تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1447

وظيخها(1) طاح قد صرات سلالمه منكساً منه أعـلاها إلـى الـسفل
يا قالع الباب يا باب النجاح ومـن أوقفت دون الورى فـي بابه أملي
أرجو بك الله يـوم الشـحر ينقذني وأن يضاعف ما قد قـلّ من عملي
ولا يجبهني حيث الفضـيحـة بي أولى ويستر ما أخفيت من زللـي
ولا تكلني إلـى نفـسي وتجـعلني في كلّ حال على علياه متـّكلـي

ولمّا جرى ما جرى في ليلة الهرير وكان القتل فاشياً في عسكر معاوية كما بيّنّا أوّلاً أنّ القتلى كانت من عسكر علي عليه السلام أربعة آلاف رجل ، ومن عسكر معاوية اثنين وثلاثين ألفاً ؛ وقيل : أكثر كما ذكر فأصبح معاوية وقد أسقط في يده ، وأشرف على الهلكة ، فقال لعمرو : نفرّ أو نستأمن ؟
قال : نرفع المصاحف على الرماح ونقرأ : «ألم تر إلى الذين اوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم»(2) فإن قبلوا حكم القرآن رفعنا الحرب وواقفناهم(2) إلى أجل مسمّى ، وإن أبى بعضهم الا القتال فللنا شوكته(4)، ووقعت الفرقة بينهم .
(1) كذا في الأصل .
(2) سورة آل عمران : 23 .
(3) في المناقب : ورافعنا بهم .
(4) في المناقب : شوكتهم ، وتقع بينهم الفرقة ، وآمر بالنداء : فلسنا ولستم من المشركين ...
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1448

فرفعوا المصاحف على الرماح ، وبان من جملتها مصحف يقال إنّه مصحف الإمام وحملوه على أربعة رماح ، وأتبعوه بأربعمائة مصحف اُخرى ، ونادوا من كلّ جانب : فلسنا ولستم من المشركين ، ولا المجمعين على الردّة ، فإن تقبلوها ففيها البقاء للفرقتين وللبلدة ، وإن تدفعوها ففيها الفناء وكلّ بلاءٍ إلى مدّة .(1)
وكان جلّ عسكر أمير المؤمنين عليه السلام منافقين عليهم لعائن الله كمسعر بن فدكي ، وزيد بن حصين الطائي ، والأشعث بن قيس الكندي ، وغيرهم ، ممّن كان أشدّ الناس عداوة لأمير المؤمنين في الباطن ، وإنّما خرجوا معه تعصّباً لأنّهم كان لهم أضراب وأنداد عند معاوية ، فخرجوا حميّة لذلك وللدنيا ، ولهذا كان أكثرهم ممّن حضر حرب الحسين عليه السلام ، واستحلّوا منه كلّ حرمة ، وأظهروا له كامن عداوتهم ، فلعنة الله عليهم ، وكذلك خذلوا مسلم بن عقيل وزيد ابن علي بن الحسين حتى قتل بين ظهرانيهم ، لم يراعوا فيه حرمة جدّه رسول الله ، فلهذا رمى الله بلدتهم بالذل الشامل والسيف القاطع ، واستجاب دعاء سيّد الوصيّين صلوات الله عليه بقوله : اللهم سلّط عليهم غلام ثقيف الذيّال الميّال(2)، يبيد خضراءهم ، ويستأصل شأفتهم(3).
قيل : إنّ رجلاً من ذوي العقول من أهل الكوفة لمّا رأى سبايا الحسين عليه السلام وحرم رسول الله صلى الله عليه وآله وبناته يطاف بهنّ في شوارع الكوفة على أقتاب الجمال كاُسارى الخزر والترك عمد إلى جميع ما يملك من
(1) مناقب ابن شهراشوب : 3 / 182 .
(2) الذيّال : الذي يجرّ ذيله على الأرض تبختراً . والميّال : الظالم .
(3) نهج البلاغة : 174 خطبة رقم 117 ، شرح نهج البلاغة : 7 / 277 ، الكامل في التاريخ : 4 / 587 ، البحار : 34 / 91 ح 941 ، وج 41 / 332 ح 54 ، وج 66 / 327 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1449

عقار وغيره فباعه وارتحل عنها ، وقال : بلد يطاف فيه بعيال رسول الله ونسائه ، وترفع رؤوس رجالهم على رؤوس الرماح لا يفلح أبداً ، فما عسى أن يقال في بلدة خذل أهلها الوصيّ المرتضى ، ونافقوا سبط خاتم الأنبياء ، وراموا قتله ، وانتهبوا ثقله ، ونكثوا بيعته ، ثمّ كانت واقعة سيّد الشهداء ، وقرّة عين سيدّة النساء ، وخامس أصحاب الكساء ، كاتبوه ووعدوه النصر على عدوّه ، فجرّدوا عليه سيوفهم وعواملهم ، وقتلوه عطشاناً ، وسبوا ذراريه ونساءه ، ليس منهم رجل رشيد ينكر فعلهم ، بل ضربت عليهم الذلّة وشملهم خزي الدنيا «ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون»(1)؟
فلهذا منعهم الله لطفه ، وأحلّ بهم غضبه ، وسلّط عليهم غلام ثقيف الذي توعّدهم به أمير المؤمنين ، وزياد بن اُميّة ، وغيرهم ، من الخارجين في الاسلام حتى صارت براحاً كأن لم تغن بالأمس(2).
روي أنّه مات في سجن الحجّاج مائة وعشرون ألف من غير قتل(3)، وكان سجنه ليس له سقف يضلّ وحرٍّ أو قرّ ، وكان عليه لعنة الله لا يرفع عنهم سيفه ولا سوطه ، وكان لا يخاطبهم الا بالتهديد والوعيد ويقول : يا أهل العراق ، ياأهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق ، إنّه قد ضاع سوطي فأقمت مقامه السيف ، والله لأُلحوَنّكم لَحوَ العَصا(4)، ولأضربنّكم ضرب غرائب الإبل ، ولمّا تجهّز عليه اللعنة إلى حرب الأزارقة قال : والله لا أرى أحداً منكم بعد ثلاث الا
(1) سورة فصّلت : 16 .
(2) إشارة إلى الآية : 24 من سورة يونس .
(3) انظر : الكامل في التاريخ : 4 / 587 .
(4) انظر الكامل في التاريخ : 4 / 376 ـ 377 .
واللحاء : ما على العَصا مِن قشرها .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1450

ضربت عنقه ، ثمّ بعد ثلاث سار في أزقّة الكوفة فلم ير أحداً ، وكان الرجل منهم يرسل أمته من منزل العسكر لتلحقه بزاده ولا يجسر على الدخول لذلك .
وهذا معنى قول أمير المؤمنين صلوات الله عليه : إنّي والله ـ يا أهل الكوفة ـ أعلم ما يصلحكم ، ولكنّي لا اُفسد نفسي بصلاحكم .(1)
معنى كلامه عليه السلام : انّه لا يقيم أودهم الا الظلم والعسف والقتل كما فعل الحجّاج وغيره بهم ، ولو كان الايمان قد أثلج في قلوبهم ، والاخلاص قد باشر نيّاتهم ، لابتغوا الدليل المرشد ، والهادي الناصح ، والمعلّم المشفق ، الذي جعله الله لسانه في خلقه ، وعينه في عباده ، وأيّده بالعصمة ، وقلّده أحكامه ، لا يوازي في العلم ، ولا يضاهى في المجد ، فنافقوه وخذواه وغدروا به بعد أن لاحت علامات النصر ، وسطعت أنوار الفتح ، وطلع فجر الحقّ ، وأشرف صلوات الله عليه بثبات جأشه ، وقوّة نصيحته ، وحياطته للاسلام وأهله ، على إدحاض الباطل وجدّ أصله ، واستئصال شأفته ، فتقاعسوا عن نصره ، وأظهروا مكنون نفاقهم ، وأبدوا مستور شقاقهم ، وقالوا ما قالوا ، وواجهوه بما واجهوا ، فعليهم لعائن الله ما أخبث نيّاتهم ، وأدغل قلوبهم ، وأعظم فتنتهم ، فلهذا أنزل الله بهم ما أنزل ، وأحلّ بهم ، فلا تراهم إلى الناس الا مقهورين مضطهدين تسومهم الاعتام سوء العذاب ، ويفتح عليهم من الأذى كلّ باب ، لا يخصلون من فتنة الا
(1) انظر : نهج البلاغة : 99 خطبة رقم 69 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1451

وقعوا فيما هو أعظم منها ، ولا ينجون من ظالم الا أتاهم ظالم ينسيهم ذكر الظالم الأوّل .
روي أنّ مسعر بن فدكي وزيد بن حصين الطائي والأشعث بن قيس وكانوا من جلّة عسكر أهل العراق قالوا لأمير المؤمنين لمّا رفعت المصاحف : أجب القوم إلى كتاب الله .
فقال أمير المؤمنين عليه السلام : ويحكم والله ما رفعوا المصاحف الا خديعة ومكيدة حين علوتموهم .
وقال خالد بن معمّر السدوسي : يا أمير المؤمنين ، أحبّ الامور إلينا ما كفينا مؤنته .
فلمّا سمع عسكر أهل العراق كلامهم أقبل إلى أمير المؤمنين منهم عشرون ألفاً يقولون : يا عليّ ، أجب القوم إلى كتاب الله إذ دعيت والا دفعناك برمّتك إلى القوم ، أو نفعل بك كما فعلنا بعثمان .
فأجابهم صلوات الله عليه ، فقال : احفظوا عنّي مقالتي فإنّي آمركم بالقتال ، فإن تعصوني فافعلوا ما بدا لكم .
قالوا : فابعث إلى الأشتر ليأتيك ، فبعث يزيد بن هانئ السبيعي يدعوه .
فقال الأشتر رضي الله عنه : قد رجوتُ أن يفتح الله لا تعجلني ، وشدّد في القتال ، فقالوا حرّضته على الحرب ، ابعث إليه بعزيمتك فليأتيك والا والله اعتزلناك(1).
فقال أمير المؤمنين عليه السلام : يا يزيد ، عد إليه فقل له : أقبل إلينا فإنّ
(1) كذا في المناقب ، وفي الأصل : اغترفناك .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1452

الفتنة قد وقعت .
فأقبل الأشتر يقول : يا أهل العراق ، يا أهل الذلّ والوهن ، أحين علوتم القوم وعلموا أنّكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف خديعة ومكراً ؟
فقالوا : قاتلناهم في الله ونصالحهم في الله .
فقال : امهلوني ساعة ، أحسست بالفتح ، وأيقنت بالظفر .
قالوا : لا .
قال : أمهلوني عدوة فرسي .
فقالوا : إنّا لسنا نطيعك ولا لصاحبك ، ونحن نرى المصاحف على رؤوس الرماح ندعى إليها .
فقال : خدعتم والله فانخدعتم ، ودعيم إلى وضع الحرب فأجبتم .
فقام جماعة من بني بكر بن وائل ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، إن أجبت القوم أجبنا ، وإن حاربت حاربنا ، وإن أبيت أبينا .
فقال أمير المؤمنين عليه السلام : نحن أحقّ من أجاب إلى كتاب الله ، وإنّ معاوية وعمرواً وابن أبي معيط وحبيب بن مسلمة وابن أبي سرح والضحّاك بن قيس ليسوا بأصحاب دين وقرآن ، أنا أعرف منكم بهم ، قد صحبتهم أطفالاً ورجالاً ـ في كلام له ـ ، ثمّ اتّفقوا على أن يقيموا حكمين ، فقال أهل الشام : قد اخترنا عمرواً .
فقال الأشعث وابن الكوّاء ومسعر بن فدكي وزيد الطائي : نحن اخترنا أبا موسى .
فقال أمير المؤمنين عليه السلام : إنّكم عصيتموني في أوّل الأمر فلا
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1453

تعصوني الآن .
فقالوا : إنّ أبا موسى كان يحذّرنا ممّا وقعنا فيه .
فقال أمير المؤمنين عليه السلام : إنّه ليس بثقة ، إنّه فارقني وخذّل الناس عنّي ، ثمّ هرب منّي حتى أمنته بعد شهر ، ولكن هذا ابن عبّاس اولّيه ذلك .
فقالوا : ما نبالي أنت كنت أو ابن عبّاس .
قال : فالأشتر .
فقال الأشعث : رجل مسعر حرب وهل نحن(1) الا في حكم الأشتر ؟
قال الأعمش : حدّني من رأى عليّاً عليه السلام يوم صفّين وهو يصفق إحدى يديه على الاُخرى ويقول : يا عجباً اُعصى ويطاع معاوية ! ثم قال : قد أبيتم(2) الا أبا موسى ؟
قالوا : نعم .
قال : فاصنعوا ما بدا لكم ، اللهم إنّي أبرأ إليك من صنيعهم .
فقال خريم(3) بن فاتك الأسدي :
لو كان للقوم رأي يرشدون بـه أهل العراق رموكم بابن عبّـاس
لكن رموكم بشيخ من ذوي يمنٍ لم يدر ما ضرب أخماس بأسداس

فلمّا اجتعموا كان كاتب أمير المؤمنين عليه السلام عبيد الله بن أبي رافع ، وكاتب معاوية عمير بن عبّاد الكلبي ، فكتب عبيد الله بن أبي رافع : هذا ما
(1) كذا في المناقب ، وفي الأصل : يجز .
(2) كذا في المناقب ، وفي الأصل : قال : رمتم .
(3) كذا في أعيان الشيعة : 6 / 315 ، وفي الأصل والمناقب ، خزيم .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1454

تقاضى عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان .
فقال عمرو : اكتبوا اسمه واسم أبيه هو أميركم أمّا أميرنا فلا .
فقال الأحنف : لا تمسح إمارة المؤمنين ، فلم يقبلوا منه .
فقال أمير المؤمنين : امح نزحة الله ، ثم قال أمير المؤمنين عليه السلام(1): الله أكبر ، واحدة بواحدة ، وسنّة بسنّة ، ومثل بمثل ، إنّي لكاتب رسول الله يوم الحديبيّة .
روى أحمد في المسند(2) أنّ النبي صلى الله عليه وآله أمر أمير المؤمنين عليه السلام أن يكتب يوم الحديبيّة : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال سهيل بن عمرو : هذا كتاب بيننا وبينك فافتحه بما نعرفه ، واكتب : باسمك اللهم ، هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسهيل بن عمرو وأهل مكّة .
فقال سهيل : لو أجبتك إلى هذا لأقررت لك بالنبوّة .
فقال : امحها يا عليّ ، فجعل أمير المؤمنين يتلكّأ ويأبى فمحاها النبي صلى الله عليه وآله ، وكتب : هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله بن عبد المطّلب وأهل مكّة .
روى محمد بن إسحاق ، عن بريدة بن سفيان ، عن محمد بن كعب أنّ النبي صلى الله عليه وآله قال لعليّ : فإنّ لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد(3).
(1) في المناقب : لا تمح إمارة المؤمنين ، امح نزحه من الله ، فقال علي عليه السلام .
(2) مسند أحمد : 4 / 86 ـ 87 .
(3) انظر فيه وفيما يليه : وقعة صفّين : 509 ، تفسير القمّي : 2 / 313 ، خصائص النسائي : 152 ح 186 ، المسترشد : 70 ، دلائل النبوّة للبيهقي ، 4 / 147 ، إرشاد المفيد : 63 ، تنزيه الأنبياء ، 148 ، الذخيرة 406 ، أمالي الطوسي : 1 / 191 ، مناقب الخوارزمي : 193
=
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1455

الماوردي في أعلام النبوّة أنه قال صلى الله عليه وآله : ستسأم مثلها يوم الحكمين .
وفي رواية : ستدعى إلى مثل هذا فتجيب وأنت على مضض .
وفي رواية : إن لك يوماً ـ يا عليّ ـ مثل هذا اليوم ، أنا أكتبها للآباء ، وأنت تكتبها للأبناء .
فقال عمرو : يا سبحان الله ! نشبّه بالكفّار ونحن مسلمون مؤمنون .
فقال عليه السلام : يا ابن الباغية(1)، أو لم تكن للمشركين وليّاً وللمؤمنين عدوّاً ؟ أو لم تكن في الضلالة رأساً وفي الاسلام ذنباً ؟ ـ في كلام له ـ فكتبوا أن يحكموا بما في كتاب الله وينصرفوا والمدّة بينهم سنة واحدة كاملة ويكون مجتمع الحكمين بدومة الجندل .
فلمّا اجتمعا قال عمرو لأبي موسى : نخلع هذين الرجلين ونختار لهذه الاُمّة ، فأجابه أبو موسى إلى ذلك وقال : سمّ لي رجلاً يليق لهذا الأمر .
قال عمرو : يا أبا موسى ، أنت أولى أن تسمّي رجلاً يلي أمر هذه الاُمّة ، فإنّي أقدر على أن اُبايعك منك على أن تبايعني .
قال أبو موسى : اُسمّي لك عبد الله بن عمر .
= ح 231 ، مجمع البيان : 5 / 119 ، إعلام الورى : 106 و191 ، الخرائج والجرائح : 116 ح 192 ، الكامل لابن الأثير : 2 / 204 ، وج 3 / 320 ، مناقب ابن شهراشوب : 3 / 184 ، شرح نهج البلاغة : 2 / 232 ، الفصول المهمّة : 97 ، كشف الغمّة : 1 / 210 ، سبل الهدى : 5 / 123 .
(1) في المناقب : النابغة .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1456

فقال عمرو : فإنّي اُسمّي لك معاوية بن أبي سفيان .
وفي رواية : انّ عمرو قال : إنّهما ظالمان فإنّ عليّاً آوزى قتلة عثمان ، وأمّا معاوية فخذله ، فنخلعهما ونبايع عبد الله بن عمر لزهادته واعتزاله عن الحرب .
فقال أبو موسى : نعم ما رأيت .
قال : فإنّي قد خلعت معاوية فاخلع أنت عليّاً ، وإن شئت فاخلعه غداً ، فإنّه يوم الاثنين ، وكان ذلك بينهما ، فلمّا أصبحا خرجا إلى الناس ، فقالا : قد اتّفقنا ، فقال أبو موسى : تقدّم فاخلع صاحبك بحضرة الناس .
فقال عمرو : سبحان الله ! أتقدّم عليك وأنت في موضعك وسنّك وفضلك مقدّم في الإسلام والهجرة ، ووافد رسول الله صلى الله عليه وآله إلى اليمن ، وصاحب مقاسم أبي بكر ، وعامل عمر ، وحكم أهل العراق ، فتقدّم أنت ، فقدّمه .
فقال أبو موسى لعنه الله : إنّا والله ـ أيها الناس ـ قد اجتهدنا رأينا ولم نر أصلح للاُمّة من خلع هذين الرجلين ، وقد خلعت عليّاً ومعاوية كخلع خاتمي هذا .
فقال عمرو : لكنّي خلعت صاحبه كما خلع واُثبت معاوية كخاتمي [هذا](1)، وجعله في شماله .(2)
فلعنة الله على عمرو وصاحبه . فوالله لقد علما الحقّ وأنّه مع أمير المؤمنين
(1) من المناقب .
(2) مناقب ابن شهراشوب : 2 / 182 ـ 185 ، عنه البحار : 33 / 312 ـ 314 إلى قوله : «وأنت مضطهد» .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1457

يدور حيث ما دار ، وأنّه كتاب الله الناطق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ولكن الحقد القديم ، والنفاق الكامن ، والميل مع الدنيا وأهلها كيف مالت ، والشيطان المغويّ .
فلعنة الله عليهم كأنّهم لم يسمعوا قول الله سبحانه : «يا أيّها الذين آمنوا اتّقوا الله وكونوا مع الصادقين»(1) وقوله سبحانه : «أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يُتّبع أم من لا يهدّي الا أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون»(2) وقوله سبحانه : «تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتّقين»(3) بلى والله سمعوها ووعوها ـ كما قال أمير المؤمنين ـ ولكن حلت الدنيا في أعينهم ، وراقهم زبرجهاز(4)، وعدلوا بالحقّ عن أهله ، ووضعوه في غير محلّه ، واتّبعوا كلّ ناعق ، واقتدوا بكلّ ناهق .
وتبّاً لدنيا يقدّم فيهاالأشرار على الأخيار ، والأوغاد على الأبرار ، وسحقاً لاُمّة عدلت سيّد الخلق وأعلمهم وأفضلهم ، وأكملهم علماً وحلماً ، وطاعة لله ، وحياطة لرسول الله ، ونصراً للاسلام وأهله ، وجهاداً في الله ، وقرباً من رسول الله صلى الله عليه وآله ، أوّل الناس إسلاماً ، وأقربهم من الله مقاماً ، لم يشرك بالله طرفة عين ، ولّاه الله أمر خلقه في كتابه ، وأقامه إماماً لبريّته في تنزيله وعلى لسان رسوله ، فقام بأمر الله صادعاً ، وبالحقّ ناطقاً .
كم غرّر نفسه في المهالك لإقامة دين الحقّ ؟ وكم قذف بذاته في أضيق
(1) سورة التوبة : 119 .
(2) سورة يونس : 35 .
(3) سورة القصص : 83 .
(4) نهج البلاغة : 49 ـ 50 خطبة رقم 3 . والزِبرِج : الزينة من وَشي أو جوهر .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1458

المسالك في الحروب لإعلاء كلمة الصدق ؟ حتى قتل أبطال المشركين ، وكسر أصنام الملحدين ، وأدخل الناس في دين الله أفواجاً ، بمن لا يعادل عند الله جناح بعوضة ، أجهل الخلق أباً واُمّاً ، وألأمهم أصلاً وفرعاً ، ربّي في حجر الشرك ، ونشي في مهد الكفر ، وارتضع ثدي النفاق ، فرع الشجرة ، وأصل الفجرة ، ورأس المنافقين ، وأساس القاسطين ، الذي لعنه رسول الله صلى الله عليه وآله ولعن أباه وابنه في قوله : اللهم العن الراكب والقائد والسائق(1).
فتبّاً لها اُمة ضالّة ، وسحقاً لها طائفة عن الحق عادلة ، ما أشدّ جهلها ، وأسفه حملها ، وأضعف عقولها ، وأخسر صفقتها ، وأكسد تجارتها ؟ إذ عدلت عن مهابط التنزيل إلى مواطن الأباطيل ، وعن أعلام الإيمان إلى أحزاب الشيطان ، واستبدلوا بالدرّ الثمين السرجين ، واتّبعوا ما يتلو الشيطان(2).
روي في معنى قوله سبحانه : «ومن الناس من يعبد الله على حرف»(3) أنّه كان أبو موسى وعمرو .
وروى ابن مردويه بأسانيده عن سويد بن غفلة ، قال : كنت مع أبي موسى على شاطئ الفرات ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : إنّ بني إسرائيل اختلفوا فلم يزال اختلاف بينهم حتى بعثوا حكمين ضالّين ضالّ من اتّبعهما ، ولا تنفكّ اُموركم تختلف حتى تبعثوا حكمين يضلّان ويضلّ من تبعهما .
(1) وقعة صفّين : 220 ، عنه البحار : 33 / 190 ، والمقصودون هم : أبو سفيان ، ومعاوية وأخوه .
(2) إقتباس م نالآية : 102 من سورة البقرة .
(3) سورة الحجّ : 11 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1459

فقلت : اُعيذك بالله أن تكون أحدهما .
قال : فخلع قميصه وقال : برّأني الله من ذلك كما برّأني من قميصي(1). اللهم العن عمرواً وأبا موسى ، ومن أشار بتحكّمهما ، ورضي بحكمهما ، وصوّب اجتهادهما ، وحسّن رأيهما ، وشكّ في نفاقهما ، وحصّر لعنهما ، إنّك أشدّ بأساً وأشدّ تنكيلاً .
ولمّا رجع أمير المؤمنين عليه السلام بعد التحكّم إلى الكوفة اجتمعت الفرقة المارقة عن الايمان ، أهل الزيغ والبهتان ، وقالوا : إنّ عليّاً قد حكم في دين الله ، وكلّ من حكم في دين فقد كفر ، لقوله سبحانه : «ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الكافرون»(2) ودخلت عليهم الشبهة في ذلك ، فهم الضالّون المضلّون الذين قال الله فيهم : «قل هل ننبّئكم بالأخسرين أعمالاً ـ قال أمير المؤمنين لمّا سئل عن معناها : هم أهل حروراء ، ثم قال : ـ الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً ـ في قتال أمير المؤمنين عليه السلام ـ اولئك الذين كفروا بآيات ربّهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً ذلك جزاؤهم جهنّم بما كفروا ـ بولاية عليّ بن أبي طالب ـ واتّخذوا آياتي ـ القرآن ـ ورسلي ـ يعني محمّداً ـ هزواً»(3) واستهزؤا(4) بقوله صلى الله عليه وآله : من كنتُ مولاه فعليّ مولاه .
(1) مناقب ابن شهراشوب : 3 / 181 ـ 182 ، عنه البحار : 33 / 311 ـ 312 ح 562 .
وانظر : تاريخ اليعقوبي : 2 / 190 ، ومروج الذهب : 2 / 403 .
(2) سورة المائدة : 44 .
(3) سورة الكهف : 103 ـ 106 .
(4) كذا في المناقب ، وفي الأصل : استهزاء .

السابق السابق الفهرس التالي التالي