تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1163

رأسه ، ثمّ أتى إلى عتبة وبه رمق فأجهز عليه .
واحتمل عبيدة رضي الله عنه وبه رمق ، وحملاه عليّ وحمزة وأتيا به رسول الله صلى الله عليه وآله ومخّ ساقه يسيل ، فاستعبر رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال عبيدة : ألست أوّل شهيد من أهل بيتك ؟ قال : بلى ، أنت أوّل شهيد من أهل بيتي .(1)
رجعنا إلى تمام القصّة :
فلمّا رأيا رسول الله صلى الله عليه وآله أرسلا غلاماً لهما يدعى عدّاس معه عنب ـ وهو نصرانيّ من أهل نينوى ـ ، فلمّا جاء رسول الله صلى الله عليه وآله قال له رسول الله : من أيّ أرض أنت ؟
قال : من أهل نينوى .
قال صلى الله عليه وآله : من مدينة الرجل الصالح يونس بن متّى ؟
فقال عدّاس : وما أعلمك بيونس ؟
قال صلى الله عليه وآله : أنا رسول الله ، والله تعالى أخبرني بخبره ، فلمّا أخبره بما أخبره الله به من شأن يونس خرّ عدّاس ساجداً لرسول الله صلى الله عليه وآله(2) ، وجعل يقبّل قدميه وهما تسيلان دماً ، فلمّا نظر عتبة وشيبة ما يصنع غلامهما سكتا ، فلمّا أتاهما قالا : ما شأنك سجدت لمحمد ، وقبّلت قدميه ، ولم نرك فعلت بأحد منّا ذلك ؟
(1) انظر في وصف هذا الموقف في غزوة بدر : تفسير القمّي : 1 / 265 ، مجمع البيان : 2 / 527 ، مناقب ابن شهراشوب : 3 / 119 ، عنها البحار : 19 / 254 ح 3 وص 225 وص 290 .
(2) في إعلام الورى : ساجداً لله .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1164

قال : هذا رجل صالح أخبرني بشيء عرفته من شأن رسول بعثه الله إلينا يدعى يونس بن متّى .
فضحكا وقالا : لا يفتننّك عن نصرانيّتك فإنّه رجل خدّاع .(1)
وروي أنّ المشركين لمّا مضوا إلى بدر لقتال رسول الله صلى الله عليه وآله كان عدّاس مع سيّديه عتبة وشيبة ، فسأل منهما : من هذا الذي عزمتم على حربه والوقيعة به ؟
فقالا له : يا عدّاس ، أرأيت الذي أرسلناك إليه بالعنب في الطائف ؟ قد اتّبعه قوم من الصُباه ، وقد قصدنا حربهم ، وتفريق كلمتهم ، وأن نأتي بهم إلى مكّة اُسارى ، ونعرّفهم ضلالهم .
فقال عدّاس : بالله يا سيّديّ ، ارجعوا من فوركم هذا إلى مكّة ، والله لئن لقيتموه لا تفرحوا بالحياة بعدها ، والله إنّه نبي حق ، وقوله صدق ، فزجراه ولم يعبئا بكلامه .(2)
ثمّ إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله رجع إلى مكة من الطائف واشتدّ البلاء ، وأقبل المشركون يردّون المسلمين ويفتنونهم عن دينهم ، ثمّ انّ النبي صلى الله عليه وآله استجار بالأخنس بن شَريق ، وسهيل بن عمرو فتعلّلا ، ثم استجار بالمطعم بن عديّ حتى دبّر في أمر الهجرة .(3)
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يعرض نفسه على قبائل العرب في
(1) إعلام الورى : 64 ، عنه البحار : 19 / 6 ضمن ح 5 .
وأورده في مناقب شهراشوب : 1 / 68 ، عنه البحار : 19 / 17 ح 9 .
(2) المغازي للواقدي : 33 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 14 / 96 ، البحار : 19 / 330 .
(3) إعلام الورى : 65 ، عنه البحار : 19 / 7 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1165

الموسم ، فلقي رهطاً من الخزرج ، فقال : ألا تجلسون اُحدّثكم ؟
قالوا : بلى ، فجلسوا إليه ، فدعاهم إلى الله ، وتلا عليهم القرآن .
فقال بعضهم لبعض : يا قوم ، تعلمون والله انّه النبي الذي كانوا يوعدوكم به اليهود(1) ، فلا يسبقنّكم إليه أحد ، فأجابوه ، وقالوا له : إنّا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والسوء مثل ما بينهم ، وعسى الله أن يجمع بينهم بك ، فستقدم عليهم وتدعوهم إلى أمرك ، وكانوا ستّة نفر .
فلمّا قدموا المدينة أخبروا قومهم بالخبر ، فما دار حول الا وفيها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله ، حتى إذا كان العام المقبل أتى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً ، فلقوا النبي صلى الله عليه وآله ، فبايعوه على بيعة النساء الا يشركوا بالله شيئاً ، ولا يسرقوا ، إلى آخرها ، ثمّ انصرفوا وبعث معهم مصعب بن عمير يصلّي بهم ، وكان يسمّى بينهم في المدينة «المقرئ»(2) ، فلم تبق دار في المدينة الا وفيها رجال ونساء مسلمون الا دار اميّة وحطيمة ووائل وهم من الأوس .
ثمّ عاد مصعب إلى مكّة ، وخرج من خرج من الأنصار إلى الموسم ، فاجتمعوا في الشعب عند العقبة ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان في أيّام التشريق بالليل عند رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال صلىالله عليه وآله : اُبايعكم على الاسلام .
فقال بعضهم : يا رسول الله ، نريد أنتعرّفنا ما لله علينا ، وما لك علينا ، وما لناعلى الله .
(1) في المناقب والبحار : الذي كان يوعدكم به اليهود .
(2) سمّي بذلك لأنّه كان يقرئهم القرآن .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1166

فقال صلى الله عليه وآله : أمّا ما لله عليكم فتعبدوه ، ولا تشركوا به شيئاً ، وأمّا ما لي عليكم فتنصرونني مثل نسائكم وأبنائكم ، وأن تصبروا على عضّ السيوف ، وأن يقتل خياركم .
قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا على الله ؟
قال : أمّا في الدنيا فالظهور على من عاداكم ، وفي الآخرة رضوان الله والجنّة ، فأخذ البراء بن معرور بيده ، وقال : والذي بعثك بالحق نبيّاً لنمنعنّك بما نمنع به اُزرنا(1) ، فبايعنا يا رسول الله ، فنحن أهل الحرب وأهل الحلقة ورثناها كبار عن كبار .
فقال أبو الهيثم : إنّ بيننا وبين الرجال حبالاً ، وإنّا إن قطعناها أو قطعوها فهل عسيت إن فعلنا ذلك ، ثمّ أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟
فتبسّم رسول الله ، ثمّ قال : بل الدم الدم والهدم الهدم ، اُحارب من حاربتم ، واُسالم من سالمتم ، ثمّ قال صلى الله عليه وآله : أخرجوا لكم(2) اثنى عشر نقيباً ، فاختاروا ، فقال : اُبايعكم كبيعة عيسى بن مريم للحواريّين كفلاء على قومهم بما فيهم ، وعلى أن تمنعوني بما(3) تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ، فبايعوه على ذلك ، فصرخ الشيطان في العقبة : يا أهل الجباجب(4) ، هل لكم في محمد
(1) قال ابن الأثير في النهاية : 1 / 45 : وفي حديث بيعة العقبة «لنمنعنّك ممّا نمنع به اُزُرَنا» أي نساءنا وأهلنا ، كنّى عنهنّ بالأزر ؛ وقيل : أراد أنفسنا . وقد يكنّى عن النفس بالإزار .
(2) في المناقب والبحار : إليّ .
(3) في المناقب والبحار : ممّا .
(4) قال ابن الأثير في النهاية : 1 / 234 : في حديث بيعة الأنصار «نادى الشيطان : يا أصحاب الجُباجِب» هي جمع جُبجُب ـ بالضم ـ وهو المستوى من الأرض ليس بحَزن ، وهي هاهنا منازل بمنىً ، سمّيت به ، قيل : لأنّ كروش الأضاحي تُلقى فيها أيّام الحج . والجَبجَبة : الكَرِشُ يُجعل فيها اللحم يُتزوّد في الأسفار .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1167

والصباة معه ؟ اجتمعوا على حربكم ، ثم نفر الناس من منى وفشى الخبر ، فخرجوا في الطلب ، فأدركوا سعد بن عبّادة والمنذر بن عمرو ، فأمّا المنذر فأعجز القوم ، وأمّا سعد فأخذوه ، وربطوه بنسع رحله ، وأدخلوه مكّة يضربونه ، فبلغ خبره جبير بن مطعم والحارث بن حرب بن اميّة فأتياه وخلّصاه .
وكان النبي صلى الله عليه وآله في ذلك الوقت لم يؤمر الا بالدعاء والصبر على الأذى ، والصفح عن الجاهل ، فطالت قريش على المسلمين ، فلمّا كثر عتوّهم أمر صلى الله عليه وآله بالهجرة ، فقال صلى الله عليه وآله لأصحابه المؤمنين : إنّ الله قد جعل لكم داراً وإخواناً تأمنون بها ، فخرجوا أرسالاً(1) يتسلّلون تحت الليل ، حتى لم يبق مع النبي الا علي عليه السلام ، مع جماعة يسيرة من أصحابه ، فحذرت قريش خروجه ، وعلموا أنّه قد أجمع على حربهم ، فاجتمعوا في دار الندوة وهي دار قُصيّ بن كلاب يتشاورون في أمره ، فتمثّل لهم إبليس في صورة شيخ من أهل نجد ، فقال : أنا ذو رأي حضرت لموازرتكم .
فقال عروة بن هشام : نتربّص به ريب المنون ، وقال أبو البَختريّ : أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه .
وقال العاص بن وائل واميّة واُبيّ ابنا خلف : نبني له علماً(2) نستودعه فيه ، فلا يخلص إليه(3) من الصباة أحد .
(1) قال المجلسي رحمه الله : الأرسال ـ بالفتح ـ : جمع الرسل ـ بالتحريك ـ وهو القطيع من كل شيء ، أي زمراً زمراً . ويحتمل الإرسال ـ بالكسر ـ : وهو الرفق والتؤدة .
(2) زاد في المناقب : ونترك له فرجاً .
يقال لما يُبنى في جواد الطريق من المنازل يستدلّ بها على الطريق : أعلام ، واحدها عَلَم . والعلم : المنار ... والعلامة والعَلَم : شيء يُنصب في الفلوات تهتدي به الضالّة . «لسان العرب : 12 / 419 ـ علم ـ » .
(3) كذا الصحيح ، وفي الأصل : فلا يخلص منه إليه .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1168

وقال عتبة وشيبة وأبو سفيان : نرحل بعيراً صعباً ونوثق محمداً عليه كتافاً وشدّاً ، ثم نقصع(1) البعير بأطراف الرماح فيوشك أن يقطعه بين الدكادك(2) إرباً إرباً .
فقال أبو جهل : أرى لكم أن تعمدوا إلى قبائلكم العشرة فتنتدبوا من كلّ قبيلة رجلاً نجداً(3) ، وتأتونه بياتاً ، فيذهب دمه في قبائل قريش جميعها ، فلا يستطيع بنو هاشم وبنو المطّلب مناهضة قريش فيه فيرضون بالعقل .
فقال أبو مرّة : أحسنت يا أبا الحكم ، هذا الرأي فلا نعدلنّ له رأياً ، فأنزل الله سبحانه : «يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك»(4) الآية ، فهبط جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وقال : لاتبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه ، فدعا عليّاً عليه السلام ، فقال : إنّ الله سبحانه أوحى إليّ أن أهجر دار قومي ، وأن أنطلق إلى غار ثور أطحل(5) ليلتي هذه ، وأمرني أن آمرك بالمبيت على مضجعي ، وأن ألقي عليك شبهي .
فقال أمير المؤمنين عليه السلام : أو تسلم بمبيتي هناك ؟
قال صلى الله عليه وآله : نعم .
فتبسّم أمير المؤمنين ضاحكاً ، وأهوى إلى الارض ساجداً ، فكان أوّل من سجد لله شكراً ، وأوّل من وضع وجهه على الأرض بعد سجدته ، فلمّا رفع رأسه
(1) أي نجرحه بأطراف الرماح حتى يغضب .
(2) جمع الدكداك : وهو أرض فيها غلظ .
(3) النجد : الشجاع الماضي فيما يعجز عنه غيره .
(4) سورة الأنفال : 30 .
(5) الطُحلَة ـ بالضم ـ : لون بين الغُبرة والسواد ببياض قليل . «القاموس المحيط : 4 / 6 ـ طحل ـ » .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1169

قال : امض بما اُمرت به ، فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي .
قال : فارقد على فراشي ، وشاتمل بردي الحضرمي ، ثمّ إنّي اُخبرك يا علي انّ الله تعالى يمتحن أولياءه على قدر إيمانهم ومنازلهم من دينهم(1) ، فأشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل(2) ، وقد امتحنك الله يا ابن اُمّ بي ، وامتحنني فيك بمثل ما امتحن خليله إبراهيم والذبيح إسماعيل ، فصبراً صبراً «إنّ رحمة الله قريب من المحسنين»(3) ثم ضمّه إلى صدره ، واستتبع رسول الله صلى الله عليه وآله أبو بكر وهند بن أبي هالة وعبيد الله(4) بن فُهَيرة ، ودليلهم اُريقط(5) الليثي فأمرهم رسول الله بمكان ذكره لهم ، ولبث(6) صلى الله عليه وآله مع عليّ يوصيه ، ثم خرج في فحمة العشاء(7) والرصد من قريش قد أطافوا به ينتظرون انتصاف الليل ليهجموا عليه ، وكان صلى الله عليه وآله يقول : «وجعلنا من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سدّاً»(8) الآية ، وكان بيده قبضة تراب ، فرمى بها في رؤوسهم ، ومضى حتى انتهى إلى أصحابه الذين واعدهم ، فنهضوا(9) معه
(1) في المناقب : دينه .
(2) تقدّمت تخريجاته ص 39 هامش 16 .
(3) سورة الأعراف : 56 .
(4) في المناقب : عبد الله ، وكذا في المواضع الآتية .
وفي الكامل : عامر بن فُهَيرَة ـ وهو مولى الطُفَيل بن عبد الله الأزديّ ـ اشتراه أبو بكر . انظر في ترجمته «الكامل في التاريخ : 2 / 68» .
(5) في المناقب : اُزيقطة . ولعلّه أبو واقد ـ كما سيأتي في ص 85 ـ .
وفي تاريخ الطبري : 2 / 378 و380 دليلهم : عبد الله بن أرقد .
(6) كذا في المناقب ، وفي الأصل : كتب ـ وهو تصحيف ـ .
(7) الفَحمة من الليل : أوّله ، أو أشدّ سواده ، أو ما بين غروب الشمس إلى نوم الناس . «القاموس المحيط : 4 / 158 ـ فحم ـ » .
(8) سورة يس : 9 .
(9) في المناقب : فمضوا .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1170

حتى وصلوا إلى الغار ، وانصرف هند وعبيد الله بن فهيرة راجعين إلى مكّة .(1)
وكان قد اجتمع حول دار رسول الله صلى الله عليه وآله أربعمائة رجل مكبّلين بالسلاح .
قال ابن عبّاس : فكان من بني عبد شمس عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن هشام وأبو سفيان ، ومن بني نوفل طعمة(2) بن عديّ وجبير بن مُطعم والحارث بن عامر ، ومن بني عبد الدار النضر بن الحارث ، ومن بني أسد أبو البختري وزمعة(3) ابن الأسود وحكيم بن حزام(4) ، ومن بني مخزوم أبو جهل ، ومن بني سهم نُبَيه ومُنبّه ابنا الحجّاج ، ومن بني جُمَح اميّة بن خلف ، هؤلاء الرؤساء وغيرهم ممّن(5) لا يعدّ من قريش .(6)
وأحاطوا بالدار إلى أن مضى من الليل شطره هجموا على أمير المؤمنين صلواتالله عليه شاهرين سيوفهم ، ففطن بهم فاخترط سيفه وشدّ عليهم فانحازوا عنه ، وقالوا : أين صاحبك ؟
قال : لا أدري ، أو رقيب كنت عليه ، ألجأتموه إلى الخروج ، فخرج .
(1) مناقب ابن شهراشوب : 1 / 181 ـ 183 ، عنه البحار : 19 / 25 ح 15 «إلى قوله : يتشاورون في أمره» .
وأخرجه في البحار : 19 / 23 عن المنتقى في مولد المصطفى للكازروني ، ولم أعثر على غير طبعته الفارسيّة والمسمّاة «نهاية المسؤول في رواية الرسول» .
وانظر في هجرته صلى الله عليه وآله : الكامل في التاريخ : 2 / 101 وما بعدها .
(2) في تاريخ الطبري : طُعَيمَة .
(3) كذا في المناقب وتاريخ الطبري ، وفي الأصل : ربيعة .
(4) كذا في المناقب وتاريخ الطبري ، وفي الأصل : مزاحم .
(5) كذا في المناق وتاريخ الطبري ، وفي الأصل : ممّا .
(6) مناقب ابن شهراشوب : 2 / 58 ، عنه البحار : 38 / 290 .
وانظر تاريخ الطبري : 2 / 370 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1171

وكان أمير المؤمنين في تلك الحال ابن عشرين سنة ، فاقام صلوات الله عليه بمكّة حتى أدّى أمانات رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأدّى إلى كل [ذي](1) حقّ حقّه ، ثمّ عزم صلوات الله عليه على الهجرة .
فكان ذلك دلالة على خلافته وإمامته وشجاعته ، وحمل نساء النبي صلى الله عليه وآله بعد ثلاثة أيّام ، وفيهنّ عائشة ، فله المنّة على أبي بكر بحفظ ولده ، ولعليّ عليه السلام المنّة عليه في هجرته ، وعليّ ذو الهجرتين والشجاع هو الثابت(2) بين أربعمائة سيف ، وإنّما أباته النبي على فراشه ثقة بنجدته ، فكانوا محدقين به إلى طلوع الفجر ليقتلوه ظاهراً ، فيذهب دمه بمشاهدة بني هاشم بأنّ قاتليه من جميع القبائل .(3)
وقد ذكرنا رؤساءهم الذين اجتمعوا لقتله قبل ذلك .
وروي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لمّا عزم على الهجرة قال له العبّاس : إنّ محمداً ما خرج الا خفية ، وقد طلبته قريش أشدّ طلب ، وأنت تخرج جهاراً في أثاث وهوادج ومال ونساء ورجال تقطع بهم السباسب(4) والشعاب من بين قبائل قريش ما أرى لك أن تمضي الا في خُفارَة(5) خزاعة .
فقال أمير المؤنين عليه السلام :
(1) من المناقب .
(2) في المناقب : والشجاع البائت .
(3) مناقب ابن شهراشوب : 2 / 58 ـ 59 ، عنه البحار 38 / 289 ـ 291 .
(4) السباسب : جمع السبسُب : المَفازة أو الأرض المستوية البعيدة . «القاموس المحيط : 1 / 81 ـ سَبّه ـ » .
(5) خَفيرُ القوم : مُجيرهم . «المحيط في اللغة : 4 / 331 ـ خفظ ـ » .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1172

إنّ المـنيّة شـربـة مـورودة لا تجزعـنّ(1) وشدّ للترحيل
إنّ ابن آمنـة النـبي محـمداً رجل صدوق قال عن جبريل
أرخ الزمام ولا تخف من عائق فاللـه يرديـهم عـن التنكيل
إنّي بـربّـي واثـق وبأحمـد وسبـيـله متلاحق بـسـبيلِ

قالوا : وكمن مهلع غلام حنظلة بن أبي سفيان في طريقه بالليل ، فلمّا رآه(2) أمير المؤمنين عليه السلام اخترط(3) سيفه ونهض إليه ، فصاح أمير المؤمنين عليه السلام فيه صيحة خرّ على وجهه ، وجَلَدَه(4) بسيفه ، ثمّ مضى صلوات الله عليه ليلاً .(5)
وكان مبيت أمير المؤمنين عليه السلام أوّل ليلة .
واقام رسول الله صلى الله عليه وآله في الغار ثلاثة أيّام ، ولمّا ورد المدينة نزل في بني عمرو بن عوف بقُباء منتظراً لأمير المؤمنين عليه السلام ، وكان أمير المؤمنين أمر ضعفاء المسلمين أن يتسلّلوا وستخفّفوا إذا ملأ الليل بطن كلّ واد ، وكان معه من النساء الفواطم(6) وأيمن بن اُمّ أيمن(7) مولى رسول الله صلى الله
(1) في المناقب : لا تتزعنّ .
(2) كذا في المناقب ، وفي الأصل : رأى .
(3) في المناقب : سلّ .
(4) في المناقب : جلّله .
يقال : جَلَدته بالسيف والسوط جَلداً إذا ضربت جِلدَه : «لسان العرب : 3 / 125 ـ جلد ـ » .
(5) مناقب ابن شهراشوب : 2 / 59 ، عنه البحار : 38 / 291 .
(6) أي : فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ، وامّه فاطمة بنت أسد بن هاشم ، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطّلب ـ وقد قيل هي ضُباعة ـ .
(7) كذا في المناقب ، وفي الاصل : واُمّ أيمن .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1173

عليه وآله وغيرهم ، وخرج عليه السلام إلى ذي طوى ، وابو واقد يسوق بالرواحل فأعنف بهم ، فقال أمير المؤمنين : أبا واقد ، ارفق بالنسوة فإنّهنّ ضعائف .
قال : إنّي أخاف أن يدركنا الطلب .
قال : اربع عليك(1) ، إنّ النبي صلى الله عليه وآله قال لي : يا علي ، إنّهم لن يصلوا إليك من الآن بمكروه ، ثمّ جعل أمير المؤمنين يسوق بهنّ سوقاً رفيقاً ويرتجز عليه السلام :
ليس إلا الله فارفع ظنّكا يكفيك ربّ العرش(2) ما أهمّكا

فلمّا شارف ضجنان(3) أدركه الطلب بثمانية فوارس ، فأنزل النسوة واستقبلهم منتضياً سيفه ، فأقبلوا عليه وقالوا : يا غُدَر(4) ، كيف أنت(5) ناج بالنسوة ؟ ارجع لا أبا لك .
قال : فإن لم أفعل أفترجعون ؟ ودنوا من النسوة فحال بينهم وبينها وقتل جناحاً ، وكان يشدّ عليهم شدّ الأسد على فريسته ، وهو يقول :
خلّوا سبيل الجاهد المجاهدِ آليت لا اعبد غير الواحدِ

فتقهقروا عنه ، فسار ظاهراً حتى وافى ضجنان فتلوّم بها يومه وليلته ، ولحق به نفر من المستضعفين ، فصلّى ليلته تلك والفواطم يذكرون الله قياماً
(1) أي توقّف وتحبّس .
(2) في المناقب : الناس .
(3) ضَجَنان : جبل قرب مكّة .
(4) أي : يا غادر .
(5) في المناقب : أظننت يا غدّار أنّك .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1174

وقعوداً وعلىجنوبهم حتى طلع الفجر ، فصلّى بهم صلاة الفجر ، ثمّ سار بهم حتى وصل المدينة ، وقد نزل الوحي بما كان من شأنهم قبل قدومهم ، وهو قوله تعالى : «الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ـ إلى قوله ـ «أنّي لا اضيع عمل عامل منكم من ذكرٍ أو اُنثى ـ فالذكر عليّ والاُنثى فاطمة ـ بعضكم من بعض ـ عليّ من الفواطم وهنّ من عليّ ، إلى قوله ـ عنده حسن الثواب»(1).
وتلا رسول الله صلى الله عليه وآله : «إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم»(2) الآية ، ثم قال : يا علي ، أنت أول هذه الامّة إيماناً بالله وبرسوله ، وأوّلهم هجرة إلى الله ورسوله ، وآخرهم عهداً برسول الله صلى الله عليه وآله ، والذي نفسي بيده لا يحبّك إلا مؤمن قد امتحن الله قلبه للايمان ، ولا يبغضك الا منافق أو كافر .
وكان قيام علي بعد النبي بمكّة ثلاث ليال ، ثمّ لحق برسول الله صلى الله عليه وآله .(3)
روى السدّي ، عن ابن عبّاس ، قال : نزل قوله تعالى : «ومن الناس مَن يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله»(4) في عليّ بن أبي طالب حين هرب النبي صلى الله عليه وآله ، ونزلت الآية بين مكّة والمدينة .
(1) سورة آل عمران : 191 ـ 195 .
(2) سورة التوبة : 111 .
(3) مناقب ابن شهراشوب : 1 / 183 ـ 184 .
ورواه الشيخ الطوسي في الأمالي : 2 / 84 ـ 86 ، عنه البحار : 19 / 65 .
(4) سورة البقرة : 207 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي