تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1224

عظيم الشأن ، فيه وقع الفرج ، وعلت(1) الدرج ، ووضحت الحجج ، وهو يوم الايضاح ، ويوم الافصاح ، ويوم الكشف عن المقام الصراح ، ويوم كمال الدين ، ويوم العهد المعهود ، ويوم الشاهد والمشهود ، ويوم بيان(2) العقود عن النفاق والجحود ، ويوم البيان عن حقائق الايمان ، ويوم البرهان ، ويم دحر الشيطان .
هذا يوما لفصل الذي كنتم توعدون(3) ، ويوم الملأ الأعلى إذ يختصمون ، ويوم النبأ العظيم الذي أنتم عنه معرضون(4) ، ويوم الارشاد ، ويوم محنة العباد ، ويوم الدليل على الروّاد(5)، ويوم إبداء خفايا الصدور ، ومضمرات الاُمور ، هذا يوم النصوص على أهل الخصوص ، هذا يوم شيث ، هذا يوم إدريس ، هذا يوم هود ، هذا يوم يوشع ، هذا يوم شمعون [هذا يوم الأمن المأمون](6) ، هذا يوم إبراز المصون من المكنون ، هذا يوم إبلاء السرائر .
فلم يزل صلوات الله عليه يقول : هذا يوم ، هذا يوم ، ثم قال : فراقبوا الله عزّ وجل واتّقوه ، واسمعوا له وأطيعوه ، واحذروا المكر ولا تخادعوه ، وفتّشوا ضمائركم ولا تواربوه ، وتقرّبوا إلى الله بتوحيده وطاعة من أمركم أن تطيعوه ، ولا تمسّكوا بعصم الكوافر ، ولا يجنح(7) بكم الغيّ فتضلّوا عن سواء السبيل باتّباع اولئك الذين ضلّوا وأضلّوا ، قال الله سبحانه عن طائفة ذكرهم بالذمّ في كتابه فقال سبحانه : «وإذ يتحاجّون في النار فيقول الضعفاء الذين استكبروا إنّا
(1) في المتهجّد : ورفعت ، وفي المناقب : ورفع الدرج ، وصحّت الحجج .
(2) في المتهجّد والمناقب : تبيان .
(3) كذا في المتهجّد والمناقب ، وفي الأصل : كنتم به تكذبون .
(4) في المتهجّد والمناقب : ويوم الملأ الأعلى الذي أنتم عنه معرضون .
(5) في المناقب : الذوّاد .
(6) من المتهجّد .
(7) كذا في المتهجّد ، وفي الأصل : فيجمع .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1225

كنّا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنّا نصيباً من النار» .(1)
وقال سبحانه : «ربّنا إنّا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا السبيلا ربّنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً» .(2)
أتدرون ما الاستكبار ؟ هو ترك الطاعة لمن اُمروا بطاعته ، والترفّع عمّن ندبوا إلى متابعته ، والقرآن ينطق من هذا عن كثير إن تدبّره متدبّر وعظه وزجره .
واعلمه ـ عباد الله ـ أنّ الله سبحانه يقول في محكم كتابه : «إنّ الله يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفّاً كأنّهم بنيان مرصوص»(3) أتدرون ما سبيل الله ؟ ومن سبيل الله ؟ وما صراط الله ؟ ومن صراط الله ؟
أنا صراط الله الذي نصبني(4) للاتّباع بعد نبيّه صلى الله عليه وآله ، وأنا سبيل الله الذي من لم يسلكه بطاعة الله [فيه](5) هويَ به في النار ، وأنا حجّة الله على الأبرار والفجّار ، [ونور الأنوار](6) ، وأنا قسيم الجنّة والنار ، فتيقّضوا من رقدة الغافلين(7) ، [وبادروا بالعمل قبل حلول الأجل ، وسابقوا إلى مغفرة من ربّكم](8) قبل أن يُضرب بالسور بباطن الرحمة وظاهر العذاب ، فتدعون فلا يسمع دعاؤكم ، وتصيحون فلا يُحفل بصيحتكم ، وأن(9) تستغيثوا
(1) سورة غافر : 47 . وفي الأصل والمتهجّد تصحيف ، حيث فيهما صدر الآية المذكورة يليه ذيل الآية 21 من سورة إبراهيم : «فهل أنتم مغنون عنّا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم» .
(2) سورة الأحزاب : 67 و68 . وفي المتهجّد تقدّمت هاتان الآيتان على الآية السابقة .
(3) سورة الصف : 4 .
(4) كذا في المتهجّد ، وفي الأصل : تصدى . وهذه الجملة جاءت في المتهجّد بعد قوله : هوي به إلى النار .
(5 و6 و8) من المتهجّد .
(7) في المتهجّد : فانتبهوا عن رقدة الغفلة .
(9) في المتهجّد : فتنادون فلا يسمع نداؤكم ، وتضجّون فلا يُحفل بضجيجكم ، وقبل أن .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1226

فلا(1) تغاثوا ، بادروا بالطاعات قبل فوات الأوقات ، فكأن قد جاءكم هادم اللذّات ، ولات حين مناص(2)، ولا محيص تخليص .
عودوا رحمكم الله بعد انقضاء مجمعكم بالتوسعة على عيالكم ، والبرّ بإخوانكم ، والشكر لله عز وجل على ما منحكم ، واجتمعوا يجمع الله شملكم ، وتبارّوا يصل الله اُلفتكم ، وتهانوا نعمة الله كما هنّأكم بالثواب(3) على أضعاف الأعياد قبله وبعده الا في مثله ، والبرّ فيه يثمر المال ، ويزيد في العمر ، والتعطّف فيه يقتضي رحمة الله وعطفه .
فافرحوا وفرّحوا إخوانكم باللباس الحسن ، والمأكل الهنيء ، والرائحة الطيّبة ، وهنّؤا إخوانكم وعيالاتكم بالفضل من برّكم ، وما(4) تناله القدرة من استطاعتكم ، وأظهروا البشر والحبور فيما بينكم ، والسرور في ملاقاتكم ، والحمد لله على ما منحكم ، وعودوا بالمزيد من الخير على أهل التأميل لكم ، وصلوا بكم ضعفاءكم بالفضل من أقواتكم(5)، وما تناله القدرة من استطاعتكم ، وعلى حسب طاقتكم ، فالدرهم فيه بمائة ألف درهم ، والمزيد من الله عز وجل ما لادرك له ، وصوم هذا اليوم ممّا ندب الله تعالى إليه ، وجعل الثواب الجزيل كفالة عنه ، حتى لو أنّ عبداً من العبيد تعبّد به بالتشبيه من ابتداء الدنيا إلى انتهائها ، صائماً نهارها ، قائماً ليلها ، إذا أخلص المخلص في صيامه لتقاصرت إليه أيّام الدنيا [عن كفاية ، ومن أسعف أخاه مبتدأ وبرّه راغباً له كأجر من صام هذا اليوم
(1) كذا في المتهجّد ، وفي الأصل : لن .
(2) في المتهجّد : فلا مناصَ نجاءٍ .
(3) في المتهجّد : وتهادوا نعم الله كما منّاكم بالثواب فيه .
(4) في المتهجّد : وهيّؤا لإخوانكم وعيالكم من فضله بالجهد من جودكم وبما .
(5) في المتهجّد : وساووا بكم ضعفاءكم في مآكلكم .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1227

وقام ليلته](1)، ومن فطّر مؤمناً في ليلته كان كمن فطّر فئاماً وفئاماً .
فلم يزل صلوات الله عليه يعدّ بيده الشريفة حتى عدّ عشرا .
فنهض ناهض وقال : يا أمير المؤمنين ، وما الفئام ؟
قال / مائة ألف نبيّ وصدّيق وشهيد ، فما ظنّكم بمن تكفّل عدداً من المؤمنين ؟ فأنا الضامن له على الله تعالى الأمان من الكفر والفقر ، وإن مات في يومه أو في ليلته أو فيما بعده إلى مثله [من غير ارتكاب كبيرة](2) فأجره على الله تعالى ، ومن استدان لإخوانه فأسعفهم فأنا الضامن له على الله ، إن بقّاه أدّاه ، وإن مات قبل تأديته تحمّله عنه ، وإذا تلاقيتم فتصافحوا بالتسليم ، [وتهانوا النعمة في هذا اليوم](3) ، وليعلم بذلك الشاهد الغائب والحاضر البائن ، وليعد القويّ على الضعيف ، والغني على الفقير ، بذلك أمرني رسول الله عن الله .(4)
وفي الحديث انّ النبي صلى الله عليه وآله كان يخبر عن وفاته بمدّة ويقول : قد حان منّي خفوق من بين أظهركم ، وكان المنافقون يقولون : لئن مات محمد ليخرب دينه ، فلمّا كان موقف الغدير قالوا : بطل كيدنا ، فنزلت : «اليوم يئس الذين كفروا من دينكم»(5).(6)
(1 و2) من المتهجّد .
(3) من المتهجّد وفيه : «وليبلّغ» بدل «وليلعلم» .
(4) مصباح المتهجّد : 755 ـ 758 ـ وليس فيه : «عن الله» ـ ، عنه مناقب ابن شهراشوب : 3 / 43 .
وأورده في إقبال الأعمال : 462 ـ 464 ، عنه كشف المهمّ : 62 ـ 65 .
وأخرجه في البحار : 37 / 164 ، وعوالم العلوم : 15 / 3 / 118 ح 159 وص 209 ح 290 «حديث الغدير» عن مناقب ابن شهراشوب .
(5) سورة المائدة : 3 .
(6) مناقب ابن شهراشوب : 3 / 40 ، عنه البحار : 37 / 163 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1228

وكان الجمع الكبير والجمّ الغفير في الغدير حين أخذ البشير النذير بيد صنوه نور الله المبين ، وسببه المتين ، وإمام المتّقين ، وأمير المؤمنين ، أكثرهم ممّن الإلحاد دينه ، والنفاق قرينه ، قد استحوذ الشيطان على قلبه ، واستولى على لبّه ، فأعطى بلسانه ما ليس في فؤاده ، وظهر على صفحات وجهه ما أضمر من إلحاده ، وأسرّ غدراً ، وأخفى مكراً ، ونصب لنبيّه الغوائل ، وجادل في أمر الغدير بالباطل ، وأرصد بابه لتنفر ناقته ، وعاقد على إنزال المنون بساحته ، واستئصال شأفته .
وأطلع الله نبيّه على ما دبّروا ، ووقاه سيّئات ما مكروا ، ولمّا أشرقت دار الهجرة بنور مقدمه ، وشرفت أرجاؤها بموطئ قدمه ، وقد أكمل صلى الله عليه وآله الدين بنصب وصيّه علماً لاُمّته ، وعمّم النعمة بجعله حافظاً لشريعته ، ونشر أعلام الإيمان بنشر مناقبه ، وأعلى كلمة الاسلام بإعلاء مراتبه ، وجلا أحكام الشريعة النبويّة في مدامس الاشتهار ، وحلّى جيد الملّة الحنيفيّة بنفائس الافتخار(1) ، ودارت رحى العدل على قطبها ، وأشرقت الأرض بنور بّها ، دعاه
(1) في «ح» : نظم هذا المضمون علي بن حمّاد رحمه الله وقال :
آخى الصـحابة أشكـالاً فـأفرده فقال لم يا رســول اللـه تفردني
قال النبيّ لنفسي قد ذخـرتـك ما في الأرض لي من أخ الاك يشبهني
أنا أخوك الذي ترضى وأنت أخي ولا تـزال تواسـينـي وتسعفنـي
تشدّ أزري وتـرعى سنّتي وعلى كلّ الأمور تواتيـني وتعـضدنـي
ما عشت أنت وزيـري .... وإذا قضيتُ نحبي تـوالـيني وتـخلفني
وانت تغسّلـني عـند الـوفاة فما يحلّ لغيرك عند الـغسل ينظـرني
وأنت وارث علمي والأمـين على جميع أمري مـن سـرّ ومـن علن
وسوف تبدي لـك الأعداء مانقموا من الضغـائن والأحـقاد والإحـن
واستعمل الحلم عنهم وانتظر .... وبالإله عليــهـم فاستـعن تـعن
ألـقى إليـه رسـول الله سائر ما ألقى إليـه مـن الرحمن ذي الـمنن
علماً بما كان ومـا قد يـكون وما يقول في لقـن أوحـى إلـى لــقن
=
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1229

الله إلى جواره مختاراً ، وناداه بلسان قضائه جهاراً : يا من أطلعته على سرّي المصون ، وغيبي المكنون ، «إنّك ميّت وإنّهم ميّتون»(1) .
ولمّا انقضى أجله الجليل ، وألمّت به الأسقام مؤذنة بوشك الرحيل ، انصدعت لتوجّعه قلوب المؤمنين ، وهمعت تألّمه عيون المسلمين .
وكان بدؤ مرضه صلى الله عليه وآله يوم السبت أو يوم الأحد من صفر .
ولمّا اشتدّ مرضه قام صلى الله عليه وآله آخذاً بيد عليّ عليه السلام ، وتبعه جماعة من أصحابه ، وتوجّه إلى البقيع ، فقال : السلام عليكم أهل القبور ، ليهنئكم ما أصبحتم فيه ممّا فيه الناس ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، يتبع
=
وبعد دفـن رسول الله كم ظهرت له معـاجــز قد دقّت عـلى ....
آل النبـيّ إليـكم كـلّ مكـرمة تـتــرى علـى رغـم من ....
سفن النجـاة الـتي قـد فاز .... لله مـا حـلّ فـي هاتيـكم السفن
قد جاد أجـداثكـم جـود به .... وصار ربــعـكم صـوب ....
أنا ابن حمّـاد الـعبدي فضـّلني ربــّي بما خـصـّني فيكم و....
لا عذّب الله اُمّـي انـّها شـربت حـبّ الوصيّ وأسقتنيـه في اللبن
وكان لـي والـد يهوى أبا حسن فصرت من ذي وذا أهوى أبا حسن
يا نفس إنّ شـبابي كان يغدرني في اللهو والشيب فيه الـيوم يعذلني
كم من أخ لك علّلـتيه ثـمّ قضى نحب الحياة وأدرجتيه فـي الكـفن
وأنت عمّا قلـيل تلحـقـين بـه فأكثري الزاد للترحـال واحتـجن
وسوف تلقين بعد الموت ما كسبت يداك من سيّء يا نفـس أو حـسن
لولا اتّكالي عـلى عفـو الإله إذاً لكاد ذنـبي بما أسـلفت يـؤنسني
وليس لي عـمل أرجو الـنجاة به الا مــوالاة مـولاي أبي حسـن
أقول : وعلي بن حمّاد هو : أبو الحسن علي بن حمّاد بن عُبيد الله بن حمّاد العدويّ العبدي البصري ، من معاصري الشيخ الصدوق والنجاشي . «انظر : الغدير : 4 / 153 ، أدب الطف ، 2 / 161 ـ 198» .
(1) سورة الزمر : 30 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1230

آخرها أوّلها ، إنّ جبرئيل كان يعرض عليّ القرآن كلّ سنة مرّة ، وهذه السنة عرضه عليّ مرتين ، ولا أراه الا لحضور أجلي .
فقام إليه عمّار بن ياسر وقال : بأبي أنت واُمي يا رسول الله ، إذا كان ذلك من يغسلك منّا ؟
قال : ذاك عليّ بن أبي طالب ، إنّه لا يهمّ بعضو من أعضائي الا أعانته الملائكة على ذلك .
قال : فمن يصلّي عليك منّا إذا كان ذلك ؟
قال : مه رحمك الله ، ثم قال لأمير المؤمنين عليه السلام : يا عليّ ، إذا رأيت روحي قد فارقت جسدي فاغسلني وانق غسلي ، وكفّنّي في طمريّ اللذين اُصلّي فيهما أو في بياض مصر وبرد يمانيّ ، ولا تغال في كفني ، واحملوني حتى تضعوني على شفير قبري ، فأوّل من يصلّي عليّ الجليل جلّ جلاله من فوق عرشه ، ثمّ جبرئيل وميكائيل وإسرافيل في جنود من الملائكة لا يحصي عددهم الا الله عز وجل ، ثم الحافّون بالعرش ، ثم أهل سماء فسماء ، ثمّ جلّ أهل بيتي ونسائي الأقربون ، يؤمون إيماء ، ويسلّمون تسليماً ، لا تؤذوني بصوت نادب ولا برنّة . ثم قال لعمّه العبّاس : يا عبّاس ، يا عمّ رسول الله ، تقبل وصيّتي ، وتنجز عدتي ، وتقضي ديني .
فقال العباس : يا رسول الله ، عمّك شيخ كبير ، ذو عيال كثير ، وأنت تباري الريح سمحاً وكرماً ، وعليك وعد لا ينهض به عمّك .
فأقبل على عليّ عليه السلام ، فقال : تقبل وصيّتي ، وتنجز عدتي ، وتقضي ديني ؟
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1231

فقال : نعم ، يا رسول الله .
فقال : ادن منّي ، فدنا منه ، فضمّه اليه ونزع خاتمه من يده ، فقال : خذ هذا فضعه في يدك ، ودعا بسيفه ودرعه وجميع لامته ، فدفع ذلك إليه ، والتمس عصابة كان يشدّها على بطنه إذا لبس الدرع ، ورويّ أن جبرئيل أتاه بها من السماء ، فجيء بها إليه ، فدفعها إلى عليّ وقال : اقبض هذا في حياتي ، ودفع إليه بغلته ، وقال : امض على اسم الله إلى منزلك .
ثم اُغمي على رسول الله صلى الله عليه وآله ، وحضر وقت الصلاة ، وأذّن بلال ، ونادى : الصلاة يا رسول الله .
ففتح صلى الله عليه وآله عينيه وقال : ادعوا لي حبيبي ، فجعل يُعرَض عليه رجل فرجل وهو يُعرض عنه ، إلى أن حضر أمير المؤمنين فتهلّل وجهه ، ثم قال : يا بلال ، هلمّ عليّ بالناس ، فأجمع الناس .
فخرج صلى الله عليه وآله متوكّئاً على أمير المؤمنين بيده اليمنى ، وعلى الفضل بن العبّاس باليد الاُخرى ، متعصّباً بعمامته ، متوكّئاً على قوسه ، فصلّى بالناس جالساً ، وقد كانت عائشة قد أرسلت إلى أبيها أن يصلّي بالناس ، فنحّاه رسول الله صلى الله عليه وآله وصلّى .
ثمّ قام وصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إنّه قد حان منّي خفوق من بين أظهركم ، فأيّ نبيّ كنت لكم ؟ ألم اُجاهد بين أظهركم ، ألم تكسر رباعيتي ؟ ألم يعفّر جبيني ؟ ألم تسل الدماء على حرّ وجهي حتى لثقت(1) لحيتي ؟ ألم اُكابد الشدّة والجهد مع جهّال قومي ؟ ألم أربط حجر المجاعة على بطني ؟
(1) لثقت : ابتلّت .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1232

قالوا : بلى ، يا رسول الله ، لقد كنت صابراً ، وعن المنكر ناهياً ، فجزاك الله عنّا أفضل الجزاء .
قال : وأنتم جزالك الله ربّي ثم قال : إنّ ربّي سبحانه أقسم الا يجوزه ظلم ظالم ، فناشدتكم بالله أيّ رجل منكم كانت له قِبَل محمد مظلمة فليقم وليقتصّ ، فإنّ القصاص في دار الدنيا أحبّ إليّ من القصاص في الآخرة على رؤوس الملائكة والأنبياء ؟
فقام إليه رجل ـ من أقصى القوم ـ يقال له سوادة بن قيس فقال : فداك أبي واُمّي ، إنّك ـ يا رسول الله ـ لمّا أقبلت من الطائف استقبلتك وأنت على ناقتك العضباء وبيدك القضيب الممشوق ، فرفعت القضيب وأنت تريد الراحلة فأصاب بطني ، فلا أدري أعمداً أم خطأ ؟
فقال صلى الله عليه وآله : معاذ الله أن أكون تعمّدت ، ثم قال : يا بلال ، قم إلى منزل فاطمة فائتني بالقضيب الممشوق ، فخرج بلال وهو ينادي في سكك المدينة : معاشر الناس ، من الذي يعطي القصاص من نفسه قبل يوم القيامة ؟ فطرق بلال الباب على فاطمة عليها السلام وهو يقول : يا فاطمة ، قومي فوالدك يريد القضيب الممشوق ، فصاحت فاطمة وهي تقول : وما يصنع أبي بالقضيب وليس هذا اليوم يومه ؟!
فقال : أما علمتِ أنّ أباك قد صعد المنبر وهو يودّع الناس ويعطي القصاص من نفسه ؟ فصاحت فاطمة وهي تقول : واغمّاه لغمّك يا أبتاه ، من للفقراء والمساكين وابن السبيل بعدك يا رسول الله ، يا حبيب الله ، وحبيب القلوب ؟ ثمّ ناولت بلالاً القضيب ، فجاء به وناوله رسول الله صلى الله عليه وآله .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1233

فقال رسول الله : أين الشيخ ؟
فقال : ها أنذا يا رسول الله ، بأبي أنت واُمّي .
قال : قم فاقتصّ حتى ترضى .
فقال الشيخ : اكشف لي عن بطنك يا رسول الله ، فكشف صلى الله عليه وآله عن بطنه ، فقال الشيخ : أتأذن لي ـ يا رسول الله ـ أن أضع فمي على بطنك ؟ فأذن له ، فقال : أعوذ بموضع القصاص من بطن رسول الله من النار .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا سوادة ، أتعفو أم تقتصّ ؟
قال : بل أعفو ، يا رسول الله .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : اللهم اعف عن سوادة بن قيس كما عفا عن نبيّك .
ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وآله ودخل منزل اُمّ سلمة وهو يقول : ربّ سلّم اُمّة محمد من النار ، ويسّر عليهم الحساب .
فقالت اُمّ سلمة : يا رسول الله ، مالي أراك مغموماً متغيّر اللون ؟
فقال صلى الله عليه وآله : نعيت غليّ نفسي ، فسلام لك منّي في الدنيا فلا تسمعين صوت محمد بعد هذا أبداً .
فقالت اُمّ سلمة : واحزناه حزناً لا تدركه الندامة عليك يا محمد .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله : ادع لي حبيبة نفسي وقرّة عيني فاطمة ، فجاءت فاطمة وهي تقول : نفسي لنفسك الفداء ، ووجهي لوجهك الوقاء ، يا أبتاه ، ألا تكلّمني كلمةً ، فإنّي أراك مفارق الدنيا ، وارى عساكر الموت تغشاك ؟
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1234

فقال : يا بنيّة ، إنّي مفارقك ، فسلام عليك منّي .
قالت : يا أبتاه ، فأين الملتقى يوم القيامة ؟
قال : عند الحساب .
قالت : فإن لم ألقك عند الحساب ؟
قال : عند الشفاعة لاُمّتي .
قالت : فإن لم ألقك عند الشفاعة لاُمّتك .
قال: عند الصراط ، جبرئيل عن يميني ، وميكائيل عن يساري ، والملائكة من خلفي وقدّامي ينادون : ربّ سلّم اُمّة محمد من النار ، ويسّر عليهم الحساب .
قالت فاطمة عليها السلام : فأين والدتي خديجة ؟
قال : في قصر له أربعة أبواب إلى الجنّة .
وعن ابن عبّاس قال : اشتدّ برسول الله صلى الله عليه وآله وجعه يوم الخميس ، فقال : ائتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً .
فقال عمر : إنّ النبي قد اشتدّ به الوجع وهو يهجر ، عندكم القرآن حسبنا كتاب الله(1) ، فاختلف الناس حينئذٍ بينهم ، فمنهم من يقول : القول ما قال عمر ،
(1) انظر : صحيح مسلم : 3 / 1259 ح 22 ، شرح نهج البلاغة : 2 / 55 ، وج 6 / 51 ، الملل والنحل للشهرستاني : 1 / 29 ، المسند للحميدي : 1 / 241 ح 526 ، طبقات ابن سعد : 2 / 36 و37 ، مسند أحمد بن حنبل : 293 و355 ، صحيح البخاري : 1 / 39 ، وج 4 / 85 و121 ، المعجم الكبير للطبراني : 11 / 445 ح 12261 ، شرح السنّة للبغوي : 11 / 180 ح 2755 ، الكامل في التاريخ : 2 / 320 .
وأخرجه في البحار : 22 / 468 عن إعلام الورى : 141 ، إرشاد المفيد : 89 . وفي ص 472 ح 21 عن مناقب ابن شهراشوب : 1 / 235 . وفي ص 474 عن أمالي المفيد : 36 ح 3 . وفي ص 498 ح 44 عن كتاب سُليم بن قيس : 210 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي