تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1137

من رجوت وجوده منزّه عن العدم ، ويا من دوام بقائه متّصف بالأحديّة والقدم ، ويا من هدانا السبيل إلى ما يزلفنا برضوانه ، وعرّفنا الدليل إلى ما يتحفنا بجنانه ، ونصب لنا أعلاماً يهتدي بها الحائر عن قصد السبيل في معتقده ونحلته ، وأثبت لنا في سماء الصباح إيضاح بيانه أنجماً ينجو بنورها السائر بغير دليل في ظلمة حيرته ، وجعلهم خاصّة نفسه من عباده ، وولاة أمره في بلاده ، لذّتهم في امتثال أوامره ونواهيه ، وفرحتههم فيما يقرّبهم من حضرته ويرضيه ، وكلّفهم بالتكاليف الشاقّة من جهاد أعدائه ، وألزمهم بكفّ أكفّ الملحدين في صفاته وآلائه .
فبذلوا وسعهم في إعلاء كلمته ، وأجهدوا جهدهم إذعاناً لربوبيّته ، وقابلوا بشرائف وجوههم صفاح الأعداء ، وتلقّوا بكرائم صدورهم رماح الأشقياء ، حتى قطعت أوصالهم ، وذبحت أطفالهم ، وسبيت ذراريهم ونساؤهم ، واُنهبت أثقالهم وأموالهم ، واُهديت إلى رؤوس البغاة رؤوسهم ، واستلّت بسيوف الطغاة نفوسهم ، وصارت أجسادهم على الرمضاء منبوذة ، وبصوارم الأعداء موقوذة(1)، تسفي(2) عليهم الأعاصير بذيولها ، وتطأهم الأشقياء بخيولها ، وتبكي عليهم السموات السبع بأفلاكها ، والأرضون السبع بأملاكها ، والبحار ببينانها ، والأعصار بأزمانها ، والجنّة بولدانها ، والنار بخزّانها ، والعرش بحملته ، والفرش بحملته ، أبدانهم منبوذة بالعراء ، وأرواحهم منّعمة في الرفيق الأعلى .
أسألك بحقّ ما ضمّت كربلاء من أشباحهم ، وجنّة المأوى من أرواحهم ،
(1) الوقذ : شدّة الضرب . «لسان العرب : 3 / 519 ـ وقذ ـ » .
(2) سَفَتِ الريح التراب تسفيه سَفياً ، إذا أذرَته . «صحاح الجوهري : 6 / 2377 ـ سفى ـ » .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1138

وبحقّ ألوانهم الشاحبة في عراها ، وأوداجهم الشاخبة(1) في ثراها ، وبما ضمّ صعيدها من قبورهم وظرائحهم ، وما غيّب في عراصها من أعضائهم وجوارحهم ، وبحقّ تلك الوجوه التي طال ما قبّلها الرسول ، وأكرمتها البتول ، وبحقّ تلك الأبدان التي لم تزل تدأب في عبادتك ، وتكدح في طاعتك ، طالما سهرت نواظرها بلذيذ مناجاتك ، وأظمأت هواجرها طلباً لمرضاتك ، شاهدت أنوار تجلّيات عظمتك بأبصار بصائرها ، ولاحظت جلال ربوبيّتك بأفكار ضمائرها ، فأشرقت أنوار إلهيّتك على مرايا قلوبها ، فأضاءت الأكوان بانعكاس أشعّة ذلك النور الذي هو كمال مطلوبها .
أن تصلّي على محمد وآل محمد ، وان تجعل قلوبنا معمورة بحبّهم ، وأنفسنا مسرورة بقربهم ، وألسنتنا بذكر مناقبهم ناطقة ، وأبداننا بنشر فضائلهم عانقة ، ومدائحنا إلى نحو جهاتهم موجّهة ، وقرائحنا بمعاني صفاتهم مفوّهة ، وشكرنا موقوفاً على حضرة رفعتهم ، وذكرنا مصروفاً إلى مدحة عظمتهم ، لانعقد سواهم سبيلاً موصلاً إليك ، ولا نرى غير حبّهم سبباً منجياً لديك ، نرى كلّ مجد غير مجدهم حقيراً ، وكلّ غنيّ بغير ولاتهم فقيراً ، وكلّ فخر سوى فخرهم زوراً ، وكلّ ناطق بغير لسانهم زخرفاً وغروراً ، وكلّ عالم بغير علمهم جاهلاً ، وكلّ إمام يدّعي من دونهم باطلاً .
فلك الحمد علىما اطّلعنا عليه من سرّك المصون بعرفان فضلهم ، وأهلّنا له من علمك المخزون بالاستمساك بحبلهم .
(1) في حديث الشهداء : أوداجهم تَشخُبُ دماً ، قيل : هي ما أحاط بالعنق من العروق التي يقطعها الذابح «لسان العرب : 2 / 397 ـ ودج ـ » .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1139

اللهم فثبّتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، ونوّر بمصابيح ولاتهم سبيل سلوكنا إليك في ظلمات الساهرة(1) ، وزيّن بذكرهم مجالس وعظنا ، وشرّف بشركهم نفائس لفظنا ، واجعلنا وحاضري مجلسنا ممّن يناله شفاعتهم يوم وقوفنا بين يديك ، ومن تتلقّاهم الملائكة الكرام بالبشرى حين العرض عليك ، وأثبنا على تحمّل الأذى فيهم من أعداء دينك ثواب الصدّيقين ، وأيّدنا بروح قدسك ، وانصرنا على القوم الكافرين .
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين .
(1) الساهرة : الأرض ، الفلاة ؛ وقيل : أرض يجدّدها الله يوم القيامة . «لسان العرب : 4 / 383 ـ سهر ـ » .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1140


تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1141

المجلس الثاني

في ذكر سيّد المرسلين ، وما ناله من الأذى من
أعداء الدين ، وذكر وفاته ، وذكر اُمور
تتعلّق بظلامة أهل بيته الطاهرين
صلوات الله عليهم أجمعين

الحمد لله الذي وعد على الصبر الجميل بالثواب الجزيل في دار جزائه ، وتوعّد بالعذاب الأليم على ترك التسليم لقضائه ، وابتلى أنبياءه بالمحن السابقة في علمه في دار بلائه ، وكلّفهم بالتكاليف الشاقّة من حكمه في منزل ابتلائه ، وأمرهم بكفّ أكفّ الملحدين في آياته ، ورغم اُنوف الحجاحدين لصفاته ، وأطلعهم على أسرار عظمته بصغر ما سواه لديهم ، وكشف عن أبصار بصائرهم فوعوا ما ألقاه إليهم ، وتجلّى لهم في ضمائرهم فطاح وجودهم في شهودهم ، وخاطبهم في سرائرهم ، فهاموا طرباً بلذّة خطاب معبودهم ، حصّن مدينة وجودهم بسور توفيقه من وساوس الشكّ ، وحمى حوزة نفوسهم بتوفيق مشيئته من شُبه الشرك ، وأطلعهم على عيوب دار الغرور فرفضوها ، وحذّرهم مصارع بطشها المشهور ففرضوها .
وصلوا بقدم صدقهم إلى عين اليقين ، وشربوا من شراب الجنّة بكأس من
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1142

معين ، وسلكوا مفاوز البرزخ إلى الدار الباقية ، فكشفوا حجب غيوبه لأهل الحياة الفانية ، وحذّرهم ما يلقون في سلوكهم ـ بعد مماتهم ـ إلى دار قرارهم ، وأراهم عواقب اُمورهم بعد الاخراج من ديارهم ، وأمرهم باتّخاذ الزاد البعيد لسفرهم ، وحسن الارتياد قبل انقطاع عذرهم ، ما وهنوا في سبيل ربّهم ، وما ضعفوا وما استكانوا بل أيّدوا الحقّ وأهله ، ونصروا وأعانوا وجاهدوا في الله بأيديهم وألسنتهم ، ونصحوا في سبيل الله في سرّهم وعلانيتهم ، وكان أفضل سابق في حلبة الاخلاص لربّه ، وأكمل داع دعا إلى الله بقالبه وقلبه ، وخير مبعوث بدأ الله به وختم ، وأجمل مبعوث بالمجد الأعبل والشرف الأقدم ، كم تلقّى صفاح الأعداء بطلعته الشريفة ؟! وكم قابل رماح الأشقياء ببهجته المنيفة ؟! صاحب بدر الصغرى والكبرى ، وسيّد أهل الدنيا والاُخرى ، الذي لم يجاد أحد في اُحد جهاده ، ولا جالد جَليد في حنين جلاده(1) ، أشجع الخلق بالحقّ ، واصدع الرسل بالصدق .
تاج رسالته : «سبحان الذي أسرى»(2) ، وتوقيع نبوّته : «فأوحى إلى عبده ما أوحى»(3) ، ودلالة محبّته : «ما ودّعك ربّك وما قلى»(4) ، وآية بعثه : «ما كذب الفؤاد ما رأى»(5) ، كلّ من الأنبياء مقدّمة جنده ، وكلّ من الأولياء أخذ الميثاق على من بعده بوفاء عهده ، في صحف الخليل ذكره أشهر من أن يشهر ، وفي توراة الكليم فضله من فلق الصبح أظهر ، والمسيح في إنجليه دعا إليه وبشّر ، وصاحب الزبور لمّا دعا باسمه أظهر الله على جالوت ونصره أعني
(1) الجَلَد : القوّة والشدّة ، الصلابة . «لسان العرب : 3 / 125 ـ جلد ـ » .
(2) سورة الاسراء : 1 .
(3) سورة النجم : 10 .
(4) سورة الضحى : 3 .
(5) سورة النجم : 11 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1143

صاحب الحوض والكوثر ، والتاج والمغفر ، والدين الأظهر ، والنسب الأطهر ، محمد سيّد البشر ، أشرف مبعوث إلى الكافّة ، وخير مبعوث بالرحمة والرأفة ، تحمّل أعباء الرسالة صابراً ، وجاهد في الله مصابراً ، ما اوذي أذاه نبيّ ، ولا صبر صبره وليّ ، كم راموا هدم بنيانه ، وهدّ أركانه ، وإدحاض حجّته ، وإذلال صبحته ؟ وأبى الله الا تأييده ونصره ، وإعلاء فوق كلّ أمر أمره .
روى سيّدنا ومولانا الامام المفترض الطاعة الامام ابن الأئمّة ، والسيد ابن السادة ، نجل النبيّ ، وسلالة الوصيّ ، الامام الزكي ، أبو القائم المهديّ الحسن بن عليّ العسكري صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين ، وولده الحجّة على الخلق أجميعن ، أنّ أبا جهل كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ـ بعد أن هاجر إلى المدينة ـ : يا محمد ، إنّ الخيوط(1) التي في رأسك هي التي ضيّقت عليك مكّة ، ورمت بك إلى يثرب ، وإنّها لا تزال بك إلى أن توردك موارد الهلكة ... إلى آخر الكتاب .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله للرسول : إنّ أبا جهل بالمكاره(2) يهدّدني ، وربّ العالمين بالنصر والظفر يعدني ، وخبر الله أصدق ، والقبول من الله أحقّ ، لن يضرّ محمداً من خذله ، أو يغضب عليه بعد أن ينصره الله عزّ وجل ، ويتفضّل بكرمه وجوده عليه .
ثمّ قال للرسول : قل له : يا أبا جهل ، إنّك راسلتني بما ألقاه الشيطان في خلدك(3) ، وأنا اُجيبكبما ألفاه في خاطري الرحمن ، إنّ الحرب بيننا وبينك
(1) في تفسير العسكري : الخبوط . وهو من تخبّطه الشيطان : إذا مسّه بخبل أو جنون .
وما في المتن «الخيوط» فلعلّه كناية عن الجنون .
(2) في التفسير والمناقب : بالمكاره والعطب .
(3) الخَلَد : البال والقلب .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1144

كافية(1) إلى تسعة وعشرين يوماً ، وإنّ الله سيقتلك فيها بأضعف أصحابي ، وستلقى أنت وشيبة وعتبة والوليد وفلان وفلان ـ وذكر عدداً من قريش ـ في قليب بدر مقتّلين ، أقتل منكم سبعين ، وآسر منكم سبعين ، أحملهم على الفداء(2) الثقيل .
ثمّ قال صلى الله عليه وآله : ألا تحبّون أن اُريكم مصرع(3) كلّ واحد من هؤلاء ؟ هلمّوا إلى بدر ، فإنّ هناك الملتقى والمحشر ن وهناك البلاء [الأكبر](4) ، فلم يجبه الا أمير المؤمنين ، وقال : نعم ، بسم الله ، فقال صلى الله عليه وآله لليهود : اخطوا خطوة واحدة فإنّ الله يطوي الأرض لكم ، ويوصلكم إلى هناك ، فخطا القوم خطوة ، ثم الثانية : فإذا هم عند بئر بدر .
فقال صلى الله عليه وآله : هذا مصرع عتبة ، وذاك مصرع شيبة ، وذاك مصرع الوليد ، إلى أن سمّى تمام سبعين ، وسيؤسر فلان وفلان ، إلى أن ذكر سبعين منهم ، فلمّا انتهى(5) إلى آخرها وقال : هذا مصرع أبي جهل ، يجرحه(6) فلان الأنصاري ، ويجهز عليه عبد الله بن مسعود أضعف أصحابي .
ثمّ قال : إنّ ذلك لحقّ كائن إلى بعد ثمانية وعشرين يوماً ، فكان كما
(1) في التفسير : كائنة .
(2) كذا في التفسير والمناقب ، وفي الأصل : النداء .
(3) كذا في التفسير والمناقب ، وفي الأصل : مصارع .
(4) من التفسير والمناقب .
(5) في التفسير والمناقب : انتهوا .
(6) كذا في التفسير والمناقب ، وفي الأصل : آخرها فإنّ هذا مصرع ابي جهل يخرجه ـ وهو تصحيف ـ .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1145

قال صلى الله عليه وآله .(1)
ولمّا ائتمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم ، فوثبت كلّ قبيلة على من فيها من المسلمين ، يؤذونهم ويعذّبونهم ، فافتتن من افتتن ، وعصم الله سبحانه منهم من شاء ، وحمى(2) الله نبيّه بعمّه أبي طالب رضي الله عنه ، فلمّا رأى رسول الله صلى الله عليه وآله ما بأصحابه ، ولم يقدر على منعهم ، ولم يؤمر بعد بالجهاد ، أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة ، وقال : إنّ بها ملكاً صالحاً ، لا يظلم ولا يُظلم عنده أحد ، فاخرجوا إليه حتى يجعل الله عز وجل للمسلمين فرجاً ، وأراد به النجاشي ، واسمه أصحمة ، وهو بالحبشيّة عطيّة ، وإنّما النجاشي اسم الملك ، كقولهم تبع ، وكسرى(3) ، وقيصر .
فخرج إليها سرّا أحد عشر رجلاً ، واربع نسوة ، وهم : الزبير بن العوّام ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الرحمان بن عوف ، وأبو حذيفة بن عتبة ، وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو ، ومصعب بن عمير ، وأبو سلمة بن عبد الأسد ، وامرأته سلمة بنت أبي اُميّة ، وعثمان بن مظعون ، وعامر بن ربيعة ، وامرأته ليلى بنت أبي خيثمة ، وحاطب بن عمرو ، وسهيل(4) بن بيضاء ، فخرجوا إلى البحر ، وأخذوا سفينة إلى برّ(5) الحبشة بنصف دينار ، وذلك في رجب ، في النسة الخامسة من
(1) التفسير المنسوب إلى الامام العسكري عليه السلام : 294 ـ 296 ، عنه البحار : 17 / 342 ، وتفسير البرهان : 1 / 115 ح 1 . وأورده في الاحتجاج : 1 / 38 ، ومناقب ابن شهراشوب : 1 / 68 . وأخرجه في البحار : 19 / 265 ح 6 عن تفسير العسكري والاحتجاج .
وانظر : الأحاديث الغيبيّة : 2 / 5 ـ 8 ح 351 .
(2) في المجمع : ومنع .
(3) كذا في المجمع ، وفي الأصل : كقوله : كسرى .
(4) في المجمع : سهل .
(5) في المجمع : أرض .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1146

مبعث النبي صلى الله عليه وآله(1) .
ثم خرج بعدهم جعفر بن أبي طالب ، وتتابع المسلمون إليها ، وكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين على التعاقب ، اثنين وثمانين رجلاً(2) ، سوى النساء والصبيان .
فلمّا علمت قريش بذلك وجّهت عمرو بن العاص وصاحبه عمارة بن الوليد بالهدايا إلى النجاشي وإلى بطارقته ليردّوهم ، وكان عمارة بن الوليد شابّاً حسن الوجه ، وأخرج عمرو بن العاص أهله معه .
فلمّا ركبوا السفينة شربوا الخمر . فقال عمارة لعمرو بن العاص : قل لأهلك تقبّلني ، فلمّا انتشى(3) عمرو دفعه عمارة في الماء ، فلمّا انتشى(3) عمرو دفعه في الماء ، ونشب(4) عمرو في صدر السفينة ، واُخرج من الماء ، وألقى الله العداوة بينهما في مسيرهما قبل أن يصلا إلى النجاشي .
ثمّ وردا على النجاشي ، فأنزلهم ، ثمّ استدعى بهما وسألهما ما أقدمهما إلى بلاده .
فقال عمرو : أيّها الملك ، إنّ قوماً خالفونا في ديننا ، وسبّوا آلهتنا(5) ، وصاروا إليك ، فردّهم إليان ، فبعث النجاشي إلى جعفر ، فحضر بين يديه ، فقال : أيها الملك ، سلهم أنحن عبيد لهم ؟
فقال : لا ، بل أحرار .
قال : سلهم ألهم علينا ديون يطالبونا بها ؟
(1) زاد في المجمع : وهذه هي الهجرة الاولى .
(2) كذا في المجمع ، وفي الأصل : إنساناً .
(3) الانتشاء : أوّل السكر .
(4) نشب الشيء في الشيء : علق .
(5) كذا في المجمع ، وفي الأصل : إلهنا .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1147

قال : عمرو : لا ، ما لنا عليك مديون .
قال : فلكم في أعناقنا دماء تطالبوننا بها ؟
قال عمرو : لا .
قال : فما تريدون منّا ؟! آذيتمونا ، فخرجنا من بلادكم(1) .
قال جعفر : أيّها الملك ، إنّ الله سبحانه بعث فينا نبيّاً أمرنا بخلع الأنداد ، وبترك الاستقسام بالأزلام ، وأمرنا بالصلاة ، والزكاة ، والعدل ، والاحسان ، وإيتاء ذي القربى ، ونهانا عن الفحشاء ، والمنكر ، والبغي .
فقال النجاشي : بهذا بعث عيسى ، ثمّ قال النجاشي(2) : هل تحفظ ممّا اُنزل على نبيّك شيئاً ؟
قال : نعم .
قال : اقرأ ، فقرأ سورة مريم ، فلمّا بلغ «وهُزّي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنيّاً»(3) قال النجاشي : هذا والله هو الحق .
فقال عمرو : إنّه مخالف لنا ، فردّه علينا .
فرفع الملك يده ولطم عمرو ، وقال : اسكت والله لئن ذكرته بسوء لأفعلنّ بك ، ثمّ قال : ارجعوا إلى هذا هديته ، وقال لجعفر ولأصحابه : امكثوا أنتم سيوم ، والسيوم : الآمنون ، وأمر لهم بما يصلحهم من الرزق ، فانصرف عمرو وأقام المسلمون هناك بخير دار ، وأحسن جوار ، إلى أن هاجر رسول الله صلى الله
(1) في المجمع : دياركم .
(2) زاد في المجمع : لجعفر .
(3) سورة مريم : 25 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1148

عليه وآله إلى المدينة ، وعلا أمره ، وهادن قريشاً ، وفتح خيبر ، فوافى جعفر إلىرسول الله صلىالله عليه وآله بجميع من كانوا معه ، فقال رسول الله صلىالله عليه وآله : لا أدري بأيّهما اُسرّ ، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ؟
وأتى مع جعفر وأصحابه من الحبشة سبعون رجلاً ، منهم اثنان وستّون من الحبشة ، وثمانية من أهل الشام ، منهم(1) بحيراء الراهب ، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله سورة يس إلى آخرها ، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا ، وقالوا : ما أشبه هذا بما اُنزل على عيسى !(2)
ثمّ لم يزل رسول الله صلى الله عليه وآله يقاسي منهم الأهوال ، ولكنّ الله سبحانه كان يمنعهم عنه بعمّه أبي طالب ، وكان أبو طالب رضي الله عنه يظهر لهم أنّه موافق لهم في دينهم ليتمّ له ما يريد من حماية رسول الله ، والا فهو كان مسلماً موحّداً .
وقد أجمعت العصابة من أهل البيت عليهم السلام انّه قد مات مسلماً ، وإجماعهم حجّة على ما ذكر في غير موضع(3) ، وسبب الشبهة في ذلك أنّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه كان يعلن بنفاق أبي سفيان ، فشكا معاوية ذلك إلى مروان وعمر وعبد الله بن عامر فقالوا : إنّ إسلام أبيه أخفى من نفاق أبيك ، فأظهر كفره ، فجعل يقول : ألا إنّ أبا طالب مات كافراً ، وأمر الناس بذل فصارت سنّة .
وقال الصادق عليه السلام : مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف ، أسرّوا
(1) في المجمع : فيهم .
(2) مجمع البيان : 2 / 223 ـ 234 ، عنه البحار : 18 / 411 ـ 413 .
ورواه في تفسير القمّي : 1 / 176 ـ 178 ، بتفاوت ، عنه البحار : 18 / 414 ح 1 .
(3) انظر البحار : 35 / 139 نقلاً عن مجمع البيان .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1149

الايمان وأظهروا الشرك ، فآتاهم الله أجرهم مرّتين .(1)
وقد صنّف الشيخ أبو جعفر بن بابويه ، وأبو علي الكوفي(2) ، وسعد القمّي(3) ، وعلي بن بلال المهلّبي(4) ، والشيخ المفيد(5) في فضائله ، وقد أجمع أهل البيت على ذلك ـ كما ذكرنا أوّلاً ـ .
وروى شعبة ، عن قتادة ، عن الحسن في خبر طويل انّه لمّا حضرت أبا طالب الوفاة دعا رسول الله صلىالله عليه وآله وبكى وقال : يا محمد ، إنّي أخرج من الدنيا ومالي غمّ الا غمّك ، وستلقى هزواً وحروباً كثيرة من بني اميّة وبني المغيرة ، فإذا متّ فخبّر أصحابك لينتقلوا من مكّة إلى حيث شاؤا، فلا مقام لهم بمكّة بعدي .
(1) أمالي الصدوق: 492 ح 12 ، معاني الأخبار : 285 ح 1 ، إيمان أبي طالب لفخّار بن معدّ : 321 ـ 322 وص 362 وص 363 .
وأخرجه في البحار : 35 / 72 ح 7 عن أمالي الصدوق : وفي ص 77 ح 15 عن معاني الأخبار . وفي ص 158 عن شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد .
(2) إيمان أبي طالب لأبي علي الكوفي أحد بن محمد بن عمّار ، المتوفّى سنة «346 هـ» . «رجال النجاشي : 95 رقم 236 ، فهرست الطوسي : 29 رقم 78» .
(3) فضل أبي طالب وعبد المطّلب وأبي النبي صلى الله عليه وآله لسعد بن عبد الله بن أبي خلف الأشعري القمّي أبي القاسم ، المتوفّى سنة «299 هـ» أو «301 هـ» من ثقاة الطائفة ووجهائهم . «رجال النجاشي : 177 رقم 467 ، فهرست الطوسي : 75 رقم 306» .
(4) البيان عن خيرة الرحمن لأبي الحسن عليّ بن بلال بن أبي معاوية المهلّبي الأزدي . «رجال النجاشي : 177 رقم 467 ، فهرست الطوسي : 75 رقم 306» .
(5) إيمان أبي طالب لأبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الحارثي المفيد ، المتوفّى سنة «413 هـ» ، طبع ـ ولأكثر من مرّة ـ ضمن «نفائس المخطوطات» التي قام بتحقيقها وإصدارها العلّامة الشيخ محمد حسن آل ياسين ، وذلك سنة «1372 هـ» ، كما طبع ضمن «عدّة رسائل للشيخ المفيد» نشر مكتبة المفيد ـ قم ـ ، وطبع أخيراً بتحقيق مؤسّسة البعثة ـ قسم سنة «1412 هـ» ـ .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1150

فبكى رسول الله صلى الله عليه وآله وقال : يا عمّ ، إنّك راحل من الدنيا ، وإنّي راحل بعدك من مكّة إلى المدينة ، وراحل بعد المدينة إلى الله ، وإنّي وإيّاك نلتقي بين يدي الله بعد الموت ، فيسألك عن الايمان بي ، ويسألك عن ولاية ابنك علي .
يا عمّ ، فاشهد بكلمة الاخلاص معي في حياتك قبل موتك ، اُخاصم بها عند ربّي فترضي ربّك عن نفسي ، وترضيني وترضي ولدك عليّاً .
يا عمّ ، أما تأسف بنفسك أن يكون عليّ ولدك إمام اُمّتي ، وأسعد المقرّبين في الجنان ، وتكونَ الشقيّ المعذّب إن متّ على كفرك في النيران ؟
يا عمّ ، إنّك تخاف عليّ أذى أعاديّ ولا تخاف على نفسك غداً عذاب ربّي !
فضحك ابو طالب ، وقال :
ودعوتني وزعمت أنّك ناصحي ولقد صدقت وكنت قد أمينا(1)

وعقد على ثلاثة وستّين(2) : عقد الخنصر والبنصر وعقد الإبهام على إصبعه الوسطى ، وأشار بإصبعه المسبّحة ، يقول : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله .
فقام علي عليه السلام وقال : الله أكبر ، الله أكبر ، والذي بعثك بالحقّ نبيّاً لقد شفّعك الله في عمّك وهداه بك .
(1) انظر «ديوان شيخ الأباطح أبي طالب» من جمع أبي هفّان المهزمي : 41 .
(2) كذا في البحار ، وفي الأصل : ثلاثة وتسعين .
وتفسير ذلك أنّ الألف واحد واللام ثلاثون والهاء خمسة ، والألف واحد والحاء ثمانية والدال أربعة والجيم ثلاثة والواو ستّة والألف واحد والدال أربعة ؛ فذلك ثلاثة وستّون .

السابق السابق الفهرس التالي التالي