسم الکتاب : موسوعة بطل العلقمي الجزء الثالث

المؤلف : أليف سماحة آية الله المحقق الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر قدس سره
المطبعة : مؤسسة الشيخ المظفر الثقافية العراق النجف الاشرف مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت لبنان

 

 

 

 

 

«عليه السلام» عشرون ذراعا في عشرين ذراعا روضة من رياض الجنة .

    وعنه «عليه السلام»(1): حرم قبر الحسين «عليه السلام» فرسخ في فرسخ في فرسخ في فرسخ.

    والروايات بهذا كثيرة، وأما روايات الإتمام فيه والاستشفاء فقد عدلنا عن ذكرها تمشيا مع الاختصار.

اشتقاق الحائر وسبب تسميته به:

     أما التسمية والاشتقاق فقيل : إن إسم الحير كان قديماً جداً وهو موضع بكربلاء، وقيل: إسم حادث سمي به عند ظهور جور الملوك العباسيين على مرقده الأقدس فإن الرشيد والمتوكل أرادا حرث قبره «علیه السلام» وإجراء الماء عليه فمنعه الله تعالی فحارت البقر ودارت حوله ولم تصل إليه وحار الماء وأستدار على جوانبه ولم يصل إليه، ومستند هذا القول الأحاديث الكثيرة التي سنورد بعضها وهي تؤيد قول من حدد الحائر بما دار عليه حائط الحضرة الشريفة واكتنفه سور القبة المقدسة ولا مانع من اجتماع السببين بأن يكون في الأصل حيرة ثم استحار الماء حوله وحارت البقر في مجراها.

 مسلك اللغويين والجغرافيين على مشربهم:

     قال الفيروزآبادي في القاموس: حار الماء تردد، والحائر مجمع الماء وحوض يسبب إليه مسيل ماء الأمطار والمكان المطمئن والبستان كالحير وكربلاء كالحير وموضع بها، إنتهی.

   وقال الحموي في معجم البلدان(۲): الحائر بعد الألف ياء مكسورة وراء هو في الأصل حوض يصب إليه مسيل الماء من الأمطار سمي بذلك لأن الماء يتحير فيه يرجع من أقصاه إلى أدناه.

   وقال الأصمعي: يقال للموضع المطمئن الوسط المرتفع الحروف حائرة وجمعه حوران وأكثر الناس يسمون الحائر الحير كما يقولون لعائشة عيشة.

   والحائر قبر الحسين بن علي «عليهما السلام».

   قال أبو القاسم: هو الحائر إلا أنه لا يجمع له لأنه إسم لموضع قبر الحسين «عليه السلام».

    فأما الحيران فجمع حائر وهو مستنقع ماء يتحير فيه يجيء ويذهب.

________________

(1) نفسه: ص۲۸۰.                     (۲) معجم البلدان ۳/ ۲5۲.

(291)

 

     ثم ذکر یاقوت ما نسميه العرب بالحائر في بلادها ولا يهمنا ذكره.

    قال السيد هبة الدين الشهرستاني في كتاب نهضة الحسين «علیه السلام»(1): ثم الحير ويسمى الحائر وهو اليوم موضع قبر الحسين «عليه السلام» إلى حدود رواق بقعته الشريفة أو إلى حدود الصحن وكان لهذا الحائر وهدة فسيحة بسلسة تلال محدودة وربوات تبدأ من الشمال الشرقي حيث منارة العبد متصلة بموضع باب السدرة في الشمال وهكذا إلى موضع باب الزينبية في جهة الجنوب وكانت هذه التلال المتقاربة تشكل للناظرين نصف دائرة على شاكلة نون مدخلها الجبهة الشرقية حيث يتوجه منها الزائر إلى مثوی سیدنا العباس بن علي «علیهما السلام» ويجد المنقبون حتى يومنا في أثافي البيوت المحدقة بقبر الحسين «عليه السلام» آثار ارتفاعها القديم في جهات الشمال والغرب ولا يجدون في الجهة الشرقية سوی تربة رخوة واطئة الأمر الذي يرشدوا العرفاء إلى أن وضعية هذه البقعة كانت منذ عصرها القديم واطئة من جهة الشرق ورابية من جهة الشمال والغرب على شکل هلالي وفي هذا الشكل الهلالي حوصر آبن الزهراء «عليها السلام» في حربه حين قتل، إنتهی.

    وقال فخر الدين الطريحي (رحمه الله) في مجمع البحرین(۲): وفي الحديث ذكر الحائر وهو في الأصل مجتمع الماء ويراد به حائر الحسين «عليه السلام» وهو ما حواه سور المشهد الحسيني على مشرفه السلام، إنتهی.

 مسلك الفقهاء من الشيعة الإمامية والسبب الحقيقي لتسمية الحائر:

    قال المقدس الأردبيلي (رحمه الله) في مجمع الفائدة: وأما حرم الحسين «عليه السلام» فالظاهر أنه ليس بمعلوم إطلاقه على غير الحائر وهو ما دار عليه سور المشهد والحضرة على ما نقل من معنى اللغة وهو الموضع الذي يقف الماء فيه وكان في ذلك الموضع على ما نقل وقوف الماء الذي من معنى اللغة وهو الموضع أجرى عليه بعض الخوارج لأجل التخريب.

     ونقل في المنتهى عن المفيد أن الشهداء كلهم في الحائر إلا العباس «عليه السلام» وهو يدل على عدم دخول سائل البلد في الحائر لا سور البلد.

     ثم ساق الكلام إلى الحكم الشرعي بالتقصير فيه ومثله قال ابن إدريس الحلي في السرائر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) نهضة الحسين عليه السلام: ص66.                (۲) مجمع البحرین : ص ۲۷۰.

(292)

 

      وقال العلامة الكبير الشيخ جعفر كاشف الغطاء(1): الحائر الحسینی والمتيقن منه ما أحاط بالقبر الشريف من كل جانب من جوانبه بخمسة وعشرين ذراعاً باليد وتحديده بحائط سور الصحن الشريف وقد حصل فيه الآن تغییر وتحريف غير بعيد ويتخير فيها بين القصر والإتمام والأول أحوط والثاني أفضل، الخ.

     وليس المتيقن كما ذكر (رحمه الله) خسمة وعشرين ذراعاً بل المتيقن رواية العشرين لأنها مجمع الروايات كلها والأقوال أيضا فتكون هي المتيقنة قطعاً وحسبنا هذا من كلام الفقهاء إذ جمعه يستدعي مؤلفة خاصة به ولكن الملخص من جميع الأقوال والذي يجب العمل بن علی طبقه حكماً وتكليفاً واحتياطاً الانتصار على ما أحاط به سور القبة الشريفة وهي الحضرة الداخلية دون أروقتها وجوامعها في مسألة التخيير بين القصر والإتمام والاستشفاء في التربة الشريفة والتضرع والأبتهال في الدعاء الذي هو نص الحديث فيما أختص به الإمام الحسين «عليه السلام» أن الله أختصه بثلاث: جعل الإمامة في ذريته والشفاء في تربته واستجابة الدعاء تحت قبته، حديث مشهور ومعمول به عند الشيعة(2).

    أما الحكم في غير التقصير والدعاء والأستشفاء فيمتد إلى ما أحاط به سور البلد فيجب صيانة تربته وحفظها من النجاسة خارج البلد وجواز السجود على كل طين من طين کربلاء من أي موضع أخذ منها فإن السجود عليه لا يخلو من فضل وينبغي احترام البقعة إلى حدود فرسخ.

سبب تسمية بالحائر عند حملة الحديث

     فقد وردت بذلك روايات كثيرة رواها ثقاة العلماء ومنهم شيخ الطائفة الإمامية ورئيس الفرقة الجعفرية الإثني عشرية أو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره) فقد روى في كتاب الأمالي(۳) عن محمد بن جعفر بن محمد بن فرج

______________________

(۱) نفس المصدر، ص ۲۷۳.

(۲) وذكر محمد سليمان محفوظ مصري سني في كتاب أعجب ما رأيت ۳/ ۱4۹: إن هذا الحدیث مكتوب على المشهد الحسيني الذي في القاهرة من مصر وقد نظمه بعض من رئی الحسين عليه السلام بقوله:

له تربة فيها الشفاء وقبه                        يجاب بها الداعي إذا مسه الضر

ذریـــــة درية منه تسعة                        أئــــمـــة حــق لاثمان ولا عشر

 (۳) الأمالی: ص۲۰6.

(293)

 

الرخجي قال: حدثني أبي، عن عمه عمر بن فرج الرخجي قال: أنفذني المتوكل في تخریب قبر الحسين بن علي فصرت إلى الناحية فأمرت بالبقر فمر بها على القبور فمرت عليها كلها فلما بلغت قبر الحسين لم تمر عليه، قال عمي عمر بن فرج: فأخذت العصا بيدي فما زلت أضربها حتى تكسرت العصا في يدي فوالله ما جازت على قبره ولا تخطته.

    قال لنا محمد بن جعفر: كان عمي عمر بن فرج شديد الانحراف عن آل رسول الله (ص) فأنا أبرأ إلى الله تعالى منه، وكان جدي محمد بن فرج شديد المودة لهم رحمه الله ورضي عنه فأنا أتولاه لذلك وأفرح بولادته.

   وذكر الشيخ أحاديث كثيرة كلها تصرح أن البقر تنساق معهم حتى إذا حاذت قبر الحسين «عليه السلام» جاءت عنه.

   ومن الروايات التي ذكرها عن عبد الله بن أذينة الطهوي قال: حججت سنة ۲4۷ فلما صدرت من الحج صرت إلى العراق فزرت أمير المؤمنين «عليه السلام» على خيفة من السلطان وزرته ثم توجهت إلى زيارة الحسين «عليه السلام» فإذا هو قد حرث أرضه ومخر فيها الماء وأرسلت الثيران والعوامل في الأرض فبعيني وبصري كنت أرى الثيران تساق في الأرض فتنساق لهم حتى إذا حاذت مكان القبر حادت عنه يميناً وشمالاً فتضرب بالعصا الضرب الشديد فلا ينفع ذلك ولا تطأ القبر بوجه ولا سبب فما أمكنتني الزيارة فتوجهت إلى بغداد وأنا أقول ذلك.

تالله إن كانت أمية قد أتــت         قتل ابن بنت نبيها مظلوما

فلقد أتاه بنو أبيه بــــــمثلها         هذا لعمرك قبره مهدومــا

أسفوا أن لا يكونوا شایعوا         في قتله فتتبعوه رميـــــما

     فلما قدمت بغداد سمعت الهائعة فقلت: ما الخبر؟ قالوا: سقط الطائر بقتل جعفر المتوكل فعجبت لذلك وقلت: لهي ليلة بليلة، إنتهی.

     وذكر أحاديث أخرى متقاربة الألفاظ متفقة المعنى في أن البقر والماء لم يصل إلى القبر المقدس.

     أما حديث زيد المجنون المصري فأطول ما يكون من الأحاديث وهو مشهور عند العلماء ذكره صاحب العوالم وصاحب ریاض الأحزان والمجلسي في البحار(1) وغيرهم وفيه أنه خرج إلى قبر الحسين «عليه السلام» بعد دخوله الكوفة

___________________

(1) مقتل العوالم: ص ۲4۷؛ ریاض الأحزان: ص ۱۹۰؛ بحار الأنوار ۱۰/ ۲۹۸.

(294)

 

فلما وصل إلى قبر الحسين «عليه السلام» فإذا هو على حاله لم يتغير وقد هدموا بنيانه وكلما أجروا الماء عليه غار وحار واستدار بقدرة العزيز الجبار ولم تصل قطرة واحدة إلى قبر الحسين «عليه السلام»، الحديث بطوله فراجعه.

    والذي يفهمه المفكر ويعلمه علما لا ظناً من كلمات أرباب النقل لهذه الحوادث الفظيعة على المرقد الحسيني أن الحائر الحسيني سمي حائراً لهذه الكرامات الظاهرة والمعجزات الباهرة التي ظهرت عنده حين أعتداء الفاجر الأثيم المتوكل عليه شبيه أبرهة الأثرم صاحب جيش الفيل وحبس الله بقر هذا الشقي كما حبس الله فيلة ذاك التعيس عن الكعبة فثلاثة تشبه ثلاثة: قبر الحسين «عليه السلام» يشبه الكعبة، والمتوكل يشبه أبا یکسوم الأثرم، وبقره تشبه فيلة ذاك إذ الجميع تضرب الضرب الشديد لا تنبعث للكعبة والحائر لهذا إسم الحائر ظهر مع هذه الأفعال وشاع وإن كان قديماً كما يقال فقد يكون لكن لم يشتهر وإنما اشتهر بهذا الاسم لهذا العصر من هذه الجهة ولأجل هذه المنقبة العظيمة والدليل عليه أن عامة من رثاه لم يذكر الحائر وإنما ذكر كربلاء نينوى الطف الغاضرية الخ.

     نعم، جاء ذكر الحائر في الروايات والزيارات كزيارة الشهداء معه: «السلام على من كان في الحائر منكم» الخ، ومن الجائز أن تكون هذه الزيارة من تصنيف بعض العلماء لأن فيها ما لا يتفق مع التاريخ كقوله في القاسم بن الحسن وحبيب بن مظاهر أنهما لم يكونا في الحائر وهذا يبتنى على مسموع غير مرئي أن القاسم حملته بنو فزارة أخوال أخيه الحسن المثنی فدفنوه في القادسية، وأما حبيب إن صح هذا المرقد في الرواق الحسيني فهو في الحائر لا خارجاً عنه وإنما قلنا بتضييق دائرة الحائر في الاقتصار على محيط القبة الشريفة لأجل التخيير في الصلاة لمكان الاحتياط وإلا فدائرة الحائر كما عرفتها أوسع من ذلك حتى على أقل الروايات والأقوال وهو التحديد بعشرين ذراعا.

   وأما على القول بأن إسم الحائر كان قدیماً فلازمه أن تكون سعته أكثر من سعة الصحن الحسيني ليتسع لجمع سيل المياه لا أقل من شموله للدور التي حول الصحن خصوصاً على ما قرره هبة الدين في أن الحائر البقعة التي حوصر فيها ابن الزهراء «عليها السلام»  وهي التي أحاطت بها التلال والروابي من جهاتها الثلاث فكونتها على شكل هلالي أو مثلث فمعلوم أنها أوسع من دائرة الصحن الشريف مرات لأنها تشتمل على منزل الحسين «عليه السلام»  وهو المعروف ب «الخيمکاه» أي الخيم لأنها في وسط التلال فأعرف ذلك وتيقنه.

(295)

 

نینوی من قری کربلاء

نينوى والتعريف بها:

    هي قرية من قرى كربلاء القديمة وكانت عامرة وقت نزول الحسين «عليه السلام» بكربلاء ولا يعتري الشك أو يختلف التشكيك فهم أحد في كونها أقرب القرى إلى مناخ ركب الحسين «عليه السلام» وأدناها من محط أثقاله يوم نزل کربلاء إن ألم بشيء من التاريخ والأثر لا كما ظنه البحاثة الشهير السيد العلامة هبة الدين الشهرستاني أنها سدة الهندية كما سنذكر كلامه قريبة وغريب من مثل هذا المنقب أن يقع في الغلط.

قال الحموي في معجم البلدان(۱): نینوی - بكسر أوله وسكون ثانيه وفتح النون والواو بوزن الميطوي - وهي قرية يونس بن متی بالموصل وبسواد الكوفة ناحية يقال لها نينوى منها كربلاء التي قتل بها الحسين «عليه السلام»، الخ، وهذا تصريح من ياقوت أن نینوی تشمل مصرع الحسين «عليه السلام».

    أما هبة الدين فيقول في كتاب نهضة الحسين «عليه السلام»(2) في حكاية عمر بن سعد: وبالجملة: فلم يشعر بنفسه إلا قائداً جيشاً كثيفاً إلى حرب الحسين «عليه السلام» في نينوى إذ بها يلتقي الخط العراقي الإيراني بالخط العراقي الحجازي وهي المرحلة المشرفة على الأنبار فبلغه نزول الحسين «عليه السلام» قبله بيوم مع قائد المفرزة الحر الرياحي.

   ثم قال (۳): إن كربلاء إسم قديم مأثور في حديث الحسين «عليه السلام» وأبيه وجده (ص) ومفسر بالكرب والبلاء وإن کربلاء منحوتة من کور بابل العربية بمعنی مجموعة قرى بابلية منها نینوی القريبة من سدة الهندية الخ.

    وبالعزيز علينا أن نقف أزاء هذا البحاثة المتتبع والعلامة المحقق الكبير والأستاذ الخطير المدقق المنقب عن الآثار، الماهر بإنتاج المعاني واستثمارها بقوة عارضة وحدس صائب وفكرة ثاقبة فنجد أنفسنا واقفين أمامه موقف الاستغراب والتعجب بل موقف الإنكار والرد ولكن البحوث معارك الآراء وميادين صراع المدارك والأفكار حرة فلا تغل بأغلال التقاليد ولا تقيد بأقياد الأتباع ولا غضاضة على العلامة ولا غض من كرامة الباحث أن شذ قلمه أو شطحت كلماته

_________________________

(1) معجم البلدان 8/۲6۸.

(۲) نهضة الحسين عليه السلام: ص6۲.                   (۳) نفسه: ص66.

(296)

 

فالجود يكبو والصارم ينبو، ولا يوجب بيان الحقيقة خدش في المؤلف ولا كشف الواقع حط من قدر البحاثة فمقدرته في العلم والتنقيب والبحث والتحقيق محفوظة وكرامته مرعبة لدينا ولدى غيرنا ولكن لكل من الباحثين الأخذ بما أوضحته له الدلائل واداه إليه الفكر العميق وأبرزته مهارته الفنية بفكرته الدقيقة وهو معذور بعد إعمال الجد وبذل الجهود أخطأ أم أصاب.

      نينوى إن قلنا أنها قريبة من سدة الهندية فهي تبعد عن كربلاء بما يقرب من عشرين ميلاً تقريبا والإشارة الواردة في سيرة الحسين «عليه السلام» عند نزوله بكربلاء في إشارته إليها بهذه التي يشار بها إلى القريب في مصطلح النحاة فهي تساوي الغاضرية إن لم تقرب عنها إلى مخيم الحسين «عليه السلام» وكذلك ورد في أحاديث الزيارة ما يدل على قربها وإن القاعدة المسلمة في علم النحو أن هذا وذا يشار بهما للمذكر القريب وهذه وذه يشار بها للمؤنث القريب، وكثيراً ما تقول العرب من هذه المتكلمة؟ ومن هذه الواقعة؟ ومن هذه المارة؟ لمن تسمع الكلام ویری شخصها، أما رؤية الشبح البعيد فيقولون: من تلك؟ ومن هاتيك؟ هذا ما يعرفه العرب في محاورتهم كما يشيرون بمثل ذلك للمعاني كقولهم: هذه عليك لا لك في إدلاء المخاطب بحجته وأمثالها كثير.

   ثم لا يجوز العقل أن ينسب للحسين «عليه السلام» أنه طلب منهم الأرتحال عن كربلاء ليصير إلى السدة الهندية التي هي بعيدة ومجتمع المارة - كما قال - فيراه الناس ويعطفوا عليه فيؤلف جمعاً يهدد به قواهم وهم قد منعوه أن ينزل الجنكنة أو القنطرة البيضاء التي طبق عليها قديماً أرض الغاضرية فإنها تمتد من القنطرة البيضاء إلى خان العطيشي وهي اليوم أراضي الحسينية، وحيث نجزم بأن أراضي الغاضرية هي أراضي الحسينية الممتدة من الجنقنة إلى خان العطيشي فلا ريب أنا نجزم بأن نینوی من جهة قضاء الهندية (طویریج) لا سدة الهندية لما ستعرف أن هناك مجتمع الزائرين من أهل الكوفة وطريق الكوفين لا شك بطویریج من حيث طريق الماء أو على ضفافه من النخيلة العباسية وأراضي ذي الكفل (الجفل) فلا محيص عن المرور بموضع طويريج إلى نینوی .

   أما طريق البادية فعلى الظهر ظهر الكوفة على مسامته النجف إلى موضع خان النصف فخان النخيلة فنينوى وعلى هذه الطرق الثلاثة لا معنى لذهابهم إلى سدة الهندية ليجتمعوا هناك ثم يعودوا منحدرين إلى كربلاء وما الفائدة في تكلف هذا العناء الشاق بقطع مسافة بعيدة ثم يعود منها على أثره قاطعة لها برجوعه فكم

(297)

 

يعاني المسافر براً من مشقة في ذهابه وإيابه وراكب السفائن كم يجاء به أخطاراً ثم يعود على الخط الذي مر به وربما أستخف بنا العقلاء لو قلنا أن من يقصد المحمودية يسير إلى جسر الخر ثم يعود إلى المحمودية كالمسافر من الديوانية والحلة وهو على هذا الخط فهل تجد سخرية تشبه هذه أو يقبل هذه المقالة عاقل؟.

   روى الشيخ الطوسي (رحمه الله) في كتاب الأمالي(1) بإسناده إلى القاسم بن أحمد بن معمر الكوفي وكان له علم بالسير وأيام الناس قال: بلغ المتوكل جعفر بن المعتصم أن أهل السواد يجتمعون بنینوی لزيارة قبر الحسين «عليه السلام» فيصير إلى قبره منهم خلق كثير، فأنفذ قائدة من قواده وضم إليه كتفاً من الجيش ليشعث قبر الحسين «عليه السلام» ويمنع الناس من زيارته والاجتماع إلى القبر، فخرج القائد إلى الطف وعمل بما أمر به وذلك في سنة ۲۳۷ فثار أهل السواد به واجتمعوا عليه وقالوا: لو قتلنا عن آخرنا لما أمسك من بقي منا عن زيارته ورأوا من الدلائل ما حملهم على ما صنعوا، فكتب بالأمر إلى الحضرة فورد کتاب المتوكل بالكف عنهم والمسير إلى الكوفة والسواد مظهرة أن مسيره إليها في مصالح أهلها والانكفاء إلى المصر.

    فمضى الأمر على ذلك حتى كانت سنة ۲4۷ بلغ المتوكل أيضاً مصير الناس من أهل الكوفة والسواد إلى كربلاء إلى زيارة الحسين وانه قد كثر جمعهم وصار لهم شوق، فأنفذ قائداً في جمع كثير من الجند فأمر منادياً ينادي: برئت الذمة ممن زار قبر الحسين ونبش القبر وحرث أرضه وأنقطع الناس وعمل على تتبع آل أبي طالب والشيعة «رضي الله عنهم» فقتل ولم يتم له ما قدر، إنتهی.

وروى ابن قولويه في كامل الزيارة(2) عن الثمالي عن أبي عبد الله الإمام الصادق «عليه السلام» قال: إذا أردت الوداع بعد فراغك من الزيارات فأكثر منها ما أستطعت ولیکن مقامك بنينوى أو الغاضرية، ومتى أردت الزيارة فأغتسل وزر زورة الوداع الخ.

    ولا معنى أن يكلف الإمام زائر الحسين «عليه السلام» بالإقامة في سدة الهندية ليتمكن من إكثار الزيارة، إن المقيم بالسدة لا يستطيع أكثر من زيارة واحدة فكيف يستطيع الإكثار إلا أن تكون له إحدى الجياد من الخيل فقد يستطيع بها مرتين ولا يستطيع الأكثار الذي هو جمع وأقل الجمع ثلاث، فإذن الحديث نص

___________________

 (1) الأمالي للطوسي : ص۲۰۹.                     (۲) کامل الزيارة : ص۲54.

(298)

 

 في أن الغاضرية قريبة من مرقد الحسين «عليه السلام» وهي كما قلنا الجنقنة على طريق القاصد إلى بغداد ونینوی تقابلها من باب البلدة على جهة القاصد إلى قضاء الهندية (طویریج) وكلا الموضعين قريب من البلدة ولا أظن أن أتساع عمارة البلدة في هذا العصر إلا أنها أتصلت بكلتا القريتين؛ فالزائر النازل في أحدهما يستطيع الإكثار من الزيارة.

   وفي كامل الزيارة أيضا(1) عن الإمام الصادق «عليه السلام» في الحديث المشتمل على آداب الزيارة وفيه: ثم أعبر الفرات فثم تأتي نينوى فتضع رحلك بها ولا تدهن ولا تكتحل ولا تأكل اللحم ما دمت مقيماً ثم تأتي الشط بحذاء نخل القبر أول الليل واغتسل وعليك الوقار، إلى آخر الحديث.

   فلينظر من يقول سدة الهندية كيف يضع ثقله بها ويستطيع الرجوع إليها مع الزيارة في أول الليل؟ وهل يقبل هذا من له أدنى التفات؟.

    وفي حديث الديزج الملعون ورواه الشيخ الطوسي (رحمه الله) في الأمالي(2): عن أبي بريرة الفضيل بن محمد بن عبد الحميد قال: دخلت على إبراهيم الديزج «لعنه الله» وكنت جاره أعوده في مرضه الذي مات فيه فوجدته بحال سوء وإذا هو کالمدهوش وعنده الطبيب، فسأله عن حاله، وكانت بيني وبينه خلطة وأنس یوجب الثقة بي والإنبساط إلي فكاتمني حاله وأشار إلى الطبيب، فشعر الطبيب بإشارته ولم يعرف عن حاله ما يصف له من الدواء ما يستعمله فقام فخرج وخلا الموضع، فسألته عن حاله، فقال: أخبرك والله واستغفر الله: إن المتوكل أمرني بالخروج إلى نينوى إلى قبر الحسين فأمرنا أن نكربه ونطمس أثر القبر فوافيت الناحية مساء ومعنا الفعلة والمرور والزكار معهم المساحي والمرور، فقدمت إلى غلماني وأصحابي أن يأخذوا الفعلة بخراب القبر وحرث أرضه فطرحت نفسي لما نالني من تعب السفر فنمت فذهبت في النوم فإذا ضوضاء شديد وأصوات عالية وجعل الغلمان ينبهونني، فقمت وأنا فزع، فقلت لغلماني: ما شأنكم؟ قالو: أعجب شان، قلت: وما ذاك؟ قالو: إن في موضع القبر قوماً قد حالوا بيننا وبين القبر وهم يرمونا مع ذلك بالنشاب.

    فقمت معهم لأتبين الأمر فوجدته كما وصفوا وكان ذلك في أول الليل من ليالي البيض فقلت: إرموهم، فرموهم فعادت سهامنا إلينا فما سقط منها سهم إلا إلى صاحبه الذي رمی به فقتله، فأستوحشت لذلك وجزعت وأخذتني الحمی

________________

 (1) کامل الزيارة : ص۲۲5.                            (۲) الأمالي: للطوسي: ص۲۰۸.

(299)

 

والقشعريرة ورحلت من القبر لوقتي ووطنت نفسي على أن يقتلني المتوكل لما لم أبلغ في القبر جميع ما تقدم به إلي.

     قال أبو بريرة: فقلت له: قد كفيت ما تحذر من المتوكل قد قتل البارحة الأولى وأعان عليه في قتله ابنه المنتصر، فقال لي: قد سمعت بذلك وقد نالني في جسمي ما لا أرجو معه البقاء. قال أبو بريرة: كان هذا في أول النهار فما أمسى الديزج حتى مات.

    قال ابن خنيس: قال الفضل: إن المنتصر سمع أباه يشتم فاطمة «عليها السلام» فسأل رجلاً من الناس عن ذلك، فقال له: قد وجب عليه القتل إلا أن قاتل أبيه لم يطل له عمر. فقال: ما أبالي إذا أطعت الله في قتله أن لا يطول لي عمر، فقتله وعاش بعده سبعة أشهر، إنتهی.

    وحديث أبي بكر ابن عياش الكوفي الفقيه المشهور مولى بني غاضرة من بني أسد الذي يأتي ذكره في الغاضرية وفيه يقول: فصرت إلى نينوى وإن الرجل مضى به إلى القبر، الحديث الآتي.

    فهذه الأحاديث وغيرها مما لم نذكره واضحة الدلالة على كون نینوی بكربلاء نفسها لا بسدة الهندية وفي بعضها أنها مجتمع الزوار من أهل الكوفة وفي بعضها أمر الزوار بالكون بها أو بالغاضرية ليسهل زيارة القبر منهما وما ذاك إلا للقرب.

    وحديث أبي بكر بن عياش الآتي أنه خرج من قنطرة الكوفة حتى انتهى إلى نينوى وعلى هذا فنينوى إن لم تكن باب بلدة كربلاء من ناحية طويريج فهي قريبة منها في الأراضي المعروفة بالسليمانية على مقدار میلين أو أقل، وإن كان الراجح عندي أنها لم تبعد عن باب كربلاء الشرقي كثيراً.

   واما الدلالة عليها بحرف الإشارة التي هي للقريب فلا خلاف فيه حتى من كاتب النهضة فإنه قال(1): ثم قال للحر: دعنا ننزل هذه القرية - يعني نينوى - أو هذه - يعني الغاضرية - أو هذه - يعني شفية. قال الحر: هذا رجل قد بعث عيناً علي، الخ.

    ولا شك أن الواقف في وهاد كربلاء اليوم لا يرى نخل سدة الهندية إلا بنظارة مكبرة (دربين) وهو من المخترعات الحديثة المفقودة في ذاك العصر، هب

____________________

(1) نهضة الحسين عليه السلام: ص65.

(300)

 

إنا نقول أن قوة بصر الإمام «عليه السلام» تنفذ إلى تلك الأعماق وتحيط بالأبعاد الشاسعة لكنه كيف يطلب من الحر النزول في محل لا يراه وليس مع الحر نظارة (تلسكوب) وهذا الشيخ شيخ الطائفة الشيعية أبو جعفر الطوسي فيما نقله عنه في معالي السبطين(1) يقول: إنها قرية إلى جنب حائر الحسين «عليه السلام»، ونقله عنه النوري في نفس الرحمن ها هو نصه في كتاب الفهرست: حمید بن زیاد من أهل نينوى قرية إلى جانب الحائر على ساكنه السلام، الخ.

   وهذا شيخنا الأعظم أبو عبد الله المفيد يصرح أن نزول الحسين «عليه السلام» بنفس نينوى وإن لم ينزل القرية العامرة وهذا نصه في الإرشاد(2): فلم يزالوا يتسایرون حتى انتهوا إلى نينوى المكان الذي نزل به الحسين «عليه السلام» وتبعه عليه المجلسي وصاحب العوالم وغيرهما فأين الحائر عافاك الله من سدة الهندية؟ ومن كربلاء إلى سدة الهندية مرحلتان أكثر من عشرين ميلاً، ولولا أن الإكثار ملل والإسهاب خلل لأوردنا كثيراً من الشواهد التي تعين أن نینوی قرية على باب مدينة كربلاء إلى الجنوب الشرقي.

     ونينوى لها ذكر في المراثي الحسينية.

    قال بعضهم:

ومذ أخذت في نينوى منهم النوى       ولاح بها للغدر بعض العلائم

   للمؤلف:

قف على نينوى وحي رباهـا              بــــــقـعة شرفت فطاب ثراها

هيكل القدس جسم أكرم سبط             ضمنته نقدست أرجـــــــــاهــا

فاخرت فيه للضراح ســمواً             وبها الله کعبة البيت بـــــاهـــــا

قدست أرضها بما قد حوتــه             فلها الفخر إذ حوت سبط طاها

فلتعش بابن أحمد ولتحيــــا             فهي فيه قد بذت الأشبــــاهـــــا

لم تزل حبة بذکری حســین            کـــــــل جـــیـــل مردد ذكراها

الغاضرية من قرى كربلاء القديمة

   ومن القرى العامرة عند نزول الحسين «عليه السلام» بكربلاء وهي أقربها إلى منزل الحسين بعد نینوی وقد يراها بعض المحققين إنها أراضي الحسينية أو على

_________________

 (1) معالي السبطين: ص۱۷۸.              (۲) الإرشاد: ص ۲۳۸.

(301)

 

مقربة من خان العطيشي مركز ناحية الحسينية الحالي ويعرفها البحاثة الشهرستاني بأراضي الحسينية يعني بها المقاربة لخان العطيشي لكنه أجزم أنها الأراضي الجنقنة فما دونها إلى بلدة كربلاء وقد صرح بذلك أبو حنيفة أحمد بن ثابت الدينوري وهو من علماء الجغرافية أنها بمقدار غلوة من منزل الحسين عليه السلام والغلوة رمية سهم.

   قال في الأخبار الطوال(1): فقال الحسين «عليه السلام» للحر تقدم بنا قليلا إلى هذه القرية التي هي منا على غلوة وهي الغاضرية أو هذه الأخرى التي تسمى السقبة فننزل أحدهما، قال الحر: إن الأمير كتب إلي أن أحلك على غير ماء ولا بد من الانتهاء إلى أمره. الخ.

  فهذا نص صريح في قربها من منزل الحسين «عليه السلام»، والغلوة في لسان العرب رمية سهم، قال في القاموس : وكل مرماة غلوة، وقال في مجمع البحرين : وفي الحديث : الغلوة وهي بالفتح مقدار رمية سهم، وعن الليث : الفرسخ التام خمسة وعشرون غلوة، وعن أبي شجاع في خراجه لغلوة قدر ثلثمائة ذراع إلى أربعمائة والجمع غلوات الخ.

  فإن كانت الغلوة رمية سهم أو ثلثمائة ذراع فهي لا شك باب البلدة المعروف بباب الحسينية قرب مرقد سيدنا العباس بن أمير المؤمنين «عليهما السلام» . وأعتراض خیل ابن سعد لهم في الطريق لا يتفق مع هذا وعلى هذا فيمكن الجمع بأن يقال : أقرب حدود أراضي الغاضرية إلى منزل الحسين «عليه السلام» هو الغلوة وأقصاها ما يقارب خان العطيشي فمن المسنات مرقد العباس «عليه السلام» إلى القنطرة البيضاء إلى خان العطيشي ومركز القرية الأعظم يكون في وسط هذه الأراضي وإليه قصد حبیب بن مظاهر لما دعاهم لنصر الحسين «عليه السلام».

    وهبة الدين الشهرستاني في النهضة(2) قال: ثم الغاضرية وتسمى اليوم أراضي الحسينية، إنتهی .

    وهو مجمل وإجماله أجمل لكن الظاهر ما قلناه من امتدادها .

    قال الحموي في معجم البلدان(۳): الغاضرية بعد الألف ضاد معجمة منسوبة إلى غاضرة من بني أسد وهي قرية من نواحي الكوفة قريبة من كربلاء الخ.

   وقال ابن عبد ربه في العقد الفريد(4): بنو غاضرة بن مالك بن سعد بن

____________________

(1) الأخبار الطوال: ص250.                    (2) نهضة الحسين عليه السلام: ص66.

(2) معجم البلدان 4/261.                         (4) العقد الفريد 2/337.

(302)

دودان أبن أسد، ومن بني غاضرة زر بن حبيش الفقيه، ومنهم الحسحاس بن هند الذي ينسب إليه عبد بني الحسحاس، إنتهی.

        وهؤلاء غير غاضرة خزاعة، وإلى غاضرة الاسديين ينتسب أبو بكر ابن عياش الفقيه بالولاء وكان له خطر وتقدير عند الأمراء والولاة وهو الذي وعظ موسی بن عيسى العباسي لما جار على قبر الحسين بن علي «عليهما السلام» وعظا بالغاً ونص الحديث عن أمالي الشيخ الطوسي(1): عن يحيى بن عبد الحميد الحماني قال : خرجت أيام ولاية موسی بن عيسى الهاشمي الكوفة من منزلي فلقيني أبو بكر بن عياش فقال : إمض بنا یا يحيى إلى هذا الظالم لنرده عن بغيه، وكنت أجل أبا بكر عن مراجعته وكان راكبا حمارة له، فكان يسير عليه وأنا أمشي مع ركابه ، فلما صرنا عند الدار المعروفة بدار عبد الله بن حازم التفت إلي وقال : يا ابن الحماني! إنما جررتك معي وجشمتك أن تمشي خلفي لأسمعك ما أقول لهذا الطاغية ، قال : فقلت: من هو یا أبابکر؟ فقال : هذا الفاجر الكافر موسی بن عیسی، فسكت عنه فمضى وأنا أتبعه حتى إذا صرنا إلى باب موسی بن عیسی وبصر به الحاجب وقد كان الناس ينزلون عند الرحبة فلم ينزل أبو بكر هناك وكان عليه يومئذ قميص وإزار وهو محلول الإزار

        قال : فدخل على حماره وناداني: تعال يا ابن الحماني، فمنعني الحاجب فزجره أبو بكر وقال: أتمنعه یا فاعل وهو معي؟ فتركني فما زال يسير على حماره حتى دخل الابواب فبصر بنا موسى وهو قاعد في صدر الأيوان على سريره وبجنبي السرير رجال متسلحون وكذلك كانوا يصنعون، فلما أن رآه موسی رحب به وقربه وأقعده على سريره ومنعت أنا حين وصلت إلى الأيوان أن أتجاوزه، فلما استقر أبو بكر على السرير التفت إلي فرآني حيث أنا واقف فناداني : تعال ويحك، فصرت إليه ونعلي في رجلي وعلي قميص وإزار، فأجلسني بين يديه ، فالتفت إليه موسى فقال : هذا رجل تكلمنا فيه؟ قال: لا ولكن جئت به شاهدة عليك ، قال : في ماذا؟ قال: إني رأيتك وما صنعت بهذا القبر، قال: أي قبر؟ قال : قبر الحسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله ، وكان موسى قد وجه إليه من كربه وکرب جميع أرض الحائر وحرثها وزرع الزرع فيها ، فأنتفخ موسى حتى كاد أن ينقد ثم قال : وما أنت وذاك؟ قال: إسمع حتى أخبرك، إعلم أني رأيت في منامي كأني خرجت إلى قومي بني غاضرة فلما صرت بقنطرة الكوفة أعترضتني خنازير عشرة تريدني

______________________
(1) الأمالي للطوسي: ص۲۰۳.

(303)

 

فأعانني الله برجل كنت أعرفه من بني أسد فدفعها عني فمضيت لوجهي، فلما صرت إلى شاهي ضللت الطريق فرأيت هناك عجوزة فقالت لي: أين تريد أيها الشيخ؟ قلت: أريد الغاضرية . فقالت لي: تنظر هذا الوادي فإنك إذا أتيت آخره أتضح لك الطريق، فمضيت وفعلت ذلك فلما صرت إلى نينوى إذا أنا بشیخ کبیر جالس هناك ، فقلت : من أين أنت أيها الشيخ؟ فقال لي: أنا من أهل هذه القرية، فقلت : كم تعد من السنين؟ فقال : ما أحفظ ما مضى من سني عمري ولكن أبعد ذكري أني رأيت الحسين بن علي «عليهما السلام» ومعه من أهله ومن معه يمنعون الماء الذي تراه وكان لا يمنع الكلاب والوحوش من شربه، فأستعظمت ذلك وقلت له : ويحك أنت رأيت هذا؟ قال: إي والذي سمك السماء لقد رأيت هذا أيها الشيخ وعاينته وأنت وأصحابك هم الذين يعينون على ما قد رأينا مما أقرح عيون المسلمين إن كان في الدنيا مسلم، فقلت: ويحك! وما هو؟ قال : حيث لم تنکرو ما أجرى سلطانكم عليه، قلت: وما أجرى عليه؟ قال: أيكرب قبر ابن النبي (ص) وتحرث أرضه؟! قلت: وأين القبر؟ قال: ها هو أنت واقف في أرضه فأما القبر فقد عمي عن أن يعرف موضعه .

   قال أبو بكر أبن عياش: وما كنت رأيت القبر قبل ذلك الوقت قط ولا أتيته في طول عمري، فقلت : من لي بمعرفته؟ فمشى معي الشيخ حتى وقف بي على حیر له باب وآذن وإذا جماعة من الناس فقلت للآذن أريد الدخول على ابن رسول الله (ص) فقال : لا تقدر على الوصول في هذا الوقت، قلت: ولم؟ قال: هذا وقت زيارة إبراهيم خليل الله ومحمد رسول الله (ص) ومعهما جبرئیل و مکائیل «عليهما السلام» في رعيل من الملائكة كثير.

        قال أبو بكر بن عياش: فأنتبهت وقد دخلني روع شدید وحزن وكآبة ومضت بي الأيام حتى كدت أن أنسى المنام ثم اضطررت إلى الخروج إلى بني غاضرة الدين كان لي على رجل منهم فخرجت وأنا لا أذكر الحديث حتى إذا صرت بقنطرة الكوفة لقيني عشرة من اللصوص فحين رأيتهم ذكرت الحديث ورعبت من خشيتي لهم فقالوا لي: ألق ما معك وانج بنفسك وكانت معي نفيقة، فقلت: ويحكم! أنا أبو بكر بن عياش وإنما خرجت في طلب دین لي، والله الله لا تقطعوني عن طلب دیني وتضروا بي في نفقتي فإني شديد الإضاقة، فنادى رجل منهم: مولاي ورب الكعبة لا تعرض له، ثم قال لبعض فتیانهم: کن معه حتى تصير به إلى الطريق الأيمن .

 (304)

 

        قال أبو بكر بن عياش: فجعلت أتذكر ما رأيته في المنام وأتعجب من تأويل الخنازير باللصوص حتى صرت إلى نينوى فرأيت والله الذي لا إله إلا هو الشيخ الذي كنت رأيته في منامي بصورته وهيئته ثانية في اليقظة كما رأيته في المنام سواء فحين رأيته ذكرت الأمر والرؤيا، فقلت : لا إله إلا الله ما كان هذا إلا وحيا ثم سألته كمسألتي إياه في المنام فأجابني ثم قال : إمض بنا فمضيت معه فوقفت على الموضع وهو مكروب فلم يفتني شيء في منامي إلا الإذن والحير فإني لم أرى حيرة ولم أرى آذنة ؛ فأتق الله أيها الرجل فإني قد آليت على نفسي أن لا أدع إذاعة هذا الحديث ولا زیارة ذلك الموضع وقصده وإعظامه فإن موضعا يأتيه إبراهيم ومحمد وجبرئیل و میکائیل لحقيق بأن يرغب في إتيانه وزيارته فإن أبا حصین حدثني أن رسول الله (ص) قال: من رآني في المنام فإياي رأي فإن الشيطان لا يتشبه بي، فقال له موسى: إنما أمسكت عن إجابة كلامك لأستوفي هذه الحماقة التي ظهرت منك وبالله لئن بلغني بعد هذا الوقت أنك تتحدث بهذا لأضربن عنقك وعنق هذا الذي جئت به شاهدا علي.

        فقال أبو بكر : إنما يمنعني الله وإياه منك فإني إنما أردت الله بما كلمتك به، فقال له : أتراجعني يا عاض وشتمه، فقال له: أسكت أخزاك الله وقطع لسانك، فأرعد موسى على سريره ثم قال : خذوه، فأخذ الشيخ عن السرير وأخذت أنا فوالله لقد مر بنا من السحب والجر والضرب ما ظننت أننا لا نكثر الأحياء أبدا وكان أشد ما مر بي من ذلك أن رأسي كان يجر على الصخر وإن بعض مواليه يأتيني فينتف لحيتي وموسى يقول: أقتلوهما بني كذا وكذا بالزاني لا يکني، وأبو بكر يقول له: أمسك قطع الله لسانك وانتقم منك ، اللهم إياك أردنا ولولد وليك غضبنا وعليك توكلنا فصير بنا جميعا إلى الحبس فما لبثنا في الحبس إلا قليلا فالتفت إلي أبو بكر ولقد رأي ثيابي قد خرقت وسالت دمائي فقال : يا حماني! قد قضينا لله حقا وأكتسبنا في يومنا هذا أجرأ ولن يضيع ذلك عند الله ولا عند رسوله .

     فما لبثنا إلا مقدار غداية أو نومة حتى جائنا رسوله فأخرجنا إليه وطلب حمار أبي بكر فلم يوجد فدخلنا عليه فإذا هو في سرداب له يشبه الدور سعة وكبرة فتعبنا في المشي إليه تعبة شديدة وكان أبو بكر إذا تعب في مشيه جلس يسيرة ثم يقول: اللهم إن فيك فلا تنسه ، فلما دخلنا على موسى وإذا هو على سرير له فلما بصر بنا قال : لا مرحبا ولا حي الله ولا قرب من جاهل أحمق يتعرض لما يكره، ويلك يا دعي ما دخولك فيما بيننا معشر بني هاشم؟ فقال له أبو بكر : قد سمعت

(305)

 

كلامك والله حسبك، قال : فقال له : أخرج قبحك الله والله لئن بلغني أن هذا الحديث شاع أو ذكر عنك لأضربن عنقك، ثم ألتفت إلي وقال : يا كلب! وشتمنی وقال : إياك ثم إياك أن تظهر هذا فإنه إنما خيل لهذا الشيخ الأحمق شیطان يلعب فيه في منامه ، أخرجا عليكما لعنة الله وغضبه.

        فخرجنا وقد يئسنا من الحياة فلما وصلنا إلى منزل الشيخ أبي بكر وهو يمشي وقد ذهب حماره، فلما أراد أن يدخل منزله التفت إلي وقال: أحفظ هذا الحديث وأثبته عندك ولا تحدثن هؤلاء الرعاع ولكن حدث به أهل العقول والدين، إنتهی.

        وموسی بن عیسی فعل هذا يأمر الرشيد وقد ترجمنا لأبي بكر بن عياش ترجمة مفصلة في كتابنا «الميزان الراجح» وهذا الحديث يعين موضع نینوی والغاضرية وأن قبر الحسين «عليه السلام» في الحائر بينهما، وأن نینوی من جهة الكوفة، وأن السائر إليها على قنطرة الكوفة ينزل بها أولا ثم يزور القرب من قرب، وهنا نصوص كثيرة على كون نینوی نفس کربلاء منها قوله: «أنت في أرضه وهو في نينوى» ومنها قوله «على طريق شاهي» وهي قرية في سواد الكوفة بينها وبين طویریج الحالية، وقال الحموي عنها: إنها قرب القادسية فهي على شاطئ النهر من جهة البادية تحاذي خان الحماد اليوم.

        وعلى كل حال فقرية نینوی ممتد من أراضي السليمانية اليوم إلى سور بلدة كربلاء المعروف بباب الطویریج كما تمتد الغاضرية من سور کربلاء من الموضع المعروف بباب الحسينية إلى قرب مرقد عون أو إلى خان العطيشي، وللغاضرية شهره في الزيارات والمراثي الحسينية .

        روی ابن قولويه القمي في كامل الزيارة(1) قال: قال أبو جعفر - يعني الإمام الباقر «عليه السلام» -: الغاضرية هي البقعة التي كلم الله فيها موسی بن عمران عليه السلام» وناجی نوحا «علیه السلام» فيها وهي أكرم أرض الله عليه ولولا ذلك ما أستودع الله فيها أوليائه وأنبيائه؛ فزوروا قبورنا بالغاضرية ، إنتهی .

    أما المراثي فكثيرة منها قول السيد جعفر الحلي (رحمه الله):

کرام بأرض الغاضرية عرســــوا     فطابت بهم أرجاء تلك المنازل

أقاموا بها کالمزن فاخضر عودها     وأعشب أرجائها كل ماحــــــل

__________________

(1) کامل الزيارة: ص ۲6۹.

(306)

 

وقال علي بن أبي الحسن فيه «عليه السلام»:

یا فاطم الطهر قومي غير قائمة             في جحفل من نساء هاشـميات

ونحن مثل حمامات مــــــطوقة            على القتيل بأرض الغاضريات

     للمؤلف في مرثية حسينية :

عشية حامت الآجال حتــى            على آل الرسول هوت وقوعا

غداة الغاضرية حين لاقـی            فرید العصر منفردة جموعا

أتته كتائب الأرجاس بــغياً           على أحقادها تحنوا الظلوعا

ورامت أن يسالمها مطيعا           ويأبی عزه من أن يطيـــــــعا

وللمؤلف من مرثية القاسم ابن الحسن السبط الشهيد مع عمه الحسين «عليه السلام»:

الجمع جمع بني الخنا ما فله                    بالغاضرية غير سيف القاسم

شبل الإمام المجنبى أفنى العدى                  بالسمهري وبالصقيل الصارم

النواويس أو مقبرة الحر

قرية النواويس في كربلاء القديمة:

     هي مقبرة الحر الشهيد الرياحي وفيها مرقده وكانت مقبرة قديمة وفي دفن هذا البطل المجاهد إلى هذا الموضع النائي عن مرقد الشهداء أقوال :

    قول أنه سقط هناك فلم يحمل إلى خيمة القتلى من الشهداء لحيلولة القوم بينهم وبينه مع اشتغالهم بالحرب .

      وقول: إن عمر بن سعد لما أمر بقطع رؤوس الرؤساء من أنصار الحسين «عليه السلام» أبت بنو تميم أن يقطع رأس الحر فحملوه ودفنوه هناك.

     ويقال: إنما حملوه لأن عمر بن سعد أمر بوطئ جثث القتلى أمتثالا لأمر ابن زیاد فقامت بنو تمیم وحامت عنه ومنعت منه ثم حملته إلى هذا الموضع ومنعت كل قبيلة من وطئ جثث رجالهم لكنهم لم يحملوهم ولم يدفنوهم وهذا ضعيف لأن المأمور به ابن سعد وطئ جسد الحسين «عليه السلام» خاصة فوطئته الخيل دون سائر الشهداء من العلويين وغيرهم كما صرحت بذلك كتب المقاتل.

     وهناك قول آخر بعد رابعا أن الإمام زین العابدین «علیه السلام» أمر بني بنقله إلى هناك وهذا بعيد جداً.

(307)

         وكيف كان الأمر فموضع قبر الحر كان مقبرة للأنباط والمسيحيين قديمة قبل الفتح الإسلامي بكثير، والنواويس جمع ناووس وهو القبر بلغة الأنباط القديمة، وفي الرومانية البائدة .

       قال الحموي في معجم البلدان: الناووس والقبر واحد ولم يذكر نواويس کربلاء وإنما ذكر ناووس الظبية وقرية الناووسية، ولم يزد الخفاجي في شفاء الغليل على ما عند ياقوت الحموي.

      وقال الفيروزآبادي في القاموس : والناووس من القبر ما سد لحده .

   قال المطرزي في المغرب(۱): الناووس على فاعول مقبرة النصارى ومنه ما في جمع التفاريق النواويس إذا خرجت قبل الإسلام جاز أخذ ترابها للسماد وهي ما يصلح به الزرع من تراب ونحوه.

   وقال میرزا حسین النوري (رحمه الله) في نفس الرحمن في أحوال سلمان : والنواويس مقابر النصارى كما في حواشي الكفعمي وسمعنا أنها في المكان الذي فيه مزار الحر بن یزید الرياحي من شاطئ الطف وهو ما بين المغرب و شمال البلد وهذه اللفظة كثر استعمالها في ألفاظ روات القصص القديمة فيقول بعضهم : رأيت ناووسا كذا صفته ، ويقول آخر: دخلت ناووس كذا.

وقال هبة الدين الشهرستاني في كتاب نهضة الحسين «عليه السلام»(۲): ثم النواويس وكانت مقبرة عامة قبل الفتح الإسلامي، إنتهی .

وهنا قصة تفسر لنا الناووس نسوقها بطولها : قال القاضي التنوخي في كتاب الفرج بعد الشدة(۳): حدثني إبراهيم بن علي النصيبي قال: حدثني إبراهيم بن علي الصفار شيخ كان جارة لنا بنصيبين قال: خرجت من نصيبين بسيف نفیس کنت ورثته عن أبي أقصد به عباس بن عمرو السلمي أمير ديار ربيعة وهو برأس العين الأهديه له وأستجديه بذلك، فصحبني في الطريق شيخ من شيوخ الأعراب فسألني عن أمري فأنست به وحدثته الحديث وكنا قد قربنا من العين، فدخلنا وأفترقنا وكان يجيئني ويراعيني ويظهر لي أنه مسلم علي وانه يبرني بالقصد ويسألني عن حالي فأخبرته أن الأمير قبل هديتي وأجازني بألف درهم وثياب وإني أريد الخروج يوم كذا وكذا.

    فلما كان ذلك اليوم خرجت من البلد راكبا حمارة فلما أصحرت إذا بالشيخ

_______________

(۲) نهضة الحسين عليه السلام: ص66.

(3) الفرج بعد الشدة ۲/56 طبع مصر.

 (308)