تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1247

يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، لا تشارك في وجوب وجودك ، ولا تضاهي في فضلك وجودك ، ولا يخرج عن سلطانك قويّ ولا ضعيف ، ولا يفلت من قبضتك دنيّ ولا شريف ، ولا يخرج عن إحصائك وفيّ ولا طفيف ، أنت الظاهر ببديع قدرتك ، القاهر بعموم ربوبيّتك ، حكمتَ بالموت ، وقضيتَ بالفوت ، فلا رادّ لقضائك ، ولا مفرّ من بلائك .
سبحانك أخرجتنا من عالم الغيب إلى عالم الشهادة ، وقضيتَ لنا في دار بلائك الحسنى وزيادة ، وجعلتَ لناأرضك فراشاً ، وسخّرت لنا من رزقك معاشاً ، وركبت فينا أدوات معرفتك ، وآلات عبادتك ، من عقول كاملة ، وأركان عاملة ، وجوارح مطيعة ، وقوىً مستطيعة .
وأودعت في أجسادنا من عجائب حكمتك ، وغرائب صنعتك ، أعدل شاهد على وحدانيّتك ، وأكبر دالّ على فردانيّتك ، من آلات بسط وقبض ، ورفع وخفض ، وحركة وسكون ، وظهور وبطون ، وطبائع مصرفة ، وقوىً مختلفة ، من باصرة وسامعة ، ومفرّقة وجامعة ، وماسكة ودافعة ، وموصلة ومانعة ، وذاكرة وحافظة ، وذائقة ولافظة .
ونصبت لنا من خواصّك أعلاماً جعلت قلوبها مواطن حبّك ، ومعادن قربك ، لما فازت بالدرجة العليّة من فيضان عنايتك ، وشربت بالكأس الرويّة من شراب محبّتك ، أطربها بلبل دوح عرفانك تشتهي نغمته ، وأرقّها صوت مجيد فرقانك بفصيح كلمته ، فطالعت جلال جمالك بأبصار بصائرها ، وشاهدت أنوار تجلّيات عظمتك بأفكار سرائرها ، فجرت في مضمار عشقها إلى حضيرة قدسك ، وسلكت بقدم صدقها إلى مقام اُنسك ، لم تقصر قواها عن الترقّي في مدارج السلوك بتوفيقك وتأييدك ، ولم تختلجها عوارض الشكوك بإرشادك
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1248

وتسديدك ، حتى إذا وردت عن اليقين ورداً وصدراً ، وكشف بها الحقّ المبين عن غوامض أسراره حجاباً وستراً ، وصار المحبّ حبيباً ، والطالب مطلوباً .
جعلتهم معادن علمك ، ومواضع حكمك ، وتراجمة وحيك ، وسفرة أمرك ، وعصمتهم من كلّ عيب ، ونزّهتهم من كل ريب ، وتوّجهتهم بتاج عنايتك ، وأفرغت عليهم خلع كرامتك ، وأسريت بهاديهم إلى الصفيح الأعلى ، وسموت بساميهم إلى المقام الأدنى ، وأطلعته على أسرار ملكوتك ، وشرّفته بخطاب حضرة جبروتك ، ووسمته بخاتم النبيّين ، وسمّيته بأحمد ومحمد وطه وياسين ، وجعلته أفضل أهل السماوات وأهل الأرضين ، وأيّدته بوليّك سيّد الوصيّين ، وفرضت ولاءها وولاء أهل بيتهما على عبادك أجمعين ، فقلت : «يا أيها الذين آمنوا اتّقوا الله وكونوا مع الصادقين»(1).
فمن سلك سبيلهم ، واقتفى دليلهم ، فهو ممّن ألحقته جناح رحمتك ، وأورثته نعيم جنّتك ، ورقمت اسمه في جرائد المنتجبين من خواصّك ، وأثبتّ وسمه في صحائف الموسومين بإخلاصك .
ومن تولّى عن أمرهم ، وأنكر عنهم برّهم ، وتوالى من جرت عليه نعمتهم ، وعظمت لديه مننهم ، واستطال على الناس برفيع مجدهم ، واشتهر بالباس بغرار حسدهم ، وتاه في ظلمة ضلالته ، وغرق في لجّة جهالته ، فهو ممّن قلت فيه : «يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين
(1) سورة التوبة : 119 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1249

آمنوا سبيلاً اولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً»(1) «يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد اُمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلّهم ضلالاً بعيداً وإذا قيل لهم تعالَوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رايت المنافقين يصدّون عنك صدوداً»(2) «اولئك الذين كفروا بآيات ربّهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهمه يومالقيامة وزناً ذلك جزاؤهم جهنّم بما كفروا واتّخذوا آياتي ورسلي هزواً» .(3)
اللهم إنّا لا نعلم نبيّاً من أنبيائك ، ولا نعتقد وليّاً من أوليائك ، ولا ملكاً من حملة عرشك ، ولا هابطاً بوحيك وأمرك ، ولا أميناً على غيبك وسرّك ، أفضل لديك من نبيّك المصطفى ، وأمينك المجتبى ، الذي انتجبته لرسالتك ، واصطفيته بكلمتك ، وختمت به أنبياءك ، ووصيّه الذي اخترته لخلافتك ، وقرنت طاعته بطاعتك ، وضرته مثلاً في محكم تنزيلك ، وشددت به عضد نبيّك ورسولك ، وأيّدته بالفضل والحكم ، وآتيته بسطة في العلم والجسم ، وهزمت بجدّه الأحزاب ، وقصمت بسيفه الأصلاب ، وجعلت حبّه فارقاً بين الكفر والإيمان ، وحبّه وسيلة إلى الفوز بنعيم الجنان .
لا نعقتد ذنباً بعد الإلحاد في آياتك ، والجحود لصفاتك ، وادّعاء إلهاً سواك ، والتكبّر على جلالك وعلاك ، أعظم ولا أكبر ، ولا أوثق ولا أشقّ ، من ذنب من وضع من قدره ، واجترى عليه بكفره ، وقدّم عليه من لا يعادل عند الله شسع نعله ، وأخرّه عمّن ليس له فضل كفضله ، ولا أصل كأصله ، وجحد نصّ رسولك ،
(1) سورة النساء : 51 و52 .
(2) سورة النساء : 60 و61 .
(3) سورة الكهف : 105 و106 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1250

وحرّف آيات تنزيلك ، وشهد أنّ طاعتك مقرونة بطاعته ، وولايتك مشروطة بولايته ، إذ هو «اولوا الأمر» الذي أمرت باقتفاء أثره ، ونوّهت في كتابك بذكره ، وأمرت نبيّك بأن يأخذ ميثاق خلافته على كل مقرّ بوحدانيّتك ، معتقد لربوبيّتك ، فمن ردّ مقال رسولك ، وسلك غير سبيلك ، فهو ممّن قلّدته لعنتك ، ووعدته نقمتك ، وأعددت له أليم عذابك ، ووخيم عقابك .
ونشهد أنّه سبيلك القويم ، وصراطك المستقيم ، ونشهد أنّ من ابتزّه سلطانه غاصباً ، وتسمّى باسمه كاذباً ، وأنكر ما أوصيت من فرض ولايته ، وأخفى ما أظهرت من حقّ خلافته ، فقد بعد من الصواب ، وحقّت عليه كلمة العذاب ، فلا عذاب أعظم من عذابه ، ولا عقاب أنكى من عقابه ، إذ الثواب والعقاب على مقدار الفعل المكتسب في دار البلاء ، ومحلّه الابتلاء ، ومن جحد الوصيّ منزلته ، وردّ على الرسول مقالته ، وأوّل نصّ الكتاب بالتأويل الواهي ، والخيال الساهي ، وقدّم من يستحقّ التأخير لنقصه ، وأخّر من قدّم الله ورسوله منصبه ، ونصب العداوة لأهل بيت نبيّه ، وجحد الولاية بضلاله وغيّه ، وعدل بميراث الرسول عن أهله ، ووضعه في غير محلّه ، فهو ممّن أنكر اصول الايمان ، وانتظم في مسلك عبدة الأوثان ، وأعداء الرحمن ، ومقرّه في الدرك الأسفل ، وجزاؤه العذاب الأطول ، يتعوّذ فرعون وهامان من عذابه ، وينفر عبدة الأوثان من أليم عقابه .
كما ذكرت هنا في فقرات نثري ، وأوردت قديماً في خطبي وشعري ، مخاطباً من تجرّأ على الله والرسول ، وغصب حقّ الوصي والبتول :
غرّتك دنياك فصرت حاكماً وللوصيّ والـبتول ظـالما
وللنبيّ المصطفى مخاصماً فسوف تصلى بعد ذا سعيرا
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1251

عقوبة الذنب مـن الـله على مقدار ذنب العبد في دار البلا
وظلم من يؤذي النبي المرسلا هل فوقه ظلم فـكن بـصيرا

اللهم فكما جعلتنا من المتمسكين بحبل نبيّك وعترته ، والمستظلّين بظلال وليّك وذرّيّته ، المعتصمين بمعاقل محبّيهم ، الموسومين بخاصّة شيعتهم ، الواثقين بعروة عصمتهم ، السالكين واضح طريقتهم فصلّ على محمد وآله ، وأمتنا على الحق الذي هديتنا إليه من عرفان حقّهم ، وابعثنا على النهج الذي نحن عليه من الاقرار بصدقهم ، ومتّعنا بالنظر إلى جلال جمالهم في حشرنا ، واجعلهم شفعاءنا إليك يوم نشرنا ، وارزقنا منازل السعداء ، واسقنا من حوضهم شربة لا نظمأ بعدها أبداً ، إنّك على كلّ شيء قدير ، وبالاجابة جدير ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1252


تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1253

المجلس الثالث

في ذكر شيء من فضائل أمير المؤمنين ، وذكر أدلّة شريفة
على فرض إمامته ، والاستدلال على كفر من أنكر نصّ
خلافته ، وذكر طرف من ظلامة سيّدة النساء صلوات
الله عليها ، وذكر وفاتها ، ووفاة أمير المؤمنين
صلوات الله عليه وعلى أبنائه الطاهرين

الخطبة

الحمد لله الذي أسبغ علينا فضله العميم ، وأسدى إلينا برّه الجسيم ، وهدانا صراطه المستقيم ، وسلك بنا سبيله القويم ، وجعلنا من اُمّة رسوله الكريم ، وشيعة وليّه الأوّاه الحليم ، أعني سيّد الوصيّين ، وإمام المتّقين ، وحبل الله المتين ، ونوره المبين ، عليّ أمير المؤمنين ، المغصوب أمره ، المجهول قدره ، المشهور فضله ، المنشور عدله ، المظلوم حقّه المكذوب صدقه ، المقتول في محرابه ، المهدوم ركن الاسلام بمصابه ، أفضل من ارتدى بالخلافة واتّزر ، وأشرف من تسمّى بالإمامة واشتهر ، صنو الرسول ومواريه في رمسه ، وصارمه المسلول
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1254

ومواسيه بنفسه .
كم ركن للشرك هدم ، وركن صلب للكفر قصم ، وكم أدحض للجهل حجّة ، وكم أمعن للبغي مهجة ، وكم أخفى للنفاق محجّة ، وكم أفاء الله على المسلمين بسيفه أموراً ودياراً وحدائق ذات بهجة .
كتب الله بيد عظمته منشور ولايته ، وختم بطابع عنايته توقيع خلافته ، وأوجب فرض ولايته على كافّة بريّته ، وجعل الرئاسة العامّة إلى يوم القيامة فيه وفي ذرّيّته ، «إنّما وليّكم»(1) تاج سلطانه ، و«قل لا أسألكم»(2) خلعة عظيم شأنه ، وآية النجوى في حلية الفخر جواد سباقه ، وسورة هل أتى في عرصة المجد ميدان انطلاقه .
قرن الشمس مقعد أصله ، وهامة السماك مركب فضله ، عدله عميم ، وفضله عظيم ، ونوره تامّ ، وجوده عامّ ، وعلمه بحر زاخر ، وكفّه وجود هامر ، ولفظه ؤلؤ منثور ، وعزمه سيف مشهور ، وحبّه شرف وفخر ، وبغضه نفاق وكفر .
يعشق جماله قلبي ، ويعتقد كماله لبّي ، ويهوى ذكره لساني ، ويعتاد شكره جناني ، ويحلو تكرّر لفظه في لهواتي ، ويجلو فصيح وعظه كرباتي ، كلامه شفاء غمومي ، وخطبه مجلية همومي ، ونهج بلاغته سبيل بلاغتي ، موغرر درره حلية فصاحتي ، ينشي مدحه نشوات السرور في فؤادي ، ويستعذب وصفه دقيق فكري في إصداري وإيرادي .
إن نابني من عدوّي ناب وظفر ، فزعت غلى الدعاء باسمه في الجهر
(1) سورة المائدة : 55 .
(2) سورة الشورى : 23 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1255

والسرّ ، ليجعل الله معاندي بصواعق توسّلاتي مقهوراً ، وبسهام دعواتي محسوراً ، ويطرق لعيني مذؤوماً مدحوراً ، وأن يردّ الذي كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً(1).
اللهم اجعل كيده في تضليل ، وأرسل عليه حجارة من سجّيل(2)، وشهباً ثاقبة يضعف عن تحمّل سعيرها الطوق ، وسحائب هلكه برد بارودها بمطر من تحت إلى فوق .
اللهم أرسل عليه شواظاً من نار ونحاس(3)، وبنادق من رصاص تتركه كهشيم المحتظر(4)، ولا توفّقه للتوبة ، ولا ترشده للأوبة ، وصمّ سمعه عن سماع نصيحتي ، ولا تنفعه بتبياني وتذكرتي ، حتى تخرجه من دار الفناء وأنت عليه غضبان ، وتصليه جهنّم وقلبه غير مطمئنّ بالإيمان .
ربّنا أفرغ علينا صبراً على ظلمه ، وأعظم لنا من لدنك أجراً على هظمه ، واجعل لنا اُسوة بنبيّك وأهل بيته الأطهار ، وارفع لنا عندك درجة في منازل الأبرار ، إنّك ذو الفضل الجزيل ، والصنع الجميل .
روي عن شمس فلك النبوّة ، وروح جسد الفتوّة ، ومن أعلى الله على كلّ علوّ علوّه ، واسمى على كلّ سموّ سموّه ، بلبل دوح «اقرأ وربّك الأكرم»(5)، قارئ لوح «وعلّمك ما لم تكن تعلم»(6)، صدر مجلس «ألم نشرح لك
(1) إقتباس من الآية : 25 من سورة الأحزاب .
(2) إقتباس من الآية : 2 و4 من سورة الفيل .
(3) إقتباس من الآية : 35 من سورة الرحمن .
(4) إقتباس من الآية : 31 من سورة القمر .
(5) سورة العلق : 3 .
(6) سورة النساء : 113 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1256

صدرك»(1)، بدر مشرق «ورفعنا لك ذكرك»(2)، تاج نبوّته «ما كان محمّد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيّين»(3)، ومنهاج ملّته «ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين»(4)، وقسم رسالته «يس والقرآن الحكيم إنّك لمن المرسلين»(5)، وصحيفة أدبه «خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين»(6) ، ومعراج رفعته «سبحان الذي أسرى»(7)، وكمال معرفته «سنقرئك فلا تنسى»(8) .
رسخت قدمه في صعيد المجد الأطول ، وشمخت شجرته في روضة الشرف الأعبل ، طار بقوادم التقديم لمّا اُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وفاز بدرجة التعظيم لمّا وطئ بأخمصه بساط العزّة والكبرياء ، ونودي في ذلك المقام : دس البساط بنعليك ، وخوطب بلسان الحال : «إنّا أوحينا»(9) النبيّون طلائع جنودك ، والكروبيّون مقدّمة عديدك ، و«إنّا فتحنا»(10) علم نصرتك وتأييدك ، «ولسوف يعطيك ربّك فترضى»(11) علامة رفعتك وتمجيدك .
(1) سورة الشرح : 1 .
(2) سورة الشرح : 4 .
(3) سورة الأحزاب : 40 .
(4) سورة آل عمران : 85 .
(5) سورة يس : 1 ـ 3 .
(6) سورة الأعراف : 199 .
(7) سورة الإسراء : 1 .
(8) سورة الأعلى : 6 .
(9) سورة النساء : 163 .
(10) سورة الفتح : 1 .
(11) سورة الضحى : 5 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1257

الدنيا والآخرة في قبضة حكمك ، وعلوم الأوّلين والآخرين كالقطرة في بحر علمك ، لم أخلق خلقاً أكرم منك عليّ ، ولم اُنشئ نشأً أدنى منك إليّ ، السبع الطباق ميدان سباق ، وسدرة المنتهى غاية براقك ، شجرتك في دوحة المجد نسقت ، ونبعتك في ربوة العزّ سمقت ، قلبك خزانة علمي ، وشرعك مناط حكمي ، ويمنك موضع سرّي ، وأمرك قرين أمري .
«من يطع الرسول فقد أطاع الله»(1) عنوان صحيفتك ، «فاتّبعوني يحببكم الله»(2) توقيع رسالتك ، يا بدر دجى أسريت به ليلاً إلى حضرة قدسي ، ويا شمس ضحى أبديت سناها من مقام اُنسي ، خذ ما أتيتك بقوّة .
فإذا لسان حاله ، صلى الله عليه وآله : يا من شرّفني ـ بلذيذ مناجاته بي(3)ـ إلى الصفيح الأعلى من سماواته ، وأطلعني على أسرار ملكوته ، وأسمعني نغمة خطاب جبروته ، ربّي وحقّ ما أزلفتني به من قربك ، وأتحفتني من خالص حبّك ، وما ضمّت عليه جوانحي وأحشائي من صحّة يقيني وولائي ، وما سكن من بهجتك في سواد ناظري وسويداء ما في قلبي الا جلال جمالك ، ولا في نفسي الا بهاء كمالك ، صرفت كلّي نحو طاعتك ، ووجّهت وجهي إلى كعبة محبّتك ، ووقفت سمعي على خطاب حضرتك ، حلية لساني شريف ذكرك ، وراحة جناني دوام شكرك .
يا معبودي ومقصودي ، ومن له خضوعي وسجودي ، نوّر بمصابيح التوفيق سبيل سلوكي إليك ، واحملني على مطايا التحقيق موضّحاً أدلّة الحقّ عليك ، إنّك الهادي إلى الطريق الرشاد ، والموضح سبيل السداد ، هذا الذي جليت
(1) سورة النساء : 80 .
(2) سورة آل عمران : 31 .
(3) كذا في الأصل .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1258

رين القلوب بذكر مفاخره ، وجلوت على النفوس غروس مآثره ، ونقلت درّه من طور مراتبه ، وصببت قطرة من بحر مناقبه .
روي عنه بالروايات القاطعة ، والآثار الساطعة ، متّصلة إليه صلى الله عليه وآله صعد المنبر فخطب بعد أن اجتمع الناس إليه ، فقال :
يا معشر المؤمنين ، إنّ الله سبحانه أوحى إليّ أنّي مقبوض ، وانّ ابنعمّي علياً مقتول ، وإنّي ـ أيها الناس ـ اُخبركم بخبرٍ إن علمتم به سلمتم ، وإن تركتموه هلكتم ، إنّ ابن عمّي علياً هو أخي ووزيري ، وهو خليفتي ، وهو المبلّغ عنّي ، وهو إمام المتّقين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، إن استرشدتموه أرشدكم ، وإن تبعتموه نجوتم ، وإن خالفتموه ضللتم ، وإن أطعتموه فالله أطعتم ، وإن عصيتموه فالله عصيتم ، وإن بايعتموه فالله بايعتم ، وإن نكثتم بيعته فبيعة الله نكثتم ، وإنّ الله سبحانه أنزل عليّ القرآن ، وهو الذي من خالفه ضلّ ، ومن ابتغى علمه عند غير علي هلك .
أيها الناس ، اسمعوا قولي ، واعرفوا حقّ نصيحتي ، ولا تخلفوني في أهل بيتي الا بالذي اُمرتم به من حقّهم(1) ، فإنّهم حامتي وقرابتي وإخوتي وأولادي ، وإنكم مجموعون ومساءلون عن الثقلين ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، إنّهم أهل بيتي ، فمن آذاهم آذاني ، ومن ظلمهم ظلمني ، ومن أذلّهم أذلّني ، ومن أعزّهم أعزّني ، ومن أكرمهم أكرمني [ومن نصرهم نصرني ، ومن خذلهم خذلني ، ومن طلب الهدى في غيرهم فقد كذّبني] .(2)
أيها الناس ، اتّقوا الله وانظروا ما أنتم قائلون إذا لقيتموه ، فإنّي خصيم لمن
(1) في الأمالي : حفظهم .
(2) من الأمالي .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1259

آذاهم ، ومن كنت خصمه خصمه الله(1) ، أقول قولي [هذا](2) وأستغفر الله لي ولكم .(3)
أقول : في موجب هذه الخطبة التي ذكر الرسول صلى الله عليه وآله فيها شرف أمير المؤمنين ، وأبان عن فضله الذي لا يوازيه فضل أحد من العالمين ، إذ اختصّه بخلافته وإخوته ، وسجّل انّه الأولى بتدبير اُمّته ، وأوضح عن شرف رتبته ، وأفصح برفعة منزلته بقوله : هذا أخي ووزيري وخليفتي والمبلّغ عنّي ، ثمّ زاده شرفاً بقوله : هذا أخي ووزيري وخليفتي والمبلّغ عنّي ، ثمّ زاده شرفاً بقوله : هو إمام المتّقين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، وإنّما خصّ المتّقين بالذكر لكونهم هم الفائزون بإخلاص الطاعة له في سرّهم وعلانيتهم ، وهم المتّبعون بأداء أمره ونواهيه في ظواهرهم وبواطنهم ، وهم الذين اهتدوا فزادهم الله هدى وآتاهم تقواهم(4)، وهم الذين اعتصموا بحبل الله فعصموا من الردى في دنياهم واخراهم(5) ، وان كان صلوات الله عليه إماماً لجميع الخلق من الثقلين ، وسيّداً لمن أقرّ بتوحيد ربّ المشرقين وربّ المغربين .
ثم عرّفنا صلى الله عليه وآله إن استرشدناه استرشدنا ، وإن تبعناه نجونا ، وإن خالفناه ضللنا ، وإن أطعناه فالله أطعنا ، وإن عصيناه فالله عصينا ، وإن
(1) في الأمالي : خصمه خصمته .
(2) من الأمالي .
(3) أمالي الصدوق : 62 ح 11 ، عنه البحار : 38 / 94 ح 10 ، وإثبات الهداة : 1 / 279 ح 148 .
ورواه في بشارة المصطفى : 16 ـ 17 بالاسناد إلى الصدوق .
وأورده في مشارق أنوار اليقين : 52 ـ 53 ، عنه البحار : 23 / 153 ح 118 .
(4) إقتباس من الآية : 17 من سورة محمد صلى الله عليه وآله .
(5) إقتباس من الآية : 103 من سورة آل عمران .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1260

بايعناه فالله بايعنا ، وإن نكثنا بيعته فبيعة الله نكثنا .
ثم قال صلى الله عليه وآله : إنّ الله أنزل عليَّ القرآن الذي من خالفه ضلّ ، ومن ابتغى علمه عند غير عليّ هلك .
وما كان صلى الله عليه وآله ليثبت له هذه الخصائص تشهّياً ، ولا ليوجب له هذه الفضائل اقتراحاً ، بل بوحي يوحى ، لكونه صلى الله عليه وآله لا ينطق عن الهوى(1).
ولم يكن سبحانه ليوجب علينا متابعته ، ويفرض علينا ولايته ، ولا يحثّنا على الاستمساك بعروته ، ويأمرنا بسلوك طريقته ، الا لأنّه سبحانه علم تشدّده في حبّه ، وإخلاصه بقالبه وقلبه .
قد طهّره سبحانه بالعصمة ، وأيّده بالحكمة ، لا تأخذ فيه لومة لائم ، ولا يثني عزيمته عن التوجّه إليه عقائد العزائم ، قلبه منبع الأسرار الإلهيّة ، ونفسه معدن العلوم الربّانيّة والفضائل النفسانيّة ، إلى كعبة علومه تشدّ الرحال ، وببيت معارفه يطول الرجال ، وعلى قواعد استنباطه تبنى الأحكام ، وهو الذي وضع قوانين العلوم بأسرها ، وتفرّد دون الخلق بضبطها وحصرها ، فالعلوم الإلهيّة من عين يقينه نبعت ، الأحكام الشرعيّة من تحقيقه وتبيينه تفرّعت ، وموازين الفصاحة بلسانه استقام لسانها ، وقعر البلاغة بنهج بلاغته قامت سوقها واستقامت أوزانها ، والقواعد الرياضيّة بحدّة فطنته أوضح غامض إشكالها ، وأقام البرهان على وحدة الصانع ووجوب وجوده بترتيب قضاياها وأشكالها .
كلّ علم لا يُعزى إليه فهو باطل ، وكلّ نثر لا يحلّى بجواهر كلامه فهو
(1) إشارة إلى الآية : 3 و4 من سورة النجم .

السابق السابق الفهرس التالي التالي