تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1175

وروي أنّه لمّا نام أمير المؤمنين عليه السلام قام جبرئيل عند(1) رأسه ، وميكائيل عند رجليه ، وجبرئيل ينادي : بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله به الملائكة ؟(2)
وروي أنّ الله عز وجل أوحى إلى جبرئيل وميكائيل أنّي قد جعلت عمر أحدكما أطول من الآخر ، فأيّكما يؤثر صاحبه بالزيادة ؟ فلم يجيبا .
فأوحى الله إليهما : هذا عليّ بن أبي طالب قد آثر محمداً بعمره ، ووقاه بنفسه ، فاهبطا إليه واحفظانه ، فهبط جبرئيل وميكائيل ، الحديث(3) .
وأمّا المشركون فركبوا الصعب والذلول في طلب رسول الله صلى الله عليه وآله .(4)
قال الزهري : ولمّا دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وأبو بكر الغار أرسل زوجاً من حمام ، حتى باضا في أسفل الثقب ، والعنكبوت حتى تنسج بيتاً ، فلمّا جاء سرقاة بن مالك في طلبهما فرأى بيض الحمام ونسج(5) العنكبوت ، قال : لو دخله أحد لانكسر البيض وتفسّخ [بيت](6) العنكبوت ، فانصرف .
(1) كذا في المجمع ، وفي الأل : على .
(2) مجمع البيان : 1 / 301 . وفيه : بك الملائكة .
(3) أمالي الطوسي : 2 / 83 ـ 84 ، إحياء علوم الدين : 3 / 258 ، الروضة لشاذان : 2 (مخطوط) ، إرشاد القلوب للديلمي : 224 ، تأويل الآيات : 1 / 89 ح 76 .
وأخرجه في البحار : 19 / 39 وص 64 وص 85 ح 36 وص 86 ح 37 عن بعض المصادر أعلاه .
(4) مناقب ابن شهراشوب : 1 / 183 .
(5) في المجمع : وبيت .
(6) من المجمع .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1176

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله : اللهم أعم أبصارهم عنّا ، فعميت أبصارهم عن دخوله ، وجعلوا ينظرون(1) يميناً وشمالاً حول الغار .
وقال أبو بكر : لو نظروا إلى أقدامهم لرأونا .
وروى علي بن ابراهيم في تفسيره : كان رجل من خزاعة ، يقال له أبو كرز ، فما زال يقفو أثر رسول الله صلى الله عليه وآله حتى وقف بهم على الحجر(2) ، فقال : [هذه](3) قدم محمد ، هي والله اُخت القدم التي في المقام ، وقال : هذه قدم أبي قحافة والله ، وقال : ما جاوزا هذا المكان ، إمّا أن يكونا صعدا في السماء أو نزلا في الارض .
وجاء فارس من الملائكة في صورة الإنس ، فوقف على باب الغار ، وهو يقول : اطلبوه في هذه الشعاب فليس هاهنا .
ونزل رجل من قريش فاستقبل باب الغار وبال ، فقال أبو بكر : قد أبصرونا يا رسول الله .
فقال صلى الله عليه وآله : لو أبصرونا ما استقبلونا بعوراتهم .(4)
«فأنزل الله سكينته عليه»(5) أي على رسول الله صلى الله عليه وآله ، أي : ألقى في قلبه ما سكن به ، وعلم أنّهم غير واصلين إليه .
وفي تخصيص رسول الله صلى الله عليه وآله بالسكينة ، وعد إدخال أبي
(1) في المجمع : يضربون .
(2) في المجمع : باب الغار .
(3) من المجمع .
(4) أورده عن عليّ بن إبراهيم في مناقب ابن شهراشوب : 1 / 127 ـ 128 ، عنه البحار : 19 / 77 ح 28 .
(5) سورة التوبة : 40 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1177

بكر فيها ، أقوى دليل على عدم إيمانه ، وقوّة يقينه صلى الله عليه وآله ، ورباط جأشه ، وقد أشرك الله المؤمنين مع رسوله في السكينة في هذه السورة وغيرها بقوله : «فأنزل الله سكينته» على رسوله والمؤمنين ، وأنزل جنوداً لم تروها ، وفي سورة إنّا فتحنا : «فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى»(1) الآية .(2)
وقد ردّ رسول الله صلى الله عليه وآله هند وعبد الله بن فُهيرة حين أوصلاه إلى الغار ، وحبس أبي بكر لعلمه برباط جأشهما ، وشدّة يقينهما ، وقوّة إيمانهما ، وانّهما لو قتلا ما أخبرا بمكان رسول الله صلى الله عليه وآله ، وحبس أبا بكر عنده خوفاً على نفسه منه ، لأنّه كان قد علم أوّلاً بعزم الرسول ، وخاف إن اذن له كما أذن لهما أن تعلم قريشاً بمكانه فيخبرهم به إمّا رهبة أو نفاقاً .
وقد روى أبو المفضّل الشيباني بإسناده عن مجاهد ، قال : فخرت عائشة بأبيها ومكانه مع رسول الله صلى الله عليه وآله في الغار ، فقال لها عبد الله بن شّاد بن الهاد : فأين أنتِ من علي بن أبي طالب حيث نام [في](3) مكانه وهو يرى أنّه يقتل ؟ فسكتت ولم تجد جواباً .
وشتّان بين قوله تعالى : «ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله»(4) وبين قوله : «لا تحزن إنّ الله معنا»(5) وكان النبي صلى الله عليه وآله يقوّي قلبه ، ولم يكن مع عليّ أحد يقوّي قلبه ، وهو لم يصبه وجع ، وعليّ كان
(1) سورة الفتح : 26 .
(2) مجمع البيان : 3 / 31 ، عنه البحار : 19 / 33 .
(3) من المناقب .
(4) سورة البقرة : 207 .
(5) سورة التوبة : 40 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1178

يرمى بالحجارة وهو على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأبو بكر مختف بالغار ، وعليّ ظاهر للكفّار .
واستخلفه الرسول لردّ الودائع لأنّه كان أميناً ، فلمّا أدّاها قام صلوات الله عليه على سطح الكعبة ، فنادى بأعلى صوته : يا أيّها الناس ، هل من صاحب أمانة ؟ هل من صاحب وصيّة ؟ هل من صاحب عدة له قِبَلَ رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ فلمّا لم يأت أحد لحق بالنبي صلى الله عليه وآله .(1)
فنزل معه على كلثوم(2) ، وكان أبو بكر في بيت خبيب(3) بن إساف ، فأقام النبي صلى الله عليه وآله بقبا يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، وأسّس مسجده ، وصلّى يوم الجمعة في المسجد الذي ببطن الوادي ـ وادي رانوقا(4) ـ فكانت أوّل صلاة صلّاها بالمدينة ، ثمّ أتاه غسّان بن مالك وعبّاس بن عبادة في رجال من بني سالم ، فقالوا : يا رسول الله ، أقم عندنا في العدّة والعدد والمنعة .
فقال صلى الله عليه وآله : خلّوا سبيلها ، فإنّها مأمورة ـ يعني ناقته ـ ، ثم
(1) مناقب ابن شهراشوب : 2 / 57 ـ 58 ، عنه البحار : 38 / 289 .
(2) في المناقب : كلثوم بن هِدم .
وهو كلثوم بن هدم بن امرئ القيس بن الحارث بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي ، كان يسكن قباء ، ويعرف بصاحب رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكان شيخاً كبيراً ، وأسلم قبل وصول النبي صلى الله عليه وآله إلى المدينة ، توفّي قبل بدر بيسير ، وقيل : إنّه أوّل من مات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله . «اُسد الغابة : 4 / 253» .
(3) كذا الصحيح ، وفي الأصل والمناقب : حبيب ـ وهو تصحيف ـ .
وهو خُبَيب بن إساف ؛ وقيل : يساف ، ابن عِنَبة بن عَمرو الأنصاري الخزرجي : شهد بدراً واُحداً والخندق ، وكان نازلاً بالمدينة وتأخّر إسلامه حتى سار النبي صلى الله عليه وآله غلى بدر ، فلحق النبي صلى الله عليه وآله في الطريق فأسلم . «اُحد الغابة : 1 / 368 ، وج 2 / 101 ـ 102» .
(4) في المناقب : رافوقا .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1179

تلقّاه زياد بن لبيد وفروة بن عمرو في رجال من بني بياضة ، فقال كذلك ، ثمّ اعترضه سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو في رجال من بني ساعدة ، ثمّ اعترضه سعد بن الربيع وخارجة بن زيد وعبد الله بن رواحة في رجال من بني الحارث ، فانطلقت حتى إذا وازت دار بني مالك بن النجّار بركت على باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وهو يومئذ مِربَد(1) لغلامين يتيمين من بني النجّار ، فلمّا بركت ورسول الله لم ينزل وثبت وسارت غير بعيد ورسول الله صلى الله عليه وآله واضع لها زمامها لا يثنيها به ، ثم التفّت إلى خلفها فرجعت إلى مبركها أوّل مرّة فبركت ، ثمّ تجلجلت(2) ورزمت ووضعت جرانها ، فنزل صلى الله عليه وآله عنها ، واحتمل أبو أيّوب رحله ووضعه في بيته ، ونزل رسول الله في بيت أبي أيّوب وسأل عن المربد فاُخبر انّه لسهل وسهيل يتيمين لمعاذ بن عفراء ، فأرضاها معاذ ، وأمر النبي صلى الله عليه وآله ببناء المسجد ، وعمل رسول الله صلى الله عليه وآله بنفسه ، وعمل فيه المهاجرون والأنصار ، وأخذ المسلمون يرتجزون وهم يعملون ، فقال بعضهم :
لئن قعدنا والنبيّ يعمل لذاك منّا العمل المضلّل
(1) كذا في المناقب ، وفي الأصل : مزيد . وكذا في المواضع التالية .
والمريد : موضع الإبل .
(2) كذا في المناقب ، وفي الأصل : تخلخلت .
وتجلجلت : أي تخاضعت وتضعضعت . وما في الأصل لعلّه : تحلحلت ـ وهو الموافق لما في سيرة ابن إسحاق ، ومعناه : تحرّكت .
قال ابن الأثير في النهاية : 4 / 239 : «ثم تَلَحلَحَت وأرزَمَت ، ووَضَعت جِرانَها» تَلَحلَحَت : أي أقامَت وَلَزِمَت مكانها ولم تَبرح ، وهو ضدّ تَحَلحَل .
وقال في ج 2 / 220 : «وأرزمت» أي صَوّتَت ، والإرزام : الصوت لا يفتح به الفَمُ ، و«ناقة رازم» هي التي لا تتحرّك من الهزال .
والجران باطن العنق ؛ وقيل : مقدّمه .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1180

والنبي صلى الله عليه وآله يقول :
لا عيش إلا عيش الآخرة ربّ(1) ارحم الأنصار والمهاجرة

وعلي أمير المؤمنين يقول :
لا يستوي من يعمل(2) المساجدا يدأب فيها قائماً وقاعداً
ومن يُرى عن الغبار(3) حائداً

ثم انتقل من بيت أبي أيّوب إلى مساكنه التي بنيت له ؛ وقيل : كانت مدّة مقامه بالمدينة إلى أن بنى المسجد وبيوته من شهر ربيع الأوّل إلى صفر من السنة القابلة .(4)
ولمّا كان بعد سبعة أشهر من الهجرة نزل جبرئيل عليه صلى الله عليه وآله بقول : «اُذن للذين يُقاتلون بأنّهم ظُلموا»(5) الآية ، وقلّد في عنق رسول الله صلى الله عليه وآله سيفاً . وفي رواية : لم يكن له غمد ، وقال : حارب بهذا قومك حتى يقولوا لا إله إلا الله .
وروى أهل السير أنّ جميع ما غزا رسول الله صلى الله عليه وآله بنفسه ستّ وعشرون غزاة ، على هذا النسق : الأبواء ، بواط(6) العشيرة ، بدر الاولى ، بدر
(1) في المناقب : اللهم .
(2) كذا في المناقب ، وفي الأصل : يعمر .
(3) في المناقب : الغيار . ـ بمعنى : الغيرة ـ ، وكلاهما يناسب المقام . والحائد : المعرض والمائل عن الشيء .
(4) مناقب ابن شهراشوب : 1 / 184 ـ 186 ، عنه البحار : 19 / 122 ح 9 .
(5) سورة الحج : 40 .
(6) بُواط : واد من أودية القبليّة ...، وهو جبل من جبال جُهينة ، بناحية رَضوى به غزاة للنبي صلى الله عليه وآله . «مراصد الاطّلاع : 1 / 228» .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1181

الكبرى ، السويق ، ذي أمر ، اُحد ، نجران ، بنو سليم ، الأسد ، بنو النضير ، ذات الرقاع ، بدر الاخرى ، دومة الجندل ، الخندق ، بنو قريظة ، بنو لحيان ، بنو قرد ، بنو المصطلق ، [الحديبيّة ، خيبر ، الفتح ، حنين ، الطائف](1) ، تبوك ، بنو قينقاع . قاتل في تسع ، وهي : بدر الكبرى ، واُحد ، والخندق ، وبني قريظة(2) ، وبني لحيان ، وخيبر ، والفتح ، وحنين ، والطائف .
وأمّا سراياه فستّ وثلاثون ، لا نطوّل بذكرها .(3)
وكان أمير المؤمنين عليه السلام قطب رحاها التي عليه تدور ، وفارسها البطل المشهور ، الا تبوك ، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله خلّفه على المدينة لانّه علم أنّه لا يكون فيها حرب ، ولمّا لحق برسول الله صلى الله عليه وآله وقال : يا رسول الله ، خلّفتني مع النساء والصبيان ، فردّه رسول الله صلى الله عليه وآله من اللحوق ، وقال : يا عليّ ، أنت منّي بمنزلة هارون من موسى الا انّه لا نبيّ بعدي ، انّ المدينة لا تصلح الا بي أو بك(4) ، فرجع صلوات الله عليه .
وكان المنافق يتخرّصون الاخبار ، ويرجفون(5) في المدينة ، ويزوّدون
(1) من المناقب .
(2) زاد في المناقب : وبني المصطلق .
(3) مناقب ابن شهراشوب : 1 / 186 و212 ، عنه البحار : 19 / 172 ح 18 .
(4) انظر : مناقب ابن شهراشوب : 3 / 15 ـ 17 ، بحار الأنوار : 37 / 254 ـ 289 ب 53 ، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل : 5 / 182 ـ 190 حيث يتبيّن من خلالها انّ حديث المنزلة من حيث الأسانيد هو من أقوى الأحاديث والروايات الاسلاميّة التي وردت في مؤلّفات جميع الفرق الاسلاميّة بلا استثناء ، وانّ هذا الحديث يوضح لأهل الإنصاف من حيث الدلالة أفضليّة علي عليه السلام على الامّة جمعاء ، وأيضاً خلافته المباشرة ـ وبلا فصل ـ بعد رسول الله صلى الله عليه وآله .
(5) يتخرّصون : أي يفتعلون . ويرجفون : أي يخوضون في الأخبار السيّئة وذكر الفتن التي يكون معها اضطراب في الناس .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1182

الأحاديث ليشوّشوا على ضعفاء المؤمنين ، وكانوا كلّما ألقوا إلى المسلمين ما بيّنوه من الإفك والإرجاف أمرهم أمير المؤمنين بالصبر ، وأعلمهم أنّ ذلك لا حقيقة له ، إلى أن رجع رسول الله صلى الله عليه وآله مؤيّداً منصوراً قد خضعت له رقاب المشركين ، والتزموا الشرائط شرطها عليهم صلى الله عليه وآله .
وكفىأمير المؤمنين فخراً ودلالة على فضله وتقديمه ما صدر منه في بدر واُحد وخيبر والخندق ، فإنّ القتلى كانت سبعين ، قتل صلوات الله عليه بيده الشريفة ثمانية وعشرين ، وقيل : ستّة وثلاثين ، وقتلت الملائكة والناس تمام العدد .


موعظة جليلة

فرّغ نفسك أيها المؤمن متفكّراً بعين بصيرتك ، وأيقظ قلبك أيها المخلص ناظراً بعين باصرتك ، أما كان الله سبحانه قادراً على صبّ سوط عذابه(1) على من آذى نبيّه ؟ أما كان جلّ جلاله عالماً عن نصب حبائل غوائله ، وناجر وليّه ؟ أما كان في شدّة بطشه قوّة تزيل جبال تهامة عن مراكزها ، وتنسفها نسفاً(2) ؟ أما كان في عموم سلطانه قدرة أن يخسف الأرض بأهلها ، أو يسقط السماء عليهم كِسَفاً(3)، لما ارتكبوا من خلاف نبيّهم ما ارتكبوا ، واحتقبوا من كبائر الذنوب ما احتقبوا ، واتّخذوا الأصنام آلهة من دون مبدعهم وخالقهم ، واستقسموا بالأزلام عتوّاً على مالكهم ورازقهم ، وجعلوا له البنات ولهم البنين بجائر قسمتهم ،
(1) إقتباس من الآية : 13 من سورة الفجر .
(2) إقتباس من الآية : 105 من سورة طه .
(3) إقتباس من الآية : 92 من سورة الإسراء .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1183

وبحروا لابحيرة ، وسيّبوا السائبة(1) ببدعة جاهليّتهم ؟ أما كان سبحانه قادراً حين آذوا الرسول وراموا قتله على مسخهم قردة خاسئين(2) ؟ أكان عاجزاً لمّا أخرجوا نبيّهم أن ينزل عليهم ىية فتضلّ أعناقهم لها خاضعين(3) ؟
بلى هو القادر الذي لا يعجزه شيء في الأرض ، ولا في الساء ، القاهر فلا يفلت من قبضة سطوته من دنا أو نأى ، الذي لا يزيد في ملكه طاعة مطيع من عباده ، ولا ينقص من سلطانه معصية متهتّك بعباده ، لكنّه سبحانه أمهلهم بحلمه ، وأحصاهم بعلمه ، ولم يعاجلهم بنقمته ، ولم يخلهم من رحمته ، وفتح لهم أبواب الهدى إلى رضوانه ، وحذّرهم سلوك سبيل الردى إلى عصيانه ، وكلّفهم بالتكاليف الشاقّة من بعثتهم على طاعته ، وحذّرهم من الأعمال الموبقة بنهيهم عن مخالفته ، ونصب لهم أعلاماً يستدلّون بمنارهها من حيرة الضلالة في مدارج السلوك ، ونجوماً يهتدون بأنوارها من مداحض الجهالة ومهالك الشكوك .
ولمّا كان سبحانه منزّهاً عن العرض والجسم ، مقدّساً عن التركيب والقسم ، لا تخطر صفته بفكر ، ولا يدرك سبحانه ببصر ، ولا تعدّه الأيّام ، ولا تحدّه الأنام ، قصرت الأفكار عن تبصرة كماله ، وحارت الأنظار عن تحديد جلاله ، وحسرت الأبصار عن مشاهدة جماله ، وتاهت الأفهام في بيداء معرفته ، وكلّت الأوهام عن تعيين صفته .
لم يخلق سبحانه خلقه عبثاً ، ولم يتركهم هملاً بل أمرهم بالطاعة وندبهم إليها ، وكلّفهم بالعبادة وأثابهم عليها ، قال سبحانه : «وما خلقت الجنّ والإنس إلا
(1) إقتباس من الآية : 103 من سورة المائدة .
(2) إقتباس من الآية : 65 من سورة البقرة ، والآية : 166 من سورة الأعراف .
(3) إقتباس من الآية : 4 من سورة الشعراء .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1184

ليعبدون ما اريد منهم من رزق وما اريد أن يُطعمون»(1)، والعبث لا يليق بحكمته ، والإغراء بالقبيح لا يحسن بصفته .
وجب في لطفه إعلامهم بما فيه صلاحهم في دنياهم واخراهم ، وفي عدله تعريفهم مبدأهم ومنتهاهم ، وجعل لهم قدرة واختياراً ، ولم يجبرهم على فعل الطاعة وترك المعصية اضطراراً ، بل هداهم النجدين ، وأوضح لهم السبيلين .
ولمّا كانت كدورات الطبيعة غالبة على نفوسهم ، وظلمة الجهالة مانعة من تطهيرهم وتقديسهم ، والنفس الأمّارة تقودهم إلى مداحض البوار ، والشهوة الحيوانيّة تحثّهم على ارتكاب موبقات الأوزار ، والوسواس الخنّاس قد استولى بوساوسه على صدورهم ، وزيّن لهم بزخارفه مزالق غرورهم ، فوجب في عدله وحكمته إقامة من يسوقهم بسوط لفظه إلى ما يقرّبهم نم حضيرة جلاله ، ويزجرهم بصوت وعظه عمّا يوبق أحدهم في معاشه وماله ، إذ أنفسهم منحطّة عن مراتب الكمال ، غاوية في مسالك الوبال ، منخرطة في سلك أنّ النفس لأمّارة بالسوء الا من رحم(2)، غارقة في لجّة الجهل الا من عصم ، تقصر قواها عن تلقّي نفحات رحمته ، وتضعف مراياها لعدم جلاها عن مقابلة أشعّة معرفته .
فأقام سبحانه لهم حججاً من أبناء نوعهم ، ظاهرين في عالم الانسانيّة ، باطنين في عالم الروحانيّة ، فظواهرهم أشخاص بشريّة ، وبواطنهم أملاك عوليّة ، قد توّجههم سبحانه بتيجان الحكمة ، وأفرغ عليهم حلل العصمة ، وطهّرهم من الأدناس ، ونزّههم عن الأرجاس ، فشربوا من شراب حبّه(3) أشغلهم به عمّن سواه ، واطّلعوا على أسرار ملكوته فما في قلوبهم الا إيّاه ، لما انتشت نشاءة
(1) سورة الذاريات : 56 و57 .
(2) إقتباس من الآية : 53 من سورة يوسف .
(3) كذا الصحيح ، وفي الأصل : حبّهما .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1185

نفوسهم من رحيق خطابه في عالم الذرّ ، وسكنت هيبة عزّة جلاله شغاف قلوبهم حين أقرّ من أقرّ ، وأنكر من أنكر ، لم تزل العناية الأزليّة تنقلهم من الأصلاب الفاخرة إلى الأرحام المطهّرة ، والألطاف الإلهيّة تمنحهم شرف الدنيا والآخرة .
جعلهم سبحانه السفراء بينه وبين عباده ، والاُمناء على وحيه في سائر أنامه وبلاده ، بشّرت الأنبياء الماضية بظهورهم ، وأشرقت السماوات العالية بساطع نورهم ، كتب أسماءهم على سرادقات عرشه المجيد ، وأوجب فرض ولايتهم على عباده من قريب وبعيد ، كلّفهم بحمل أعباء رسالته ، وجعلهم أهلاً لأداء أمانته ، يتلقّون بوجه باطنهم أنوار سبحات جمال عزّته ، ويقابلون بظاهر ضياء محاسن بهجاتهم عباده فيهتدون بنورهم إلى نعيم جنّته ، «عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون الا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون»(1) .
أصلهم نبيّ تمّمت به النبوّة ، وكملت به الفتوّة ، وانتهت إليه الرئاسة العامّة ، وخصّ من الله بالكلمة التامّة ، وأيّده سبحانه بنصره في المواطن المشهورة ، وأظهره بقهره على أعدائه في حروبه المذكورة ، وشدّ أزره بوصيّه المرتضى ، وشيّد ملّته بصفيّه المجتبى ، صارم نقمته ، وحامي حوزته ، الذي لم يخلق الله خلقاً أكمل منه من بعده ولا قبله ، ولم يدرك مدرك شأوه(2) ولا فضله ، ولا أخلص مخلص لله إخلاصه ، ولا جاهد مجاهد في الله جهاده من العامّة والخاصّة .
إن دارت حرب فهو قطب رحاها ، أو توجّهت آمال فهو غاية رجاها ، أو ذكر علم فهو مطلع شمسه ، أو اشتهر فضل فهو قالب نفسه ، باب علم مدينة
(1) سورة الأنبياء : 26 ـ 28 .
(2) الشَأوُ : الغاية ، الأمد ، السَبق .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1186

المصطفى ، وقاضي دَينه ، ومنجز عداته ، وقاضي دينه ، طال بقوادم الشرف لمّا على بقدمه على الكتف .
ناداه البيت الحرام بلسان الحال ، وناجاه الركن والمقام بمعاني المقال : يا صاحب النفس القدسيّة ، ويا منبع الأسرار الخفيّة ، ويا مطلع الأنوار الإلهيّة ، ويا دفتر العلوم الربّانية ، أما ترى ما حلّ بي من الأرجاس ؟ أما تنظر ما اكتنفني من الأدناس ؟ الأنصاب حولي منصوبة ، والأزلام في عراصي مضروبة ، والأصنام مرفوعة على عرشي ، والأوثان محدّقة بفرشي ، تنضح بالدماء جدراني ، وتستلم الأشقياء أركاني ، ويعبد الشيطان في ساحتي ، ويسجد لغير الرحمن حول بَنيّتي .
فالغوث الغوث يا صاحب الشدّة والقوّة ، والعون العون يا رب النجدة والفتوة ، خذ بمجامع الشرف بخلاصي واستنقاذي ، وفز بالمعلّا من سهامه فيك معاذي وملاذي .
ولمّا شاهد ربّ الرسالة العامّة تضرّعها بوصيّه ، وعاين صاحب الدعوة التامّة تشفّعها بوليّه ، ناداه بلسان الاخلاص في طاعة معبوده ، وأنهضه بيد القوّة القاهرة لاستيفاء حدوده ، وفتح له إلى سبيل طاعة ربّه منهاجاً ، وجعل كتفه الشريفة بأمر ذي المعارج لأخمصه(1) معراجاً ، وأمره بتسنّم(2) ذروة بيت ربّه ، وتنزيهه عن الرجس من الأوثان بقالبه وقلبه ، وتكسير صحيح جمعها بيد سطوته ، وإلقاء هبلها عن ظهره بشدّة عزمته .
روي بحذف الأسناد عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : دخلنا مكّة
(1) الأخمص : باطن القَدَم وما رقّ من أشفلها وتجافى عن الأرض ؛ وقيل : الأخمَصُ خَصرُ القدم . «لسان العرب : 7 / 30 ـ خمص ـ » .
(2) سَنَّم الشيء وتَسَنّمه : علاه . «لسان العرب : 12 / 306 ـ سنم ـ » .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1187

يوم الفتح مع رسول الله صلى الله عليه وآله في البيت وحوله ثلاثمائة وستّون صنماً ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله فاُلقيت جميعها على وجوهها ، وأمر بإخراجها ، وكان على البيت صنم ـ لقريش ـ طويل يقاله له «هبل» ، وكان من نحاس على صورة رجل موتّد بأوتادٍ من حديد إلى الأرض في حائط الكعبة .
قال أمير المؤمنين : فقال لي رسول الله : اجلس ، فجلست إلى جانب الكعبة ، ثمّ صعد رسول الله صلى الله عليه وآله على منكبي ، ثمّ قال لي : انهض بي ، فنهضت به ، فلمّا رأى ضعفي عنه ، قال : اجلس ، فجلست وأنزلته عنّي ، فقال : قم ـ يا علي ـ على عاتقي حتى أرفعك ، فأعطيته ثوبي ، فوضعه رسول الله صلى الله عليه وآله على عاتقه ، ثمّ رفعني حتى وضعني على ظهر الكعبة ، وكان طول الكعبة أربعين ذراعاً ، فو الذي فلق الحبّة ، وبرأ النسمة ، لو أردت أن أمسك السماء بيدي لمسكتها .
وروي أنّه صلوات الله عليه لمّا عالج قلعه اهتزّت الكعبة من شدّة معالجته ، فكسره وألقاه من فوق الكعبة إلى الأرض ، ثم نادى رسول الله صلى الله عليه وآله : انزل ، فوثب من أعلى الكعبة كأنّ له جناحين .(1)
وقيل : إنّه صلوات الله عليه تعلّق بالميزاب ، ثمّ أرسل نفسه إلى الأرض ، فلمّا سقط صلوات الله عليه ضحك ، فقال النبي : ما يضحكك يا علي ، أضحك الله سنّك ؟
قال : ضحكت ـ يا رسول الله ـ متعجّباً من انّي رميت بنفسي من فوق البيت إلى الأرض فما تألّمت ، ولا أصابني وجع !
(1) مناقب ابن شهراشوب : 2 / 135 ـ 136 ، وفيه عن جابر بن عبد الله ؛ وعن أبي مريم ، عن أمير المؤمنين علي عليه السلام ؛ وعن ابن عبّاس .

السابق السابق الفهرس التالي التالي