تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1188

فقال : كيف تتألّم يا أبا الحسن أو يصيبك وجع ؟! إنّما رفعك محمد ، وأنزلك جبرئيل .(1)
وروي أنّ عمر تمنّى على رسول الله صلى الله عليه وآله أن يكسره ، فقال صلى الله عليه وآله : إنّ الذي عبده لا يكسره .
ولمّا صعد أبو بكر المنبر في بدء أمره نزل عن مقام رسول الله صلى الله عليه وآله مرقاة ، فلمّا صعد عمر نزل عن مقام أبي بكر مرقاة ، فلمّا صعد عثمان نزل عن مقام عمر مرقاة ، فلمّا تولّى أمير المؤمنين صلوات الله عليه صعد إلى مقام رسول الله صلى الله عليه وآله ، فسمع من الناس ضوضاء ، فقال : ما هذا الذي أسمع ؟
قالوا : لصعودك إلى مقام رسول الله صلى الله عليه وآله الذي لم يصعد إليه مَن تقدّمك .
فقال عليه السلام : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : من قام مقامي ولم يعمل بعملي أكبّه الله في النار ، وأنا والله العامل بعمله ، الممتثل قوله ، الحاكم بحكمه ، فلذلك قمت هنا .
ثمّ ذكر في خطبته ، فقال : معاشر الناس ، قمت مقام أخي وابن عمّي لأنّه أعلمني بسرّي وما يكون منّي ، فكأنّه صلوات الله عليه قال : أنا الذي وضعت قدمي على خاتم النبوة ، فما هذه الأعواد ؟ أنا من محمد ومحمد منّي .
وقال صلوات الله عليه في خطبته(2) : أنا كسرت الأصنام ، أنا رفعت
(1) مناقب ابن شهراشوب : 2 / 141 .
وانظر الغدير : 7 / 12 .
(2) في المناقب : خطبة الافتخار .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1189

الأعلام ، أنا ثبّتّ الاسلام .
[قال ابن نباتة : حتّى شدّ به أطناب الاسلام ، وهدّ به أحزاب الأصنام ، فأصبح الايمان فاشياً بأقياله ، والبهتان متلاشياً بصياله](1) ، ولمقام إبراهيم شرف على كل حجر لكونه مقاما لقدم إبراهيم ، فيجب أن يكون قدم عليّ أشرف من رؤوس أعدائه لأن مقامه كتف النبوّة ، والغالية والمشبّهة من المجبّرة يقولون أكثر من هذا .(2)
حتى روت المجبّرة عن النبي صلى الله عليه وآله قال : لمّا بلغت سدرة المنتهى ليلة المعراج وضع الجليل سبحانه يده على كتفي فأحسست ببردها على كبدي .(3)
وقيل في ذلك شعرا :
قيل لي قل في عليّ المرتضى مـدحاً يطفئ(4) ناراً موقدة
قلت لا يبلغ مـدحي(5) رجلاً حار ذو الجهل إلى أن عبده
وعـليّ واضــع أقـدامـه فـي مقام(6) وضع الله يده(7)

وقيل أيضاً :
(1) من المناقب .
(2) مناقب ابن شهراشوب : 2 / 135 ـ 136 .
(3) أورد مثل هذا الشهرستاني في الملل والنحل : 1 / 97 في «مشبهة الحشويّة» بهذا اللفظ : حتى وجدت برد أنامله على كتفي .
(4) في المناقب : كلمات تطفئ .
(5) في المناقب : قولي .
(6) في المناقب : وعليّ واضعاً رجلاً له .... بمكان .
(7) مناقب ابن شهراشوب : 2 / 137 ناسباً الأبيات إلى أبي نؤاس .
وانظر الغدير : 7 / 12 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1190

قالوا مدحت عليّ الطهر قلت لهم كلّ امتداح جميع الأرض معناه
مـاذا أقـول بـمن حطّت له قدم في موضع وضع الرحمن يمناه(1)

فيا من يتصدّى سواه للامامة ، ويدوك(2) للزعامة ، ويضعف سباله ، ويرجل قذاله ، وينتقص كمال الكامل ، وينكر فضل الفاضل ، ويكاثر بكثرة الأتباع ، ويفاخر بالهمج الرعاع ، يسبه الظمآن ماءً ، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ، ويظنّه الجاهل إماماً وقد ضرب الحمق على هامته من الجهل ، ظلّاً وفيئاً ، يدير لسانه في لهواته إذا سئل ، ويجمد ريقه في بلعومه إذا جودل ، يظنّ أنّه الفاصل الأعلم ، وهو أجهل من البازل الأعلم ، ويعذر انّه علم السنّة ، وهو أضلّ الحقّ والسنة .
تنحّ عن رتبة وليّ الحق في الخلق ، وميزان القسط والصدق ، لفظه جلاء القلوب ، ووعظه شفاء الكروب ، ومعّمه رب العالمين ، ومؤدّبه سيد المرسلين ، ينصب له كل يوم علماً من علمه ، ويفتح له باباً م حِكَمِهِ وحُكمِهِ ، يتّبعه اتّباع الفصيل أثر اُمّه ، ويلازمه ملازمة شعاره(3) لجسمه .
ويك اربع على ضلعك ، وتفكّر في أصلك وفرعك ، وطالع مراءة عقلك بعين الانصاف ، واحذر ارتكاب طريقة الوقاحة والاعتساف ، أليست اُمّك صهاك ؟ أليس الخطّاب أباك ؟ ألست جاحد النصوص على أهل الخصوص ؟ ألست منكّس الراية يوم القموص ؟ أما في حنين وأوطاس كنت أوّل المدبرين
(1) مناقب ابن شهراشوب : 2 / 137 . وفيه «لمن» بدل «بمن» .
(2) في حديث خيبر : أنّ النبي صلى الله عليه وآله قال : لاُعطينّ الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه ، فبات الناس يَدكون تلك الليلة فيمن يدفعها اليه ، قوله : يَدوكون أي يخوضون ويموجون ويختلفون فيه . والدَوك : الاختلاط . وقع القوم في دَوكَةٍ ودوكة وبوح أي وقعوا في اختلاط من أمرهم وخصومة وشرّ . «لسان العرب : 10 / 410 ـ دوك ـ » .
(3) الشِعار : ما ولي شَعَرَ جسد الإنسان دون ما سواه من الثياب ... وفي المثل : هم الشِعار دون الدِثار ، يصفهم بالمودّة والقرب . «لسان العرب : 4 / 412 ـ شعر ـ » .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1191

من الناس ؟ أأنت قاتل عمرو ومفرّق جموعه ؟ أأنت المتصدّق بخاتمه في ركوعه ؟ أرضيك الرسول دون الخلق صهراً ؟ أم أوردك في الغدير من غدير الشرف ورداً وصدراً ؟
ويحك قف عند حدّك ، ولا تفاخر بأبيك وجدّك ، ولا تجار فرسان المجد فتضلّ في الحلبة طريحاً ، ولا تساجل(1) أبطال الفخر فتصبح بسيوف الفضيحة طليحاً .
يا مغرور غرّتك دار الغرور ، يا مثبور(2) وفتنتك ببطشها المشهور ، وزيّنت لك سوء عملك فرأيته حسناً ، فغادرتك بموبقات سيّئاتك مرتهناً ، وعن قليل يسفر الصباح ، ويرى المبدع في دين الله ما حضر وأباح ، ويكشف الجليل لك عن وجه غفلتك حجاباً ، ويقوم الروح والملائكة صفّاً لا يتكلمون الا من أذن له الرحمن وقال صواباً(3) ، ويقف سيد المرسلين ، ووصيه سيد الوصيّين ، وابنته سيّدة نساء العالمين ، ثم يؤتى بك موثوقاً بأغلالك ، مرتهناً بأعمالك ، يتبرّأ منك أتباعك ، ويلعنك أشياعك ، وملائكة العذاب تدعك إلى النار دعّاً ، والزبانية تسفعك بعذبات العذاب سفعاً .
فعندها يجثو سيد المرسلين للخصومة ، ويقف وصيّة المظلوم وابنته وينادى عليك باسمك ، ويظهر للناس بعض حدّك ورسمك ، وينظر في ديوان حسابك ، وتتهيّأ ملائكة العذاب لأخذك وعذابك ، ويقال لك على رؤوس الأشهاد ومجمع العباد : يا قاطعاً رحم نبيّه ، يا جاحداً فضل وليّه ، يا منكراً نصّ الغدير ، يا ظالماً أهل آية التطهير ، ألست القائل : إنّ نبيّكم ليهجر ، وقد قال الله في
(1) ساجَلَ الرجُل : باراه .... والمساجَلة : المفاخرة . «لسان العرب : 11 / 326 ـ سجل ـ » .
(2) المثبور : المغلوب ، الملعون ، المطرود ، المعذّب ، المحبوس .
(3) إقتباس من الآية : 38 من سورة النبأ .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1192

شأنه : «وما ينطق عن الهوى»(1) ؟ ألست الزاعم أنّه غوى في حبّ وصيّه ، والله يقول : «ما ضلّ صاحبكم وما غوى»(2) ؟ ألست المسند إلى رسول «ما تركناه صدقة»(3) ؟
فلعن الله الحديث ومتخرّصه ومصدّقه ، أما كان جزاء من أكلت الدنيا بسلطانه ترك فدك لذرّيّته ؟ أما كان في شرع المروّة التغافل عن بقعة من الأرض ذات الطول والعرض لعترته ؟ هنالك تصحو من خمار خمرتك ، وتفيق من غمار غمرتك ، ويحقّ الحقّ ، ويأتي النداء من قبل الحق : «خذوه فغلّوه ثم الجحيم صلّوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه إنّه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحضّ على طعام المسكين فليس له اليوم ها هنا حميم ولا طعام الا من غسلين»(4) فتجرّ مصفّداً ، وتسحب مقيّداً ، وتلقى في الجحيم مركوساً ، وتقذف في الحميم منكوساً ، في شرّ سجن قعرها هاوية ، وسجنتها زبانية ، وما أدراك ما هي نار حامية .(5)
روي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام خطب فقال : ما لنا وقريش ، وما تنكر منّا قريش غير أنّا أهل بيت شيّد الله فوق بنيانههم بنياننا ، وأعلى فوق رؤوسهم رؤوسنا ، واختارنا الله عليهم ، فنقموا عليه أن اختارنا عليهم ،
(1) سورة النجم : 3 .
(2) سورة النجم : 2 .
(3) انظر : طبقات ابن سعد : 8 / 28 ، صحيح البخاري : 4 / 96 ـ 98 ، وج 5 / 25 وص 114 ـ 115 وص 177 ، وج 7 / 72 ، وج 8 / 185 ، وج 9 / 122 ، صحيح مسلم : 3 / 1380 ح 1759 ، الملل والنحل : 1 / 31 .
(4) سورة الحاقّة : 30 ـ 36 .
(5) إقتباس من الآية : 10 و11 من سورة القارعة .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1193

[وسخطوا ما رضي الله ، وأحبّوا ما كره الله ، فلمّا اختارنا عليهم](1) شركناهم في حريمنا ، وعرّفناهم الكتاب والسنّة ، وعلّمناهم الفرائض والسنن ، وحفظناهم الصدق والدين(2) ، فوثبوا علينا ، وجحدوا فضلنا ، ومنعونا حقّنا ، والتوونا أسباب أعمالنا .
اللهم فإنّي أستعديك على قريش ، فخذ لي بحقّي منها ، ولا تدع مظلمتي لها ، وطالبهم ـ يا ربّ ـ بحقّي فإنّك الحكيم(3) العدل ، فإنّ قريشاً صغّرت قدري ، واستحلّت المحارم منّي ، واستخفّت بعرضي وعشيرتي ، وقهرتني على ميراثي من ابن عمّي ، وأغروا بي أعدائي ، ووتروا بيني وبين العرب(4) ، وسلبوني ما مهّدت لنفسي من لدن صباي بجهدي وكدّي ، ومنعوني ما خلّفه أخي وحميمي وشقيقي(5) ، وقالوا إنّك لحريص متّهم .
أليس بنا اهتدوا من متاه الكفر ، ومن عمى الضلالة ، وغيّ الظلماء ؟ أليس أنقذتهم من الفتنة الصمّاء العمياء(6) ؟ ويلهم ألم اُخلّصهم من نيران الطغاة(7) ، وسيوف البغاة ، ووطأ الاُسد ، ومقارعة الطماطمة(8) ، ومجادلة القماقمة الذين
(1) من المناقب .
(2) في المناقب : اللين ، وديّنّاهم الدين والاسلام .
(3) في المناقب : الحكم .
(4) في المناقب : العرب والعجم .
(5) كذا في المناقب ، وفي الأصل : وجسمي وشفيقي .
(6) في المناقب : الفتنة الظلماء والمحنة العمياء .
(7) زاد في المناقب : وكره العتاة .
(8) في المناقب : الصماء .
طَميم الناس : أخلاطهم وكثرتهم . والطمطمة : العُجمة . والطماطِم : هو الأعجم الذي لا يُفصِح . «لسان العرب : 12 / 371 ـ طمم ـ » .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1194

كانوا عجم العرب ، وغنم الحرب(1)، وقطب الأقدام ، وحبال(2) القتال ، وسهام الخطوب ، وسلّ السيوف ؟ أليس بي تسنّموا(3) الشرف ، ونالوا لاحق والنصف ؟ ألست آية نبوّة محمد صلى الله عليه وآله ، ودليل رسالته ، وعلامة رضاه ، وسخطه الذي يقطع بي الدرع الدلاص ، ويصطلم(4) الرجال الحراص ، وبي كان يبري جاجم البهم(5) وهام الأبطال إلى أن فزعت تيم إلى الفرار ، وعديّ إلى الانتكاص .(6)
ألا وإنّي لو أسلمت قريشاً للمنايا والحتوف وتركتها لحصدتها سيوف الغواة ، ووطأتها الأعاجم ، وكرّات الأعادي ، وحملات الأعالي ، وطحنتهم سنابك الصافنات(7) ، وحوافر الصاهلات ، في مواقف الأزل والهزل(8)، في طلاب الأعنّة ، وبريق الأسنّة ، ما بقوا لهظمي ، ولاعاشوا لظلمي ، ولما قالوا : إنّك لحريص [متّهم](9) .
ثم قال بعد بكلام :
(1) أي الذين يطلبون غنائمها .
(2) في المناقب : جبال .
(3) تسنّم الشيء : علاه وارتفع به .
(4) الدلاص : الليّن البرّاق الأملس . واصطلم : استأصل وأباد .
(5) كذا في المناقب ، وفي الأصل : الهمم .
والبهم : جمع بهمة : الفارس الذي لا يبالي في الحرب من شدّة بأسه .
(6) كذا في المناقب ، وفي الأصل : إلى أن قرعت بهم إلى الفرار ، وعديّ إلى الانتقاص .
(7) السنابك : أطراف الحوافر . والصافنات : جمع الصافن : وهو الفرس القائم على ثلاث قوائم ، وطرف الحافر الرابعة . «المعجم الوسيط : 1 / 453 و517» .
(8) كذا في المناقب ، وفي الأصل : والقول .
والأزل : شدّة الزمان ، وضيق العيش . والهزل : الضعف ، والهذيان واسترخاء الكلام .
(9) من المناقب . وفي الأصل عبارة «ما بقوا ...» فيها تصحيف .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1195

ألا وإنّي فتحت الاسلام ، ونصرت الدين ، وعزّزت الرسول ، وثبّتّ(1) أعلامه ، وأعليت مناره ، وأعلنت أسراره ، وأظهرت أثره وحاله ، وصفيت الدولة ، ووطأت الماشي(2) والراكب ، ثمّ قدتها صافية على أنّي بها مستأثر .
[ثم قال بعد كلام : ](3)
سبقني إليها التيمي والعدوي كسباق الفرس احتيالاً واغتيالاً وخدعة وغيلة .
ثم قال بعد كلامه :
يا معشر المهاجرين والأنصار ، أين كانت سبقة تيم وعديّ إلى سقيفة بني ساعدة خوف الفتنة [ألا كانت](4) يوم الأبواء ، إذ تكافت الصفوف ، وتكانفت الحتوف(5) ، وتقارعت السيوف ؟ أم هلا خشيا فتنة الإسلام يوم ابن عبد ودّ إذ شمخ بأنفه ، وطمح ببصره ؟
ولِمَ [لم](6) يشفقا على الدين وأهله يوم بواط إذ اسودّ الاُفق ، واعوجّ عظم العنق(7) ؟
ولِمَ لم يشفقا يوم رضوى إذ السهام تطير ن والمنايا تسير ، والاُسد تزأر ؟
وهلا بادرا يوم العشيرة إذ الأسنان [تصطكّ ، والآذان](8) تستك ، والدروع تهتك ؟
(1) في المناقب : وبنيت .
(2) كذا في المناقب ، وفي الأصل : للماضي .
(3 و4 و6 و8) من المناقب .
(5) في المناقب : إذ تكاثفت الصفوف ، وتكاثرت الحتوف .
(7) زاد في المناقب : وانحلّ سيل الغرق .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1196

وهلا كانت مبادرتهما يوم بدر إذ الأرواح في الصعداء ترتقي ، والجياد بالصناديد ترتدي ، والأرض من دماء الأبطال ترتوي ؟
ولِمَ لم يشفقا على الدين يوم بدر الثانية ، والدعاس ترعب ، والأوداج تشخب ، والصدور تخضب ؟
وهلا بادرا ذات الليوث(1) وقد أمجّ التولب(2) ، واصطلم الشوقب ، وادلّهم(3) الكوكب .
[ولم لا كانت شفقتهما على الاسلام يوكد الأكدر](4) ، والعين تدمع ، والمنيّة تلمع ، والصفائح تنزع .
ثم عدّد وقائع النبي صلى الله عليه وآله ، ثم قال : فإنّهما كانا في النظارة .
م قال : فما هذه الدهماء والدهياء التي وردت علينا(5) من قريش ؟ أنا صاحب هذه المشاهد ، وأبو هذه المواقف ، وابن هذه الأفعال الحميدة ـ إلى الآخر الخطبة ـ .
ومن جملة قصيدة للناشئ رحمة الله عليه :
فلِمَ لم يثـوروا(6) ببدرٍ وقد تبلت من القوم إذ بارزوكا ؟
ولِمَ عرّدوا إذ شجيت العدى بمهراس اُحد وقد(7) نازلوكا ؟
(1) أي غزوة حنين .
(2) أمجّ : جَرى جَرياً شديداً . والتولب : ولد الأتان من الحمار الوحشي إذا استكمل الحول .
(3) الشوقب : الطويل من الرجال ، النعام ، الإبل . وادلّهم : اشتدّ ظلامه .
(4) من المناقب : وفيه «والعيون» بدل «والعين» .
(5) كذا في المناقب ، ,في الأصل : عليها .
(6) كذا في المناقب ، وفي الأصل : تثور . والتبل : الثأر .
(7) في المناقب : ولِمَ ؟
وعرد : هرب . والمهراس : صخرة منقورة تسع كثيراً من الماء ، وقد يعمل منه حياض للماء ، وهو هنا اسم ما باُحد .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1197

ولِمَ أجمحوا يوم سلعٍ(1) وقد ثبتّ لـعمـرو ولِمَ أسـلموكا ؟
ولِمَ يوم خيبـر لـم يثـبتوا بـرايـة(2) أحمد واستركبوكا ؟
فلاقيت مرحباً والعنـكبوت واسـداً يحـامـون إذ واجهوكا
فدكدكت حصـنهم قــاهراً وطوّحت بالبـاب إذ حاجـزوكا
ولَم يحضروا بحـنين وقـد صككت بنفسك جيـشاً صـكوكا
فأنت المقدّم فـي كـلّ ذلك فلـله درّك لِـمَ أخّـــروكـا ؟

ومن نهج البلاغة :
اللهم إنّي أستعديك على قريش ، فإنّهم [قد](3) فطعوا رحمي ، وكفروا آياتي(4)، وأجمعوا على منازعتي حقّاً كنت أولى به من غيري ، وقالوا : ألا [إنّ](5) في الحق أن تأخذه ، وفي الحقّ [أن](6) تُمنعه ، فاصبر مغموماً ، أو مُت متأسّفاً ، فنظرت فإذا ليس لي رافد ، ولا ذابّ(7) ولا مساعد ، الا أهل بيتي ، فَضَننتُ(8) بهم عن المنيّة ، فأغضيت على القذى(9) ، وجرعت ريقي على الشَجا(10)، وصبرت على الأذى ، ووطّنت(11) نفسي على كظم الغيظ ، وما هو أمرّ
(1) الجمح : استعمل بمعنى إدامة النظر مع فتح العين . وسلع : موضع بقرب المدينة .
(2) في المناقب : صحابة .
(3 و5 و6) من النهج والمناقب .
(4) في النهج : وأكفَؤوا إنائي . وهنا كناية عن تضييع الحقّ .
(7) الرافد : المعين . والذابّ : المدافع .
(8) أي بخلتُ .
(9) القذى : ما يقع في العين ، ومراده عليه السلام : غضضت الطرف عنه .
(10) الشجا : ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه ، يريد به غصّة الحزن .
(11) في المناقب : وطبت .. وحر . وفي النهج : وصبرتُ من كظم الغيظ على أمرّ من العَلقم ، وآلمَ للقلب من وَخزِ الشّفار .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1198

من العلقم ، وآلم من حزّ الشفار .
وكذلك قوله صلوات الله عليه في خطبته الشقشقيّة : أما والله لقد تقمّصها(1) ابن أبي قحافة ـ إلى آخرها ـ .(2)
إذا تقرّر هذا فاعلم ـ أيها المؤمن ـ [أنّ](3) الدنيا لم تزل مصائبها مولعة بالأنبياء والمرسلين ، ومطالبها عسرة على الأولياء الصالحين ، وأبناءها لم تزل ترمي بسهام حسدها من شيّد الله بالتقوى بنيانه ، وشدّ بالاخلاص أركانه ، وأعلى بالطاعة مجده ، وأسعد بالجدّ جدّه ، يحسد دنيّهم شريفهم ، ويظلم قويّهم ضعيفهم ، فتفكّروا في رأس أبنائها ، وأساس زعمائها ، أوّل كل حاسد ، وأصل كلّ مارد ، أعني الشيطان المغوي ، والفتّان المردي ، كيف افتخر بعنصره النوراني ، وأصله النيراني ، ورمى صفيّ الله المجتبى عن قوس غروره ، وأصمى منه المعابل بنبال فجوره ، وأخرجه وروحه من الجنّة ينزع عنهما لباسهما ، ويبدي لهما سوآتهما ، فلعنه الله بما أبدى من حسده ، وأبان عن سوء معتقده ، وأخرجه من نعيم جنّته ، وقلّدته بشوقته طوق لعنته ، فطلب النظرة منه سبحانه إلى يوم الدين ، فقال : «أنظرني إلى يوم يبعثون»(4) فقال سبحانه : «إنّك من المنظَرين»(5) فقال : «فبعزّتك لاغوينّهم أجمعين الا عبادك منهم المخلَصين»(6) .
ثمّ ينظره سبحانه كرامة به عليه ولم يمهله لمنفعة واصلة منه إليه ، ولكن
= والعلقم : الحنظل . والشِفار : جمع شفرة : حدّ السيف ونحوه .
(1) أي لبسها كالقميص .
(2) مناقب ابن شهراشوب : 2 / 201 ـ 204 ، نهج البلاغة : 336 خطبة 217 وص 48 خطبة 3 .
(3) أثبتناه لضرورة السياق .
(4 و5) سورة الأعراف : 14 و15 . وانظر الآيتين : 79 و80 من سورة ص .
(6) سورة ص : 82 و83 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1199

أراد سبحانه ليبلو عباده أيّهم أشدّ مخالفة لأمره ، وحذراً من زروه ومكره ، وتباعداً من موبقات زخارفه ، وفراراً من موديات مواقفه ، فصدق اللعين عليهم ظنّه ، زيّن لهم ما فرض عليهم وسنّه ، فاتّبعوه الا فريقاً من المؤمنين ، وعبدوه الا قليلاً من المخلصين ، واتّخذوه ربّاً دون خالقهم ، وابتغوا عنده الرزق دون رازقهم ، ونصروا أولياءه ، وقهروا أعداءه ، وذهبوا بهم كلّ مذهب ، وسدّوا عليهم كلّ مطلب ، واتّخذوا الأوثان أرباباً ، والأصنام أنصاباً ، وقتلوا النبيّين ، وفتنوا المؤمنين .
فهم أبناؤه المخلصون في طاعته ، والمناصحون في متابعته ، زيّن لهم دينه ، فاتّبعوا قوله وفعله ، وموّه لهم سبيله ، فاتّخذوه وجهة وقبلةً ، وبحروا له البحيرة ، وسيّبوا السايبة ، ووصلوا الوصيلة بأحلامهم العازبة ، فالصبور الشكور نوح ، والخليل والكليم والروح ، كم نصبت أسلافهم لهم العداوة والبغضاء ، وأغرت أخلاقهم بهم السفهاء ؟ حتى نادى نوح : ربّ «أنّي مغلوب فانتصر»(1) ، واُلقي الخليل في نار ضرامها يستعر ، وفرّ الكليم من الظالم الأشر ، وابن مريم لولا انّ الله تعالى رفعه إلى سمائه لأحلّوا به الشيء النكر .
ثمّ لم يزل الأشرار من أشياعه ، والفجّار من أتباعه ، والأرجاس من ذرّيّته ، والأوغاد من حفدته ، ترفع بالأنبياء(2) أوصياءهم ، وتقصد بالأذى المخلصين من أوليائهم ، إلى أن انتهت النوبة إلى سيّد المرسلين ، وخاتم النبيّين ، فنصبوا له غوائلهم ، وفوّقوا نحوه معابلهم ، حتى قتلوا في بدر واُحد أهله ، وراموا بجدّهم وجمعهم قتله ، وأخرجوه عن عقر داره ، وطردوه عن محلّ قراره ، وحزّبوا أحزابهم على حربه ، وركبوا الصعب والذلول في طلبه ، وضربوا بطون
(1) سورة القمر : 10 .
(2) كذا في الأصل .

السابق السابق الفهرس التالي التالي