موسوعة بطل العلقمي الجزء الثالث

اسم الکتاب : موسوعة بطل العلقمي الجزء الثالث

المؤلف : أليف سماحة آية الله المحقق الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر قدس سره
المطبعة : مؤسسة الشيخ المظفر الثقافية العراق النجف الاشرف مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت لبنان

 

 

 

إن قريشا لم تجد طرقا للقدح في بسالته المشهورة وليس لها مجال لجحود شجاعته البالغة درجة الإعجاز فأنحرفت عن هذه الوجهة وأتجهت إلى خطة هي أدق واخفى منها في رأيها الرائج على من لا علم له ولا إلمام بسبر الحقائق ولا بصر له بتدقيق مباحث التاريخ الحربي فوجهت الطعن إليه بالجهل بأساليب الحرب وفنونها وقدحته بقلة المهارة والخبرة فلهذا أستغرب «عليه السلام» هذه المقالة فقال: وقالت قريش الخ.
والعارف المنصف يرى أن قوله «عليه السلام» هو الصحيح لأن من مارس شيئا مدة طويلة لا بد أن تحصل له ملكة يمتاز بها على من لم يمارس أو كان أقل ممارسة منه ولا خفاء أن قريشا إنما نفت عن أمير المؤمنين علي «عليه السلام» المعرفة بفنون الحرب لأمرين:
احدهما: أنه «عليه السلام» لا يستعمل المكايدة ولا يستحل المخادعة والحيل الحربية التي يستغلها غيره من المحاربين وخصوصا قريش فإن الغالب في رجحانهم الميداني وتفوقهم الحربي في حروبهم العدوانية إنما هو بالمخادعة والمكايدة ودليله القطعي حروب بني أمية ولا شاهد أعظم من خداع معاوية ومروان وعبد الملك فقد سمعت يوم الفرات وما ذبح أهل المدينة في غارة بسر ويوم الحرة إلا بالخديعة ولا قتل عمرو الأشدق إلا كيدا وخداعاً، فقريش خداعة قريش ماكرة، وعلي «عليه السلام» لا يستحل الخديعة ولا يستبيح المكر.


نقد المؤلف لزعمهم أن الحرب خدعة


وزعمت قريش أن رسول الله (ص) قال- ولم يصح ذلك- أن الحرب خدعة وهو مثل جاهلي نسب لرسول الله (ص) وهذه الكلمة لها عندنا نظران: نظر في الإثبات ونظر في النفس:
أما الإثبات فتذعن بصدورها عنه (ص) ونسلم أنها قالها مجاراة للخصم فهي مع تسليمنا لها لا تدل على مطلوبهم حيث أنه أخبر فيها عن حقيقة الحرب وأنها خدعة يعني طبيعتها وماهيتها الخداع لا أنه يجوز فيها الخداع كما يقول الطبيب الحشيشة مخدرة فلا يعني إلا وصف خاصيتها لا أنه يأمر بتناولها، وكما يقول القال: البصرة حارة لا يعني الأ وصف جوها ولم يأمر بأيتيانها وهذا شيء متداول في المحاورات عند عامة أهل اللسان: فالحرب خدعة صفتها الخداع لا أنه أمر بالمخادعة فيها.

(123)

هب أنا سلمنا ذلك وسلمنا قوله خذل عنا ما استطعت فإن الحرب خدعة فلا يعني إلا المخادعة التي يسوغها الشرع وتبيحها الملة لا المحضور شرعا المذموم عقلا فإن مورد النص إن كان كما يزعمون ذلك يوم الأحزاب وقوله لنعيم بن مسعود الأشجعي: خذل عنا ما أستطعت فسعى بينهم حتى فرق كلمتهم وشتت شمل أجتماعهم فأنصرفوا متخاذلين وكفى الله المسلمين شرهم؛ فهذا شيء محبوب وهو من الخدع الجائزة والمكائد السائغة بل الراجحة في الدين فإن تصدع جيش جرار بفتل الحازم في الذروة والغارب خير من سفك الدماء وأفضل من إزهاق النفوس.
فأين هذا من خذع معاوية وأبن العاص وفجرة قريش التي طمسوا بها معالم الدين وأراقوا دماء المسلمين في السهل والجبل، وسبوا المسلمات وباعوهن بيع المشركات فليست الحرب خدعة لهذا الفجور وهذا الجور، هذا لا تقبله الإنسانية جمعا فكيف تقبله الملة السمحاء ذات العطف والحنان؟ أم كيف ترتضيه نفس النبي الطاهرة ذات الشفقة والحنو على كل حي.
أما من حيث النفي فنقول: كيف يأمر النبي (ص) بالخديعة وقد نهى عن كل ما يلزم منه وقد ذم الله تعالى المكر والخديعة في كل موضع ذكرها فيه من كتابه المجيد وقوله (ص): الإسلام قيد الفتك، والفتك من أهم مطالب الحرب خدعة.
الأمر الثاني عابته قريش بإضاعته الفرصة عند الإمكان كما فعل مع أهل الجمل وصفين وقد ملك شريعة الفرات بصفين فلم يمنعهم كما منعوه من شرب الماء، وكلا الأمرين لا يستعملهما إلا الضعيف العاجز والقوي الفاجر الذي لا يدين له يحجزه عن إرتكاب ما حرم الله، وأمير المؤمنين علي «عليه السلام» لم يكن بالضعيف العاجز ولا القوي الفاجر، ولم يتركهما لعدم علم ولا لقلة إدراك وفهم، ولا عن قصور معرفة بأن الظفر يكون فيهما ويقارنهما الفوز والغلب هو على يقين وكن أنت على ثقة ويقين بأنه «عليه السلام» يعلمه ويعرفه حق المعرفة، ويتركه تدينا وترفعا عن ظلم الابرياء وتحرجا عن الجور على الضعفاء، فإن جيشاً كبيراً لا بد أن تشتمل جريدته على كثير من الضعفاء والذين أخرجوه كرها، وكثير من المستريبين الذين يرزقون التبصر فيما بعد كما أستبصر ابو نوح وأبو شجاع الحميريان وغيرهما من رجالات أهل الشام فأمثال هؤلاء من المستريبين والمكرهين كنصير والد موسى أبن نصير والضعفاء من الخدم والنساء والأطفال والقاصدين للأصلاح بين الجيشين والوارين الحاجات لهم مع أهل الجيوش

(124)

كالمطالبة بدين وأقتضاء حق الماردين مع المسافرين ليقضوا وقتا ثم ينصرفوا بعد الأستراحة، وكل هؤلاء يحتوي عليهم الجيش، والخدعة لا تميز هذه الأصناف من المحاربين المتبصرين وإتلافهم لا تبيحه الشريعة ولا تحل قتلهم.
ألا تسمع قول الله في صرف النبي (ص) عن مكة يوم الحديبية: (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ)(1). وكما أن الشرع لا يحل ذلك ولا يبيحه فالعقل أيضا لا يسمح في إتلاف أناس بذنوب غيرهم، فالخدع والحيل والمكائد في الأستئصال وفي إتلاف الكل إنما يلوذ بها الجبان العاجز، ويتدرع بها الضعيف المستضعف، وأمير المؤمنين علي «عليه السلام» معتمد على حد صارمه، متكل على نصل رمحه، واثق ببأسه وبسالته ومضاء عزمه في الظفر وبالمتصلبين في الديانة من أبطال جنده وفرسان عسكره الذين زحزحوا عسكر معاوية الكثيف على المشرعة وزجوا به في الفلاة الجرداء وهم إثني عشر ألفا، وجيش معاوية على أقل ما روي مائة وعشرون ألفا وقيل أكثر، وكله أناخ على شريعة الفرات.
أما أمير المؤمنين علي «عليه السلام» ذاته فهو القائل: لو ظاهرت العجم على العرب ما وليتهم ظهري.
وهو القائل وقد ليم على اتخاذه درعا لا ظهر لها: إن وليت عدوي ظهري فلا أبقى الله عليه إن أبقى علي.
وهو القائل لأهل الكوفة بعد تخاذلهم عنه فأنكمشوا في بيوتهم وهناً وذلاً: أنحجرتم في بيوتكم أنحجار الضباب، ويحكم أخرجوا معي ثم فروا عني فو الله لألف ضربة في سبيل الله بالسيف خير من موتة على فراش.
وهو القائل يوم البصرة ذاك المعترك الرهيب والموقف الحرج وقد طلب شرابا فأتوه بعسل، فقال لمن أتى به: إن عسلك هذا لطائفي، فيقول له أبن أخيه جعفر: عجبا منك يا عم في مثل هذا اليوم تعرف العسل الطائفي من غيره! فيقول له: يا أبن أخي! والله ما ملأ صدر عمك من جميعهم شيء.
وقالوا: إنه كان يخفق نعاسا أمام صفوف أصحابه وسهام أهل البصرة كشآبيب المطر حتى قتل أبن بديل وجرح غيره.
وله يقول رسول الله (ص) يوم خبير وقد فر صاحباه: لأعطين الراية غدا رجلا
______________
(1) الفتح: 25.

(125)

يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، كرار غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه.
وفيه يقول رضوان خازن الجنان يوم بدر وجبرئيل أمين الوحي أحد:
لا سيف إلا ذو الفقار ولا فــتى إلا علـــي
وبه باهى الله الملائكة الكروبيين ليلة مبيته على فراش رسول الله (ص) عند الهجرة، امثل هذا يحتاج إلى استعمال المكائد والخداع؟! إنما يخادع من أمتطى فرسه ليهرب فحبسه جنده ومنعوه من الفرار وقد نجا أخوه عشرين فرسخا في هربه، ومن دعي إلى البراز فنكل وشتم وزيره الذي أشار عليه بملاقات القرن الذي دعاه ويتضاحك يوما حيث ملأ بطنه من ثيران الغوطة وباقلائها من وزيره ذاك المشير عليه بالبراز فيقول له: ما يضحكك أيها الأمير أضحك الله سنك؟ فيقول: أضحك من جودة ذهنك حيث أتقيت سنان أبن أبي طالب سوأتك! فيجيبه هذا: إني إلى جنبك وقد دعاك إلى البراز فأنتفخ سحرك وتغير لونك وبدا من أسفلك ما أكره ذكره لك فمن نفسك فأضحك، فهذا الجبان المنتفخ السحر المتغير اللون الذي يبدر أسفله بالنطق قبل لسانه خوفا ورعبا هو صاحب المكائد والمضطر إلى الخديعة والمكر ليست الحرب خديعة.
ولم يبلغنا أن رسول الله (ص) كايد عدواً أو خدع محارباً سوى ما زعموا من أمره نعيما بتخذيل الأحزاب وهذا إن صح فليس من هذا الباب لأن أهل المدينة لما طوقهم جيش الأحزاب أصبحوا في ضيق شديد من الحصار حتى نجم نفاق المنافقين فأحب رسول الله (ص) سرعة رفع الحصار عنهم بتفرق الأحزاب وانفضاض جميعهم لتحصل لأهل المدينة الراحة السريعة وليست هذه من خدع الحرب ومكائدها وإنما هي من الحزم والتيقظ فإن جيشا لا يندفع إلا بعناء شديد وعنت ثقيل سيندفع بسياسة عاقل مجرب غير متهم عندهم بسهولة وقد كان أمير المؤمنين علي «عليه السلام» يفعل مثل هذا.
أتاه الأحنف بن قيس التميمي السعدي يوم الجمل فقال: يا أمير المؤمنين! أتحب أن آتيك بمن أطاعني من بني سعد فأشهد مشهدك أم أقعد في بيتي وأكف عن قتالك أربعة آلاف سيف تسل عليك من بني سعد! فقال: كف عني بني سعد فكفى بذلك نصرة.
وأرسل عبدالله بن عباس إلى الخوارج وقد أعتزلوه ولم يزل يرسل إليهم مرة بعد أخرى ويمضي إليهم بنفسه حتى تفرق أكثرهم وبقي الأقلون فقتلهم بالنهروان.

(126)

فهذه سياسة الحازمين وتلك خديعة المحتالين، إنما الحيل والخديعة مكايدة الأعداء بما يوجب عطبهم كلانسحاب أمامهم كأنه منهزم وقد أكمن لهم الكمناء حتى إذا جاوز بهم الكمين عطف عليهم ويستظهرهم الكمين فيبيدهم أو يشتتهم ويبيتهم ليلاً ويطرقهم وهم غارون بدون إنذار أو يرشوا بعض عشاق المال فيدله على عورة فيقتحم عليهم من حيث لا يشعرون كما فعل مروان يوم الحرة وكان في جيش يزيد بن معاوية فإنه رشا بني حارثة فأدخلوا جيش أهل الشام المدينة أو يبثق عليهم بثقا في سد يندفق منه الماء فيغرقهم أو يرسل عليهم قواذف النار كالمكاحل النفطية فيحرقهم أو يمنعهم من شرب الماء فيهلكوا عطشا كما جرى لبعض الملوك الساسانية في غزو الهياطلة وغير ذلك مما حرم الشرع أكثرها بل كلها لا تتفق مع دين الرسول محمد (ص) وأمير المؤمنين علي «عليه السلام» على منهاجه كيف وهو القائل قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونها حاجز ودونها حاجز من تقوى الله وله كلام في معناه.
تعاليم القرآن المجيد وأنظمته
نورد مختصرا من أنظمة هذا الدستور الإلهي والقانون الرباني الأعلى لتعرف أنظمة المثلى وإرشاداته العليا فإن فيه تبيان كل شيء، ثم نعقبه بتعاليم معلم الإنسانية جمعا ومرشد البشرية على الإطلاق نبينا محمد (ص) ثم نعقبه بتعاليم وصيه علي بن أبي طالب أمير المؤمنين «عليه السلام» فإن ما قدمناه هو كلامنا الذي اقتضبناه من كلامه ولا بد من إيراد ألفاظه في وصاياه ليتقن القراء ذلك النظام إتقانا ويتيقنه تيقنا ويعرف أن ما ذكره من الكلام هو تفسير لما نورده هنا.
نظام القرآن ومثله العليا:
قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)(1). هذه الآية الشريفة لو شرحت تفصيلا لجاءت وحدها كتابا تمرينيا مفصلاً بديعاً لأنها بلفظها الوجيز آمرت بكل ما توجد به القوة على العدو وإرهابه، أما الخيل فمعلوم إنها بوقع حوافرها تثير الدهشة وتودع الرعب في قلوب الأعداء وهذا أمر وجداني محسوس فإن وطئها على الأرض وضربها بحوافرها عند الإغارة يوجد من الإرهاب في تلك الأزمنة والعصور ما لا يوجده ذوي أسراب الطائرات وأرتال الدبابات والسيارات اليوم وليس الأمر في هذه الآية مختص
__________
(1)الأنفال: 60.

(127)

بالاستعداد من الخيل بل هو عام لجيمع ما ذكرنا من الآليات الجديدة والمخترعات الحديثة لأن الجميع من القوة ومن الأدوات الإرهابية، وإنما ذكر الخيل لأنها المعروفة في زمن الخطاب ووقت التكليف بالجهاد في صدر الإسلام ومعنى الأمر عام لكل ما فيه قوة من الأسلحة النارية وما فيه إرهاب من الأليات ولفظه الخاص.
(يأيها الذين ءامنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا)(1)، والثبات في الزحف وجبهات القتال مما تمرن عليه الدول الحرة اليوم جنودها وتمتاز به شعوب على شعوب وأمم على أمم، وليس الأمر بالثبات هو توطئة النفس وتطمين القلب وتقويته على الأستهانة بالموت خاصة واستسهال سبيل ملاقات الحتف فقط بل المراد بالثبات تهدأة الحواس واستحضار الشعور والإحساس لمعرفة فنون الحرب فإن من الثبات يحصل كمال الاطمئنان للنفس الجائشة والقلب الطائش، وبه يحصل سكونه من الاضطراب المذهب للتروي والتفكير، فإن المحارب إذا ثبت واطمأن وكان ماهرا فنيا ومدربا حاذقا، أستعمل تفكيره وأخذ التدابير والتحوطات للظفر والنجاة معاً وعرف كيف يحتاط لنفسه ولجنده عن العطب، وكان على حذر من غوائل الحرب من الخدع والمكائد سريع الالتفات إلى ما يكتنفه من المتألف، ويحدق به من المهالك التي ترصدها له أعداؤه فيسلم من غائلة الوقوع في اشراك الأعداء التي يجر إليها غالبا نفس الاضطراب القلبي والانزعاج العضوي الحيوي محفظة التفكير ويدرك أيضاً إذا كان كامل الثبات مضار التهور في الإقدام بدون منفعة كبيرة وبدون فائدة موثوقَ ببلوغها، فالثبات معدل الأستقامة وسمت سوط بين التهور والانزعاج يمكنه من النظر في كيفية مقاومة الأعداء ومكائد الأضداد.
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً)(2)، في هذه الآية الكريمة من فنون الحرب وطرق الفوز والظفر والانتصار على الأعداء والنجاة من الأخطار ما لا يخفى على عارف بأساليب الحرب:
أولا: قتال الذين يلونهم ويكونوا في جبهتهم من الكفار يسبب لهم الظفر والسلامة من حيث أنهم إن قاتلوا غير من يليهم أستدبرهم من يليهم ووقعوا بين خطرين أحدهما من الإمام والثاني من الخلف وفي ذلك العطب فإذا قاتلوا من وليهم ولم يمكنوه من ظهورهم لم يبالوا، ولو أجتمع عليهم الكل إنما المضر
_____________
(1)الأنفال: 45 (2)التوبة: 123.

(128)

التطويق التطويق ولو أستقبلوا الجميع من وجه واحد لم يبالوا بهم لأنه إما تكون الغلبة لهم أو الانسحاب بانتظام تقهقراً على أعقابهم فينجون من الضرر وإنما الضرر من التطويق لأنه إما الإبادة أو الأسر فإن من أكتنفه العدو من أمامه ومن خلفه هلك إما قتلاً أو أسراً وقد أوقفك التاريخ على أصاب أصحاب النبي (ص) يوم أحد.
ثانيا: إن قتال من يليهم يسهل عليهم الظفر ويقرب الفوز لهم بالأعداء لأنهم إما أن يستولوا عليهم فيضعف العدو المتأخر عنهم في الجبهة الأخرى أو يهزموهم فيلحقوا الرعب بالآخرين ولا ينفع المهزوم أصحابه وإنما يلحق بهم ذلاً ورعباً، وربما هزم المنهزم بهزيمته الثابتين كما ورد مثل ذلك في صفين أنهزمت ميمنة أهل العراق لأهل اليمن فمضى أمير المؤمنين «عليه السلام» إلى الميسرة وفيها ربيعة ليقوي عزائمهم فأنكشف القلب وفيه مضر راجع التاريخ.
وإما أن يصدوهم ولا يمكنوهم من الحصول على فائدة وهذا ايضا يوجب ضعف همة العدو ويفل من حده ويكسر حدة جرأته وإما أن يقتلوا فترتفع عنهم اللائمة لأخذهم بالحزم وسولكهم طريق اليقظة والاحتراس، وومن أخذ بأحواط الإمرين فهو ممدوح على الحالين غلب أم غلب.
واما الواغل في العدو المتوغل في صفوفه فإنهم يتعطفون عليه ويتداعون من كل جانب فإما أن يقتل أو يقبض عليه، وما يمدح به من الجرأة والإقدام لا يقابل ما ذم به من التهور وعيب عليه من الإفراط.
وثالثا: أنه آمر بالغلطة على الكفار وأراد بها الشدة في الحرب لا شراسة الأخلاق والشدة أينما وقعت فهي فعالة تأثر آثرها وإن قل عدد الأشداء، ويذلنا أنه أراد من الغلطة هي الشدة وقوله في الآية الأخرى: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)،(1) وقد قال الشاعر في مرثية شهداء الطف:

أشداءكم حلوا معاقد شدة بشد المواضي قبل شد التمائم

وقوله تعالى: (إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ)(2) الآية.
بينت هذه الآية الكريمة بعد النهي عن الهزيمة فنين من فنون الحرب عظيمين:
______________
(1)الفتح: 29. (2)الأنفال: 16.15.

(129)

أحدهما: التحرف والأنكماش إلى ناحية يأمن بها من العطف أو يصيب بها غرة من العدو وتسميه العرب بالمحارف، وهذا يتصورعلى نحوين:
(1) أن ينسحب ويظهر لعدوه أن انسحابه رهبة منه وخوفا منه أو يأسا من الظفر فيه لاعتصامه في الخنادق والمواضع الحصينة الأستحكامات حتى إذا تبعه العدو كر عليه كما صنع المسلمون بالفرس في موقعة تهاوند التاريخية، وكان شبيب بن يزيد الشيباني الخارجي رأس الصفرية يفعل ذلك في حروبه مع الحجاج فإنه يفر أمام جيوشه حيلة فإذا أوغلوا في طلبه وهم على غير أنتظام كر عليه فأبادهم وشتتهم.
(2) أن يدع المحارب بعض أصحابه في وجه العدو يشغله بالمناوشة معه ويستدبر هو راجعها منهم ليأتي العدو من ناحية أخرى قد أغفل الاحتراس منها قيصيب منه غرة وينال مقصوده وهو الظفر.
وكلا الأمرين من أساليب الحرب التي يمرن عليها إلى اليوم وتدرب عليها القوات في عصورنا هذه فبينا أنت تسمع بالتقاء جيشين في نقطة من نقاط الحرب إذ سمعت بأنفصال قوة إلى جهة أخرى قد تستوجب أنسحاب القوة المرابطة وقد تستوجب أنقسامها إلى ملاقات تلك ومرابطة هذه.
ثانيهما: التحيز إلى فئة يعني ينحاز إلى كتيبة من كتائب أصحابه أو يلتحق بجمع من جموعهم في ناحية أخرى يتقوى بهم على العدو فإن في أنفراده عطبه وهلاكه، وفي عطبه وهن الجيش المسلمين فيرجع مستدبراً لعدوه يلتحق بالمحاربين من أصحابه أو ترجع قطعة من الجيش كانت واغلة في جيش العدو أو منفردة من قطعات جيشها ووحدانها أو مصحرة للأعداء فلا يجوز أن تقيم في نحر العدو القوي الشكيمة الشديد النكاية والبطش إذ لا تقدر علىى مقاومته منفردة فتنضم إلى بعض وحدات جيشها وإلى أقرب قطعة من قواتها إليها كما صنع أصحاب أمير المؤمنين «عليه السلام» الذين كانوا في مقدمته إلى صفين فإنهم ساروا على خط البادية وسار أمير المؤمنين علي «عليه السلام» على طريق الجزيرة وكان نهر الفرات يفصل بينهما فأستقبلهم جيش أهل الشام ومع معاوية جميع الفيلق وكان كبيرا جدا، فقال قائلا مقدمة أمير المؤمنين علي «عليه السلام»: ما هذا لنا برأي يلقانا عدونا ونحن منقطعين عن أمير المؤمنين «عليه السلام» وبيننا وبينه البحر –يعنون الفرات- فعبروا ولحقوا به فصوب رأيهم.
وبين تعالى كيفية الاحتراس من العدو كما في آية تشريع صلاة الخوف في

(130)

قوله جل اسمه: (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً)،(1) ثم يقول الأمر بالاحتراش: (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ)(2) الآية، وهذا بيان واضح أن قائد الجيش الديني لا يحوز أن يهمل الفرائض ولا بد من تأدية الصلاة لكنه يكون حذرا متيقظا يراقب حركة العدو فإن العدو يترقب الفرصة ويتطلب الغرة ولا بد له من أن يقيم قوة في وجه العدو تكفي لدفعه ودحره لو أراد هجوما، وكيفية صلاة الخوف يرجع إلى معرفتها إلى كتب الفقه.
وبين تعالى كيفية القتل كما بين كيفية القتال فقال: (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ)(3) الآية الشريفة، وهذا ظاهر فأن الضرب على العنق قتال، والمضروب على عنقه لا ينجو إلا نادرا، والدول لو كان تمرينها على كيفية الضرب بالبنادق وإطلق الرصاص والقنابل لكن لا بد لهم من علم هذه الكيفية لأجل النجاح فكم بين من أطلاق الرصاص على مقتل كالرأس والقلب، وعلى معطل عن أستعمال الآله كاليد، وبين إطلاقه على غير مقتل ولا معطل كالفخذ وما ماثله من الأعضاء التي لا تؤثر قتلا وتعطيلا؛ فلا بد من تمرين الجندي على تعيين هدف الرمية من جسد العدو عند إطلاقها، وأما إذا آلت النوبة إلى استعمال السلاح الأبيض فلا بد من الأخذ بما ذكره الله في كتابه وليس ذكر العنق والبنان مختص بالضرب بل هو عام لكل مقتل معطل وإنما ذكره لأنه أظهر افراده.
وعطف البنان على العنق الحامل للرأس وعلة حركته وهو أشرف الأعضاء دليل على أن البنان هي قوة اليد التي هي أشرف الأعضاء الظاهرة بعد الرأس وبدونها لا تنفع شيئا، فقطع الأصابع تعطيل عمل اليد وفيها إشارة لمن فيها من أسرار تشريحية وقد ذكر إبراهيم الراوي في كتابه الفلسفة الإسلامية لإظهار الحقانية(4) أن عليها مدار الأعمال وبها قوام الأشتغال وذكرنا كلامه بطوله في كتابنا «إعجاز القرآن»(5).
ثم بين تعالى كيفية لقاء العدو وما ينبغي أن يفعل المحارب في قوله تعالى:
__________________
(1)النساء: 102. (2)الآية نفسها.
(3)الأنفال: 12.
(4)الفلسفة الإسلامية لإظهار الحقانية: ص18.
(5)إعجاز القرآن فيما اكتشفه العلم الحديث من أسراره، مطبوع في مجلدين والمجلد الثالث مخطوط -الناشر-.

(131)

(إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً)(1) الآية الكريمة، والأمر فيها ظاهر من أنه ليس للعدو المحارب إلا القتل حتى يثخن فيه فإذا عظم القتل فيهم ضعفوا فإذا ضعفوا أسلموا أنفسهم للاسر، فإذا أسروا فالتخبير بين إطلاقهم بفدية وتسميه العوام (خسر) وإما منا عليهم أي يطلقون مجاناً حتى يعرفوا قدر فضيلة الإسلام ليرغب فيه العاقل، وهذا منهج من مناهج الفضل الذي أسداه القرآن المجيد إلى الإنسانية والشفقة عليها وإن كانت جادة في حربه جاهدة على كسر شوكته.
وبين سبحانه كيفية العمل مع أهل الكتاب المتمردين على الإسلام والخارجين عن حدود أحكامه والمحاربين لأهله كما بين قتال المشركين بما سمعت فقال تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)(2)، فدلت هذه الآية على أن السيف لا يرفع عن كافر أهل الذمة إلا أن يؤدي الجزية وهي ضريبة يفرضها عليه النبي أو الإمام أو أحد الأمراء المسلمين بما تقتضيه المصلحة، وعرفنا منها ومن سابقتها أن المشرك المحارب لا يقبل مهه إلا الإسلام فإن أمتنع فالسيف، والكافر والكتابي يدعي الإسلام فإن امتنع طلب منه الجزية فإن ابي فالسيف، وهذه يد بيضاء أسداها إلى اليهود والنصارى وهم أهل جحود وكفران ما قابلوه إلا بأسوء المقابلة كما هي عادة كل لئيم ودنيء، وإلا ما قيمة دريهمات يحقن بها دمه ويحتمي بها من أعدائه وتصان حرمته وتضمن له حرية دينه وتحفظ أمواله؟ وهل تزيد على ضريبة الدخل وضريبة الأموال التي تأخذها الدول من رعاياها وأهل دينها ولكن سقى الأفعى عسلاً نفث عليه سماً، ومن صب ماء على نار رمته بدخانها.
وبين تعالى قتال البغاة في قوله: (إِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ)(3) الآية، وبهذا أحتج معاوية على سعد بن أبي وقاص لما قال له: لم تشهد معنا قتال عدونا؟ فقال سعد: مثلنا كمثل رجل أصابته ظلمة فقال لجمله أخ فأناخ، فقال معاوية: والله ما في كتاب الله أخ وإنما فيه (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) فوالله ما قاتلت الباغية ولانصرت المبغى عليها، فأحمه.
وبين تعالى كيفية قتال من أظهر الإسلام نفاقا فقرنه بالكافر فقال: (جَاهِدِ
_______________
(1) محمد (ص): 4.
(2) التوبة: 29. (3) الحجرات: 9.

(132)

الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)(1) جهاد الكفار معلوم، وأما جهاد المنافقين، فعن أبن عباس: جهادهم باللسان بالوعظ والتخويف، وعن والبصري وقتادة: جهادهم بإقامة الحدود، وعن أبن مسعود: هو بالأنواع الثلاثة حسب الإمكان؛ ذكر هذه الأقوال الشيخ الطوسي في التبيان.
وهذه الأقوال نسبت لمفسرين على أنها آراء لا روايات فإذن دلالة العطف تقتضي الاشتراك؛ فجهاد المنافق الذي يستحل محارم الله جهاد الكافر الجاحد للربوبية والنبوة يردعان بحد السيف ليدين هذا بالتوحيد وذاك بالعمل ولم يحارب النبي (ص) المنافقين لعدم شوكتهم ولأنهم لم يعلنوا له حرباً وهدم مسجدهم المعروف بمسجد الضرار ووعده الله أن يغريه بهم فستر عليهم بعد قوله: (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ)(2)، وقوله: (نُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا)(3)، فالذي جاهد المنافقين هو أمير المؤمنين «عليه السلام» وقد قال رسول الله (ص): إن منكم لمن يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله.
فقالوا: من هو يارسول الله؟ قال: خاصف النعل، وكان علي «عليه السلام» يخصف نعل النبي (ص)، وهذا حيث يقول عمار بن ياسر في يوم شهادته:
نحن ضربناكم على تنزيله واليوم نضربكم على تأويله
وهذا شيء فصلناه في غير كتاب من كتبنا.
وبين تعالى كيفية قتال رؤساء الضلالة بقوله تعالى: (فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ)(4) وأئمة الكفر هؤلاء هم رؤساء الضلالة الذي أتخذوا مال الله دولاً وعبيده خولاً، والحدوا في دينه وأباحوا المحرمات وتركوا الطاعات كلياً.
وبين تعالى كيفية قتال الخوارج والمفسدين من اللصوص وقطاع الطريق ومخيفي السبل بقوله: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ)(5) الآية، كيفية الحكم فيها أن يقتل بالسيف أو غيره من السلاح في الحرب فإذا ظفر به وأخذ قبل أن يرجع تائباً نادماً يصلب أو تقطع أحد يديه وأحدى رجليه مخالفاً بينهما بمعنى إذا قطعت اليد اليمنى تقطع الرجل اليسرى
__________________
(1)التوبة: 73. (2)التوبة: 101.
(3)الأحزاب: 60. (4)التوبة: 12.
(5)المائدة: 33.

(133)

وبالعكس، أو ينفي من أرض الإسلام إذا لم يستسلم بأن يطرد بالقوة عن أرض الإسلام فيبعد قهرا وبالقوة، وإن تاب قبلت التمكن منه قبلت توبته وسقطت عنه هذه الأحكام على مناقشات طويلة فقهاء الإسلام.
وبين تعالى أن إخافة المشركين واجبة عموماً وقتلهم واجب في كل مكان فإن لم يتمكن من قتلهم فطردهم وهذا حيث يقول (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ)(1) وحيث يقول: (وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً)(2)، وحيث يقول: (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ)(3) يريد لا تتركوا لهم ملجأ يلجئون إليه ولا طريقا يسلكونه إلا ملكتموه عليهم.
وتتضمن هذه الكيفية المتضمنة لها هذه الآيات نوعين من الحصار: حرب السلاح وحرب الأقتصاد، أو حصار القوة وحصار قطع المادة: فآية تأمر بالنفير العام وهي «قاتلوا المشركين كافة»، وآية تأمر بالنفي والطرد عن مملكة الإسلام وهي «أخرجوهم من حيث أخرجوكم»، وآية تأمر بالتشديد على المشركين وهي «أقعدوا لهم كل مرصد» يعني في كل وقت وفي كل موضع حتى يسلبوا الراحة والأمان ويعمهم الرعب والقلق فيدخلوا في دين الإسلام رهبة من سطوة المسلمين.
وأما حرب الاقتصاد فقد حاربهم النبي (ص) بها فقطع عليهم طرق التجارة والميرة من العراق والشام والجزيرة ونجد وحتى الطائف بعث سرية عبد الله بن جحش تتعرض لقافلة قريش فأصابتها بنخلة قرب الطائف.
وبين تعالى القتال في الأزمنة وما يحل ويحرم وإنه قد أحله للمسلمين مقابلة لعدوان المشركين عليهم فقال: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ)(4) فالمعتدي يجازى بمثل فعله ويقابل بمثل عمله ولو في الأشهر الحرام التي هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
وقال في آية أخرى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)(5) فمقابلة لهذه الأفعال التي أرتكبها المشركون من صدمهم عن سبيل الله يعني ينهون من أراد الإسلام عنه وإظهار كفرهم بالله وأستحلالهم
_______________
(1) البقرة: 191. (2) التوبة: 36.
(3) التوبة: 5. (4) البقرة: 194.
(5) البقرة: 217.

(134)

المسجد الحرام بأعمال الرجس والشرك وإخراج أهله وهم المسلمون منه وفتنه من أسلم عن دينه قهرا كل هذه أحلت للمسلمين قتلهم في الأشهر الحرم.
وبين تعالى القتال في الأمكنة كما بينه في الأزمنة فقال: (وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ)(1) فأباح للمسلمين القتال في حرم مكة وبين الشرط في إباحته وهو إذا خرق المعتصم به حرمته ومن خرق الحرمة وهتك ستر الاحترام يقتل مقايضة له بعلمه وتنكيلاً له بفعله في هتكه الحرمة المحترمة وعدم مراعاته لحقوق تقديس الكعبة.
ويختلف الفقهاء في مفاد هذه الآية: فمنهم من يراه عاماً لسائر العصور والأزمنة متعللا أيضا بقوله (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)(2)، والعذاب الأليم هو القتل، ومنهم من يذكر أنه من خصوصيات النبي (ص) وأنه خطب خطبته المشهورة بتحريمها وقال: أحلت لي ساعة من نهار ويصرف معنى الآية في الملحد إلى الحصار والتضييق حتى يخرج من الحرم وهو العذاب الشديد، ولا يهمنا الترجيح بين القولين فإنهما مسألة فقهية تخالف ما نحن فيه.
وبين تعالى كيفية ألإنذار قبل إشهار الحرب بقوله: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ)(3) ومعناها ظاهر وألمعنا إلى ذلك في مقدمة البحث في كلمتنا التمهيدية.
وبين الله تعالى الغرض من القتال الديني والغاية المقصودة منه إذ كل محارب لا بد له من غاية ومقصد بقوله: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)(4)، فبين الله سبحانه أن الغرض من قاتل المشركين قطع جراثيم الفتن المنشعبة بالأهواء المضللة والمكتنفة بالآراء الفاسدة المقترنة بالعمل الجبروتي والفعل العدواني الجائر وذلك أن مردة قريش وطواغيت العرب كانوا يفتنون الرجل المسلم عن دينه بأن يعذبوه بأنواع التعذيب فمن ضعفاء المسلمين من ثبت تحت العذاب على دينه حتى نجا، ومنهم من مات في التعذيب، ومنهم من أعطاهم بلسانه وأعتقد بقلبه حتى نجا، ومنهم من أفتتن وهلك على فتنته مرتداً.
ومن هؤلاء المفترنين فتية من قريش قتلوا يوم بدر من المشركين منهم علي بن أمية بن خلف الجمحي والعاص بن منبه أبن الحجاج السهمي والحارث بن زمعة بن الأسود الأسدي أسد قريش وأبو قيس بن الفاكه أبن المغيرة المخزومي
___________________
(1)البقرة: 191. (2)الحج: 25.
(3)الأنفال: 58. (4)الأنفال: 39.

(135)

وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة الخزومي أخو خالد بن الوليد قتلوا كلهم ببدر مع المشركين فأنزل الله تعالى فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)(1).
وبقتل الجبابرة وإبادة العتاة يحصل الاجتماع على دين الحق وهو دين الإسلام، هذه هي الغاية الشريفة التي يقصدها المؤمنون بجهادهم وينحوها الموحدون بقتالهم، وليست بغايات الاستعباد الغليظة ولا بمقاصد الاستعمار الجائرين التي يقودها الشره العدواني والجشع السبعي الذي يفغر فاة ليلتهم الأقطار المغلوبة وينشب براثن جوره ليستعبد الشعوب المقهورة ويلتهم مرافقهم الحيوية التهام الكواسر للعصافير، ويشفي نهمة عدوانية بالتشفي من أعيانهم ونابهيهم كما تشتفي الأفعى بمص دم الضفادع، ولنقتصر من تعاليم القران الحربية على ما ذكرنا وندع كثيرا إلى موضع أخر.
تعاليم النبي محمد (ص) وأنظمته
أما تعاليم سيدنا ونبينا رسول الله (ص) فكثيرة ونحن نورد بعضها إيثارا للاختصار:
ومنها: كتابة الجند وإحصائهم في السجلات فعله النبي (ص) وبقي دستورا لمن بعده ويسمى ديوان الجند، أي دفتر النفوس او دفتر الجندية خاصة وهو اليوم دائرة عسكرية من أكبر الدوائر التي ترتبط بوزارة الدفاع وكانت قديماً على هذا الشكل سوى أنها لم تكن إجبارية بل كانت اختيارية يسجل فيها أسم الجندي ونسبه ولقبه وسنه، وإنه من المرتزقة براتب مقدر، حدث بعد عصر النبوة عند ولاة الأمر وفي عصر النبوة كان بحصة من المغنم أو ما يقسم من الحقوق أو متطوع والمتطوع هو المحارب المجاني يجاهد أحتسابا ويتصدق براتبه على أهل الإسلام، وبعد عصر النبوة يوفر به على صندوق الدولة ومثل هذا يسمى بلسان العامة في هذا العصر فزاع، والجيش المتطوع فزع، والاستنفار له فزعة، فيسجل المتطوع كما يسجل المرتزق، وتسجل الغزوة التي يريد أن يغزوها الأمير ووظيفة الجندي في الجيش وعطاء المرتزق وهو راتبه ويسمونه رزقاً وعطاءاً وإنما سموه كذلك لان الدين يفرض عليهم الجهاد واجرتهم فيه الثواب الأخروي، فكأن هذا
______________
(1) النساء: 97.

(136)

الراتب المدفوع إليهم مجانياً في نظرهم لا استحقاقاً بالخدمة في الجيش فكان عطاءاً ورزقاً.
وتسجل صفة الجندية مؤقتة أم دائمية فإنهم لا يعتبرون حداً للأنسان إذا سلم درجة الضعفين المفرطين الطفولية والشيخوخة، وهذا الدائم يقال له المرابط ولا يختص بمن لازم الثغر وإن اشتهر به، ويقال له الدائمي أيضاً ويسمى الموقت بالغازي، وإذا رجع الغازي يرجع إلى بيته فإذا جاءت غزوة ثانية نظر الأمير في ديوان جنده فطلب المسجل إسمه ويسجل الصنف كالخيالة والمشاة ومهنته كالحدادة والنجارة.
هذا ما عرفناه في صدر الإسلام، وتطور الوضع بتطور المقتضيات وترقي بحسب الأزمنة والحاجات حتى إنتهي إلى عصورنا هذه فزيد على تلك القيود تاريخ بدء الخدمة وتاريخ الولادة والجنسية أي التابعية وأسنانه التي يكون بها صالحا للخدمة ومشخصاته البدنية كأعور اليمنى مثلاً أو في صدره شامه سوداء أو في جبهته شجة، وربما أعتنى بها القدماء أيضا فيكتبون أعلم الشفة العليا أو السفلى يعنون الأثرم مشقوق الشفة، ويقولون: الأثرم يعنون ساقط الثنية، ويزيد في هذا العصر صفة قده أي قامته كطويل أو قصير أو مربوع، ولونه كأبيض وأسود أو أسمر الخ.
وربما سجلها القدماء ولكن مقيدة بما إذا إسمان وأتفق إٍسما أبويهما وبلادهما يضرعون لهذه المشخصات لأجل التفرقة، ونقص اليوم صفة اللباس لأن البسة الجند متفقة على لون واحد وشكل واحد هو رسم الحكومة وشارتها، والقدماء إلى عصر بني العباس كانت جنودهم مختلفة الألبسة فيسجلون ألوانها كصاحب القباء الأحمر، والطليسان الأخضر، والطليسان الأزرق، والقلنسوة البيضاء، ويسجل اليوم فرقة الجندي ولوائه وفوجه وسريته وفصيلته وصفة صنعته كمسلح أو ساق أو طاهي، وفي المشاة أو الخيالة أو المدفعية أو المخابرة إلى أمثالها على أن القدماء يكتفون بأسم الجيش والأمير الذي هو تحت قيادته.
ويدلك عليه ما كتبه الفرزدق إلى بعض القواد في الهند في إطلاق رجل إسمه حبيش وحيث لم تكن السجلات كافية لتشخيص الجندي وكان حبيش جماعة وخميس آخرون وهو يشتبه بحبيش، أطلق القائد كل من هو بهذين الإسمين أكراماً للفرزدق وسرحهم، وأنظر القصة في كامل المبرد.
أما نبينا محمد (ص) وهو الشارع والمشروع ونظامه الإلهي فلم يأمر

(137)

بكل هذا بل أمر بتسجيل إسم الغازي المتطوع واسم أبيه ورهطه وبلده ليعرف إذا فقد أو أسر أو قتل وكل هذا عظيم عميم الفائدة.
قال الشيخ محمد بخيت المطبعي في حيقية الإسلام وأصول الحكم(1): عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله (ص): أكتبوا لي من يلفظ بالإسلام، فكتبنا ألفاً وخمسمائة رجل.
وعن أبي عباس: سمعت رسول الله (ص) يقول: لا يخلون رجل بامرأة ألا ومعها ذو محرم، ولا تسافر امرأة إلا مع ذي رحم، فقام رجل فقال: يا رسول الله! إن أمرأتي خرجت حاجة وإني أكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال (ص): إنطلق فحج بامرأتك.
وكان حذيفة صاحب سر الرسول الله (ص)، إنتهى.
وفرض العطاء والرزق وهو تقرير راتب الجند الشهري أو المعاش كما يسمى أحيانا، وفرق بين الصدر الأول والإسلامي ونعني به النبوة والخلافة الأولى وعصر الدول بعدها لحد الان: إن عصر النبي (ص) وأمير المؤمنين علي «عليه السلام» والخلفاء هو أنهم يحصون أسماء المسلمين في سجل ويقسمون الواردات عليهم بالسواء لا مفاضلة فهذا هو العطاء والرزق، وفاضل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب فزاد أهل السابقة والبلاء والغناء في الإسلام فزاد بعضاً ثم سرت في الملوك، وهذا ما سمي فيما بعد بشرف العطاء، ثم امال محورها الخليفة الثالث إلى حيث يشتهي ففضل رهطه وأخصائه ولم ينظر في السابقة والبلاء، فكان هذا أول أستبداد منفر وأول عمل جائز يمس بكرامة الأمة ويحط من مكانة رجالها، فإن من يرضى بتفضيل البدري والبطل العظيم عليه لا يرضى بتقديم الطليق والشاب الغر الذي لم يمارس الحروب، فكان هذا أول أفتراق في أمة الإسلام.
ثم آل الأمر إلى الملوك وتحولت الخلافة سلطنة، والإمامة ملكاً، فرأوا تشييد الملك الاستبدادي بالسياسة الدنياوية الجائزة أولى من رعاية الحق وحبر الدنيا بثلم الدين، ضالتهم المنشودة وهو فوق جبر الدين بثلم الدنيا فجندوا الأجناد وقرروا الرواتب ووزعوها على حسب مقدرة الجندي ومقدار وظيفته من جندي بسيط إلى فريق ركن، من ضابط عادي إلى وزير دفاع، ثم الفاضل على هذه الرواتب والمخصصات يوضع في خزانة الدولة وصناديق الملك ليصرف شطره الأوفى في سبيل لذاته ويبقى الباقي للنوائب وقد يتنفذ الإسراف في الخلاعة كل
________________
(1) حقيقة الإسلام وأصول الحكم: ص142.

(138)

مال الدولة فتضعضع كيان الدولة وتضعف.
وقد كان بيت المال في عصر الخلفاء بعد أن توفر دخل الجباية في الفتوح يجمع للتقسيم على الأمة لم يختص به المحارب ويوزع على المسلمين عموماً رجالاً ونساء، أقوياء وضعفاء، وخزينة الدولة الأموية تقليداً لأولها توزعها لمصلحة السياسة فقط، أما النبي محمد (ص) وعلي بن أبي طالب «عليه السلام» فلم يرصدا من الأموال شيئا لحاجة الدولة وفقرها كما رصده الخليفتان أو الخليفة الثاني بل تقسيمه عندهما متعين في حال وقته وهذه سياسة الدين وهذه قاعدة العدل.
قال المطبعي(1): عن عوف بن مالك: أن رسول الله (ص) كان إذا أتاه الفيء قسمه في يومه فأعطى الآهل حظين وأعطي الاعزب حظاً، فدعينا وكنت أدعي قبل عمار فدعيت فأخذت حظين وكان لي أهل فدعي بعدي بعمار بن ياسر فأعطي حظاً واحداً.
ثم قال المطبعي: فثبت بهذا أن النبي (ص) آمر بكتابة الناس في الجيش وأنهم كتبوا في عصره وأنه (ص) كان يقسم الفيء، وهذا لا ينافي ما قاله أهل السير من أن عمر أول من وضع الديوان في الإسلام وفرض الأعطيات فإنهم إنما يعنون أنه دون الدواوين للعطاء ورتب الناس فيها، والذي كان في عهد رسول الله (ص) كتابة الناس بإحصاء من تعين في البعوث والغزوات لم تكن في وقت معين حيث لم يكثر الناس كثرتهم أيام عمر، ولا جبيت الأموال ولا تأكدت الحاجة وإلا فأصل الديوان ونوعه موجود في عهد رسول الله، وكتابة الأسماء فيه بعد عرضهم عليه موجود، إنتهى.
هذا اعتذار عن عمر لا يروج إلا على البسيط الساذج الذي حرم الإرشاد والأهتداء بنور الحقيقة والاستضاءة بشعاع العلم والمتعصب خارج عن سمت الأعتدال ومتنكب عن جادة الإنصاف، وكيف ينصح غيره من غش نفسه، وأنى يرشد سواه من أضل نفسه، هؤلاء أناس يسرهم وصف عمر بالكامل وإن وصف النبي (ص) بالنقص، ويرضيهم القدح بالرسول إذا أحترمت شخصية عمر، اللهم أشهد إنا نشهد لنبيك محمد (ص) بالكمال ولغيره بالنقص مهما كلفتنا السلطة الضيقة من العنت.
أيها المسترشدون دعوا الطيش وجانبوا الزيغ، إن الديوان الذي كان في عهد
________________
(1)حقيقة الإسلام وأصول الحكم: ص143.

(139)

النبي (ص) كان على ميزان العدل وقدم المساوات بين أهل الإسلام وعدم المفاضلة وصريح أقواله التي منها المسلمون أسوة ولا فضل لأحد إلا بالتقوى وأما ديوان فديوان الانحراف عن سمت العدل والميل عن خط الإنصاف، فصح ما قال أهل السير أول من دون ديواناً عمر يعنون به المفاضلة وبهذا كان أول ديوان شط عن المساواة الإسلامية وأنحرف عن فرض القرآن والسنة إلى الآراء الكسروية والقيصرية فهو كما قالوا: أول من أخذ بالسياسة الكسورية(1) وبقيت الدواوين فارسية حتى عربت في زمن بني أمية، والحكايات مبثوثة في صحائف التاريخ.
وقصة لبيد بن ربيعة والأغلب العجلي التي ذكرها أبن سلام الجمحي في طبقات الشعراء وغيرها، وفيها: ان عمر آمر عامله أن يحط من عطاء الأغلب خمسمائة ويزيدها في عطاء لبييد، والنبي (ص) لا يرى مثل هذا من العدل، ولو قال أحد الرجلين أقترحوا علي من الشعر ما شئتم أقوله رجزًا كان أو قصيداً، وقال الثاني كفاني كتاب الله عن قول الشعر فهذا لا يعاقب بهضم راتبه وذاك لا يجازى بمغصوب من حق صاحبه، هذا لا ترضاه عدالة النبي (ص) وإنما يرتضيه جنف السياسة.
ومن أنظمة النبي (ص) عرض الجيش وحيث لم تكن الجندية في عهد الرسول الله (ص) والخلفاء إجبارية وليست هناك دوائر للفحصين الأبتدائي والنهائي، ولا دائرة للفحص الطبي وليست الأعذار فيها كلأعذار اليوم من الإعالة وأمثالها إنما هي الأعذار التي ذكرها القرآن من العمى والعرج والمرض حيث يقول: (لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ)(2)، واعذار أضيفت أليها من النبي (ص) لأن الخدمة في الجيش اختيارية جهاد على الدين فيعرض عليه الجند المتطوع فيرى من بلغ سن القابلية على القتال وهي الستة عشر يعني إكمال الخاسة عشر أجازة في الجيش، ومن نقص رده كما صنع يوم بدر واحد وغيرهما على ما ذكر أهل السير، وكذلك الطاعن في السن من المشائخ لا يجيزه لضعفه عن تحمل أعباء الحرب، فقد خلف يوم أحد في المدينة حسلاً المعروف باليمان والد الحذيفة ثابت بن وقش الاشهلي ثم إنهما لحقاه فأستشهد ومنع عمرو بن لجموح الخزرجي من شهود الوقعة ولكنه توسل إليه وأجازه، وإنما رده لكونه كان أعرجا،
___________________
(1)وإلا فما معنى تفضيل أم المؤمنين عائشة بالعطاء على أبطال الصحابة الذين يخوضون غمار الحرب لتقوية الدين وهي جالسة في بيتها راقدة؟!
(2)النور: 61.

(140)