موسوعة بطل العلقمي الجزء الثالث

اسم الکتاب : موسوعة بطل العلقمي الجزء الثالث

المؤلف : أليف سماحة آية الله المحقق الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر قدس سره
المطبعة : مؤسسة الشيخ المظفر الثقافية العراق النجف الاشرف مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت لبنان

 

 

 

 

 

نلت على رغم العدى رتبة مقامها في العز أسمى مقام
قد كنت باب ابن نبي الهدى وركن جيش السبط عند الخصام
والجيش بالركن كما حققوا يقوي إذا أتقن عقد النظام
وتحمل الراية قدامه تضر بالسيف وجوه الطغام
نظمت بالرمح الكلى طاعناً وناثراً بالسيف أيد وهام
تنقض كالصقر ولكنما صيدك صيد القوم دون الحمام
أوصلت فالليث سطى مغضباً مستبدل الأنياب حد الحسام
فلا يلام السبط لما مضى محدودب الظهر يؤم الخيام
إن الأخ الناصح فقدانه ليقصم الظهر أشد أنقصام
لو سيم بالدنيا لما باعه ومن سمى الأقران أنى يسام
وإن من كنت له ناصراً يا بن علي أبداً لن يضام
الوضائف السامية التي للعباس الأكبر عند الإمام الحسين «عليه السلام»:
وهذه الوظائف التي نلم به هي من أعظم الوظائف في عصر الحضارة والمدنية والتي تلحظها الدول الحرة والممالك الراقية بعين الأحترام والتبجيل بما لها من عناية وما لها من ميزة خاصة، فالشخص الذي يحظى بواحدة من هذه الوظائف يكون له الكرسي الأول في صف كراسي أعيان الدولة ويقابله عاهل الأملة مقابلة التشريف ويختصه بالعناية الزائدة فما ظنك بمن حظى بهذه الوظائف الأربعة وحازها كلها وحمل أوسمتها أجمع ذاك من لا يقاس به إنسان في شعبه وأمته.
وحيث كان الحسين بن علي «عليهما السلام» ملك الدنيا والآخرة وسلطانها بعد جده وأبيه وأخيه «عليهم الصلاة والسلام» من الوجهتين السياسيتين: سياسة الآخرة والدنيا؛ فالسياسة الدينية فيهما واحدة من جهة أتجاها أتجاهاً مستقيماً حقيقياً على معدل واحد من حيث النظام والتشكيل الذي يقتضيه حفظ النظام العسكري وإن أختلفت المقاصد والأغراض وتباينت الغايات والأهداف.
فالملك السياسي الدنيوي غايته وهدفه أستقامة الملك ومقصده سلامة الدولة والسلطنة وحفظ كيانها وتركيز سيطرتها وتعميم نفوذها الخارجي الاستعماري.
والملك السياسي الديني مقصده الأسمى وغرضه الوحيد حفظ نظام الدين
(32)
وغايته حماية الملة وحراسة الشريعة عن التغيير والتبديل وتوسيع نطاق الدعوة إليه بأساليبه السلمية إلا أن تضطره الظروف إلى أتخاذ وسائل الحرب.


العباس سفير الحسين «عليهما السلام»


وحيث كان الهدف واحد والمنحى واحد وهو المحافظة على بقاء النظام وحفظه لأجل أستدامة السلطة الحكومية التي يتوصل بها إلى إشادة ما قصد له دينياً كان المقصود أو دنياوياً لا بد له حينئذ من دعاية لأجل جذب النفوس إليه بواسطة السفارة أو من ينوب عن تلك الدولة، ولا يقوم بهذه الوظيفة المهمة إلا رجل مثقف مححنك ذا تجربة ومهارة فنية قد درس السياسة درساً متقناً وألم بالعلوم إلماماً كافياً مع كونه شديد الإخلاص لدينه وأميره ووطنياً قحاً متفانياً في ترقي دولته وحكومته إن كان سياسياً ديناوياً صرفاً عاقلاً حكيماً يمثل أميره وإمامه تمثيلاً بديعاً ويصوره بأحسن تصوير على كلا الحالين وبدون فرق بين المصلح الديني والأمير السياسي المحضن وهو المعبر عنه بالسفير أو وزير الخارجية أو القنصل، إذ ربما تجتمع هذه الألقاب وربما تنفرد كما ستعرف.
أما قدماء العرب من المسلمين فيطلقون عليه اسم الوالي الخاص أحياناً والوكيل والداعي أحياناً ويعنون به نائبا لخليفة والسطان عند الحكومات الأجنبية أو في داخلية البلاد للأمور الخاصة، وقد يكون مثلاً لأمته وشعبه وسفيراً عن حكومته خارج المملكة وهو بهذا الأسم وربما أطلقوا عليه اسم الرسول.
وهذه الوظيفة بأي معانيها أخذت وبأي سميتها سفارة أو نيابة أو ولاية كانت لمسلم بن عقيل بن أبي طالب «عليهم السلام» فإنه كان نائب الحسين «عليه السلام» في الكوفة وسفيره عند أهل العراق.
وقد يكون السفير سفيراً في المسائل الخاصة ما بين الملك وشعبه أو بينه وبين دولة أجنبية ويحدد له الملك تلك المسألة الخاصة تحديداً لا يتجاوزه فيحمل إليهم رسائله وخطاباته المتضمنة لإرادته ويطلعه على أسراره وهذه الوظيفة كانت للعباس بن علي «عليهما السلام»، ومن المهم في هذا المقام التعريف بالسفارة ما هي ولأي شيء تراد ومحلها عند الدول الحرة والحكومات المتمدنة وحيث إنا كتبنا في كتابنا السياسة العلوية فصلا مطولاً في السفارة نختصره هنا ونورد ما يحتاج إليه القارئ.
(33)
معرفة السفارة وأول تسميتها بهذا الأسم
هذه تسمية إسلامية وأول من سماها بذلك كتاب الله القرآن المجيد فإنه أول من عرف الواسطة بين شخص وآخر وأدى الرسالة إلى آخر سفيراً فقال تعالى في صفة الملائكة: (في صحف مكرمة(13) مرفوعة مطهرة(14) بأيدى سفرة(15) كرام برره)(1)، ثم تلته السنة النبوية كما جاء فيا حديث الشريف أن النبي (ص) عرف جبرائيل «عليه السلام» امين الوحي أنه سفير الوحي ولم تكن الأم ولا العرب تعرف هذا الأسم إنما كانوا يعرفونه بالرسول والواسطة وأمثال ذلك.
اشتقاق السفارة:
حيث أن هذا اللفظ مادة عربية مستعملة في معنى الإيضاح أشتق منها هذا لمناسبة بينهما لأن السفير يوضح مقاصد منتدبة وتلك المادة إما تكون هي الإسفار إذ يقال أسفر الصبح إذا وضح أو من السفور وهو رفع الحجاب، يقال: أمرا’ سافرة يعني واضحة المنظر لا يسترها حجاب ولا نقاب، وتسمية الملائكة سفراء بهذن المعنيين صحيح إما لأنهم أسفروا للحق بنزولهم على الأنبياء بالوحي فأوضحوه لهم أو لأنهم رفعوا نقاب الشك وقناع التشكيك عن وجه الشرائع المنزلة من الله على الأنبياء فقد أظهروا الحق وابرزوه، وأطلق على الواسطة والوساطة بين اثنين أو نوعين في مشروع ديني أو سياسي معتبر والملائكة وسطاء بين الخالق والمخلوق في تبليغ الأحكام عن الخالق تعالى إلى مخلوقاته وقد ذكرنا معنى سفارة الملائكة في كتابنا «السياسة العلوية» فاطلبه إن أردت الإحاطة به.
كيف اشتقت السفارة من المعنى اللغوي؟
قال الفيومي في المصباح المنير(2): سفرت الشمس طلعت سفرا من باب ضرب، وسفرت بين القوم أسفر بينهم. بالكسر. أصلحت فانا سافر وسفير.
وقيل: الوكيل ونحوه سفير، والجمع سفراء، وكأنه مأخوذ من قولهم سفرت الشيء سفراً من باب ضرب إذا كشفته واوضحته لأنه يوضح ما ينوب فيه ويكشفه، وسفر المرأة سفوراً كشفت وجهها فهي سافر، وأسفر الصبح إسفاراً أضاء، واسفر الوجه إذا علاه جمال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عبس: 13 – 16.
(2) المصباح المنير 1/ 173.
(34)
وقال ابن الأثير في النهاية(1) في الحديث الماهر بالقرآن مثل السفرة وهم الملائكة جمع سافر، والسافر في الأصل الكاتب سمي به لأنه يبين الشيء ويوضحه ومنه قوله تعالى: (بأيدى سفرة)(2).
وفي القاموس: سفر الصبح يسفر أضاء وأشرق كأسفر، والحرب ولت والمرأة كشفت عن وجهها فهي سافر، وسفر بين القوم أصلح يسفر سفراً وسفارة وسفارة فهو سفير، وقال بعد كلام: والسفراء الكتبة جمع سافر، والملائكة يحصون الأعمال.
وفي مجمع البحرين(3): السفر: - بالكسر- الكتاب يسفر عن الحقائق، والسفير الرسول بين القوم يزيل ما بينهم من الوحشة، والسفارة – بالكسر- الرسالة فالرسول والملائكة والكتب مشتركة في كونها سافرة عن القوم بما اشتبه عليهم.
وفي الحديث: حق إمامك عليك في صلاتك بأن تعلم أن تقلد السفارة أي الرسالة بينك وبين ربك، إنتهى.
يريد أن إمام الجماعة واسطة بين المأموم وربه، وقد قال الفقهاء: إنه يحتمل صلاة المأموين ويضمن الخلل الواقع في الصلاة ما عدى الإخلال بالطهارة.


معاني السفير


يتحصل لنا من مجموع الأقوال أن للسفير ستة معان:
أحدها: إن السفير هو الرسول وهو واسطة التبليغ.
الثاني: إن السفير هو الوكيل وهو النائب في أمر خاص أو عام.
الثالث: إن السفير هو الكاتب المختص بوظيفة المخصص لشأن مهم.
الرابع: المصلح وهو الساعي وفي إخماد ثورة أو تسكين مشاغبات بين عشيرتين أو حكومتين او شعب وحكومة.
الخامس: المفسر المتكفل ببيان ما أشكل من الأمور الغامضة وإيضاح المواد المبهمة من الاحكام الشرعية والحقوقية السياسية الكاشف عن دقائقها ومخبآتها وخفاياها كشفاً مقبولاً.
السادس: الشخص البارز بصورة ترفع التلبيس والظاهر بصفة تزيل التشكيك كالصبح المسفر بما يزيل الشك عن إقبال طلوع الشمس، ومن هذا القسم الملائكة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النهاية 3/ 164. (2) عبس: 15.
(3) مجمع البحرين: ص304.
(35)
الذين ينزلون بالوحي الإلهي نم الله تعالى على الأنبياء فإنهم يبرزون لهم بحقائق منكشفة توجب القطع والعلم اليقيني بأنهم ملائكة صالحون من ملائكة الله تعالى وأمنائه على وحيه وإيحائه قد أستودعهم سر وحيه واختصهم بالسفارة بينه وببين الأنبياء بحيث تزول الأسترابة ويحصل اليقين بأنهم هم وليسوا من الملبسين على أرباب الكهانة المتلبسين بالشيطنة المستولين بوساوسهم على كثير من الإنس كما ينبئ عن ذلك صفة نزول الوحي على رسول الله (ص) أول ما نزل عليه جبرائيل «عليه السلام» وما قاله رسول الله (ص) لخديجة أم المؤمنين وما قاله بن نوفل لخديجة «عليهما السلام» لما سألته عما أخبرها به رسول الله (ص) فقال ورقة: أمتحنيه فإذا دخل عليه الملك فليخبرك واكشفي عن رأسك فإن ثبت فهو شيطان وإن توارى فهو ملك، ففعلت فلم يره رسول الله (ص) فأخبرت ورقة بذلك فقال: أبشري فإنه يأتيه الناموس الاكبر الذي كان يأتي موسى وعيسى «عليه السلام» والقصة بطولها في سيرة النبي (ص).
وكما أن من هذا القسم الوحي الإلهي وهم الملائكة كان من القسم الثالث الملائكة الكتبة أو الكرام الكاتبون الذين يكتبون الأرزاق والأعمال والآجال وما يتجدد من أوامر وما يكون في المستقبل من حوادث.
ومن القسم الخامس أئمة الهدى وهم الإثنى عشر من الإمام علي بن أبي طالب «عليه السلام» إلى الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر «عجل الله فرجه» واوصياء الأنبياء وسائر حفظة النواميس الإلهية ومبيني مشكلات الشرائع المقدسة لعامة المكلفين من حيث أنهم مستودعوا الشرع الأقدس ومستحفظوا الأسرار.
ومن القسم الثاني الملائكة الكروبيون أو زعماء النوع الروحاني والجسم الشفاف النوارني وهم الرؤساءالأربعة جبرائيل وميكائل وإسرافيل وعزرائيل فكل واحد منهم كان وكيلاً خاصاً على أمور خصصه لها الباري تعالى ووظائف وظفه لها وعينه للقيام بها وهذه الأمور مبسوطة في كتب الحديث والتفسي فراجعها، ون هذا القسم من النوع الإنساني الجثماني الكثيف سفراء الدول اليوم لأمور خاصة ورسل الملوك السابقين كما يقال: أرسل الخليفة إلى ملك الروم رسولاً أو بالعكس.
أما القسم الأول فيقسم هكذا فيقال الرسول مرة يكون روحانياً ملكاً كما يقال لجبرئيل رسول الله إلى الأنبياء والرسل على جهة العموم، وميكائيل وإسرافيل
(36)
في أمور خاصة يرسلهم الله تعالى إلى بعض المرسلين وقد قال الشاعر في شعره المعمى:
شهدت بأن الله ليس بخالق وإن رسول الله ليس من البشر
وإن علياً لم يكن بابن عمه ومن شك في هذا المقال فقد كفر
توضيح الرمز في هذا المعمى: الخالق هنا البالي فيقول: الله ليس ببالي من باب خلق الثواب إذا بلى، ورسول الله وهو جبرائيل ليس من البشر، وعلي لم يكن بابن عم جبرائيل «عليه السلام».
ومرة يكون الرسول بشرياًَ جسمانياً، وهو نوعان: رسول من الخالق إلى المخلوق، وهم الرسل من الأنبياء، ورسول من مخلوق إلى مخلوق وهذا نوعان: رسول في نشر الدعاية الإلهية بإرسال الرسول إياه وبعثه له بتنصيص منه عليه بأختياره له برأيه وفكرته أو بواسطة الوحي إليه في إرساله كما يقال: رسل عيسى «عليه السلام» إلى أهل إنطاكية وقد حكى الله ذلك بقوله: (إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون)(1) والرسل الذين لم يوح بإرسالهم كرسل النبي (ص) إلى ملوك الأطراف لدعايتهم إلى دين الإسلام كهرقل وكسرى النجاشي والمقوقس وأمثالهم.
وفرق بين هؤلاء وبين من كان اختيارهم بالوحي أن الذين أختارهم الرأي هم على ما عليه لا فضيلة لهم إلا بالمجاهدة والإخلاص للمرسل والنصح للدين والذي يختاره الوحي ملحق بالنبوة أو له منصب النبوة الخاصة فهم كالأوصياء للأنبياء فإن الأوصياء سفراء بين النبيين وبين أممه في حال حياتهم كما قال رسول الله (ص) في عزل أبي بكر عن تبليغ براءة: لا يؤدي عني إلا علي أو أنا، وبعد وفاتهم فالأئمة الإثنى عشر الذين نص على إمامتهم وأقامهم بعده للأمة أعلاماً وجعلهم مناراً للمسترشدين وهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» وأحد عشر من ولده بينهم رسول الله (ص) بقوله: الأئمة بعدي إثنى عشر كلهم من قريش، وفي لفظ «الأوصياء» كما رواه جابر بن سمرة وغيره ودل عليهم بأحاديث الثقلين قائلاً: إنهم مع القرآن لن يفترقا، وقوله: لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم، وقوله: علي مع الحق والحق مع علي وغيرها، وقد تحدى علي «عليه السلام» الناس معلناً: سلوني قبل أن تفقدوني، لم يجمع لجنة من الصحابة لأخذ الفتيا منهم ولم يقل أقيلوني، ولم يقل لولا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يس: 14.
(37)
ثم إن هناك أقوال صادقتها أفعال كقوله (ص): علي مني ولا يؤدي عني إلا رجل مني، وليس الغرض من هذا وأمثاله مما جرى مجراه مجرد القول الوارد مورد الأمتنان والتفضل فحسب بل المراد أن تلك النفس الزاكية الطيبة الصافية المصفاة كنفس النبي القدسية الممتلئة صفاء ونوراً في أهليتها وقابليتها، وأصرح من الجميع قوله (ص): أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي الذي لم يستثني من منازل هارون إلا النبوة قباقي الصفات ثابتة له.
ومنها السفارة بين الخالق والمخلوق وإن كان المقام متفاوتاً في التربية بأن كانت سفارة النبي (ص) بواسطة الوحي بجميع أنواعه فهي أجل وأكمل، وسفارة وصيه بواسطته وبواسطة الإلهمام الذي هو نوع من الوحي وهو أدق مراتب الوحي، ويقال لمن اتصف به المحدث والملهم ومنشأه صفاء النفس القدسية المجلوة بجلاء الحق والمصقولة بصقال الحقيقة وطهارتها ونزاهتها عن دنس المأثم أفاظتا عليها العناية الإلهية سجالاً من الإفاضات العالية ولها من حيث كمال صفائها وصقلها التام اتصال بالعالم الأعلى وإن شئت أن تختصر فتقول: السفير محمد (ص) ونائب السفير علي «عليه السلام».
وأما الرسول من بشر إلى بشر لغير الدعاية الدينية بل لتمهيد القواعد السياسية ولدعوة سلمية أو لربط علائق ودية بين حكومتين وشعبين وضبط شؤون الدولة والمناقشة في أنظمة المملكة وتقرير الحقوق الدولية والمطالبة بما لها من الرسميات من أوسمة وامتيازات أو لتأكيد رابطة السلام وتوطيد الأمن بين دولتين أو دول لمطالعة القوانيني المسنونة جديداً ولها علاقة ببلاد السفير ومساس بشعبه وحكومته في سياستها الخارجية وهذا وامثاله كثير من الأمم قديمها وحديثها وهو في الأمم القديمة وإن لم يرتبط كما هو اليوم بنظام قانون ومشروع دستور مدني لكنه مقرر على أصول يطالعها الرسول دراسة بما يرسمه المرسل أو يشافهه بما يريد لا يعدوه وهذا لا يقع تحت الظبط لكثرته كرسل ملوك بني أمية إلى من عاصرهم من الملوك، وكرسلهم إلى قواد جيوشهم وأمراء ثغورهم وكذلك من تلاهم من ملوك بني العباس والفاطميين وغيرهم.
أما الثاني من الأقسام الثمانية فيتصور أيضاً على جهتين: أحدهما دينية والأخرى دنيوية وقد تجمعهما معاً سياسة واحدة يقصد بها الأمرين جميعاً؛ فالسفارة الدينية الصرفة كإرسال رسول الله (ص) جعفر بن أبي طالب «عليه السلام» مع مهاجرة المسلمين إلى الحبشة لدعاية النجاشي ملك الحبشة إلى دين الإسلام،
(38)
وكإرساله (ص) مصعب بن عمير العبدري إلى المدينة لنشر دعاية الإسلام فيها مع أسعد بن زرارة الخزرجي مثل سعد بن معاذ الأوسي الأشهلي وسعد بن عبادة الخزرجي الساعدي وأمثالهما وهما اللذان سمع الهاتف يهتف بمكة:
فإن يسلم السعدان يمسي محمد بيثر لا يخشى خلاف مخالف
فيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصر ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف
أجيبا إلى داعي الهدى وتبوءا من الله في الفردوس زلفة عارف
وكإرسال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» إلى اليمن فأسفرت رسالته عن نتائج صالحة للإسلام، أسلمت همدان كلها في يوم واحد، واسلمت مذحج والقبائل بعد مناوشات أعقبتها العاقبة الحميدة ورجع مولانا أمير المؤمنين «عليه السلام» ظافراً حميداً.
أما السفارة التي تجمع الجهتين الدينية السياسية فمثلها إرسال الحسين «عليه السلام» لابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة رسولاً ينشر الدعاية إلى أهل البيت النبوي المضطهد تحت ضغط أحكام الجائرين وسلطة الجبارين من بني امية وينشر الدعاية إلى التعاليم الإسلامية الدينية التي سحقتها حكومة الاستبداد الأموي الصارم ويبث الدعاية إلى إقامة العدل وقمع العدوان الذي يقوم به عمال تلك الدول الفاخرة، فقام بتعاليم تشبه أن تكون جديدة أو تظن جديدة لما ألفته الأمة من سنن فرعونية وأنظمة هرقلية لأن الآثار النبوية وسننها العادلة قد محيت ودرست إلا من أفراد في غاية الندرة والقلة قد حافظوا على ديانتهم المحافظة المرضية.
ومن الوجهة السياسية إنه «عليه السلام» يتألف الزعماء كما تألفهم جده رسول الله (ص) ويتودد الأشراف الذين رسخوا على حب الإثرة والاستبداد وأعتقدوا محبة العاجل التافه وىنفوا من الرضوخ للحق لما زعموا أن فيه هضماً لكرامتهم وثلماً لسدة مجدهم فهو يتألفهم بما لا حرج عليه به في الدين ولم تحضره عليه الشريعة الغراء كما تألف النبي (ص) قريشاً وزعماء العرب فلم يخرج «عليه السلام» في سيره عن خطة الإصلاح ولم يتجاوز مراسم الشرع الأقدس قيد شعرة فلذلك تراه لم يتخذ الفرصة غنيمة وإن حسب الجاهل أن تفويتها من قلة التدبير وعدم الخبرة بالسياسة وفقد المهارة والمقدرة على الإدارة، كل هذا النقد من سخافة الرأي وركة العقل أن يقول من الوهن والضعف إضاعة الحزم في الفتك بابن زياد وقتله غيلةعندما دخل بيت هاني والمنع من الهجوم على قصر الإمارة
(39)
والأقتحام حيث أمكن الأقتحام وكل هذه فرص قد أضاعها بعد أن مكنته من عدوه فلم يظفر بمثلها، هكذا يتخيل القادح القريب الغور المحدود الفكر، ولو كان محنكاً ذا تجارب وسبر غور الوقائع وتفطن لما يدركه الحازم بذكائه وإن لم يشرحه شرحاً مفصلاً علم أنه غير خفي على سفير الحسين «عليه السلام» وممثل سلطانه في تلك العاصمة الإسلامية المهمة وأن نتائج الظفر العاجل واسباب الغلبة الفعلية قد تكاملت وإن التفوق والرجحان الوقتي قد لاحت إشاراته ودلائله لكنه «عليه السلام» نظار في العواقب بثاقب فكرة مستقبل بفطنته ما تتمخض به الأيام من أحدوثة فهو يأبى لما لمحته عقليته الصادقة ولمسة تفكيره الصائب ارتكاب الخطط الذميمة ويأنف من أقتحام العقبات المشرفة على الفضيحة وعار الأبد ويأنف له الشمم الهاشمي والأنفة العلوية نيل كل ذميم ممقوت لأن هذين الفعلين قد أقترنا بالغدر والجور في قتل الضعفاء ومن لا ذنب له من الصبية والنساء الذين تحصن بهم وبهن ابن زياد وأناس حبسهم في القصر خوفاً منهم والجيش الظافر لا تؤمن معرته ويخاف بطشه وكم فيه من شباب طائش وكهل حاد النكاية شديد النقمة.
فتنكب عن تلك الخطة وسلك النهج القويم المعتدل لئلا يقال فيه وفي الحسين «عليه السلام» أنهما طلاب دنيا وبغاة سلطنة وملك لا طلاب حق ودين وإلا لما أرتكب هذا الذي نهت عند شريعة الإسلام وهنته العقلاء وليس كل الناس يعلم ابن زياد «لعنه الله» مهدور الدم في الشرع الإسلامي بل أعتقاد كثير أنه على ظاهر الإسلام وقد ولدت العصور المتأخرة بقرو نعن مسلم بن عقيل أمثال ابن العربي المالكي والغزالي الشافعي وهما من العلماء فحكما ليزيد وابن زياد بالإسلام وحرما لعنهما مع انتشار فسقهما في الآفاق وعرفه الغزلي وابن العربي وغيرهما فكيف بعصر مسلم عصر الاختلاط.
فحمى سفير الحسين «عليه السلام» نفسه عن الوصمة وشرفه عن وسم الخداع والغدر والعدوان، وصان دعايته العالية عن التلبس بسفاسف الأمور وأدانيها وإن ضحى نفسه بهذا الأمتناع وقتلها بهذه الإباية، وهل الموت إلا معشوق ذوي النفوس الحرة ولاهمم العالية ولتبقى على مرر الأيام ظلامتهم تنشر الذكرى على الأجيال وتردد الأغيار من الأحرار في محافل التذكار لمشيد نهضة التخلص من الأستعباد ومؤسسي مقاومة الأستعمار باحرج الوسائل وهي التضحية الحية مدى الآماد.
أما السفارة السياسية المحضة والخالصة لمصالح الديا فأظهر أفرادها وكلاء
(40)
الدول اليوم في البلاد الأجنبية وهم المخصصون لربط العلائق بين حكومة وأخرى، والموظفون لمصالح دولهم وحقوق رعاياهم في تلك البلاد وعلى أيديهم تجري المراجعات بين الحكومتين في الشؤن السلمية، وعلامة الفساد بين الدولتين سحب السفراء وغلق السفارة.
وأما الرابع من الأقسام الستة فمصاديقه كثيرة:
منها ما وقع في الحروب الدينية مثلما وقع بين رسول الله محمد (ص) وبين قريش في غزوة الحديبية وترددت السفراء بينه وبينهم فإنهم بعثوا إليه سيد الأحابيش وسيد ثقيف وغيرهما فتمت بتلك السفارة الهدنة المعروفة بصلح الحديبية على شروط ذكرها علماء المغازي.
ومنها ما وقع في حرب صفين بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» وبين معاوية بن أبي سفيان فإنه قبل التحام الحرب بينهما ترددت السفراء بينهما وفي طليعتهم القراء فلم تنجح تلك السفارة حتى صبغت البسيطة بالدماء المسفوحة من هام الأبطال ونصبت جثث القتلى في ذلك المعترك المهول كالهضبات والتلال فلاذ جيش معاوية بنصب المصاحف على الرماح، ونادى مشيخة أهل الشام الله الله في البقية يا أهل الإسلام، فمشت السفراء عند ذلك بالمصالحة فتمت الهدنة على الشروط المدرجة في صحيفة الموادعة.
ومنها ما وقع بين الحسن بن علي «عليه السلام» وبين معاوية فبعد مناوشات بين الجيشين العراقي والشامي وظهر الفشل والنفاق في الجيش العراقي وتخاذل جند الحسن «عليه السلام» ونجمت فيهم الخيانة وبان الغدر ولم يكتفوا بذلك دون أن أغاروا على فسطاطه فأنتبهوه وضربوه في فخذه بخندر وانتزعوا مطرفه من على منكبه وهكذا شيم اللئام وسجايا الجنباء الأشرار فأضطر كما أضطر أبوه إلى عقد الهدنة بعد أن سفرت بينهما السفراء فتم الصلح على شروط يضبطها التأريخ وقاس بها معاوية بعد التمكن وصرح بنقضها معلناً.
للمؤلف:
فيا بن أبي سفيان كم لك غدرة تناقلها الأجيال في الحفلات
وفى لك سبط المصطفى بعهوده وخنت ولم تنفك ذا غدرات
أبوك أبو سفيان أفجر فاجر وأنت ابنه أورثت شر صفات
وإن الزكي المجتبى شبه جده بأخلاقه الحسنى وخير سمات
(41)
نفا عنه شين الريب سبط محمد وقست ولم تقلع عن الفجرات
وتخدع أوباشاً لديك تجمعت من الطغم بالتعليل في الشبهات
فحسبك أن تنمى لهند وإنها لآكلة الأكباد بالشهوات
من النسوة اللاتي تعد فواجراً من السكر لا تنفك في النشوات
وحسب الزكي المجتبى أنه انتمى لفاطمة الزهراء بنت هدات
لها أمهات طهرها متيقن من الزاكيات النفس والخفارت
ألفن مقاصير الحجال صيانة ولم يخرجن كالنسوان مبتذلات
وفاطمة الزهراء سيدة النسا مصونة وحي الله في الحجرات
وآباؤه هل تلقى مثل محمد ومثل علي خائض الغمرات
وعمر والعلى أو شيبة الحمد لم يكن كصخر وحرب دائم الهفوات
ومنها ما وقع بين الحسين بن علي «عليهما السلام» وبين عمر بن سعد فإن السفراء مشت بينهما في عقد الصلح وإرادة إتمامه، ومن هؤلاء قرة بن قيس الحنظلي وحيث أن عمر بن سعد لم يكن حر الإرادة ولا مالكاً لسلطة التنفيذ بل كان مستعبداً للعبدين العبد الدعي ابن الدعي عبيد الله بن زياد توقف نجاح السفارة على مطالعة رأي الفاجر ابن مرجانة لذا بادر أمير القوة ابن سعد برفع طلبات الحسين «عليه السلام» إليه في تقرير قواعد السلم وقد شروطه الكافلة بإتمام الصلح وحيث كان ابن زياد متهوراً لجوجاً جباراً عاتياً ولم يكن من رجال السياسة والدين والتدبير رفض كل أقتراح للحسين «عليه السلام» ورد كل طلب له وما أجاز غير قتله أو اسره أستسلاماً والأستسلام في نظر الحسين «عليه السلام» الأبي مستغرب لا يظن أن أحداً يسومه إياه أو يرومه منه لأنه أستعباد تأباه نفس الحسين الكريمة وهمته الشماء التي يتقاعس عن بلوغها النسر المحلق وكيف يسام الحسين «عليه السلام» الهوان وأنفه يرعف شمماً ويعطش إباء وحمية وتفادياً من المذلة وتفانياً وتهالكاً في سبيل العز والمجد فأختار الحرب عند ذلك على السلم وآثر المنية على الدنية، وحيث يقول في خطبته الحماسية المشهورة (ألا إن الدعي ابن الدعي قدر ركز بين اثنتين: الذلة أو السلة وهيهات منا الذلة) الخطبة المعروفة، وحيث يقول مؤبنه الحماسي السيد حيدر الحلي:
طمعت أن تسومه القوم شيماً وأبى الله والحسام الصنيع
كيف يلوي على الدنية جيداً لسوى الله ما لواه الخضوع
(42)
ويقول في مرثية أخرى:
وسامته يركب إحدى اثنتين وقد صارت الحرب أسنانها
فإما يرى مذعناً أو تمو ت نفس أبي العز إعانها
فقال لها اعتصمي بالإبا فنــــــــــــــفس الأبي وما زانها
إذا لم تجد غير لبس الهوان فبالموت ننزع جثمانها
ومنها ما وقع في الحروب السياسية المحضة التي أنشأها حب الاستيلاء والأستعمار واثارها الاستبداد إرادة القهر والغلبة وكونها الشره والمطامع كما في الحروب الدولية الشرهة الجشعة وأهاجها التكالب على السلب والنهب بين القبائل وما شابه ذلك وقد أوردنا كثيراً من ذلك في السفارة من كتابنا «السياسة العلوية» تركناه هنا لأن هذا الكتاب لا يتسع للتفاصيل.


رأي البستاني في السفير والسفارة


لا شك ان المتبحر في الفصل الطويل الذي عقده (البستاني) في دائرة المعارف لتحقيق معنى السفارة والسفير إنه أخذ السفر من أحد معنيين أقتصر عليها: أحدهما المصلح، وثانيهما الوكيل، وأنا أجد له عذراً مقبولاً وهو أن الرجل سياسي أكثر منه مؤرخاً، وتأليفه لا يعدو المشاريع الدولية والمنظمة السياسية فهو دائماً يحرر التطورات الدولية ويبرهن على مشاريع الحضارة عند الشعوب المتمدنة حسبما يقبله الفكر الجديد ويلائم الأذواق العصرية، وتروجه الطريقة الفنية المبتكرة عند المتمدينين من دول الحضارة الجديدة فلذا تراه يلم بآثارالدول الأولى وعاداتها القديمة إلماماً يسيراً ريثما يتهيأ له التعريج على مدارج الرقي والنهضة فيرتبط ذلك التافه في نظره بالرائج من النظام الدولي الحديث فلذلك أقتصر من معاني السفير على الوكيل والمصلح بين القوم، ومنه السفير لوكيل دولة عند دولة أخرى وقديماً كانت الدول يرسلن سفراء لهن ويحددن لهم أجلاً محتوماً إذا أنقضى عاد إلى بلاده وبقيت هذه العادة إلى أوائل القرن السابع عشر للميلاد إذ صارت الدول تعين السفراء إلى أجل غير محتوم وهذا ما جعل السفراء على رتبتين: سفير عادي أو سفير دائم موقت إلى أخر كلامه المطول.
ويشهد له ما ذكره نصر بن مزاحم في كتاب صفين ان مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» لما أرسل جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية بن أبي سفيان وأهل الشام ليبايعوا له قال «عليه السلام»: إني قدر أرسلت جريراً وضربت له أجلاً لا يقيم بعده إلا عاصياً أو مخدوعاً الخ.
(43)
أقسام السفراء الدولية ومهنتهم في عصور الحضارة:
قال حسن باشا فهمي في كتاب حقوق الدول(1): ولئن كانت القاعدة التي كانت مرعية الإجراء بين الدول من قديم هي عبارة عن إرسال سفراء موقتين لبعضهم البعض عند اللزوم لأجل ربط العلائق لكن قبل عصرين اتخذ الدول إرسال سفراء دائمين وهذ الأصول الجديدة ظهرت للوجود بعد الحروب المشهورة بحروب الثلاثين سنة وعقد معاهدة وستفاليا سنة 1648م أنتجت تأسيس الموازنة الدولية بأوربا وكانت مأمورية السفراء فيما تقدم واسعة ومأذونيتهم مطلقة لكن لما ظهرت الوسائط التي سهلت أمر المخابرات مثل الغابور والسكك الحديدية والتلغرافات لم يعد يفوض إليهم أمر حسم المسائل المهمة من تلقاء أنفسهم بل إنهم بعد الاستئذان من دولهم يعملون بموجب ما يرد عليهم من التعليمات ولهذا لم تترقى مرتبة السفراء بمرور الزمان بل بالعكس قد تنازلت كثيراً فوق العادة سيما وإن تعميم أصول إرسال السفراء الموقتين بعنوان سفير كبير فوق العادة لحل بعض المسائل المهمة وكذلك ظهور عادات مثل اجتماع الملوك مع بعضهم البعض أحياناً ومخابراتهم في مصالحهم بالذات ضيق دائرة مأذونية السفراء وزاد في تقييدهم الخ.
شروط صلاحية السفير يستخرجها المؤلف من فحوى الكلمات:
لم أجد من حرر شروطاً معتبرة للسفير سوى أن بعض السفراء للدول إذا كان وزيراً مفوضاً تطبق عليه شرائط الوزير ويمكننا من ملاحظة أحول السفراء في كل طول من أطور السفارة ونظراً لمناسبة منصبه وأرتباطه بالإدارة العليا أن نخترع له شرائطاً فنقول:
أما السفارة الربانية والمفوضية الإلهية بجميع أنواعها سواء كان السفير ملكاً روحانياً أو بشراً جسمانياً، نبياً كان أو وصياً، إمام حق منصوصاً عليه نصاً جلياً لا يحوجنا إلى تحرير شرط فيه لأن الانتخاب الإلهي والاختيار الرباني لا يقع إلا على الأكمل والأصلحوإنما تعتبر الشروط فيمن دونهم في الرتبة من السفراء الدينيين والسياسيين الذين يقع منهم الخطأ وتخشى غائلتهم وإن لم تكن فربما كان تقصيراً في تأدية الوظيفة أوفتوراً عن القيام بما أنيط به إذ الإنسان معرض لكل هذا الأمور.
أما السفير الديني ونعني به من نصبه النبي أو الإمام فشروطه المعتبرة فيه العلم والحلم والعقل والخبرة بأحكام الشريعة الإسلامية وسننها في الأقتصاديات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حقوق الدول: ص94.
(44)
والاجتماعيات والسياسيات والحنكة والتجربة والمعرفة بالأطوار والأوضاع الداخلية والخارجية والفطانة لما يقع في المحاورات من النكت والدقائق والرموز والإشارات ومغزاها وما يراد منها وقوة الديانة لئلا يتجاوز العدل والبصيرة لئلا يرتاب فيها عند عروض الشبهة وطرء المجازفات الوهمية والمحافظة على ناموس الشرع وقانون الملة وقواعد الدين لئلا يسحق بعض موادها مجمالة للخصوم والكفائة فيما ندب له والدراية بمصالح الناس وسياسة الطبقات فإن لكل طبقة شكل من السياسة فما لا يخالف الشريعة ولا يمس كرامة الملة وقد أجتمعت هذه الشروط في السفراء الأربعة الذين هم نواب مولانا المهدي المنتظر «عجل الله فرجه» في الغيبة الصغرى قيب وفاة أبيه الإمام الحسن العسكري «عليه السلام» وقد جد سلطان الوقت في طلبه وجرى من الجور الفظيع على آل محمد (ص) وعيال العسكري ما هو عظيم وفظيع وقد شرحته كتب الحديث فغيب «سلام الله عليه» شخصه عنهم وأقام لشيعته نواباً عنه جعلهم سفراء بينه وبين الشيعة يخلف بعضهم بعضاً إلى تمام أربعة فوقعت الغيبة الكبرى وأنقطعت السفارة.
وأول هؤلاء السفراء «رضوان الله عليهم» أبو عمرو عثمان بن سعيد الأسدي السمان ولم أقف على نص صريح في عام وفاته ولكن مقتضى النص على وفاة ولده محمد بن عثمان وهو الثاني من السفراء في جمادى الثانية سنة 305 أو 304 وبقي سفيراً 51 سنة وقد تلقى يوم وفاة أبيه عثمان بن سعيد فتكون وفاة السفير الأول على هذا سنة 254 أو 255 هـ.
السفير الثالث أبو القاسم الحسين بن روح النوبختي المتوفي سنة 326 هـ.
السفير الرابع أبو الحسن علي بن محمد السمري وهو آخرهم وتوفي سنة 329هـ وبه أنقطعت السفارة بين الشيعة والإمام المنتظر «عجل الله فرجه».
ومراقد هؤلاء السفراء في العاصمة العراقية بغداد كلهم في جانب الرصافة؛ أما عثمان بن سعيد ففي طريق القشلة، وأما أبو الحسن السمري ففي قيسارية البزازة، وأما الحسين بن روح ففي سوق الشورجة، وأما محمد بن عثمان ففي محلة الشيخ وله محلة تنسب إليه تعرف بالإمام الخلاني.
وأما السفير السياسي المحض فتراعى فيه الشروط غير أن الحكومات الحرة في هذه العصور ألغت القوانين الشرعية وابدلتها بالقوانين الوضعية في سائر الأديان فيراعي في سفيرهم العلم بمواد القانون الوضعي والمعرفة بأحكام الدستور التشريفي الدولي لا غير.
(45)
مكانة السفير عند الدول الحرة والأمم المتمدنة
كل من له إحاطة بسياسات الدول واطلاع على أنظمتها يعرف عظمة هذا السفير وتقدير شخصيته وأن له حقوقاً قانونية خاصة تلزم مراعاتها ويجب عندهم اعتبارها، ولكما كانت الدولة أعظم فسفيرها أجل وأعظم فسموه منوط بسمو ملكه وعظمته مرتبطة بعظمة دولته.
قال البستاني في دائرة المعارف: لما كان السفير ينوب مناب ملكه وحكومته عند دولة أجنبية كان شخصه محترماً لا يقرب بأذى أو غهانة إلا ويحسب ذلك تحاملاً على حكومته لذلك فهو معفي من الأحكام المحلية وهذا الإعفاء يشمل أعضائيته أيضاً فهم فيه سواء لا يقاضون ولا يحجر عليهم إلا بمصادقة، أما موقعة بالنظر إلى رعية حكومته في البلاد التي بعث إليها فيختلف بأختلاف الدول فإن لكل دولة منها نظاماً تجري عليه وأمر تأتمر به، وقديماً كان السفير إذا أستجار به مذنب أعطاه الذمام وأعانه على حاجته ما وسعته القوة وكذلك إذا أذنب أحد رعيته وأقترف جناية قاضاه وأسرع في عقوبته لكن الأم بخلاف ذلك في هذه الأيام فقد وضعت المعاهدات والمواثيق الدولية حدوداً لهذه الأمور لا يمكن إغفالها.
وللسفير عظمة أيضاً واحترام فإن السفير إذا جاء منزل وظيفته أطلع ناظر الخارجية على أوراق تعيينه وسأله الدخول على صاحب الأمر فيستأذن له الوزير في الدخول عليه في وقت يعينه هذا لقبوله حتى إذا أزف الوقت المعين أرسل الملك من يعتمده في إدخال السفير عليه وصحبته عربة ملوكية إزازاً لمقام حكومة السفير الأجنبي فإن ما يبذله هذا الملك من الرقة والقرب من ذلك ليصادق مثله سفيره في البلاد التي كان منها السفير حتى يصل إلى القصر الملكي وهو في السدة الملوكية وإلى جانبه معتمد الملك ويسلم عليه العساكر وتعزف له الموسيقى وتجيبه الجميع بما ينبغي لمقام مليكه من الإكرام والتبجيل ويخرج له بعض كبار الدولة إلى أسفل الشارع ويسير في معيته إلى حضرة الملك وهم جميعاً بالملابس الرسمية، وقد جرت العادة أن يجلس الملك في مثل هذه الزيارة في قاعة العرش فيدخل السفير عليه ويدفع كتاب تعيينه إليه فيأمر له الملك بالجلوس وعقيب هذه الزيارة يعود السفير مشمولاً بما سبق من التكريم.
ثم ذكر السفير الموقت وأنه ليس له هذا الإكرام وذكر أن وظيفة السفير فوق وظيفة المعتمد لأن للسفير حق الدخول على الملك بلا منة لأنها من الحقوق
(46)
الدولية والمعتمد دخوله على الملك منة عليه لأنه ليس من حقوقه الدخول على الملك، وما في بقية كلامه من كثير فائدة.
مراتب السفراس المدنية:
قال حسين باشا فهمي في كتاب حقوق الدول(1): إن رسوم التشريفات المتعلقةبالسفراء قديماً كانت تنقسم إلى أصناف كثيرة وكانت درجاتها محدودة، وفي سنة 1815م حيث عفدت المعاهدة الدولية في فينا فقد تقرر بها بعض القواعد الجديدة فصار اعتبار سفير البابا وسفراء الدول العظيمة من الدرجة الأولى والسفراء المتوسطين من الدرجة الثانية ووكلائهم من الدرجة الثالثة ثم عقدت بعض معاهدات مخصوصية بين الدول بموجبها أحدث صنف آخر بأسم السفير المقيم وهو بين السفير المتوسط ووكيله وبذلك صار أصناف السفراء أربعة، وعلى هذا الترتيب يعد السفراء الكبار من الصنف الأول، والسفراء المتويطون من الصنف الثاني، والسفراء المقيمون من الصنف الثالث، والوكلاء من الصنف الرابع.
ثم قال(2): إن الذات المقتدر أن يكون واسطة للمواصلة فيما بين دولتين حاملاً خطاب اعتماده حسب الأصول ومرسلاً من لدن الأولى للثانية بغير مدة معينة يطلق عليه إسم سفير مستديم وخطاب الاعتماد وهو ورقة التوكيل التي تعطى للسفراء من الدول والذات الذي يرسل بنيشان أوبهدية أو لإجراء رسوم التبريك أو بمأمورية من مثل ذلك يسمى سفير مؤقت، ومثل هؤلاء الموقتين يرسلون من لدن الملوك لإجراء الرسوم بالذات لا دخل لهم في أمور الدولة ما لم يكن أعطي لهم من دولهم رخصة أو مأذونية بشأن ذلك.
ثم قال(3): إن السفراء الكبار هم بالذات تمثال الملوك ووكلاءهم عند الملك المعينين سفراء بمملكته، وللسفراء الكبار أيضاً الحق بطلب مواجهة الملك، رأساً وعليه فيمكن للسفير من الصنف الأول أن يذهب إلى سراي الملك ويطلب مقابلته رأساً، أما الملك فغير مجبور على قبوله في الحال حيث لو فرض وكان له مانع فيمكنه أن يعتذر لكي لا يجوز له أن يستغني عن تعيين يوم وساعة لمواجتهه.
شروط قبول السفي عند دولة أخرى:
قال(4): ليس من الموافق للشرف والمصلحة أن ترسل دولة شخصاً حكم عليه بجناية أو أتهم بمأمورية سفير لدولة أخرى فإذا كانت الدولة لا تراعي ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حقوق الدول: ص95. (2) نفسه: ص96.
(3) نفسه: ص97.
(47)
فيمكن للدولة الأخرى أن تعتذر بحق عن قبوله وكذلك يجوز عدم قبول رجل أظهر العداوة والبغضاء ضد حكومة المملكة المرسل إليها سفيراً الخ.
فتبين من كلامه هنا أن الشروط ثلاثة: الأول: النزاهة عن اقتراف الجرائم، الثاني: الإخلاص فإذا تولى السفارة لدولتين لم يخلص لواحدة منهما، الثالث: الكياسة، فإن المتهور كمظهر العداوة لا يصلح بل لا يقبل.
حقوق السفراء القانونية:
قال(1): إنه بموجب حقوق الدولة يكون السفراء المتوسطون والسفراء المقيمون مأمورين بأسم حكومتهم التابعين لها عند الدولة الذين هم لديها يعني إنهم يعدون تمثالاً لدولهم لا لممالكهم، أما وكلاء المصالح فيكونون مأمورين لدى نظار الخارجية لا يمكن لسفير أو وكيل أن يتداخل في معاملات رسمية مالم يكن الأول قدم براءة نفسه والثاني سلم المحرر المشتمل على مأريته، وإذا أرادوا المداخلة بغير ذلك يكون للحكومة المحلية الحق في الاعتذار عن قبولهم.
إذا جلس ملك جديد على تخت مملكته يجب على السفراء الكبار أن يجددوا براءات التعيين وبالنظر لحقوق الدول لا يكون السفراء المتوسطون ولا السفراء المقيمون مكلفين من مثل هذه الأحوال بتجديد البراءة إنما بالنسبة إلى المعاملات الجارية صار من العادة تجديدها، وكلامه مطول عميم الفائدة للسياسيين والرسميين لا للخطباء والذاكرين فلذلك أكتفينا بهذا.
بلوغ السفراء المحنكين غاياتهم:
ذكرى الصفدي الشافعي في شرح لامية العجم(2): إن الملك العزيز بن صلاح الدين الأيوبي لما أتى عمه العادل لقتاله ووصل بالعساكر إلى بلبيس ضاق به الأمر وأراد النفقة للجيوش فلم يكن عنده، فقيل له: إن القاضي الفاضل عنده من الأموال ما يقوم بما تريد، فقال: أستحي أن أطلب منه شيئاً فالزموه بطلبه، فلما علم بوصوله دخل إلى الحرم حياءاً منه، فتضرع القاضي الفاضل له حتى خرج إليه وحكى له القصة، فقال: كل ما أنا فيه من نعمة فهو من صدقاتكم والمال عندي يكفي ما ترومه ولكن دعني أتوجه إلى العادل وأطلب منه الصلح فإن وافق فيها ونعمت وإلا فالنفقة قدامنا، ثم غن القاضي الفاضل توجه إلى الملك العادل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نفسه ص92.
(2) نفسه: ص 98. (3) شرح لامية العجم 1/ 44.
(48)
فلم يزل يسحره ببيانه ويفتل في ذروته والضارب بلسانه حتى رده راجعاً ولم يدخل مصر وكفى الله العزيز أمره تلك المرة.
وذكرى الراغب الأصفهاني في المحاضرات(1): إن يزيد بن معاوية بعث عبد الله الأشعري إلى ابن الزبير فقال له: إن أول أمرك كان حسناً فلا تفسده بآخره، فقال عبد الله بن الزبير: ليس ليزيد في عنقي بيعة، فقال له: لو كان في عنقك بيعة كنت تفي بها؟ قال: إي والله، فالتفت إلى الناس فقال: معشر الناس! قد بايعتم ليزيد وهو يأمركم بالرجوع عن بيعته وهو لا يرتضي الرجوع عنها، فقالوا لابن الزبير: كيف رأيت هذا الخلع الخفي، إنتهى.
وهذا غور بعيد من شيطان مريد أسكت ابن الزبير المغفل وألقمه حجراً بالتمويه، وابن الزبير يزعم وتزعم أهل السنة له أنه من فقهاء قريش وأحد العبادلة الأربعة، ومن أهل الجدل والخصومة فأعتبر ان بمثل هذا اعتبار، نعم دفع الفاسد بالأفسد، نصب له شركاً وأحتبله الباطل، إن ابن الزبير إن قال: إن الفاسق لا يلزم عقد البيعة له، يرد عليه الشامي بمثله للحديث المشهور فيه يلحد بمكة رجل من قريش اسمه عبد الله عليه نصف عذاب أهل النار مضافاً إلى أعماله المشهورة فظن التخلص بهذا الجواب فوقع في الهوة وتردى في الحفرة وقد أجاب صلحاء الأمة أن بيعة الفاسق باطلة فخلعوه وحاربوه فكانت وقعة الحرة المشهورة وهذا مذهب الإمام مالك أن إيمان البيعة باطلة وعلى هذا ضربوه مائة سوط وشهروه على حمار.
وحسبك من السفارة هذا المقدار وأطلب التفاصيل من كتابنا «السياسة العلوية».
وسفارة العباس بن أمير المؤمنين «عليه السلام» بين الحسين «عليه السلام» وبين شيعته وبينه وبين الأجانب كانت سفارة خاصة في أوقات معينى فهو سفير موقت لا سفير دائمي كمسلم بن عقيل، فمن سفارته ما قدمناه من أنه بعثه للجيش الزاحف عليه نهار التاسع فراجعه.
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) المحاضرات: 1/ 93.
(49)


العباس «عليه السلام»
عميد العسكر الحسيني


وكما أنه لا بدل له من دعاية يمثلها معتمد خبير مدرب يقوم بهذا وينظر في المصالح وينظم الأمور السياسية خارج العصمة لا بد له أيضاً من جيش عسكري مدرب على أحسن نظام وأجود طراز في التثقيف والتمارين الحربية على الأساليب والفنون لملائمة للعصر وإذا أضطر إلى تأليف جيش أحتاج إلى توظيف عميد له ولا بد أن يكون مثقفاً ماهراً في الفنون التمرينية والأساليب العسكرية، شجاعاً ثابت القلب ليحمي عسكره وجنده بثباته، محنكاً ذا تجارب وفكر ليحصنه بفكر، ورويته ويقويه بتجاربه وخبرته، ويتولى تقسيمه على النهج الحربي حسبما تدعو إليه القواعد الحربية وتقتضيه النظم الفنية كتقسيمه إلى فرق فافواج فكتائب فسرايا ففصائل إن كان كبيراً، وإلى كتائب وفصائل إن كان صغيراً، ويخطط الخطط الدفاعية والهجومية وغير ذلك مما ستعرفه قريباً إن شاء الله.
وهذه الوظيفة أي وظيفة عميد العسكر كان يتلقاها العباس الأكبر ابن أمير المؤنين عند أخيه الحسين بن علي «عليهما السلام» وليس غيره لهذه الوظيفة عنده.
منزلة العميد في الجيش النظامي المتمدن
والعميد في نظر الدولة الحرة والحكومات المتمدنة في هذه العصور رتبته الثالثة في الوزارة العسكرية أو وزارة الدفاع لأن وارة الدفاع يقدم فيها شخص الوزير أي وزير الدفاع ثم أركان الجيش ثم العميد ثم الفريق وهكذا كما ستسمعه قريباً إن شاء الله.
وإنما سمي عميداً لأنه عليه اعتماد الجيش وبه يثقفون في الملمات وفي الشدائد الحربية فهو بمنزلة عمود الخيمة وعماد البناء الذي عليه يعتمد السقف وتقوم الخيمة، أو لأن عليه اعتماد السلطان وعلى كل لا يكون عميدا للعسكر إلا من كان شجاعاً مقداماً من غير تهور ذا جرأة وثبات، خواضاً للغمرات، قذافاً بنفسه في الأهوال، والمتالف مع تحري الظفر والفور، ومجرباً خبيراً بفنون
(50)