تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1151

فقام جعفر وقال : لقد سُدتنا في الجنّة يا شيخي كما سُدتنا في الدنيا .
فلمّا مات أبو طالب رضي الله عنه أنزل الله : «يا عبادي الذين آمنوا إنّ أرضي واسعة فإيّاي فاعبدون»(1).(2)
تفسير وكيع : قال : حدّثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم(3)، عن أبيه ، عن أبي ذرّ الغفاري قال : والله الذي لا إله إلا هو ما مات أبو طالب حتى آمن بلسان الحبشة ، وقال لرسول الله صلى الله عليه وآله : يا محمد ، أتفقه لسان الحبشة ؟
قال : يا عمّ ، إنّ الله علّمني جميع الكلام .
قال : يا محمد ، «اسدن ملصافافا طالاها»(4) يعني : أشهد مخلصاً : لا إله إلا الله ، فبكى رسول الله وقال : إنّ الله أقرّ عيني بأبي طالب .(5)
الصادق عليه السلام : لمّا حضرت أبا طالب الوفاة أوصى بنيه ، فكان فيما أوصى قال : إنّي اوصيكم بمحمد ، فإنّه الأمين في قريش ، والصدّيق في العرب، فقد حباكم بأمر قبله الجَنان(6) ، وأنكره اللسان مخافة الشنآن(7) ، وأيم الله لكأنّي أنظر قد محضته العرب درّها ، وصفّت له بلادها ، وأعطته قيادها ، فدونكم يا بني
(1) سورة العنكبوت : 56 .
(2) بحار الأنوار : 35 / 79 عن مناقب ابن شهراشوب ـ ولم أجده فيه ـ .
(3) كذا في البحار ، وفي الأصل : حدّثنا شيبان ، عن منصور وإبراهيم .
(4) في البحار : لمصافا قاطالاها .
(5) بحار الأنوار : 35 / 78 ح 18 عن مناقب ابن شهراشوب ـ ولم أجده فيه ـ .
وقال المجلسي رحمه الله : يمكن حمل هذا الخبر على أنّه أظهر إسلامه في بعض المواطن لبعض المصالح بتلك اللغة ، فلا ينافي كونه أظهر الاسلام بلغة اُخرى أيضاً في مواطن اُخر .
(6) الجنان : القلب .
(7) الشنان : البغضاء . ومراده : لم اُظهره باللسان مخافة عداوة القوم .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1152

عبد المطّلب ، فقوه بآبائكم واُمّهاتكم وأولادكم ، كونوا له دعاة ، وفي حربه حماة ، فوالله لا سلك أحد سبيله الا رُشِد ، ولا أخذ أحد بهداه غلّا سُعِد ، ولو كان في نفسي مدّة ، وفي أجلي تأخير لكفيته الكوافي ، ودفعت عنه الدواهي ، غير أنّي أشهد بشهادته ، واُعظّم مقالته .(1)
وقال رجل لأمير المؤمنين : يا أمير المؤمنين ، إنّك لبالمنزل الذي أنزلك الله ، وأبوك يعذّب النار !
فقال أمير المؤمنين : فضّ الله فاك ، والذي بعث محمداً بالحقّ نبيّاً ، لو شفع أبي في كلّ مذنب على وجه الأرض لشفّعه الله تعالى فيهم ، أبي يعذّب بالنار وابنه قسيم الجنّة والنار !
ثمّ قال : والذي بعث محمداً بالحقّ نبيّاً ، إنّ نور أبي طالب يوم القيامة ليطفئ أنوار الخق الا خمسة أنوار ، نور محمد صلى الله عليه وآله ، ونوري ونور فاطمة ، ونور الحسن ، ونور الحسين صلوات الله عليهم أجمعين ، لأنّ نوره من نورنا الذي خلقه الله سبحانه من قبل خلق آدم بألفي عام .(2)
وما روي من أشعاره الدالّلة على إسلامه التي تنفث في عُقَد السحر ، وتُغيّر في وجه شعراء الدهر(3) تزيد على ثلاثة آلاف بيت ، مذكورة في كتب المغازي ،
(1) أورده في روضة الواعظين : 139 ـ 140 ، باختلاف ، عنه البحار : 35 / 107 ضمن ح 34 .
وأورده في سيرة الحلبي : 1 / 375 طبع مصر ، باختلاف أيضاً .
(2) مائة منقبة : 174 ح 98 ، أمالي الطوسي : 1 / 311 ـ 312 ، الاحتجاج : 229 ـ 230 ، إيمان أبي طالب لفخّار : 74 ، كنز الفوائد : 1 / 183 ، بشارة المصطفى : 249 ، البحار : 35 / 69 ح 3 وص 110 ح 39 ، غاية المرام ، 46 ح 63 وص 208 ح 16 ، الدرجات الرفيعة : 50 ، الغدير : 7 / 387 ح 7 .
(3) كذا في المجمع ، وفي الأصل : الذي ينفث في عند السجود يغبر في وجوه شعر الدهر .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1153

يكاشف فيها من كاشف النبي صلّى الله عليه وآله ، ويصحّح نبوّته .(1)
في محاسن البرقي(2) : يونس بن ظبيان ، قال رجل عند ا لصادق عليه السلام : إنّ أبا طالب مات مشركاً .
قال أبو عبد الله : أبعد قوله :
ألم تعلموا أنّ نبيّـنا لا مكذّب لدينا ولا يعنى بقول الأبـاطل(3)
وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه ثِمال اليتامى(4) عِصمةٌ للأراملِ
فأظهره(5) ربّ العباد بـنصره وأظهر ديناً حـقّه غير باطـل(6)؟

وتظافرت الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله قال عند وفاته : يا عمّ ، وصلتك رَحم وجزيت خيراً يا عمّ ، كفلتني صغيراً ، وأحظيتني كبيراً ، فجزيت عنّي
(1) مجمع البيان : 4 / 260 ، متشابه القرآن ومختلفه لابن شهراشوب : 2 / 65 .
ولقد جمع أشعار شيخ الأباطح أبي طالب رضوان الله تعالى عليه : أبو هفّان عبد الله بن أحمد المهزمي ، المتوفّى سنة «257 هـ» ، ورواها عفيف بن أسعد ، عن عثمان بن جني الموصلي البغدادي النحوي ، المتوفّى سنة «392 هـ» .
وقد طبع أخيراً بتحقيق وإستدراك الشيخ محمد باقر المحمودي ، وصدر عن مجمع إحياء الثقافة ـ قم ـ ، وتلته طبعة اُخرى بتحقيق مؤسّسة البعثة ـ قم ـ .
(2) لم أجده في المحاسن .
(3) في بعض المصادر :
لقد علموا أنّ ابننا لا مكذّب لديهم ولا يعنى بقول الأباطل
وفي بعضها :
ألم تعلموا أنّ ابننا لا مكذّب لدينا ولا يعبأ بقـول الأباطل
(4) في بعض المصادر : وربيع اليتامى .
(5) في بعض المصادر : فأيّده .
(6) انظر : إيمان أبي طالب للشيخ المفيد : 21 ، الحجّة على الذاهب : 305 ـ 323 ، ديوان شيخ الأباطح : 26 ـ 37 ، الطرائف : 300 و301 و305 ، البحار : 35 / 72 ح 6 وص 136 ح 81 وص 166 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1154

خيراً .
وفي رواية : فقد ربّيت وكفلت صغيراً ، وآزرت ونصرت كبيراً .
ثمّ أقبل على الناس فقال : أم والله ، لأشفعنّ لعمّي شفاعة يعجب بها الثقلان .(1)
فدعا له صلىالله عليه وآله ، وليس للنبيّ أن يدعو بعد الموت لكافر لقوله تعالى : «ولا تُصلّ على أحد منهم مات أبداً»(2) ، والشفاعة لا تكون الا لمؤمن «ولا يشفعون الا لمن ارتضى»(3) .
وأجمع أهل النقل من الخاصّة والعامّة أنّ النبي صلى الله عليه وآله قيل له : ما ترجو لعمّك أبي طالب ؟
قال : أرجو له كلّ خير من ربّي .(4)
ولمّا مات أبو طالب أمر رسول الله صلى الله عليه وآله أمير المؤمنين من بين أولاده الحاضرين بتغسيله وتكفينه مواراته دون عقيل وطالب ، ولم يكن من أولاده من آمن في تلك الحال الا أمير المؤمنين عليه السلام وجعفر ، وكان جعفر ببلاد الحبشة ، ولو كان كافراً لما أمر أمير المؤمنين بتغسيله وتولية أمره ،
(1) تارخي اليعقوبي : 2 / 35 ، إيمان أبي طالب للشيخ المفيد : 25 ـ 26 ، متشابه القرآن ومتخلفه : 2 / 64 ، الحجّة على الذاهب ، 265 ، الطرائف : 305 ح 393 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 14 / 76 ، بحار الأنوار ، 35 / 125 ح 67 وص 163 ، الغدير : 7 / 373 .
(2) سورة التوبة : 84 .
(3) سورة الأنبياء : 28 .
(4) إيمان أبي طالب للشيخ المفيد : 27 ، الحجّة على الذاهب : 71 ـ 72 ، الطرائف : 305 ح 394 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 14 / 68 ، كنز الفوائد : 1 / 184 ، بحار الأنوار : 35 / 109 ح 38 وص 151 وص 156 ، الغدير : 7 / 373 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1155

ولكان الكافر أحقّ به(1).
وتوفّي أبو طالب وخديجة في سنة ستّ(2) من الوحي ، فسمّاه رسول الله صلى الله عليه وآله عام الحزن .(3)
وقالت فاطمة بنت أسد وعليّ صلوات الله عليه : أظهر إسلامك بسرّ محمد .
فقال لهما : آمنت به منذ أربعين سنة .
فقالا : جدّده .
فقال : أشهد أن لا إله الا الله ، وأشهد أنّ محمداً رسول الله ، فاكتموا ذلك عليّ .
فقال أمير المؤمنين : لقد أظهرت دين عيسى وملّة إبراهيم .
في كتاب دلائل النبوّة : قال العباس : لمّا حضرت أبي طالب الوفاة قال له نبي الله صلى الله عليه وآله : يا عمّ ، قل كلمة واحدة أشفع لك بها يوم القيامة : «لا إله إلا الله» .
وكانت جميلة بنت حرب تقول : يا أبا طالب ، مت على دين الأشياخ ، فرأيته يحرّك شفتيه ، وسمعته يقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنّ محمّداً رسول الله .(4)
(1) الفصول المختارة : 2 / 229 ، عنه البحار : 35 / 173 .
(2) قيل : تسع ، وقيل : عشر .
(3) تاريخ اليعقوبي : 2 / 35 ، قصص الأنبياء للراوندي : 317 ، الحجّة على الذاهب : 261 ، البحار : 35 / 82 ح 24 .
(4) أمالي الطوسي : 1 / 271 ـ 272 ، عنه البحار : 35 / 76 ح 11 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1156

الخطيب في الأربعين : بالاسناد عن محمد بن كعب أنّ أبا طالب لمّا رأى النبي صلى الله عليه وآله يتفل في فم علي ، فقال : ما هذا ، يا محمد ؟
قال : إيمان وحكمة .
فقال أبو طالب لعليّ : يا بنيّ ، انصر ابن عمّك وآزره .(1)
وإذا استقرأت ورمت معرفة من كان أشدّ متابعة ، وأعظم حياطة للنبي صلى الله عليه وآله ، وأعظم محاماة عنه وعن دينه لم تجد في المهاجرين والأنصار وغيرهم من المسلمين مثل أبي طالب رضي الله عنه وولده ، فإنّ أحداً لم يحام عن رسول الله كأبي طالب ، فإنّه ذبّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله مدّة حياته بمكّة ، وكذلك لمّا حضر في الشعب ، حتى انّ رسول الله صلم يمكنه بعد موته الاقامة بمكّة ، وهبط عليه جبرائيل وقال : يا محمد ، إنّ اله يقرئك السلام ، ويقول لك : اخرج قد مات ناصرك .(2)
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله : ما نالت قريش منّي ما نالت وما أكره حتى مات أبو طالب .(3)
ثمّ لم يستقرّ حتى خرج صلى الله عليه وآله إلى الطائف .
وكذلك ولده جعفر رضي الله عنه لم يزل يذبّ في إعلاء كلمة الاسلام ونصر الرسول صلى الله عليه وآله حتى قتل في دار غربة مقبلاً غير مدبر ، وسمّاه رسول الله صلى الله عليه وآله «ذا الجناحين» لأنّ يديه قطعتا في الحرب ، فأبدله
(1) مناقب الخوارزمي : 78 ، عنه كشف الغمّة : 1 / 288 .
وأخرجه في البحار : 38 / 249 ح 42 عن الكشف .
(2) البحار : 19 / 14 ح 6 ، وج 35 / 112 ح 43 وص 137 ح 83 وص 174 .
(3) مناقب ابن شهراشوب : 1 / 67 ، عنه البحار : 19 / 17 ح 9 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1157

الله منهما جناحين يطير بهما في الجنّة ، ووجد فيه بعد أن قتل بضع وتسعون رمية وطعنة ، ليس منها شيء في دبره .(1)
وهذا أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين ، لم يجاهد أحد جهاده ، ولا يواسي الرسول صلى الله عليه وآله مواساته ، وهو صلوات الله عليه صاحب الوقائع المشهورة ، والمقامات المذكورة ، التي اتّفق المخالف والمؤالف على نقلها ، وضربت الأمثال بشجاعته فيها ، كبدر واُحد والأحزاب وخيبر وحنين وأؤطاس(2) وغيرها من الغزوات والسرايا ، وفدى رسول الله صلى الله عليه وآله بمبيته على فراشه حتى أنزل الله فيه : «ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله»(3) وما زال صلوات الله عليه يذبّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله ويكدح في إعلاء كلمته في حياته وبعد موته حتى قتل في محرابه راكعاً .
وكذلك ولداه الحسن والحسين صلى الله عليهما ، فإنّهما بالغا في النصحية لجدّهما ، وثابرا على آثار دينه وقمع الملحدين فيه ، لتكون كلمة الله العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى ، حتى قتلا في سبيل الله وذرّيّتهما وولدهما ، وسبيت نساؤهما وذرّيّتهما .
وكذلك زيد بن علي بن الحسين صلوات الله عليه ، وولده يحيى بن زيد ، ومحمد بن زيد ، وغيرهما من أولاده وأحفاده .
(1) انظر : الاستيعاب : 1 / 211 ، عنه البحار : 22 / 276 .
وجامع الأصول : 9 / 248 ح 6124 ، عنه البحار : 21 / 58 ح 10 .
وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 2 / 760 ، عنه البحار : 21 / 61 ـ 62 .
(2) أؤطاس : واد في ديار هَوازن ، فيه كانت وقعة حُنَين ... ويومئذ قال النبي صلى الله عليه وآله : حَمِيَ الوَطيسُ . «معجم البلدان : 1 / 281» .
(3) سورة البقرة : 207 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1158

وكذلك بنو الحسن كعبد الله ومحمد وإبراهيم وغيرهم كصاحب فخ ومن تابعه ، وكانوا أكثر من ثلاثمائة من ولد أبي طالب ، حتى قال سيّدنا أبو الحسن الثالث علي بن محمد الهادي العسكري صلى الله عليه : ما اُصبنا بمصيبة بعد كربلاء كمصيبة صاحب فخّ .(1)
ومن حفدته مسلم بن عقيل ، وولده الذين شروا أنفسهم من الله بالثمن الأوفر ، وقد صنّف فيهم كتاب مقاتل الطالبيّين(2) وتواريخهم وسيرتهم فلا نطوّل بذلك ، ولولا حسن اعتقادهم ، وصفاء ودادهم ، وشدّة جهادهم ، وقوّة اجتهادهم لما جعلهم الله خلفاءه في أرضه ، والاُمناء على سنّته وفرضه .
بحار العلم ، ومعادن الحلم ، وأئمّة الهدى ، ومصابيح الدجى ، أوّلهم عليّ ، وآخرهم المهديّ ، كلّما خوى لهم نجم بزغ نجم طالع ، كلّما اختفى منهم علم بدا علم لامع ، وكفى فخراً كون المهديّ من ذرّيّته الذي يملأ الله الأرض به قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً .
وكان أبو طالب رضي الله عنه ربّى رسول الله صلى الله عليه وآله صغيراً ،
(1) روى في عمدة الطالب : 183 عن محمد الجواد بن علي الرضا عليهما السلام أنّه قال : لم يكن لنا بعد الطف مصرع أعظم من فخّ . عنه عوالم العلوم : 21 / 363 ح 7 .
وروى في معجم البلدان : 4 / 238 بهذا اللفظ : ... ولهذا يقال لم تكم مصيبة بعد كربلاء أشدّ وأفجع من فخ . عنه البحار : 48 / 165 وعن عمدة الطالب .
(2) مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج الاصفهاني ـ صاحب الأغاني ـ المتوفّى ببغداد سنة ستّ أو سبع وخمسين وثلاثمائة ، ذكر فيه شهداءهم إلى أواخر المقتدر الذي مات سنة «320 هـ» ، ابتدأ فيه يجعفر الطيّار أوّل الشهداء من آل أبي طالب ، واختتم بإسحاق بن عبّاس ، المعروف بـ «المهلوس» الشهيد بأرمن ، وذكر بعده جمعاً ممّن حكى له قتلهم ، وتبرّأ من خطائه ، وفرغ منه في جمادى الاولى سنة «313 هـ» . الذريعة : 21 / 376» .
وقد طبع عدّة مرات ، منها في إيران سنة «1307 هـ» ، وفي النجف سنة «1385 هـ» ، ومن ثمّ ـ بالاوفست على طبعة النجف ـ في قم سنة «1405 هـ» .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1159

وحصنه كبيراً .
وكانت زوجته فاطمة بنت أسد رضي الله عنها شديدة الحنوّ والشفقة على رسول الله صلى الله عليه وآله ، وهي أحد الصالحات القانتات ، ولمّا سمعت قول الله : «يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك»(1) كانت أوّل امرأة بايعت رسول الله صلى الله عليه وآله هي .
وروي عن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام أنّ فاطمة بنت أسد أوّل امرأة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله من مكّة إلى المدينة على قدمها ، وكانت أبرّ الناس برسول الله صلى الله عليه وآله ، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : الناس يحشرون يوم القيامة عراة ، فقالت : واسوأتاه .
فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله : إنّي أسأل الله أن يبعثك كاسية .
وسمعته يذكر ضغطة القبر ، فقالت : واضعفاه .
فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله : إنّي أسأل الله أن يكفيك ذلك .(2)
وفي الخبر أنّها أسلمت بعد عشرين يوماً من مبعث رسول الله صلى الله عليه وآله على يد أمير المؤمنين صلوات الله عليه ولدها ، وجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله باكية واستزادت ، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وآله أن تقتني آثار ابنها .
وروي أنّها لمّا ماتت دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وآله فجلس عند رأسها ، وقال : يرحمك الله يا اُمّي ، كنت اُمّي بعد اُمّي ، تجوعين وتشبعيني ،
(1) سورة الممتحنة : 12 .
(2) روي نحوه في اعتقادات الصدوق : 58 ـ 59 (المطبوع في مصنّفات الشيخ المفيد ، ج 5) ، عنه البحار : 6 / 279 . وأورده أيضاً شاذان في الروضة : 5 ـ مخطوط ـ .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1160

وتعرين وتكسيني ، وتمنعين نفسك من طيب الطعام وتطعميني ، تريدين بذلك وجه الله وادار الآخرة ، ثمّ أمر صلى الله عليه وآله أن تغسل ثلاثاً ، فلمّا بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول الله صلى الله عليه وآله بيده ، ثمّ خلع قميصه فألبسها إيّاه ولفّها فوقه ، ثمّ دعا رسول الله صلى الله عليه وآله اُسامة وأبا أيّوب وغلاماً أسود يحفرون قبرها ، فلمّا بلغوا اللحد حفره رسول الله عليه وآله وأخرج ترابه بيده ، فلمّا فرغ دخل فاضطجع فيه ، ثمّ قال : الحمد لله الذي يحيي ويميت وهو حيّ لا يموت ، [اللهم](1) اغفر لاُمّي فاطمة بنت أسد ، ولقّنها حجّتها ، ووسّع عليها مدخلها ، بحقّ نبيّك والأنبياء الذين من قبلي ، فإنّك أرحم الراحمين .
ثمّ قال صلى الله عليه وآله بعد وضعها في اللحد : يا فاطمة ، أنا محمد سيد ولد آدم ولا فخر ، فإذا أتاك منكر ونكير فسألاك : من ربّك ؟ فقولي : الله ربّي ، ومحمد نبيّي ، والاسلام ديني ، والقرآن كتابي ، وابني عليّ إمامي ووليّي .
ثم قال صلى الله عليه وآله : اللهم ثبّت فاطمة بالقول الثابت ، ثمّ ضرب بيده اليمنى على اليسرى فنفضهما ، ثم قال : والذي نفس محمّد بيده لقد سمعت فاطمة تصفيق يميني على شمالي .
وروي أنّه صلى الله عليه وآله كبّر عليها أربعين تكبيرة ، فسأله عمّار عن ذلك ، فقال : يا عمّار ، التفتّ عن يميني فنظرت أربعين صفّاً من الملائكة ، فكبّرت لكلّ صفّ تكبيرة .
وفي خبر آخر : يا عمّار ، إنّ الملائك قد ملأت الفضاء ، وفتح لها باب من الجنّة ، ومهّد لها مهاد من مهاد الجنّة ، وبعث إليها بريحان من ريحان الجنّة ، فهي
(1) من الفصول المهمّة .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1161

في روح وريحان وجنّة نعيم ، وقبرها روضة من رياض الجنّة .(1)
وكفاها رضي الله عنها فضلاً وفخراً في الدنيا والآخرة انّ ولدها ذرّيّة رسول الله صلى الله عليه وآله ونسله ، وهم أحد الحبلين اللذين لم ينقطعا حتى يردا على رسول الله صلى الله عليه وآله الحوض ، ولولا خوف الإطالة لأوردت من شعر أبي طالب رضي الله عنه الذي يحثّ فيه بنيه على نصر رسول الله صلى الله عليه وآله واتّباع هديه جملة مفيدة تنبئ عن حسن عقيدته ، وإخلاص سريرته ، لكن اقتصرت على هذا القدر والله الموفّق ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، وإنّما قالت الناصبة ما قالت فيه عداوة لولده أمير المؤمنين وخطّاً من قدره ، ويأبى الله الا أن يتمّ نوره ولو كره المشركون .(2)
ولمّا توفّي أبو طالب رضي الله عنه اشتدّ البلاء على رسول الله صلى الله عليه وآله ، فعمد لثقيف في الطائف ، فوجد ثلاثة ، هم سادة ، وهم إخوة : عبد ياليل ، ومسعود ، وحبيب ، بنو عمرو ، فعرض صلى الله عليه وآله عليهم نفسه .
فقال أحدهم : أنا أسرق باب(3) الكعبة إن كان الله بعثك بشيء قطّ ، وقال الآخر : أعجز الله أن يرسل غيرك ؟ وقال الآخر : والله لا اُكلّمك بعد مجلسك هذا أبداً ، فإن كنت نبيّاً كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن يزد عليك الكلام ، وإن كنت تكذب على الله فلا ينبغي لي أن اُكلّمك ، وتهزّؤوا به وأفشوا في قومه ما
(1) أمال يالصدوق : 258 ح 14 ، روضة الواعظين : 142 ، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ : 31 .
وأخرجه في البحار : 35 / 70 ح 4 عن الأمالي والروضة ، وفي ص 179 عن الفصول المهمّة .
وفي ج 81 / 350 ح 22 عن الأمالي .
(2) إشارة إلى الآية : 32 من سورة التوبة .
(3) في إعلام الورى : أستار . وفي مصادر اُخرى : أمرط ثياب الكعبة ، ومراده : اُمزّقها .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1162

راجعوه(1) ، ثمّ أغروا به سفهاءهم ، فقعدوا له صفّين على طريقه .
فلمّا مرّ رسول الله صلى الله عليه وآله بين صفّيهم جعلوا لا يرفع قدماً ولا يضعها الا رضخوها بالحجارة حتى أدموا رجليه ، فخلص منهم وهما تسيلان بالدماء ، فعمد إلى حائط من حوائطهم ، واستظلّ بظلّ حُبلة ـ وهي الكرمة ـ وهو مكروب موجع تسيل رجلاه دماً ، فإذا في الحائط عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وهما من بني عبد شمس ، وهما من أكابر قريش ، وكان لهم أموال بالطائف ، فلمّا رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ولرسوله .
وكلاهما قتلا يوم بدر وقتل معهما الوليد بن عتبة ، قتل عتبة أبو عبيدة بن الحارث بن عبد المطّلب ، ضربه على هامته بالسيف فقطعها ، وضرب هو عبيدة بن الحارث على ساقه فأطنّها(2) فسقطا جميعاً ، وحمل شيبة ـ أخوه ـ على حمزة فتضاربا بالسيفين حتى انثلما ، وحمل أمير المؤمنين عليه السلام على الوليد فضربه على حبل عاتقه فأخرج السيف من إبطه .
قال عليّ صلوات الله عليه : لقد أخذ الوليد يمينه بشماله فضرب بها هامتي ، فظننت أنّ السماء سقطت على الأرض ، ثمّ اعتنق حمزة وشيبة ، فقال المسلمون : يا عليّ ، أما ترى ا لكلب فقد أنهر(3) عمّك ؟ فحمل عليه علي عليه السلام ، ثم قال لحمزة : يا عمّ ، طأطئ رأسك ـ وكان حمزة أطول من شيبة ـ فأدخل حمزة رأسه في صدره ، فضربه عليّ صلوات الله عليه فطرح نصف
(1) في إعلام الورى : وأفشوا في قومهم الذي راجعوه به .
(2) أي قطعها .
(3) أنهر الطعنة : وسّعها . وأنهَرتُ الدم : أي أسلته . «لسان العرب : 5 / 237 ـ نهر ـ » .
وفي مناقب ابن شهراشوب : يهرّ .
يقال : هرّ الكلب يَهِرُّ هريراً : إذا نَبَحَ وكَشَرَ عن أنيابه . «لسان العرب : 5 / 261 ـ هرر ـ » .

السابق السابق الفهرس التالي التالي