الحسين وأهل بيته وأنصاره (الجزء الرابع)

اسم الکتاب : الحسين وأهل بيته وأنصاره (الجزء الرابع)

المؤلف : للعلامة المحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي
المطبعة : دائرة المعارف الحسينية / المركز الحسيني للدراسات /لندن المملكة المتحدة

 

 

 

 

القبة


لقد سبق الحديث عن القبة في الجزء الأول فلا نعيد الكرة، كما تحدثنا عن أشكال القبة والتي بإيجاز هي ضرب من ضروب العمارة القديمة وبالتالي هي نتيجة طبيعية لبناء السقوف، ولكن للفن دور في ترسيم شكلها الخارجي بل والداخلي، وأشكالها من هذه الجهة متباينة فهي تارة تكون مخروطية الشكل وتارة أخرى حلزونية أو بيضاوية، وفي أغلب الأحيان تأتي على هيشة نصف كرة أو بيضاوية أو شلجمية وتنقسم القباب من حيث كساء الجدار إلى قمسين:
1- المنفردة ( المجردة) ذات كساء واحد.
2- المزدوجة (بجدارين) ذات كساءين.
فالأولى – أعني المنفردة والتي لها كساء واحد – فتاريخها يعود إلى العمارة الساسانية وتقام غالباً على طيقان مربعة الشكل أو مثمنة الشكل، وقد استخدمها السلجوقيون في عماراتهم، ويلاحظ أن بعضها بيضاوية الشكل رست على قواعد ذات ثمانية أضلاع تتبدل إلى دائرية الشكل.
وتمتاز هذه القباب بأن سمك جدارها عند رأسها أقل بكثير من قاعدتها، فإن كان سمك الجدار على سبيل المثال عند نقطة البداية يبلغ ثلاثة طابوقات فإنه يصل إلى طابقوة واحدة أو طابوقة ونصل عند قمتها، وقد كان لهذا الاختلاف في السمك أثر على القبة في الداخل فيشوهها لما يترك من فراغات في سطحها من الداخل، وقد كان المعماريون يكسون هذه العيوب والفراغات باستخدامهم الطابوق المنحوت والمصقول أو القاشاني، وقد تعالج ببناء أقواس فيها.
(276)
2- القباب المزدوجة: أعني بذلك ذات الكساءين، وتاريخها هذا ياتي بعد القباب المنفردة حيث ولدتها الحاجة بعدما ظهرت تلك الفراغات والعيوب على سطحها، وهذه القباب تنعقد من قبتين متداخلتين خارجية وداخلية وكان المغول أكثر من غيرهم توجهوا نحو بناء القبب من كساءين.
وهناك سبب آخر كان من وراء اختيار النوع الثاني من القباب هو الطقس الماطر والمرطوب الذي تتأثر به القبة فعولجت بإيجاد كساء آخر ليمتص الرطوبة والماء، وهنا تفنن المعماريون فأخذوا ينشئون القباب الداخلية في الغالب كروية الشكل وربما بيضوية، ولكن القبة الخارجية تبنى على أشكال مختلفة فمنها البيضوية والمخروطية والهرمية والبصلية والشلجمية أو مدببة وتكون هذه القبة غطاءً واقياً للقبة الداخلية.
ويعزو دونالد ويلبر(1) إشاعة القباب المزدوجة إلى العصر الإيلخاني(2)، بينما يرى آندرة غودار(3): أن المغول هم الذين أشاعوها في البلاد الإسلامية وبالأخص إيران(4)، ومن الواضح أن الإيلخانيين هم من المغول أيضاً، ويحدد كريستن فيلسن(5) أن هذه القباب المزدوجة بدأت في عهد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) دونالد بن نيوتن ويلبر: (Donald Newton Wilber) كاتب وباحث أمريكي عمل في إيران كجاسوس من قبل بلاده في عملية أجاكس، حصل على شهادة بكالوريوس في التاريخ سنة 1348هـ (1929م) ثم شهادة الدكتوراه سنة 1368هـ (1949م) من جامعة برنكتون وكان أول طالب أخذ دكتوراه في علم وتاريخ الحضارة والآثار في الشرق الأوسط، توفي سنة 1417هـ (1997م) عمل في مركز الداراسات الاستخباراتية (vss) خلال فترة الصراع بين الغرب والاتحاد السوفيات، من مؤلفاته: آثار تاريخ الحضارة الإسلامية في إيران، إيران الماضي والحاضر.
(2) مساجد إيران: 1/397 عن معماري غسلامي إيران در دورة إيلخانيان: 67.
(3) آندرة غودار: مهندس معماري من فرنسا كان حياً سنة 1357هـ (1316ش) وهو الذي وضع هندسة المتحف الوطني الإيراني وقصر العدل في طهران بمؤازرة ماكسيم سيرو.
(4) مساجد إيران: 1/397 عن هنران إيران: 20 ترجمة بهروز حبيبي.
(5) كريستن فيلسن: christian Filson، باحث في الفنون الإسلامية له كتاب ترجمه عبد الله فريار بعنوان تاريخ صنايع إيران.
(277)
تيمورلنك(1)، ثم قلدت فيما بعد(2)، ويضف كريستن فيلسن أن أغلب طراز القباب البصلية الشكل قد تم في القرن السابع الهجري فما بعد، بينما يرى دونالد ويلبر أن هذا الطراز يعود إلى طراز البناء الساساني، بدأ به السلاجقة وأتمه المغول فأصبح أكثر استحكاماً وجمالاً(3)، ويضيف بأن القباب المقرنصة (المقرنسة) ظهرت في العهد المغولي، ثم استخدمت في ما بعد في زوايا المحاريب.

ش539
(77)77

مقطع رأسي للقبة مع التصميم الفني للعقد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تيمورلنك: الكلمة مركبة من الاسم والصفة، الأولى اسمه والثانية أعني «لنك» وصفه وتعني الأعرج، حيث كان كذلك، ولد سنة 737هـ (1336م) وتوفي سنة 808هـ (1405م) من ملوك المغول المشهورين وهو حفيد جنكيز خان، ولد في بلدة كش بالقرب من سمرقند، جرت فتوحات واسعة في عهده، دمر بغداد واحتل موسكو، دخل في صراع مع السلطان العثماني بايزيد الثاني في معركة أنقرة فانتصر عليه، اتخذ من سمرقند عاصمة ملكه.
(2) مساجد إيران: 1/398 عن تاريخ صنايع إيران: 187 ترجمة عبد الله فريار.
(3) مساجد إيران: 1/399 عن معماري إسلامي إيران در دورة إيلخانيان: 71 لدونالد ويلبر بالفارسية.
(278)

ش540 78 79 80ش542
(78) (80)
الطيقان وبناء القبة التخطيط السطحي للقبة الحسينية للغلاف الخارجي
والداخلي بقياساتها الحقيقية

ش541
(79)

بناء القبة من الطابوق
(279)


المئذنة


سبق وقلنا إن الفكرة بدأت من المدينة المنورة أيام الرسول (ص)، وحولت صومعة الناقوس في دمشق لهذه الغاية وانشئت المآذن في مصر كل ذلك حدث في النصف الأول من القرن الأول الهجري، كما تقدم الحديث عن ذلك(1) وأخذ المعماريون الإسلاميون من بعدها يتفننون في إنشائها متأثرين بالأبراج والفنار والمنار والصوامع والمسالح والمحاج كل في منطقته، ولا شك أنهم اخذوا في الحسبان ارتقاء المؤذن لرفع الأذان من فوقها وتهيئة مكان مناسب للمؤذن كل هذه المعطيات الإسلامية أخذت بعين الاعتبار فأصبح للمئذنة كيانها المستقل وأخذ يتطور شيئاً فشيئاً، ويبدو أن أول ما بنيت على صورتها في البداية كانت المئذنة الدائرية الشكل، ثم تأثرت في بعض الأقطار بالصوامع فانشئت مضلعة بأربعة أضلاع أو أكثر، وربما المربعة سبقت غيرها ومما لا شك فيه أن تاريخها لم يتأخر عن سنة 53هـ كما سبق وأشرنا إلى ذلك، وتطورت المآذن يوماً بعد يوم إلى أن وصلت إلى الشكل الذي نلاحظه في المساجد والمراقد، وتتشكل المآذن المتطورة عادة من القاعدة والأسطوانة والسلالم والعمود والمقصورة والتاج (الجوسق) والنقوش.
1-القاعدة: ويراعى فيها المتانة والاستحكام لتكون متجذرة في الأرض على أسس متينة لا تقبل الخسف والانهيارلأن ذلك يؤثر على ميول المئذنة وتصدعها، وفي الغالب يكون الأساس مربعاً ولكن الذي نشاهده في الروضة الحسينية جاء دائري الشكل ومتينة واستوعبها الجدار بشكل عام ولم يبرز منها إلا قليلاً، ويذكر في متانتها أنهم لدى تجديد المنارة لم يجدوا حاجة إلى تجديد الأسس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع تاريخ المراقد: 1/106.
(280)

81ش543
(81)

باب المئذنة الجهة الشرقية الواقعة في الطارمة
2- الأسطوانة: تختلف أسطوانة المآذن من حيث الشكل وقد سبق وقلنا إن منها دائرية الشكل ومنها مربعة الشكل ومنها مضلعة بأكثر من أربعة أضلاع، ولكن المستخدم منها في غالب المآذن المرتبطة بالعتبات المقدسة هو الكل الدائري، وهذا الشكل على قسمين قسم منه لا يختلف قطره من أسفله (قاعدته) إلى أعلاه ( قمته) فهو متساو في أبعاده وهي قليلة، وقسم يختلف قطر قاعدته من قمته، وهي المآذن التي تبدأ على شكل أسطواني ثم يقل قطرها بالتدريج فيصبح قطرها في أعلاها أقل بكثير من قطرها عند
(281)
القاعدة، وهذه من الناحية الهندسية تكون مقاومة أكثر من تلك، ويقتضي أن تكون قاعدتها أكبر وتتوسع حسب نسبة ارتفاعها ليتمكن من بناء السلالم فيها، وهذا النوع هو المستخدم في الروضة الحسينية حيث نلاحظ أن قطرها عند المقصورة أقل من قطرها عند القاعدة ولو بمقدار بسيط.
2- السلالم: إن فكرة إنشائها جاءت من وصول المؤذن إلى المقصورة لإقامة الأذان، وهي تدور حول العمود الذي هو بمثابة المحور، كما هو الحال في جذع الشجرة ومن الطبيعي أن تكون هذه السلالم مثلثة الشكل قمتها تنتهي عند المحور، وبالنتيجة تكون من مجموعها حلزونية الشكل، وهذا ما هو مستخدم في مئذنة الروضة الحسينية.

ش544
(82)82
السلالم وجدارها الخارجي من الداخل

(282)
4- العمود: أي المحور، ويصطلح عند المعماريين بالدقل والذي تدور حوله السلالم وقطره يقل بالتدريج كلما اتجهنا نحو الأعلى ويمكن ملاحظة ذلك في الملوية في سامراء حيث إنها مكشوفة، ولكن باختلاف أنها غير مكسية بكساء خارجي كما هو الحال في المآذن الأخرى وهذا النوع الداخلي هو المعتمد في مئذنة الروضة الحسينية.
ش545
(83)

سلالم المئنة الحسينية في بدايتها ويظهر في المحور العمودي على اليمين
5- المقصورة: هو المكان الذي كان يقف فيه المؤذن ومنه يقيم الأذان، وهي عادة تكون بارتفاع حوالي المترين أو أكثر وتحاط عادة بسياج تفادياً لسقوط المؤذن، وبنيت في البداية مكشوفة ثم بنيت مسقفة تجنباً من الشمس والمطر، وكلاهما متداولان، كما أن بعض المقاصير جاءت مضلعة
(283)
وبعضها الآخر جاءت مدورة، وقد اختير للروضة الحسينية الشكل المدور والمسقف، ولا يخفى فإن المسقف منه له مظلات، ويقرن بالنقوش والكتابات.
ش546
(84)

المقصورة من الداخل ويظهر فيها السلالم الفوقانية وجدارها المحوري المكسو بالخشب
6- التاج: ويقال له الجوسق وهو ما تختم به المئذنة عند قمتها، وهو في الواقع ينشأ كجزء من الطراز المعماري المتخذ وليس فيها غير الجمالية، وربما سمي بالتاج لأمرين لأنه يقع في القمة كما هو موقع التاج في الرأس، أو لأنه كالتاج في شكله وطرازه، كما هو الحال بالنسبة إلى
(284)
معظم مآذن العتبات المقدسة التي جاءت رؤوسها على شكل مضلع، والتيجان كانت كذلك، وهنا يمكن إضافة العمود الذي يتوسط بين المقصورة والتاج والذي هو الآخر يحتوي في داخله سلماً لأجل الارتقاء إلى قمة المئذنة لوضع الراية أو الضوء أو الرمانة على قمة التاج لأغراض فنية، وما هذا العمود ولا تلك الراية أو الضوء أو الرمانة إلا لمزيد من الجمالية والتي بدونها تكون المئذنة بتراء.

ش547
(85)

تاج المئذنة الحسنية لدى تجديد البناء
(285)
7- النقوش: لا تخلو المآذن من النقوش بل أصبحت جزءاً لا يتجزأ من هيكليتها ولربما هي من المظاهر التي تميز هذه المئذنة عن الأخرى، والنقوش المستخدمة في المئذنة قد تكون جزءاً من بنية المئذنة كالمقرنصات التي تستخدم في إنشاء المقصورات ليتمكن المؤذن من الدوران حول عمود المئذنة في حالة الأذان، فإن هذه المقرنصات كما سبق شرحه، فبدلاً من أن يكون مجرد توسعة تدريجية فإن المبدعين استغلوا ذلك لإضفاء الجمالية على المئذنة بجعلها مقرنصات.
من جهة أخرى سبق وقلنا إن الإضافات التي أحدثت في المقصورة من مظلات وأمور أخرى إنما أضيفت بداعي الجمالية، كما أن ما فوق المقصورة من العمود والتاج (الجوسق) والرمانة وما فوقها جاءت للجمالية وفيها مآرب أخرى وكلها تداخلت فكونت هذا الشكل المميز والطراز الأجمل.
ومن جهة أخرى فإن المآذن إذا تركت دون كساء فإنهم كانوا يطعمون جدارها المنشأ من الطابوق ببعض النقوش سواء بنقوش هندسية أو نقوش كتابية وذلك بإبراز بعض الطابوق وإضمار البعض الآخر أو باستخدام طابوق من لون آخر، وأفضل الخطوط التي تناسب التلاعب بالطابوق هو الخط الكوفي أو الخطوط التكعيبية.
ومن جهة ثالثة فإن المآذن التي تكسى بالقاشاني أو الذهب فإن الفنانين أيضاً يقومون بإدخال عوامل الزينة عليها كالكتابات والألوان والنقوش النباتية إلى غيرها، وهذا ما يلاحظ في مئذنة المرقد الحسيني، وسنتحدث عن النقوش فيما بعد.
(286)
ش548
(86)

التخطيط السطحي للمئذنة
الحسينية بقياساتها الحقيقية

(287)

 

الضريح


جرت العادة في رفع القبر عن الأرض بالبناء أو غيره ليكون مشخصاً ومميزاً، وربما أضافوا عليه صندوقاً خشبياً فوقه لمزيد من التكريم والاحترام، وكلما كان الراقد ذا مكانة عالية كان التجليل لمرقده يتضاعف في اتجاهين الأول في مزيد من تحصينه بالعناصر الدالة على ذلك، والثاني: في نوعية تلك العناصر التي تستخدم في ذلك، وقد سبق وتحدثنا في الأجزاء السابقة عن مراحل تطور الضريح المقام على المرقد الحسيني الشريف كالبناء الرخامي الفخم والصندوق الخشبي المرصع، والمنقوش بكتابة الآيات والرسوم النباتية والهندسية، والغلاف الزجاجي الثمين والمشربيات المحاطة به والمصنوعة من الذهب والفضة والمطعمة بالأحجار الكريمة، والسقف البذي يعلوه بما فيه من النقوش والأواني الذهبية والفضية، وما إلى ذلك من أمور، وهنا يستدعي الحديث عن الطراز المستخدم في هذه الأضرحة، وبالأخص الضريح الحسيني المبارك.
إن الذي يجلب الانتباه في مثل ضريحه بعد الحديث عن العناصر المستخدمة ونوعية هذه العناصر والتي تسابق المحبون لهذه العترة الطاهرة في تقديم أثمن ما يمكن تقديمه والذي تقدم الحديث عنه في الفصل السابق، هو الشكل الميميز الذي اختير لهذا الضريح مما ترك نوعاً من الأبهة والجمالية والخصوصية.
إن الشيء الذي يمكن ملاحظته هو القاسم المشترك بين هذه الأضرحة وبالأخص الأضرحة التي تخص آل الرسول (ص) سواء التي في العراق أو إيران أو سوريا أو مصر أو الأردن أو لبنان وباكستان والهند أو غيرها، والظاهر أن الفكرة في الأساس كانت صفوية على ما يبدو، وكان السلطان عباس الكبير الصفوي في سنة 1032هـ قد أحاط بالضريح
(288)
الحسيني الشريف السياج المشبك (المشربيات) وهذا النوع هو الذي ساد في معظم الأضرحة في دول الشرق الأوسط، ورغم أن الذين تبنوا صناعتها كانوا في فترة من الفترات من الهنود والفرس والترك وربما غيرهم.
ومما يظهر من الفكرة أن هذه المشربيات تحيط بالصناديق الفاخرة والثمينة والتي عادة تصنع من أفضل الأخشاب وتطعم بأثمن الأحجار الكريمة وتنقش بأجمل النقوشات وتزين بأحسن الخطوط ويختار لها أنسب الآيات ارتباطاً بالموضوع، كما وتغطى بأرقى الأقمشة المرصعة باللؤلؤ والمرجان وخيوط الذهب والفضة، ولأجل أن لا يحجب نظر الزائر عن هذه الستائر والعناصر الثمينة فإنهم أحاطوها بشبكة تحافظ على هذه المدخرات القيمة – والتي كثيراً ما كان بوضع على الصندوق هدايا الملوك والسلاطين – من اللمس والتلف ولا يحجب عنها العين، بل حاولوا أن تكون الشبكات (المشربيات) جميلة وثمينة، ومن هنا نجد أن التطور كان قد واكبها بين فترة وأخرى.
إن المشربيات المستخدمة في هذه الأضرحة تختلف إحداهما عن الأخرى ببعض المميزات والخصائص مما يحدد طابع كل واحد منها بهذه الاختلافات الجزئية، ولكن يبقى القاسم المشترك بينها هو طرازها الموحد في وجود أعمدة تتوسطها هذه المشربيات، فبعضها تكون أعاليها مقوسة على شكل هلالي وأخرى لا يوجد فيها أقواس وبعضها يختلف فيها شك هذه الأقواس، بالإضافة إلى أن التقاطعات المعدنية في المشبكات قد تكون كروية الشكل وقد تكون مربعة الشكل، وأخرى مسدسة أو مثمنة، بالإضافة إلى وجود بعض الفوارق الأخرى في المشبكات وإكسائها بالفضة أو الذهب أو الفولاذ أو النحاس أو البرونز، كما يختلف ضريح عن آخر في النقوش المستخدمة وفي الكتابات أيضاً، بل وفي المقرنصات والأواني المستخدمة على جنبات سقف الضريح، فعلى سبيل المثال إذا ما نظر إلى ضريح الإمام الحسين «عليه السلام» لوحظ أن كل مشربية منها يعلوها مقوس مقرنص أقرب إلى الشكل، المثلث، وأما التقاطعات فهي كروية الشكل، بينها الموصلات أسطوانية الشكل، وجميعها مكسية بألواح الفضة ومقوساتها عليها زهر نابتة تفصل كل مشربية عن الأخرى بالأعمدة المكسية بالفضة
(289)
دون أي تزيين، بينما نجد أن فوق المشربيات يوجد شريط فضي يحيط بكل الضريح أثبت عليه عدد من النجوم الذهبية البارزة تأتي بشكل متوازن، حيث يوجد على كل عمود نجمة واحدة وما بين العمودين (على المشربيات) توجد ثلاث نجمات، ثم يتدرج أعالي الضريح باتجاه الخارج ليتوسع قليلاً بفضل المقرنصات ليشكل أربعة أشرطة محيطة بالضريح أعرض من السابقة كلها مصنوعة من صفائح الذهب، لتتخللها الكتابات البارزة من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة والأشعار الولائية وما إلى ذلك، ثم يوجد على حافاتها أوان ذهبية جميلة على شكل مزهريات وعليها النقوش الجميلة ويتوسط سطح الضريح قمة بمساحة أقل من الضريح نفسه مصنوعة من الألواح الذهبية ذات النقوش النباتية تعلوها أوان ذهبية منتشرة على حافاتها ليكون كل ذلك الطراز المميز بهذا الضريح المبارك، ولا يخفى ما للمصابيح الداخلية وألوانها والمصابيح الموجهة إلى الضريح من الخارج تأثير على تجلي هذا الضريح المقدس.
ومما لا بد من الإشارة إليه أن هذه المشربيات وتلك الألوان والأواني خضعت للتطور بل وللتبديل والتحسين، كما هو ملاحظ من سردنا التاريخي لهذا الضريح المبارك في الأجزاء السابقة، ومما يميز هذا الضريح عن غيره أنه سداسي الزوايا وذلك لأنه يحتوي على مرقدين مرقد الإمام الحسين «عليه السلام» مرقد نجله علي الأكبر «عليه السلام» وبالمقارنة مع بقية الأضرحة يمكن معرفة الفارق بينه وبينها.
وربما الصور هي التي ستبين لنا الفوارق بين المشربيات المستخدمة في الأضرحة، ومن الجدير بالذكر أن الصور التي أوردناها هي لمختلف الضرائح المنتشرة على الأراضي العراقية والإيرانية والسورية والمصرية والأردنية والتركية مما تختص بأهل البيت النبوي عليهم أفضل الصلاة والسلام وغيرهم ويمكن ملاحظة الفرق بين هذه الأضرحة.
ومن جهة أخرى فإن الضريح الحسيني بحد ذاته أيضاً تغير منذ أن أنشئ وليومنا هذا وقد طرق أسماعنا بأن مجموعة من أثرياء إيران عمدوا إلى صناعة ضريح جديد يلائم عظمة الإمام الحسين «عليه السلام»، وربما تكون ملامحه مختلفة عما عليه اليوم.
(290)

87 88 89 90

(291)

91 92 93 94

(292)

95 96 97 98

(293)

99 100 101 0102

(294)

وأما أشكال الأضرحة بشكل عام فمختلفة، فلكل خصوصيته المميزة ويمكن ملاحظة ذلك فيما يلي.

ش567
(105)103 104 105
(295)

ش568
(106)106

ش569
(107)
(296)

ش570
(108)

(297)

(298)


الفصل الثالث


الهندسة المعمارية
الهندسة مفردة معربة عن الفارسية «أندازه» وهو الحد والقياس، ولما استخدمت الكلمة في اللغة العربية أخرجت من حالة الجمود التي كانت فيها واشتق منها اشتقاقات مختلفة كما هو الحال في سائر المشتقات في اللغة العربية، فالفعل «هندس» - الرباعي التركيب – إذا استخدم في الجملة وقيل مثلاً: هندس زيد، البناء تعني أنه قام بتقدير البناء ورسم شكله، وخطط لإنشائه، فيقال له المهندس، ومن طرائف اللغات أن المفردة دخلت العربية من الفارسية واستعربت ولما اشتقت وأصبح لها اسم فاعل انتقلت إلى الفارسية لتستخدم فيما اشتق لأجله في العربية دون أي تغيير فيقال في الفارسية لمن يقوم بمثل هذا العمل بالمهندس أيضاً.
وعلى أي حال فإن للهندسة مجالات مختلفة لا نريد التطرق إليها، بل نخصص الحديث عن الهندسة المعمارية التي تختلف مع غيرها من الموارد بأنها تخص البناء، وما يؤول إلى إنشاء منشئة على أرض الواقع، وبالطبع فإن لإنشاء مثل هذه المنشأة يحتاج إلى من ينظر لها ويدرس خصوصياتها من حيث الاستخدام والأغراض ويطبعها مع الأرض التي يراد إقامة المنشأة عليها مع ملاحظة حالات الطقس وتفاعلات التربة وغيرها، مع مراعاة الجمالية، وربما دخل عامل الكلفة أيضاً، إذاً يمكن القول بأننا في الهندسة المعمارية نحتاج إلى ما يلي مجموعة:
الفكرة + الغرض + خصوصيات الأرض + خصوصيات الطقس +
(299)
الجمالية + الكلفة + الآلية + خصوصيات المواد(1) = المنشأة.
وفي مثل هذه الحالة يجب أن يكون الذي يضع مثل هذا المخطط قادراً على التوفيق بين كل ذلك فإذا كان قادراً كان مهندساً معمارياً قديراً ومبدعاً، إذ لا يكفي مجرد وضع الرسم السطحي للمنشأة بل لا بد من دراسة العناصر الذي يريد استخدامها، والأرض التي يريد إقامة المنشأة عليها، بل والاستخدام الذي يريد أن يتم فيها، فإن المنشأة لبيت عادي يختلف عن منشأة تضم آلاف الأشخاص ولأغراض أخرى، وأن تحمل السقف لأشخاص يختلف عن تحمله للمجموعات الكبيرة من الناس، بل إن ارتفاع المنشأة والمواد التي تستخدم فيها تختلف من مشأة إلى أخرى، أضف إلى ذلك مسألة الصوت، فالمنشأة التي تعتمد الهدوء تختلف عن التي يتم فيها الضجيج، فلكل مادة وطراز، وله خصائصه ومميزاته.
من هنا فإن الأمور الهندسية تتوزع حسب المراحل وحسب الاختصاصات من وضع الرسم الأولي (السطحي) والرسم المنظوري، إلى وضع الشكل المجسم، ليأتي إلى الدور التطبيقي والذي في النهاية يعطيك الصورة الحقيقية على أرض الواقع بكل مكوناتها وعناصرها، والمواد المستخدمة فيها، والمظاهر الجمالية إلى جانب أمور جانبية لها تأثير كبير في استخدام هذه المنشأة من التهوية والتنوير، وحركة الداخلين والخارجين، وضبطها، بالإضافة إلى مراعاة مكانة هذه المنشأة تجارية كانت أو غدارية أو تشريفاتية، أو كانت ذات قدسية أو ما شابه ذلك، كل ذلك من موضوعات الهندسة المعمارية التي يمكن تصويرها بالخيمة الكبيرة التي تغطي على مساحة مختلفة الألوان والفنون، والتي لا بد وأن يكون لهذه المنشأة في المفهوم الهندسي(2) رؤية جميلة من حيث فن المنظور والإظهار المعماري.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يذكر علماء الفيزياء والكيمياء خصوصيات المواد وآثارها بشكل تفصيلي فالحديد مثلاً يختلف عن الخشب في المقاومة والتمدد والموصلية، والكلفة إلى غيرها مما يجب الدقة في كيفية الاستفادة منها وتحديد مواقعها.
(2) إن المفهوم الهندسي لرؤية المنظور يمكن أن نمثله بما يلي: إذا نظرنا إلى الطريق الممتد طويلاً وإلى الأشجار المصفوفة على جانبي الطريق وإلى الأبنية المبنية على =
(300)
وفي الحقيقة فإن العمارة الإسلامية رغم أنها بدأت بدائية وبسيطة إلا أنها انتهت لتكون قيمة حضارية تتصدر قمة الفنون المعمارية التي يشار إليها بالبنان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= طرفي الطريق، تجري العين وكأن الأشياء المنظورة هذه تصغر كلما ابتعدت عن نقطة النظر، هذا التصغير يستمر حتى يصبح في النهاية نقطة في الأفق، ومن هنا نجد أن الرسام الحرفي ينتبه إلى هذه الرؤية من خلال المنظور الهندسي.
(301)
العمارة الإسلامية
بعدما ظهر الإسلام وتسوع حكمه جنوباً ثم شمالاً وبعدها غرباً فشرقا، وبدأ العمران يأخذ طريقه إلى الوجود بسبب معطيات الحياة والحاجة إلى إنشاء المدن، وتأسيس المباني العامة والخاصة، فأخذ الطراز الإسلامي يطفو إلى الوجود، وذلك عندما أخذت العمارة الإسلامية استقلاليتها في النمط المطلوب الذي خرج بين الحاجة الاجتماعية مع مراعاة حالة الطقوس الباردة والحارة، وحالة الحرب والسلم، وبين ملاحظة الأحكام الشرعية من حيث الحجاب والقبلة مراعين في ذلك بقية الأمور الهامة من حيث الصحة والجمال، فنهض العمران على هذه القواعد الأساسية وبالأخص بعدما وجدت في الدين الإسلامي الذي برز من جديد وجود عناصر لم تكن متعارفة قبل الإسلام أو لم تكن لها وجود قبلها، وعلى سبيل المثال لا الحصر القبة والمئذنة والميضاة والمنبر والمحراب وما إلى ذلك، مما وجد المسلمون أنفسهم أمام منشآت جديدة لم يعهدونها من قبل، وكان لزاماً عليه التعامل معها ضمن المعايير الإسلامية، ولما لم يكن الإسلام دين جمود وتحجير، بل وجدوا في الإسلام دعوة إلى التطور فلذلك أخذ المعماريون بالمضي قدماً في استخدام مخيلاتهم للإبداع في الهندسة والطراز بما يناسب استخداماتها، وساعدها على ذلك عطاء السلاطين الذين اخضوا يتباهون فيما بينهم بالمنشآت الإسلامية، فكان لهذا التنافس دور كبير في هذا التطور السريع والبروز البديع.
ومن هنا نجد أن الطرز الإسلامية تعددت ولم تأت متحدة الشكل وإن وجد القاسم المشترك بينها، فلا القبب جاءت على شكل واحد ولا المآذن والحاريب والأبواب والمشربيات ولا بقية العناصر المعمارية، ويعزى السبب إلى أن كل سلطان كان يقوم بإنشاء المنشآت الإسلامية من مساجد
(302)
ومدارس في أرجاء ملكه وبالأخص عاصمته حسب المناخ والحاجة، فكان للطبيعة دور كبير في اختيار الألوان والنقوش مع ما يتناسب مع الموقع، فعلى سبيل المثال لا الحصر اختيرت النقوش النباتية بالنسبة إلى المساجد متداخلة مع الآيات القرآنية التي كتبت تارة بشكل مضفور أو بشكل هندسي سنأتي على الحديث عنها إن شاء الله تعالى، بينما نجد أن نقوش الحيوانات بالإضافة إلى الأشعار أخذت دوراً أكبر في اللوحات الفنية التي أكسيت بها جدران وسقوف القصور.
وقد تمكن المسلمون أن يخضعوا حياتهم الفنية الجمالية من جهة المعمارية وطرزها للمعايير الإسلامية وكان لهذا المزج أثر كبير في تقدم هذا الجانب الحضاري، ومما يلفت الأنظار أنهم تفننوا في كل شيء من مناحي الفنون المعمارية واستخدموها في كل مرافق الحياة العمرانية، إذ قلما تجد مكاناً عاماً كالمدارس والحمامات والقصور والمقاهي والفنادق، بل والأماكن الخاصة كالقصور وبيوت الأعيان وربما عامة الناس إلا واستخدموا فيها الفنون المعمارية مدمجة بالمعايير الإسلامية والكتابات الإسلامية: شعراً أو نثراً، آيات أو أحاديث أو أمثالاً، مع اختيار الخط المناسب حتى أن الغزل والقصة لم تفتهم سواء في الشعر والكتابة والخط أو في النقوش واللوحات الجدارية والقاشاني، فأصبح للإسلام في كل موقع بصمة بارزة يميزها عن غيرها، وعلى سبيل المثال فإننا بعد هجرتنا من العراق بسبب الاضطهاد الذي لاقيناه في أرض الآباء والأجداد من قبل النظام العراقي البائد توجهنا إلى طهران واستأجرنا بيتاً واسعاً كان يحتوي على عدد من الصالات والغرف والأقبية، فكانت جدران الصالات والأقبية الكبيرة مكسوة بارتفاع متر واحد بالقاشاني المعرق والبارز وبالألوان الزاهية مستخدمين في القبو الكبير قصة النبي يوسف «عليه السلام» مع الملكة زليخا فكنت تشعر وأنت في هذا القبو أنك تقرأ قصة كاملة عن النبي يوسف «عليه السلام» بعد تعرفه على الملكة زليخا وحتى نهاية أمرها وتوبتها، بينما استخدم القاشاني البارز والمعرق أيضاً، في الصالة الكبرى لإظهار رسوم الطبيعة من الأشجار والأزهار والطيور مع استخدام بعض أشعار الإسلاميين(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وقد لاحظت أن الفنانين كانوا يتدافعون إلى التعامل مع صاحب البيت لشراء=
(303)
كل ذلك يدلنا على أن عناصر الفن امتزجت بالإسلام من بابه الواسع وتطور يوماً بعد يوم حتى شكل أصنافاً مختلفة من حيث الطرز والنقوش لتبرز العمارة الإسلامية إلى القمة بشكل لا مثيل له في التاريخ.
ولم تكن العمارة إلا وجهاً من وجوه هذا الفن بل لم يكن القاشاني كل وجوه العمران، فلو توجهنا إلى مناحي أخرى من العمارة الإسلامية لوجدنا أبدع الحفريات الخشبية والذهبية والجصية إلى جوانب أخرى سنتحدث عنها إن شاء الله تعالى، ونجده أيضاً في نسج السجاد وصناعة الأواني وصناعة الأبواب والقباب وغيرها، بل وفي كل مرافق العمارة الإسلامية أيضاً، وقد كونت بذلك ثروة كبيرة في هذا المجال ما لا يمكن اختصاره في جانب ضيق أو مجال معين، إذ كان للخط مثلاً حظ كبير حيث خضع لعملية التطوير فتنوعت الخطوط وأدمجت مع الرسوم النباتية والحيوانية والرسوم الهندسية، وظهر فيها الإبداع مما لم تعهده الحضارات السابقة.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الإسلام يعد الديانة الوحيدة التي حظيت بهذا الجانب الحضاري بكل ما تطور على يد أهل الفن والاختصاص وبالأخص الجانب المعماري بكل تفاصيله وعناصره، بينما الحضارات الأخرى تنسب فنونها إلى الشعوب والقوميات، وما ذلك إلا لأن الإسلام تمكن من دمج القوميات في بوتقة الإسلام وصهرها في حضارة واحدة ساهمت في بنائها وتطورها كل القوميات على قدم المساواة، فلم نجد في العالم قومية إلا ولها في حضارة الإسلام موضع قدم، لأن الإسلام أصبح منذ أن بزع دين العالم ودين الإنسان، إذ آمن به كل من عرفه، وتبينت له تفاصيله التي ترتبط بكل مفصل من مفاصل حياته، فالعمارة الإسلامية حقيقة لا يمكن إنكارها والطراز الإسلامي واقع لا يمكن تجاهله، والفن الإسلامي يعايش كل المبدعين وأرباب الذوق، وهذا ما يمكن ان يلامسه كل متتبع دون عناء عندما ينظر إلى العقود والقباب والأعمدة والمآذن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= القاشاني والأبواب، وقد دفعوا مبالغ طائلة وكان مما دفعوا أكثر من مائة تومان لك طابوقة من القاشاني وذلك سنة 1971هـ - 1972م.
(304)
والشرفات والمقرنصات والمشربيات والمظلات والمقصورات والمنابر والصحون والأروقة وغيرها من عناصر العمارة الإسلامية من الشرق وإلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، وقد غزا الإسلام بفنونه الغرب قبل أن يغزوها بالعقيدة، وذلك لأنها تمتلك مقومات فن الإبداع والجمال من خلال الذوق الذي صرفه المعماريون والفنيون الإسلاميون طوال تاريخهم.
(305)


وحدة الطابع الإسلامي


لا شك أن للبيئة أياً كانت صحراوية أو جبلية أو ساحلية أثرها في الفن المعماري الإسلامي إلا أنه مما لا شك فيه أيضاً أن للتعاليم التي نزل بها الدين الإسلامي أثرها في صياغة الفن المعماري الإسلامي، وبما أن الإسلام لا يحصر نفسه بمكان ولا زمان ويذهب إلى أن خير البلاد ما حمتلك، وإلى أن الأرض جعلت لأتباعه مسجداً وطهوراً، وإلى أن الماء أساس الحياة، فإنه يمكنه دون غيره من أن يجمع الكثير من المعايير الفنية في لوحة متزاوجة بين القديم والحديث وبين الطبيعة والدين إذ له القدرة كما في عقيدته إلى رفع التضاد، ودفع العوائق بينها، وامتصاص التناقض، مما خلق روح الوحدة في الطابع والطراز بشكل يمكن لمن يمتلك أدنى درجات الفن أن يميزه عن غيره، ومن هنا صح أن يوصف مثل هذا الفن بالإسلامي.
وفي توجه آخر للدلالة على وحدة الطابع المعماري في الإسلام أن هذا الفن المعماري الجديد ربط بين المسجد والكعبة بل بين المساجد كلها بشكل دائري بالكعبة، وتزاوج التعبير المعماري الأول الذي شعر به ساكن البادية من صلته بالسماء من خلال صحن داره المكشوف ورفع يديه نحوه في حالة القنوت، مع التعبير المعماري الجديد المستوحى من صلة العابد بالأرض حين السجود.
ومع اضطراد التحضر وهجرة المسلمين من البادية واستيطانهم المدن بعد انتشار الإسلام بين الأمم ذات الحضارة والعمارة الحضرية للحضارات السابقة التي كانت تعيش على أرض العراق وإيران ومصر وسوريا والروم وغيرها نشأ فن معماري ديني حضري للجوامع والمساجد والمدارس والمراقد إلى غيرها من الأبنية الدينية والرسمية. والفن المعماري الإسلامي
(306)
تمكن أن يجمع بين جديده الذي استفاده من المدن المتحضرة وبيئتها، وبين قديمه الذي كان قد تأثر بالبيئة الصحراوية.
وكان الفن المعماري الإسلامي يرتكز في أول نشأته على العناصر المعمارية والزخرفية التي تتفق وروحانيته، فخرجت منجزاته تكاد تشبه بعضها بعضاً في سائر البلاد الإسلامية مع شيء من التباين اليسير الذي تحمله كل بيئة وتختص به وتمليه مواهب أهلها الموروثة إنشاءً وعمارة وزخرفة وتقاليد، ومن هنا كان الاختلاف البسيط الذي يميز عمارة الجوامع بين قطر وآخر، وهو ما يمكن ملاحظته في المباني الإسلامية في كل من مصر وإيران وشمال افريقيا والأندلس وما وراء النهر والعراق والخليج والهند الكبرى والشامات، حيث تغلب على كل واحدة منهما الناحية المعمارية الهندسية فيها، وعلى الرغم من الاختلاف بين هذه العمارات في التفاصيل أو في العناصر المعمارية الإنشائية كمنحنيات القباب والعقود والتكوينات المعمارية للمآذن أو بعض الزخارف، إلا أنها تشترك جميعها في وحدة الروح الإسلامية الكامنة وراء التكوينات المعمارية والتشكيلات الزخرفية التي أصبحت تقليداً معمارياً يطبقه البناؤون في مشاريعهم بشكل قطري وغدت هذه الأشكال الزخرفية والتكوينات والعناصر المعمارية جزءاً من النسيج الإسلامي الذي لا يمكن اختراقه.
وقد ساعد على قيام وحدة الطابع الإسلامي ما كان من تشابه ظروف البيئة ومن ارتباط جميع الأقطار بنظام إسلامي موحد والذي تجلى في إقامة الصلاة وسائر الأمور التي لها ارتباط بالتخطيط المعماري(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع القيم الجمالية في العمارة الإسلامية: 25.
(307)


الفن المعماري الإسلامي والتأثيرات


سبق وتحدثنا في مقدمة هذا الباب بأن الفن الإسلامي قد تأثر بفنون الحضارات التي احتواها الإسلام تأثيراً خلاقاً إذ كانت ثمة عبقرية إسلامية من القوة بمكان حيث تلقي وتضيف وتقدم جديداً، ولا شك أن الأمم وحضاراتها كلها مدينة بعضها إلى بعضها الآخر في الكثير من الثقافات والفنون، وسبق وقلنا بأن الإسلام دين تطور وليس بدين جمود وتحجر، وقلنا أيضاً بأن الإسلام دين انفتاح دون انغلاق، وإنه دين التفاهم والتعاطي وقد قال تعالى: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)(1) فالقول أعم من الحديث والعمل والفكر، وفي المثل الإسلامي: «خذ الحكمة من أفواه المجانين»، وبهذا الشكل يتم التطور والتكامل.
لقد سبق وقلنا إن الإسلام دين الفطرة، والفطرة من وراء التطور والتكامل فلولاهما لما وصل العلم والحضارة إلى ما هما عليه من الازدهار والتقدم، ولا زال العلماء يواكبون مسيرتهم التطورية للوصول الأفضل والأحسن والأجمل في كل الاتجاهات، وإذا ما لاحظنا نظرية الاجتهاد – التي التزمها أتباع مدرسة أهل البيت «عليهم السلام» بتحريض منهم – فلولاها لما تطور الفقه إلى هذا الحد الذي وصل إليه، والاجتهاد لا يختص بالفقه بل بكل العلوم والفنون كما وضحنا ذلك في كتابنا الحسين والتشريع الإسلامي.
وقد بحثنا في تاريخ بعض العناصر التي أصبحت جزءاً من المراقد في مقدمة هذه الباب وبحثنا أصولها ولم نجد حرجاً لدى المسلمين من أن تكون هذه العناصر المعمارية قد استقبلتها من الحضارات التي سبقتها، وتطرقنا هناك بأن المسلمين قد أضافوا وحسنوا فيها وطوروها ثم صدروها إلى غير المسلمين، وهذا ما يمكن أن نلاحظه في الدول الغربية من منشآت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الزمر، الآية: 18.
(308)
بنيت على الطراز الإسلامي، أو تأثرت به.
وكان لإقامة الدولة أو الدول الإسلامية في إسبانيا الكبرى دور كبير في انتشار الفن المعماري في بلاد الغرب عامة، وذلك بعدما غطت المنشآت الإسلامية تلك الأراضي وبكثافة ومن النادر منها أن لا تحمل قيمة فنية وغالبها ما زالت تحتفظ بالقيمتين الإسلامية والفنية، وإن جولة في أسماء المدن لا تكفي لإحصاء هذه المعالم، وقد اعتدنا أن نردد أسماء بعض منها فعلى سبيل المثال اعتدنا ترداد اسماء: إشبيلية، غرناطة، ملقة، المرية، الماري، طرطوزة، طرقونة إلى آخرها، ولم ينحصر الفن الإسلامي في تلك البلاد في الجوامع والمدارس والقصور، بل هناك جسور وأسوار وبوابات ومنشآت حيوية أخرى يمكن ملاحظتها هنا وهناك، بل وفي الحفريات التي تقوم بها مؤسسة الآثار، وبالنسبة لهوية هذه الآثار فمن بينها ما ينسب إلى طراز شاع في جنوب إسبانيا وعرف بفن تيغاس – مالقي وطرقوني – المميز بتداخل الأجزاء وإثقال مظهرها بما يحشى ويصطنع، وفيها ما يمكن رصده من تأثر الفن الإسلامي الذي شاع في إسبانيا(1)، ومن المظاهر التي جلبت نظري في أوروبا تلك الصورة التالية من كوبن هاكين عاصمة الدانمارك.

ش571
(109)

مطعم في كوين هاكين – الدانمارك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع تطور العمارة الإسلامية في إسبانيا والبرتغال وشمال افريقيا: 138.
(309)