موسوعة بطل العلقمي الجزء الثالث

اسم الکتاب : موسوعة بطل العلقمي الجزء الثالث

المؤلف : أليف سماحة آية الله المحقق الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر قدس سره
المطبعة : مؤسسة الشيخ المظفر الثقافية العراق النجف الاشرف مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت لبنان

 

 

 

شهادة العباس «عليه السلام»

 

صفه القتال يوم كربلاء وشهادة العباس بن أمير المؤمنين «عليهما السلام»

بعد أن استبان أن العباس بن علي «عليهما السلام» هو عميد العسكر الحسيني وأن مركزه القلب، وعرفت كيفية تنظيم الجيش الحسيني وأن تعبئته هلالية الشكل وعنه أخذ المتأخرون التعبئة الهلالية وصفته هكذا: جناح أيمن.قلب.جناح أيسر.
فنحن نذكر الان كيفية محاربة العباس الأكبر بطل الهاشميين وكيفية شهادته.
وهنا اختلفت أرباب المقاتل واضطربت كلماتهم في وقت شهادته «عليه السلام» وكيفيتها وكمية القتل بالذين قتلهم وصفة شهادته ومن قتله.
أما كمية من قتلهم فقد مضى في ذكر شجاعته.
واما قاتله فأصح ما قيل أنه اشترك في قتله زياد بن رقاد الجنبي من جنب من مذحج وحكيم بن الطفيل السنبسي من سنبس من طي، وهذان الفاجران قتلهما المختار بن أبي عبيدة الثقفي، وزرعة بن شريط الدارمي من تميم وهذا عذبه الله بالنار.
وقت شهادته «عليه السلام»:
فالأقوال في ذلك ثلاثة: أنه قتل قبل جميع الشهداء «رضوان الله عليهم» وأفرط أهل هذا القول حتى زعم بعضهم أنه قتل يوم السابع وآخر يوم التاسع كمقتل أبي مخنف الصغير أو المقتل المنسوب إليه، وجزم به بعض متأخرين العجم ونور العين لأبي إسحاق الإسفرائني، ويظهر من كلامه أنه استشهد قبل شهادة الحسين «عليه السلام»بيوم، هكذا يقول نور العين(1) بعد ذكره لمحاربة العباس «عليه السلام» قال: ثم ضربه رجل منهم بعمود من حديد على رأسه ففلق
______________
(1) نور العين ص20.

(171)

هامته فأنصرع إلى الأرض وهو ينادي: يا أخي! ياحسين! عليك مني السلام، فحمل الحسين «عليه السلام» على القوم وحاربهم حربا شديدا حتى قتل منهم ثمانمائة فارس وأتى إليه وأتى به فطرحه بين القتلى وكان الليل قد أتي فباتو تلك الليلة وفي الصباح ركب القوم ورجعوا على الحسين «عليه السلام» فتذكر أخاه العباس «عليه السلام» وشفقته عليه وجعل ينادي: وا غوثي بك يالله ياغياثاه، ثم يخرج قومه فارس بعد فارس وكل منهم يقتل مقتلة عظيمة ثم يقتل فيحمل على القوم نحو المائتين والثلاثمائة والأكثر والأقل ثم يحمله ويأتي به إلى موضع القتلى، ولم يزل حتى قتل جميع الأنصار والمهاجرين الذين معه وهو يأتي بهم واحدا بعد واحد، الخ.
وهذا القول ضعيف جدا وأضعف منه قول أبي مخنف في المقتل الصغير إن صحت نسبته إليه ولا تصح فإنه يذكر شهادة العباس الأكبر «عليه السلام» يوم السابع وهذان القولان في غاية الشذوذ بل صدمة للقطعي الذي لا يشك فيه أحد أن العباس «عليه السلام» لم يدفن إلا يوم دفن الحسين «عليه السلام» ومما لا يجوز أن يتركه الحسين «عليه السلام» هذه لمدة من غير دفن أو يتركه بين جموع أعدائه يمثلون به اشد التمثيل وهو إذ ذاك قوي منيع لا يحول دون مقصده حائل، وسلامة أصحاب الضواري الساغبة إلى طعم المنية لا يعوقها عن حمله عائق فإذن لا يجوز لنا أن نعد هذا قولا وإن ذكرناه للتنبيه على سخف قاتله وقلة تدبر الجانح إليه.
القول الثاني: وهو الذي عليه عامة أهل التاريخ من أنه «عليه السلام» أستشهد يوم العاشر بعد شهادة أكثر الأنصار، وأستشهد قبلة فتية من بني هاشم إما كلهم أو بعضهم لأن أهل هذا القول قد اختلفوا على قولين، وبهذا الاختلاف وضمه إلى ذلك القول الشاذ تكون الأقوال ثلاثة.
أحد القولين آنه سبق علياً الأكبر «عليه السلام» بالشهادة وعليه جماعة من أرباب المقاتل منهم فخر الدين الطريحي وتقدم كلامه الذي أوردناه في السقاية عن المنتخب فراجعه.
وعبد الرزاق اليزدي فيقول في مصائب المعصومين(1) بعد شهادة قاسم أبن الحسن وعباس بن أمير المؤمنين «عليهما السلام» تقدم علي بن الحسين «عليه السلام» وهو المشهور بعلي الأكبر، الخ.
ومنهم سبط أبن الجوزي الحنفي في التذكرة(2) فقد قال: قال الشعبي: أول
_____________________
(1) مصائب المعصومين: ص266. (2) تذكرة الخواص: ص145.

(172)

قتيل منهم العباس بن علي ثم علي بن الحسين الأكبر «عليه السلام».
ومنهم ملا عبد الله في مقتل العوالم فإنه ذكر شهادة العباس «عليه السلام» سابقة على شهادة علي الأكبر «عليه السلام» وبعد أن أتم الكلام على شهادة العباس «عليه السلام» قال(1): ثم تقدم علي بن الحسين «عليهما السلام»، وكذا قال الفاضل المجلسي (رحمه الله) في البحار وهو قول محمد أبن شهر آشوب (رحمه الله) في المناقب وسنذكر ذلك إن شاء الله وغير هؤلاء.
ثاني القولين أنه آخر من قتل بني هشام قبل شهادة الحسين «عليه السلام» وإن أول قتيل من بني هشام هو علي بن الحسين الأكبر «عليهما السلام»، وهذا القول هو المعتمد لأمرين:
أحدهما: أن الإمام صاحب الزمان «عجل الله فرجه» في زيارته للشهداء التي رواها السيد أبن طاوس في كتاب الإقبال وفيها زيارة علي الأكبر «عليه السلام»: «السلام عليك يا أول قتيل من نسل خير سليل» الخ وهذا نص.
ثانيهما: كثرة القائل به من أهل الضبط والإتقان، وبه قال أبو الفرج الأصهباني بعد ما نقلناه عنه من قول الشعبي(2).
وأبو حنيفة الدينوري الفيلسوف المؤرخ في الأخبار الطوال(3) وهذا لفظه: وبقي العباس بن علي «عليه السلام» قائما أمام الحسين «عليه السلام» يقاتل دونه ويميل معه حيث مال حتى قتل رحمة الله عليه وبقي الحسين «عليه السلام» وحده الخ.
وأبو جعفر الطبري أحد أئمة المذاهب من أهل السنة في تاريخه ذكر أن علي أبن الحسين «عليهما السلام» أول قتيل من بني هاشم.
والشيخ الجليل العظيم رئيس الشيعة المطلق ومحققها أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان المفيد (رحمه الله) في كتاب الإرشاد وشيخ الشيعة وأستاذ العلامة الحلي الشيخ جعفر أبن نما الحلي (رحمه الله) في مثير الأحزان وصاحب النور والكرامات الباهرة السيد رضي الدين علي بن طاوس في كتاب المقتل المسمى بالملهوف ولفظهم جميعا أنه لما أشتد العطش بالحسين «عليه السلام» فركب المسناة يريد الفرات والعباس أخوه بين يديه فأعترضه خيل أبن سعد فرمى رجل من بني أبان بن درام الحسين «عليه السلام» بسهم فأثبته في حنكه الشريف
_________________
(1) مقتل العوالم: ص95. (2) راجع مقاتل الطالبيين.
(3) الأخبار الطوال: ص255.

(173)

فانتزع «صلوات الله عليه» السهم وبسط يديه تحت حنكه حتى أمتلأت راحتاه من الدم ثم رمى به ثم قال: اللهم إني أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيك ثم اقتطعوا العباس عنه وأحاطوا به من كل الجوانب حتى قتلوه قدس الله روحه فبكى الحسين «عليه السلام» لقتله بكاءا شديدا الخ.
وآخرون غير هؤلاء يقولون بمثل هذا القول فلا ينبغي التوقف في أنه آخر من أستشهد من العلويين، وكلامنا المتقدم في اللواء يعطيك صورة واضحة إلى الجزم بتأخر شهادته عن غيره.

كيفية شهادة العباس «عليه السلام»
أما كيفية شهادته «عليه السلام»:
اختلف فيها الناقلون أيضا، فمنهم من يذكر أنه مشى أمام أخيه الحسين «عليه السلام» فأقتطعوه منه كما مر.
ومنهم من يذكر أنه بارز مرات قتل في آخرها، وهذا لا ينافي ما تقدم إذ كان للمرة الأخيرة مشى أمام الحسين «عليه السلام» فأقتطعوه، ولفظهم هذا مجمل لأنه لم يبين صفة أقتطاعه فوجب المصير إلى قول المفصل الذي يقول قطعت يمينه وشماله وفضخت هامته لأن المعارضة بين القولين معارضة المجمل للمبين، والمجمل يحمل على المبين بحسب الأصول العلمية، ويعنون أن المبين شرح للمجمل، فالذي يقول إنه مشى أمام أخيه الحسين «عليه السلام» لم يورد تفصيلا ولا بيان كيف كان اقتطاعه ولا بيان كم مرة حمل على القوم إنما قصد أنه قصد أنه آخر مراحل حياته «عليه السلام» كانت كذلك، أما المبين فقد تعرض للكمية والكيفية، كيف قاتل، وكيف قتل، فذاك آثر الاختصار فأجمل، وهذا أحب التفصيل فبين، وكثير من العلماء اعتمادا على الشهرة لم يذكروا شهادة العباس «عليه السلام» رأسا كالصدوق القمي (رحمه الله) في الأمالي، والشهيد الواعظ الزاهد محمد بن أحمد بن الفتال النيسابوري في روضة الواعظين، وما تركا ذكر مقتله إلا للأكتفاء بشهرته ومعروفيته، وعلى هذا جرى من لم يفعل فإنه أقتصر على ذكر آخر نقطة لفظ بها نفسه النفيسة وروحه الطبية وخذ المقتل الشريف مفصلا:
قال رشيد الدين محمد بن علي بن شهر أشوب المازندراني في المناقب(1): كان العباس السقا قمر بني هاشم صاحب لواء الحسين «عليه السلام» وأكبر
_______________________
(1) المناقب لابن شهر آشوب 97/4 طبع الهند.

(174)

الإخوان، مضى يطلب الماء فحملوا عليه وحمل عليهم وجعل يقول:

لا أرهب الموت إذا الموت زقا حتى أوارى في المصاليب لقا
نفسي لنفس الطاهر الطهر وقــا إني أنا العبــاس أغدو بالسـقـا
ولا أخاف الشر يوم الملتقى
ففرقهم، فكمن له زياد بن رقاد الجهني من وراء نخلة وعاونه حكيم بن الطفيل السنبسي فضربه على يمينه فأخذ السيف بشماله وحمل عليهم وهو يرتجز:

والله إن قـــطـــــعــتـمــوا يــمـــيــنــي إني أحامي أبدا عن ديـنـي
وعن إمــــــام صـــادق الـيـــــقــــيــن نجل النبي الطاهر الأمين

فقاتل حتى ضعف، فكمن له حكيم بن الطفيل الطائي من وراء نخلة فضربه على شماله، فقال:

يا نفس لا تخـشي من الكفار وأبشري برحمة الجبار
مع النبي المصطفى المختار قد قطعوا ببغيهم يساري
فأصلهم يا رب حر النار
وفي مصائب المعصومين ومقتل العوالم(1) ولفظ الأول: إن العباس لما رأى وحدة أخيه الحسين «عليه السلام» أتى أخاه وقال: يا أخي! هل من رخصة؟ فبكى الحسين «عليه السلام» بكاءا شديدا ثم قال: يا أخي! أنت صاحب لوائي وإذا مضيت تفرق عسكري، فقال العباس «عليه السلام»: قد ضاق صدري وسئمت من الحياة واريد أن أطلب ثأري من هؤلاء المنافقين، فقال الحسين «عليه السلام»: فأطلب لهؤلاء الأطفال قليلا من الماء، فذهب العباس «عليه السلام» ووعظهم وحذرهم فلم ينفعهم، فرجع إلى أخيه فأخبره، فسمع الأطفال ينادون العطش، فركب فرسه وأخذ رمحه والقربة.
وفي بعض الكتب: إنه جاءت بها سكينة وقالت: ياعم! العطش، فقصد نحو الفرات.
قال الدربندي في حديث أبي مخنف: وقال له العباس «عليه السلام» والرجال عن يمينه وشماله حتى أشرفوا على الفرات وفي أطرافه أصحاب أبن زياد «لعنه الله»
________________
(1) مصائب المعصومين: ص259، مقتل العوالم: ص92.

(175)

فقالو: من أنتم؟ فقالوا: من أصحاب الحسين «عليه السلام»، فقالوا: ما تصنعون هاهنا؟ قالوا: كظنا العطش واشد الاشياء علينا عطش الحسين «عليه السلام»، فلما سمعوا كلامهم حملوا عليهم حملة رجل واحد، فقاتلهم العباس هو وأصحابه فقتل منهم رجالا أبطالا وانشأ:

أقاتل القوم بقـلـب مـهـتـد أذب عن سبط الـنـبـي أحمد
أضربكم بالصارم المهند حتى تحيدوا عن قتال سيدي
إني أنا العباس ذو التودد نجل علي المرتضى المؤيـد

قال: فلما فرغ من شعره حمل القوم ففرقهم يمنا وشمالا وقتل رجالا أبطالا وأنشأ:

لا أرهب الموت إذا الموت رقـا حتى أوارى ميــتا عند الــلــقا
إني صبور شاطـر لـلـمـلـــتـقـى ولا أخاف طارقا إن طــرقــا
بل أضرب الهام وأفري المفرقا إني أنا العباس صعب في اللقا
نفسي لنفس الطاهر السبط وقا

قال: فلما فرغ من شعره حمل على القوم وكشفهم عن المشرعة ونزل ومعه القربة فملأها ومد يده ليشرب فذكر عطش الحسين «عليه السلام» فقال: والله لا ذقت الماء وسيدي الحسين «عليه السلام» عطشان، ثم رمى الماء من يده وخرج والقربة على ظهره وهو يقول:

يا نفس من بعد الحسين هوني فبعده لا كنت أن تــكوني
هذا حسين شــارب المــنـــون وتــشربيـن بارد المعــين
هيهات ما هاذي فـعال ديــنــي ولا فعال صــــادق اليقين

قال: ثم صعد إلى المشرعة فأخذه النبل من كل مكان وهو يقاتل والقربة على كتفه حتى صار درعه كالقنفذ، فحمل عليه أبرص بن سنان فضربه على يمينه فطارت مع السيف، فأخذ السيف بشماله وأنشا يقول:

والله إن قطعتموا يمينــي لأحمين جاهداَ عن ديـنــي
وعن أمام صادق اليقيني سبط النبي الطاهر الأمين
نبي صدق جاءنا بالديــن مصدقا بالواحد الأمــيـــن

قال: فحمل على القوم فقتل منهم رجالا كثيرا ونكس أبطالا والقربة على

(176)

ظهره، فلما نظر عمر بن سعد إلى ذلك قال: ياويلكم! أرشقوا القربة بالنبل فوالله إن شرب الحسين الماء أفناكم عن آخركم، أما هو الفارس أبن الفارس البطل أبن البطل المداعس، قال، فحملوا على العباس «عليه السلام» حملة منكرة فقتل منهم مائة وثمانين فارسا فضربه عبد الله بن يزيد الشيباني على شماله فطارت مع سيفه فأنكب على السيف بأسنانه وحمل على القوم وهو يقول:

يا نفس لا تخشي من الكفار وأبشري برحمة الجـــبار
مـع النـــبــي ســيـد الأبرار وجملة السادات والأخيار
قــد قطــعوا بـبغيهم يساري فاصلـهم يارب حـر النار

ثم حمل على القوم ويداه تنضحان دماَ، فحملوا عليه جميعا فقاتلهم قتالا شديدا فضربه رجل منهم بعمود حديد ففلق هامته وأنصرع عقيرا على الأرض يخور بدمه وهو ينادي: يا أبا عبد الله! عليك مني السلام، فلما سمع الإمام «عليه السلام» ندائه قال: وا أخاه وا عباساه وا مهجة قلباه! ثم حمل على القوم فكشفهم عنه ونزل إليه وحمله على ظهر جواده وأقبل به إلى الخيمة وطرحه فيها وبكى بكاءا شديدا حتى أبكى جميع من كان حاضرا وقال: جزاك الله من أخ خيرا لقد جاهدت في الله حق جهاده، إنتهى.

بطل أبوه حمى النـبـي مـحـمـدا في كــل مــلـحمـة بـحـد حسامــه
سل عنه أحدا بعد بدر واعـتـبـر في خـيبـر النكراء عن إقـــدامــه
والصاحبين الناهضين لمرحـب فبرا كـلــمـح الـبـرق مـن قــدامه
والليث حيدر حين زمجر راعه وأقام مـبـهـوتـا عـلـى إحــجـامـه
إبليـس شـجـعـه فــــكر وإنـــــه كر ســـيــورده حــيـاض حـمامه
قد عـاجـلـته يد الوصي بضربة شطرتـه مـتـزنـا إلـى أقــدامـــــه
فعلي نـاصـر أحـمـد في مـعرك هاب الصحاب الكل عن إقحـامه
هاذي حنين هل أتـاك حـديـثـهـا هي ترجمانك عن علو مــــقـامـه
ذا شبله العباس مــــثـل عـزمـه لما تقــدم حـاسـرا عــن لامــــــه
مـتـدرعـا بـــثـبـاتـه وحـسـامــه كالنار يلهب في الوغى بضرامه
عـلـم الـفـخـار يرف فوق متونه والجيـش ذعرا فر عن أعــلامــه
أم الــمـسـنـات الـتـــي قـد سدها جيش الطـغاة بـمتـقن استحكــامـه

(177)

نسفت قواعدها الحصينة همة من يمنع البركان عن إقـدامــه
حاز الشريعة عنوة ومنــكـسا جيش الدفاع وساحقا في هامه
مد اليد البيضاء يغرف غرفة يروي حشا قدحت أوار أوانـه
فرماه مؤتسيا بـسبـط مـحـمـد وبعاطش الأكباد من أرحـامـه
قل السقاه وسار فـــيه مبادرا نحو الخيام وذاك جل مــرامـه
كي ترتوي أكبـاد آل محــمـد ويبـل بـــارده لــقـلـب إمامـــه

بكاء الحسين على العباس «عليهما السلام»

لم ينفرد هذا الناقل لبكاء الحسين «عليه السلام» على أخيه العباس «عليه السلام» بل هو المشهور عند أرباب المقاتل وقد قلت عند تحبير هذه الكلمة التاريخية مخاطبا للعباس «عليه السلام»:

أبا الفضل أبكيـت الحـسـيـن وإنـــــه صبور على جل الخطوب صليب
فــلـم يــبكــه إلا افــــتـقـادك إنـــــــه عظيم له تحت الظــــلوع نـــدوب
فلا لوم إذ يبــكـيـك إذا قـمـت بالــذي يحـق له والـنـاصــرون ضـروب
فكنـت له طــوع الإدارة لــم تــهـــن وانــت لـه دون الـحـمـاة حـبـيـــب
وقــد كــان أن يــدعو أجبت مـلـبـيــا فـهـا هــو يـدعـو ما يـراك تجـيـب
ألم تسمع الصــوت الذي قد دعا بــه وأنـت علـى شـاطي الـفرات تريب
وكنت تجيب الصوت من أبعد المدى فلم لا أجبت الصوت وهو قريــب

وإني كلما تأملت في بكاءاَ الحسين «عليه السلام» على أخيه العباس «عليه السلام» أرى أن درجة العباس «عليه السلام» أعظم الدرجات سموا وأرتفاعا وأسماها مفخرا، إن من أجرى افتقاده دمعة الحسين الصبور واسبل مصابه عبرة الإمام الإبي الغيور الذي يأنف أن يشاهد منه العدو الكاشح وهنا وانصداعا أو يرى خضوعا وانكسارا فيتجلد تجلد الأباة ويصبر صبر الكرام وقد بلغ من محافظته «عليه السلام» على هذه الغاية السامية أن لا يدع النساء يبكين خوفا من شماتة الأعداء، أليس هو القائل لابنه علي الأكبر واخيه العباس وقد سمع بكائهن عصر التاسع في خطابه لأعداء: أكتاهن فلعمري إن البكاء أمامهن! فهمته العالية ويشمته الشماء التي تلفظ الدنيء وتعاف الساقط لسد منيع بينه وبين المخل

(178)

بسيادته، وما الشاعر العربي القائل في أخيه:

سأبكيك بالبيض الرقاق وبالقنـا فإن بها ما يدرك الطالب الوترا
ولست كمن يبكي أخاه بـعـبـرة يعصرها من جفن مقتله عصرا
ونحن أناس لا تسيل دمــوعــنا على هالك منا وإن قصم الظهرا

بأعظم أنفة وتحفظا وأشد تنزها وترفعا من سيد الأباة وعميد الأنفين وزعيم أرباب الحفاظ الحسين الذي لم يقدم للعالم إلا المثل العليا والمناهج الراقية فلم تجذبه العاطفة المحضة ويحكم ضميره الحي رتاج الجاذبية الجبلية الخالصة فقط.
نعم، إن في الرجال من يسحق البكاء ويستأهل أن تستدر العظماء عليه حلب أجفانها وتسيل عصارة دموعها، هذا سيد البشر أبو القاسم محمد رسول الله (ص) لم توازن ثباته الجبال الرواسي، ولم تعدل صيره الصم الصلاد قد جزع لعمه حمزة بن عبد المطلب ورثى لابن عمه جعفر الطيار وبكاهما وأستبكى لهما حيث قال في حمزة: «لكن جمزة لا بواكي له»، وقال جعفر: «على مثله فلتبكي البواكي»، وما بكاهما إلا لعظمتهما وجلالة قدرهما، وبكى عمه أبا طالب حين توفى وقال: «وصلتك رحم ياعم وجزاك الله خيرا»، وبكى ولده إبراهيم وقد قال بعض العلماء: لو عاش إبراهيم لكان نبيا، فهذا البكاء دليل عظمة المبكى وبرهان سموه.
وفي الشعراء من العرب من يؤثر البكاء على الفقيد العظيم على التسلي، فقال أبو عداس النميري وهو الحارث بن زيد من سادات نمر بن قاسط من ربيعة وكان رئيسا شاعرا أخذ كسرى ابنه عداسا فحبسه، فقال أبوه:

أعـــداس هـل يـأتـيـك عـنـي أنـنـــي تغير حلان فطال شــحــوب
أعـــداس ما أدراك أن الـرب هـالـك تقطع من وجد عليه قــلـوب
تـخـطـينه من أن أرى بـاكيـــــــا له فيشمت عاد أو يساء حـــبيب
وقد كان يخشى أن أرى الموت قبله فبانت به قلبي الغداة شـعوب
وإن امرأ يرجو الخـلـود وقـــد أرى مصارع فتيان الندى لكذوب
لعمرك مانـدري أفي اليــوم أو غــد ننادى إلى أجداثـنـا فـنـجـيـب

ورأى آخر سفك دمه بدل سفح دمعه، ذاك أبن الرومي يقول في علي بن يحيى المنجم:

قد زرت قبرك يا علي مسلما ولك الزيارة من أقل الواجب

(179)

ولو أستطعت حملت عنك ترابه قد طال ما عني حــمــلــت نوائبي
ودمي فلو أني عـــلـــمت بأنـــه يروي ثراك سقاه صوب الصائب
لسفكـتـه أســفا عليـك وحــسـرة وجعلت ذاك مكان دمــع ســاكــب

وأفراط راثي هشام بن المغيرة المخزومي حيث زعم أن يكون بكائه على غير صفة بكاءا المبكين من الهالكين لأنهم إذا قبسوا إليه فإنهم لا شيء حيث يقول من أبيات:

ألا لست كالهلكى فتبكى بكاءهم ولكن أرى الهلاك في جنبه وغلا
غداة غدت تبكي ضاعة غيـثـنـا هشاما وقد أعلت بمـهلكه صــحلا
إلم تـريـا أن الأمـانـة أصـعـدت مع النعش إذ ولى وكان لـها أهلا

إن هذا الشاعر في أبيات له سابقة علل وجوب اختصاصه ببكاء خاص أنه ملاذ لهم وكهف لهم في الحرب بشجاعته، وفي السلم بطعامه، وأخيرا ذكر الأمانة فهذه ثلاثة خصال ميزت هذا المبكى عنده عن غيره، وللعباس بن علي «عليهما السلام» هذه الثلاث وثلاث كما عرفت في الجزء الثاني، وزعم شاعر آخر أن المبكى الذي لا يتسلى عنه لعلة واحدة وهي نتيجة الخصال المحمودة أجمع وهي كونه زينة الدسوت الملوكية وزينة القبور ويزعم ذلك محمد بن عمرو بن الوليد بن عقبة الأموي في مسلمة بن عبد الملك الأموي المرواني وإن كذبه الوجدان في هذه الدعوى بقوله:

ضاق صدري فما يجن سواكا عي عن أن يجنه ما دهاكا
قيل ميت أو قيل قبر على الحا نوت لم أستطع عليه تراكا
زائن للقبور فيها كمــا كــنــت تزين السلطان والأمــلاكـا

تمحل هذا الأموي شططا من القول وأرتكب غلطا فاضحا، أن مسلمة بن عبد الملك المنبوز بالجرادة الصفراء لا تحمد من خصاله إلا الشجاعة وحسن السياسة والبصر في الحرب وقد يوصف بالعلم وما عدى ذلك من الخصال الحميدة فليس له حظ فيها فقد كان بخيلا ومنافقا وجبارا ظلوما وغير ذلك، ومن كانت هذه صفاته فهو مذموم وممقوت فكيف يعد زينة للملك ولم يرشح كإخوته للخلافة؟ وكيف يزين أهل القبور من هو شقيق هامان؟ إن من يزين الأحياء والأموات مثل أبي الفضل الذي جمع الله له الفضائل في النفس والنسب والأخلاق، ورزقه أعلا درجات الشهادة.

(180)

وقد علل الشاعر الأخر استحقاق البكاء لمن شب وشاب على اكتساب المعالي وتحصيل المفاخر كما قال الفرزدق في أبني مسمع وهما مالك ومقاتل من رؤساء ربيعة:

أتبكي على المنتوف بكربن وائل وتهنئ عن ابني مسمع من بكاهما
غلامان شبا في الحروب وأدركا كرام المساعي قبل وصل حباهما
ولو قتلا من جذم بكر بن وائـــل لكان على الناعي شديدا بـكـاهـمـا
ولو كان حيا مالك وابــن مالـــك إذن أوقدا نارين يــعلــو سنـاهـمـا

والمنتوف مولى لبني قيس بن ثعلبة من ربيعة كان يخلف يزيد بن المهلب ومالك ومقاتل بن صميم بن قيس بن ثعلبة وهما سيد اللهازم:
وقد تفنن شعراء العرب فنونا في تعليل الداعي للبكاء على الفقيد العزيز فبعضهم علل بما سمعت وآخرون بأنه عدة للنوائب إذا ما طال العمر، وعرضت أمارات الكبر والعجز، وآخرون بأنه ملجأ في الخطوب ومجن من الأعداء إلى غير ذلك.
وانا أرى كل هذه العلل صحيحة وموجبة لا سالبة لكن الذي أبكي النبي (ص) شديدا على عمه حمزة إنه وقف عليه فرآه ممثلا به أسوأ تمثيل؛ قد شق بطنه، وبقر عن كبده، وجدع أنفه وأذناه ومذاكيره كل ذلك من فعل آكلة الأكباد هند جدة يزيد بن معاوية، فأشتد بكاؤه عليه لذلك وقال: وما وقفت موقفا هو أغيط لقلبي منه، والحسين «عليه السلام» وقف على أخيه العباس «عليه السلام» فرآه قد مثل به فرأى منه ما أستاء له وتغيظ منه فأحترق قلبه حزنا وترقرقت عبرته وجدا عليه حيث وجده مقطوع اليدين من الزندين، مفصوخ إلهامة، دمه سبيل مختلطا بمخ دماغه، السهم قد نبت في عينه، ويروى أن سهما شكه في قلبه ولا ريب إن صح في خروجه من ظهره لأنه لم تبقى لد يد ينتزع بها السهم أو يتلقى بها الأرض إذا سقط عن الجواد خصوصا على المروي الصحيح أن الذي ضربه بالعمود جائه من خلف ظهره فسقط على وجهه، ويروي أنهم احتوشوه لما سقط حتى وزعوه بالسيوف.
وقد ورد في بعض روايات دفن الشهداء أنه كلما حمل منه جانب سقط جانب، ومهما شككنا في صحة بعض الروايات فلا نشك في فضخ إلهامة وقطع الكفين وسهم العين، وإذا كان الحسين «عليه السلام» وجده مكبوبا على وجهه فالحالة محزنة، وإذا كان السهم في القلب فهو لا شك يلاقي الأرض فتدفعه

(181)

بقوتها وقوة السقوط من ظهر الجواد المشرف فيخرج السهم من قفاه لا محالة.
نقد المؤلف لمن أنكر وجود نخل بكربلاء

وأستراب بعض مدعي الفقاهة ولا فقاهة له: أن كيف يكمن العدو للعباس «عليه السلام» خلف نخلة؟ زاعما عدم وجود النخل في أرض الطف الجرداء ويدعي أنها بيداء قاحلة ومفازة ماحلة لا شجر بها ولا نبات فضلا عن النخل؟ ويفسرها تفسيرا مضحكا أشبه عندي بأن يكون فكاهيا منه جديا، يقول: كمن له وراء نخلة ليست بالفتح على أنها واحدة النخل بل وراء نخله بإضافة نخل إلى الهاء وراء منكبه، وهذا طريف لم تسمح بصحته لغة العرب ويأبى جوازه السان الفصيح، وهذا التأويل السخافي الركيك لم يزل يتبجح بنشره على البلداء من الذاكرين والأغبياء من العوام، ومن لم يتنور بنور العلم تردى في مهاوي الجهل.
إن كربلاء كانت على مقربة من نهر الفرات الاصغر المسمى بالعلقمي، وعلى ضفافه حدائق نخل وشجر ومزارعه مشهورة، وعلى شرائعه التي حفت بحرس العدو نخل لسكان الغاضرية ونينوى والعقر وغيرهن من القرى، والعجب ممن يزعم أن نهرا يجري على مسافة بعيدة يخلو من سكان أو أن سكان تلك البلاد وهم من وسط النخل العراقي كما هو موقعهم اليوم لا يعرفون غرس النخل فيحسبهم من سكان الصمان والضلعين! لا أحسب أن العامي يزعم مثل ذلك في أرض كثيرة السكان وأهلها قروية أرباب فلاحة وحرث وبساتين ويقطنون على ضفاف جدول غزير يسقي بساتين تلك البقعة وينصب فاضله إلى الكوفة.
وشرائع هذا النهر مشهورة كما عرفت، وقراه كثيرة معروفة سنذكرها مستقلة، وقد أراد الحسين «عليه السلام» النزول في بعضها فمنعوه وأنزلوه في بعقة جرداء، ومن تلك القرى الغاضرية وهي على ضفاف نهر العلقمي تمتد إلى المنساة التي قتل عندها العباس «عليه السلام»، وفي المسناة نخيلات لأهل الغاضرية ومنهم أشترى الحسين «عليه السلام» موضع قبره وقبور أصحابه، وعلى هذه المشرعة أستحكام حرس أهل الكوفة القوي وقد وصل إليها العباس ونزل في النهر وملأ القربة منه وقصد بها إلى المخيم فقطعوا عليه الطريق ثم كمنوا له من وراء بعض النخلات فقطعوا يديه.
قال الأستاذ العلامة المحقق هبة الدين الشهرستاني في كتاب نهضة

(182)

الحسين(1): فتوجه العباس «عليه السلام» نحو الجيوش المرابطة حول الشرائع فأخذوا يمانعونه عن الماء ويستنهض بعضهم بعضا على معارضته ومقاتلته خشية أن يصل الماء إلى عنترة النبي (ص)، فلم يزل العباس «عليه السلام» يقارعهم ويقاتلهم ويقلب فئة على فئة ويفل العصابة تلو العصابة حتى كمنوا له وراء نخلة من نخيلات الغاضرية فقطعوا يمناه فأخذ السيف بيسراه مثابرا على الدفاع غير مكترث بما أصابه وهو يتلو الأراجيز تلو الأراجيز، ويذكر القوم بمآثر أهل البيت وحسبهم ونسبهم من رسول الله (ص) فكمنوا له ثانية من وراء نخلة وضربوه بالسيف على يساره فقطعوها فأضحى كعمه جعفر الطيار يدافع عن نفسه وهو مقطوع اليدين، وكأن القوم قد قطعوا بيديه يدي الحسين «عليه السلام» فعند ذلك تقدم إليه درامي غير هباب له فضربه بعمود من حديد فخر صريعا وصارخا: يا أخاه أدرك أخاك! ولم يدرك الحسين «عليه السلام» ظهيره ونصيره إلا بعد أختراق الجموع والجنود، وفي آخر لحظة منه نادبا له وقائلا: الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي وشمت بي عدوي، إنتهى.
عمود الحديد تسميه العامة اليوم ب(الدبوس) و (الدنبوس) وهو من أسلحتهم وقد أشتهر بحمله في المعارك الحربية القديمة جماعة من أبطال العرب المسلمين مثل خالد بن الوليد المخزومي والزبير بن العوام -على قول- والمقداد بن عمرو البهرائي المعروف بابن الأسود وحمزة بن عبد المطلب -على ما ذكر- ومالك بن الحارث الاشتر، ومن رؤساء الخوارج شبيب بن يزيد الشيباني رئيس الصفرية، وقطري بن الفجأة المازني رئيس الأزارقة؛ فالأول من ربيعة والثاني من تميم.
أما قاتل العباس بن علي «عليهما السلام» فأختلف فيه العلماء فقيل هو زرعة بن شريك الدارمي من تميم، وقيل: زيد بن رقاد الجنبي من مذحج، ويقال جهني من قضاعة.
وقيل: حكيم بن الطفيل السنبسي من طي، وقيل غير ذلك، والدارمي هو الذي صرحت به الزيارة المروية عن صاحب الزمان «عجل الله فرجه»، وأما
الجبني والسنبسي فعليهما نص ثقاة المؤرخين، ولفظ أبي الفرج في المقاتل(2): عن أبي جعفر (الإمام محمد الباقر «عليه السلام»): إن زيد بن رقاد الجهني وحكيم بن الطفل الطائي قتلا العباس بن علي «عليهما السلام»، الخ.
والجمع ممكن بأن يكون على ما صرحت به الأخبار أن الجنبي قطع يمينه
_____________________
(1) نهضة الحسين: ص105. (2) مقاتل الطالبين: ص34.

(183)

والسنبسي قطع يساره والدارمي ضربه بالعمود.
وأما رواية سبط أبن الجوزي الحنفي في التذكرة من أن قاتل العباس «عليه السلام» حرملة أبن الكاهن الاسدي فيمكن حملها على أنه مشترك معهم لأنه صاحب السهم الذي وقع في عينه المباركة فيكون هؤلاء الأربعة قد أشتركوا في قتله، ويؤكده رواية من روى أن حرملة صاحب السهم الذي وقع في قلبه.
انتقام الله تعالى من قتلة العباس «عليه السلام»
أما الدارمي التعيس فقد تقدم ما عاقبه الله به وجعله فيه عبرة لأهل الجور والظلم فيما عاجل الله به قتلة الحسين «عليه السلام» من العقوبة في الدنيا.
واما الجنبي السنبسي فأخذما المختار وقتلهما وكذلك حرملة.
صفة قتل الطائي:
ذكر المؤرخان الجزري والطبري - ولفظ الأخير في تاريخه(1)- قال: ثم إن المختار بعث عبد الله بن كامل إلى حكيم بن الطفيل الطائي السنبسي وكان قد أصاب سلب العباس فأتاه عبد الله بن كامل فأخذه ثم أقبل به فذهب أهله فأستغاثوا بعدي بن حاتم فلحقهم في الطريق فكلم عبد الله بن كامل فيه، فقال: ما إلي من أمره شيء وإنما ذاك إلى الأمير المختار، فقال: فإني أتيه، قال: فإنه راشداً.
فمضى عدي نحو المختار وكان المختار قد شفعه في نفر من قومه أصابهم يوم جبانة السبيع لم يكونوا نطقوا بشيء من أمر الحسين «عليه السلام» فقالت الشيعة لابن كامل: إنا نخاف أن يشفع الأمير عدي بن حاتم في هذا الخبيث فدعنا نقتله، قال: شأنكم به، فلما انتهوا به إلى دار العنزيين وهو مكتوف نصبوه غرضا ثم قالوا له: سلبت أبن علي «عليه السلام» ثيابه، والله لنسلبنك ثيابك وأنت حي تنظر، فنزعوا ثيابه ثم قالوا له: رميت حسيناً «عليه السلام» وأتخذته غرضاً لنبالك وقلت: تعلق سهمي بسرباله ولم يضره، وايم الله لنرمينك كما رميته بنبال ما تعلق منها بك أجزاك، قال: فرموه رشقا واحدا فوقعت به منهم نبال كثيرة فخر ميتاً.
قال أبو مخنف: فحدثني أبو الجارود عمن رآه قتيلا كأنه قنفذ لما فيه من كثرة النبل، الخ.
____________________
(1) تاريخ الطبري 7/128.

(184)

وبنو سنبس رهط الشقي الحكيم بن الطفيل من قبائل طي ومنهم اليوم بالألوية الشمالية عشائر كبيرة مشهورة بهذا الإسم.


صفة قتل أبن الرقاد


أما صفة قتل أبن الرقاد:
فذكرها المؤرخان أيضا ونص الطبري(1) قال: وبعث المختار عبد الله الشاكري إلى رجل من جنب يقال له زيد بن رقاد وكان يقول: لقد رميت فتى منهم بسهم وإنه لواضع كفه على جبهته يتقي النبل فأثبت كفه في جهبته فما أستطاع أن يزيل كفه عن جبهته.
قال أبو مخنف: فحدثني أبو عبد الأعلى الزبيدي أن ذلك الفتى عبد الله بن مسلم بن عقيل وإنه قال حيث أثبت كفه في جبهته: اللهم إنهم أستقلونا واستذلونا، الله أقتلهم كما قتلونا وأذلهم كما ذلونا، ثم إنه رمى الغلام بسهم آخر فقتله فكان يقول: جئته ميتاً فنزعت سهمي الذي قتلته به من جوفه ولم أزل أنضنض السهم من جبهته حتى نزعته وبقي النصل في جبهته مثبتا ما قدرت على نزعه.
فلما أتى أبن كامل داره أحاط به وأقتحم الرجال عليه فخرج مصلتا بسيفه وكان شجاعا، فقال أبن كامل: لا تضربوه ولا تطعنوه برمح أرموه بالنبل وأرجموه بالحجارة، فعلوا ذلك به فسقط، فقال أبن كامل: إن كان به رمق فأخرجوه، فأخرجوه وبه رمق، فدعا بنار فحرقه بها وهو حي لم تخرج روحه،إنتهى.
بنو جنب رهط هذا الشقي من مذحج وهو ستة بطون: منبه الحارث واللفي وسجان وشمران وهفان بنو يزيد بن حرب بن علة بن جلة بن مذحج جانبوا أخاهم صداء وحالفوا سعد العشيرة فحالف أخوهم صداء بني الحارث أبن كعب فاللعين أبن رقاد من هؤلاء، وليس في العرب جنب سواهم وعليهم نزل مهلهل أخو كليب في الجاهلية هاربا من بكر بن وائل حين أجتمعت كلمتهم على تغلب فلم يقوموا لهم، وما أحسنت جنب جواره بل أساءت وأجبرته على تزويج أبنته من بعضهم وكان لا يراهم أكفاء لها وأصدقوها أدماَ وهي الجلود المدبوغة وذاك حيث يقول مهلهل:

أنكحها فقدها الأراقم في جنب وكان الحباء من آدم

(185)

في أبيات له، وليس قول من نسبه جهنيا إلا على إرادة الحلف أو التصحيف.
صفة قتل أبن الكاهن
أما صفة قتل أبن الكاهن:
فيروي شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (رحمه الله) في كتاب الأمالي(1) بالإسناد إلى المنهال بن عمرو الاسدي قال: دخلت على علي بن الحسين «عليه السلام» منصرفي من مكة فقال: يامنهال! ما صنع حرملة بن كاهن الأسدي؟ فقلت: تركته حياً بالكوفة. قال: فرفع يديه جميعاً فقال: اللهم أذقه حر الحديد، اللهم أذقه حر النار.
قال المنهال: فقدمت الكوفة وقد ظهر المختار بن أبي عبيدة وكان لي صديقا، فمكثت في منزلي أياما حتى أنقطع الناس عني فركبت إليه فلقيته خارجا من داره، فقال: يا منهال! لم تأتنا في ولايتنا هذه ولم تهنئنا بها ولم تشركنا فيها، فأعلمته أني كنب بمكة وأني قد جئتك الآن، وسايرته ونحن نتحدث حتى أتى الكناس فوقف وقوفاً كأنه ينتظر شيئا وقد كان أخبر بمكان حرملة فوجه في طلبه فلم نلبث أن جاء قوم يركضون وقوم يشتدون حتى قالوا: أيها الأمير! البشارة قد أخذ حرملة بن كاهن.
فما لبثنا أن جيء به فلما نظر إليه المختار قال: الحمد الله الذي أمكنني منك، ثم قال: الجزار الجزار، فأتي بجزار فقال، إقطع يديه، فقطعتا، ثم قال: إقطع رجليه، فقطعتا، ثم قال: النار النار، فقلت: سبحان الله! فقال: يامنهال! إن التسبيح لحسن ففيم سبحت؟ فقلت: أيها الأمير دخلت في سفرتي هذه منصرفي من مكة على علي بن الحسين «عليهما السلام» فقال لي: يامنهال! ما فعل حرملة بن كاهن الأسدي؟ فقلت: تركته حيا بالكوفة، فرفع يديه جميعا وقال: اللهم أذقه حر الحديد، اللهم أذقه حر النار.
قال: فنزل عن دابته فصلى ركعتين فأطال السجود قم قام فركب وقد أحرق حرملة وركبت معه وسرنا فحاذيث داري فقلت: أيها الأمير! إن رأيت أن تشرفني وتكرمني وتنزل عندي وتتحرم بطعامي، فقال: يامنهال! تعلمني أن علي بن الحسين «عليهما السلام» دعا بأربع دعوات فأجابه الله على يدي ثم تأمرني أن
_____________________
(1) الأمالي للطوسي: ص149.

(186)

آكل؟! هذا يوم صوم شكرا لله تعالى على ما فعلته بتوفيقه.
حرملة هو الذي حمل رأس الحسين «عليه السلام»، إنتهى.
وسبب دعوة الإمام زين العابدين «عليه السلام» على حرملة خاصة وأفرده بالدعاء عليه دون سائر قتلة الحسين «عليه السلام» لجرأته العظيمة على الله لمقارفته فظائعاً شتى وأفظعها ذبح الطفل الرضيع في حجر أبيه مع أنه رمى العباس «عليه السلام» بسهم أصاب عينه، ورمى الحسين «عليه السلام» بسهم وقع في صدره وهو غير سهم أبي الحتوف المحدد الذي وقع في لبة قلبه، وتمثل قساوته البالغة أقصاها أمتناع العسكر من إجابة عمر بن سعد وإسراعه لما أنتدبه عند إقبال الحسين «عليه السلام» بطفله المشرف على التلف من الظمأ عبد الله الرضيع يستسقي له الأعداء فسارع اللعين متقبلا ذاك الاقتراح القاسي من الغوي قائد الغوات في أن يحسم نزاع العسكر حول الشفقة على هذا الطفل الذي لم يقم بذنوب الكبار ولم يتلبس بخطايا البالغين بزعمهم إلى أئمة العدوان أئمتهم اللعناء فتحرى عدو الله رقبة الطفل البيضاء التي تبض كوميض بارقة وأستهدف ومضة عنقه اللماعة التي تشع على ذراع أبيه الحنون المنعطف فسدد المشوم رميته صوب هدفه وقرطس بسهمه الناقع سما رقبة الطفل الضعيف الذي يستدر عاطفة الحنان ويستدعي حدب الإنسانية فذبحه من الوريد إلى الوريد.
ويزعم أقسى الخليفة قلبا وأغلظ البشرية كبداً أنه رق لذاك الطفل الذي جيء به يسقى الماء السلسال فسقي من دمه السيال متى زعم هذا العاتي تلك الرقة المزعومة وانكسار الخاطر المكذوب حين أحس الطفل المغمى عليه من العطش بحرارة السهم الحاد فأستخرج يده من القماط لائذا بالأب العطوف، عائذا بالوالد الحنون، معتنقا إياه عناق وداع وفراق لا عناق أستقبال وتلاق.
إن مثل هذه لو صورها الخيال على مسرح الفكر لما تيقن صدق هذه المخيلة الشاذة بتصوير مثل هذه البشعة النكراء فكيف إذا كانت حقيقة وواقعة من إنسان العدوان، أنسان القسوة، إنسان الجلفية، قد قلت إنه إنسان إفهاماً وتفهيماً في التمثيل، وعقيدتي إنه شيطان متمرد تشكل بصورة إنسان، ومارد متشيطن تقمص باقلب بشر، بل سبع نهم وذئب مقرم يقضم بأنياب مطاعمه لحوم التوحيد، ويقطع بنواجذ شرهه أعصاب الدين.
ولعظم هذه الجريمة وفظاعتها وضع الحسين «عليه السلام» يده تحت نحر الطفل حتى إذا امتلأت من دمه رمى بها إلى أفق السماء قائلا: اللهم لا يكن أهون

(187)

عليك من فصيل، ولا غرابة أن لا يرجع إلى الأرض من ذلك الدم الطاهر الزكي قطرة، ولا عجب لو ترشفه السماء الصافية الأديم ترشفا وطرزت به آفاقها وحلت به شفقها المحمر دوما ليترجم لأجيال القادمة فعال تلك العصابة الشريرة.
وهذا الجرم العظيم وهذه الجرأة البالغة أقصاها أستدعت من الإمام السجاد «عليه السلام» الأهتمام بالدعاء عليه خاصة، ولعل اختيار إعدامه حرقا، ظاهر السر، الجلي الحكمة: إن هذا اللعين قد أحرق بفعله قلوبا: قلب أمه الرباب المصابة بوحيدها، قلب أبيه المذبوح طفله على ذراعيه، اللهم إذقه حر النار، استجاب الله لك أبا محمد.
مرقد العباس حيث يزار الآن
بأتفاق الناس لم يخالف في ذلك مخالف لتظافر النصوص الواردة في دفن الشهداء «عليهم السلام» وأنهم دفنوا كلهم حول قبر الحسين «عليه السلام» إلا الحر بن يزيد الرياحي وأخوه العباس «عليه السلام» دفن حيث سقط، ودعوى بعض أرباب المقاتل من أنه «عليه السلام» حمله على فرسه وجاء به إلى الخيمة فمردود بما ذكرنا من الاتفاق حتى من أهل هذا القول في دفن الشهداء أنه «عليه السلام» دفن حيث صرع فالقول بحمله إلى خيمة القتل من الوهم الواضح.
الأسباب في ترك العباس «عليه السلام» في مكانه
السر في إبقائه حيث سقط:
أن الحسين «عليه السلام» لم يحمل العباس «عليه السلام» إلى خيمة الشهداء كما حمل إليها بقية الشهداء من أصحابه وأهل بيته لأنه «عليه السلام» نصب خيمة في وسط المعركة يحمل إليها كل من أستشهد من أصحابه وأهل بيته وإنما أفردها من المخيم وجعلها وسط المعركة لأمرين:
أحدهما شرعي: وهو أن الشهيد إذا مات في المعركة جري عليه حكم الشهيد بأن لا يغسل ولا يكفن ويدفن في ثيابه، ولا يغسل عنه دم ليقوم عند الحشر محاججاَ قاتليه ومخاطبا لهم على قتله ويكون لون ثيابه لون الدم والريح ريح المسك، ومن جرح ومات خارج المعركة فله أجر الشهيد ومرتبة الشهيد ولا تجري عليه أحكام الشهيد فيغسل ويكفن كغيره، فحفظاً لهذا المبدأ ومحافظة على هذا النظام الإسلامي آمر «عليه السلام» بنصب تلك الخيمة في وسط المعركة.

(188)

ثانيهما: عربي حفاظي وذلك أنه «عليه السلام» من صميم العرب ولباب أرباب الحفاظ والشيم وسادات أرباب الغيرة والحمية الذين يغارون على الحرم ويغالون في صونها ببذل المجهود وبكل ما وسع الجهود وفي جيشه نساء مخدرة وعقائل محترمة مصونة بصيانة الجلالة والعظمة، مسترة بستر الاحترام والتجلة، مرخى عليها رواق الحشمة والعظيمة، والمرأة مهما كانت محتفظة بوقارها مبالغة في التمسك بسترها إذا رأيت بعينها فقيداً عزيزا تنذهل وتفقد الوعي والشعور، وقد يغلبها الجزع لعظم الصدمة فتلهوا عن الوقار وتذهل عن الأحتشام وربما تبدو حاسرة أو تظهر سافرة مكشوفة الوجه للنظار فإن المذهول والمندهش لخوف شديد أو لصدمة جائحة ممضة لا يحتفظ آنات الأمن والسرور.
فمحافظة على هذه المقاصد العليا والغايات الشريفة أبعد اشخاص الشهداء عن أعين العقائل والعادات قاضية بأن مصاب العظيم من الرجال يسبب أنذهال المصونات فيبدين للنظار سوافر ويبرزن للأعين حواسر، وقد قال الربيع بن زياد أحد الكملة من بني عبس ورئيسهم في الجاهلية في رثائه مالك بن زهير العبسي لما قتلته فزارة:

من كان مسرورا بمقتل مالك فليأتي نسوتنا بوجه نهــار
يجــد النـسـاء حواسرا يندبـنه يلطمن أوجههن بالأسحار

فالحسين «عليه السلام» حافظ تمام المحافظة على عدم إزعاج العقائل من خدورهن كي لا تصاب لمذهولة غرة وتنال من مذعورة غفلة بسقوط خمار أو رفع برقع أو كشف نقاب عن وجه محجبة لا زال تصونه النبوة بقداستها ويستره الوحي بجلاله.
فلم يحمل أخاه العباس «عليه السلام» إلى هذه الخيمة التي تجمع الشهداء أنصاره وأهل بيته والتي هي غير بعيدة عن المخيم الحسيني ولا نائية عن أخبية النساء، وراعى في إبقاء العباس «عليه السلام» في موضع سقوطه غير ما ذكرنا أمور أخرى تشف لمتأملها عن عظمة شأنه وترمز إلى شموخ شأنه وترمز إلى شموخ محله وسمو منصبه إذ أنه عنوان الفضائل ورمز الجلالة:
أحدها: أنه «عليه السلام» قصد بذلك إظهار فضيلته المستقبلة وإبانة الجلالة في الأجيال الآتية ليعرف قدره وبستبين تفوقه الذي يلتئم مع شخصيته الفذه ويتفق مع أهليته فأحب لذلك أن يبقى هناك ليدفن في موضعه حتى يكون له قبر مشيد بأنفراده وعلم ظاهر ومرقد مشهور فيمتاز بعد وفاته كما أمتاز في حياته وليبقى ذاك

(189)

القبر المقدس والضريح المتسامي للضراح والقبة السامعة تفاخر نجوم الثريا شموخا وأرتقاء ويبقى ذاك المرقد المنيف مقصد العدو الذي يسميه الإمام العباس، والولي الذي يسميه قاضي الحاجات على السواء، وليخضع الجريء في أعتابه فيقول بعاميته: الترهب بيبانه، هذا سر واضح يتجلى لنا نوره متألقا.
ثانيها: إنه «عليه السلام» حين صرع أخوه العباس «عليه السلام» لم يبقى معه أحد من أنصاره وأهل بيته من يحمله فإن العباس «عليه السلام» كان بطلا ممتاز بالجسامة ومعروفا بالضخامة فيحتاج إلى من يحمله ليحامي عن الحسين «عليه السلام» ويدفع عنه الأعداء فإنه لو حمله هو بنفسه ما وجد له من يحمي ظهره من العدو الغادر الذي الذي يتحين الفرص في قتله ويتحرى الوصول إلى القضاء عليه بكل ما أمكنه من جهود وحيث لا حي في الخيام ممن له قابلية الدفاع لأنهم قتلوا وجرحوا جراحات تمنعهم من الجلاد وفر الضحاك المشرقي وجبن بعض الأرقاء من الجلاد كعقبة بن سمعان فإذن ليس إلا الإمام العليل الذي أسقط عنه الدفاع عدم التمكن من القيام وعدم الأستقلال بالنهوض وحده إلأ متوكئا على شيء أو معتمداً على أنسان، ومن كان بهذه الصفة لا يستطيع أن يحمي ظهر المحارب الذي ألهاه الحمل عن الحملة وهناك صبية صغار ونسوة مذاعير فلا مجال لحمله «عليه السلام» ولم تسنح فرصه لنقله.
ثالثها: إن الحسين «عليه السلام» لما وصل إلى أخيه العباس «عليه السلام» عقيب ندائه أدركني يا أخي وشق إليه الصفوف العدوانية المتكدسة على مصرعه شقا وصدع جموعها بجولته ألفاه بآخر رمق من الحياة يكاد أن يلفظ آخر نفسه له وما كلمه تلك الكلمات والوجيزة الحارة اللاذعة إلا ولفظ مع آخرها روحه الزكية وختم بها حياته الطيبة ولا معنى لحمل من يعالج سكرات الموت ويكابد آلام الاحتضار مع أن الغرض الذي يحمل من أجله الشهداء وهو الخوف من أن يجهز العدو على الجريح قد زال بوفاته والغاية الشرعية بموته في المعركة حاصلة فأبقاه في موضعه.
رابعها: إن في المخيم من نساء وأطفال وأعبد ضعفاء النفوس وجرحى في خيمة القتلى كانوا جميعا غير مرتاعين ولا منزعجين وحياة العباس «عليه السلام» قائمة، واثقين شبحه قائماً في المعركة يجالد الأعداء فهم في منعة واملهم وطيد بأنه سيدفع عنهم التعديات العدوانية وإنه يقوم بالدفاع المشترك مع أخيه الحسين «عليه السلام» والتعاون مع وبذلك الدفاع الثنائي من الأخوين سيكون المخيم

(190)