تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1125

عجّلت عقوبته ، وإذا افتقر أو أصابته خصاصة قال : مرحباً بشعار الصالحين(1).(2)
فكذلك الأنبياء والأولياء يسرّهم ما ينزل بهم من البلاء ، ويفرحون بما امتحنوا به من الابتلاء ، راحة أرواحهم فيما فيه رضى خالقهم ، ولذّة أنفسهم فيما يمتحنهم الله به في أموالهم وأجسادهم ، وما يختاره من فيض ثمرات قلوبهم وأحفادهم ، فلا يغرّنّكم الشيطان بغروره ، ولا يفتننّكم مروره فيلقي في روعكم ، ويوسوس في صدوركم .
إنّ ما أصاب من كان قبلكم من الأنبياء والمرسلين ، والأولياء والصالحين ، في الدار الفانية والحياة البالية ، من جهد البلاء وشدّة اللأواء ، والامتحان بجهاد الأعداء ، هواناً بهم على خالقهم ، وهظماً لهم لدى بارئهم ، بل أنزل بهم البأساء والضرّاء ، ووجّه إليهم محن دار الفناء ، من سقم الأجساد ، وتحمّل الأذى من أهل الجحود والعناد ، فتحمّلوا المشاقّ في ذاته من أداء الفرائض والنوافل ، وصبروا على جهاد أعدائه من أهل الزيغ والباطل ، يسوقون العباد بسوط وعظهم إلى غفران ربّهم ، ويجذبون النفوس بصوت لفظهم إلى منازل قربهم ، لا توحشهم مخالفة من خالفهم ، ولا يرهبهم عناد من عاندهم ، بل يصدعون بالحقّ ، ويقرعون بالصدق ، ويوضحون الحجّة ، ويهدون إلى المحجّة ، لا يزيدهم قلّة الأنصار الا تصميماً في عزائمهم ، ولا يكسبهم تظافر الأشرار الا شدّة لشكائمهم ، ليس في قلوبهم جليل الا جلاله ، ولا في أعينهم جميل الا
(1) أي علامتهم . «مجمع البحرين : 3 / 349 ـ شعر ـ » .
(2) تفسر القمّي : 1 / 200 ، عنه البحار : 13 / 340 ح 16 ، وج 67 / 199 .
ورواه في الكافي : 2 / 263 ح 12 ، عنه البحار : 72 / 15 ح 14 .
وأورده في إرشاد القلوب : 156 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1126

جماله ، لما شربوا من شراب جنّته في حضيرة قدسه ، أتحفهم بمقام قربه واُنسه ، يختارون قطع أوصالهم على قطع اتّصالهم ، وذهاب أنفسهم على بعد مؤنسهم .
أما ترى كيف أثنى الله على نبيّه أيّوب بقول : «إنّا وجدناه صابراً نعم العبد إنّه أوّاب»(1) ؟ انظر كيف شرّفه الله بإضافته إلى نفسه ، وأثنى عليه بالصبر الجميل في محكم التنزيل ، وكان عليه السلام في زمن يعقوب بن إسحاق عليه السلام ، وتزوّج ليا(2) بنت يعقوب ؛ وقيل : رحمة بنت يوسف(3) ، وولد له سبعة بنين وثلاث بنات .
وكان له من المال والمواشي مالا يحصى كثرة . قيل : كان له أربعمائة عبد ما بين زرّاع وحمّال وراع وغير ذلك ، وكان في أخفض عيش وأنعم بال مدّة أربعين سنة ، ولمّا زاد الله ابتلاءه وامتحانه لا ليعلم صبره وشدّة عزيمته ، بل زيادة في درجته ، ورفعة لمنزلته ، أتاه جبرئيل عليه السلام فقال : يا أيّوب ، أربعون سنة لك في خفض العيش والنعمة ، فاستعدّ للبلاء ، وارض بالقضاء ، فإنّك ستتبدّل بالنعمة محنة ، وبالغنى فقراً ، وبالصحّة سقماً .
فأجابه أيّوب : ليس عليّ بأس من ذلك إذا رضى الله به .
عذّب بما شئت غير البعد عنك تجد أوفى محبّ بما يرضيك مبتهجاً

فمضى على ذلك مدّة فصلّى صلاة الصبح ، وأسند ظهر إلى المحراب وإذا بالضجّة قد علت ، وإذا بقائل يقول : يا أيّوب ، إنّ مواشيك كانت في الواد الفلاني فأتاه السيل واحتملها جميعاً ، وألقاها في البحر ، فبينما هو كذلك إذ أتته رعاة
(1) سورة ص : 44 .
(2) في قصص الأنبياء للراونيد : 141 ح 151 : إليا .
(3) وقيل : رحمة بنت أفراثيم بن يوسف عليه السلام . انظر تفسير البرهان : 4 / 53 وما بعدها ح 11 ، ففيه قصّة أيّوب عليه السلام مفصّلة نقلاً عن تحفة الاخوان .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1127

الإبل ، فسألهم : ما الخبر ؟
فقال قائلهم : هبّت علينا سموم عاصف لو هبّت على جبل لأذابته بحرّها ، فأتت على أرواح الإبل جميعها ، ولم تترك منها كبيراً ولا صغيراً إلا أهلكته .
فبينا هو يتعجّب من ذلك ويحمد الله ويشكره إذ أتت الأكَرَهُ قائلين : قد نزلت بنا صاعقة فلم تترك من الزرع والأشجار والثمار شيئاً الا أحرقته ، فلم يزده ذلك ولم يغيّره ولم يفتر لسانه عن ذكر الله وعن التسبيح والتقديس .
فبينما هو كذلك يحمد الله ويشكره إذ أتاه آت قد أتى باكياً حزيناً يلطم وجهه ويحثو التراب على رأسه ، فسأله أيّوب : ما الخبر ؟
فقال : إنّ ابنك الأكبر أضاف باقي إخوته فوضع لهم الطعام وبعضهم قد ابتدأ بالأكل ، وبعضهم لم يبتدئ إذ خرّ السقف عليهم فماتوا جميعهم ، فاستعبر أيّوب ، ثم استشعر لباس الصبر ، والتوكّل على الله ، وتفويض الأمر إليه ، وأخذ في السجود قائلاً : يا ربّ إذا كنت لي لا أُبالي ، ثمّ بعد ذلك حلّ به من الأسقام والأمراض في بدنه ما لا يوصف كثرة ، ولم يشتك إلى مخلوق ، ولم يفوّض امره إلى غير ربّه سبحانه ، وأمّا قوله : «أنّي مسّني الضرّ وأنت أرحم الراحمين»(1) فإنّما كان لما روي أنّ الشيطان أتاه في صورة طبيب فقال : إن أردت أن أشفيك من علّتك فاسجد لي ، فإنّي اُزيل عنك ما يؤلمك ، وأشفيك من علّتك ، فصاح أيّوب عند ذلك ، واستغاث بالله قائلاً : «أنّي مسّني الضرّ وأنت أرحم الراحمين» ، فولّى عنه إبليس ، وقد يأس منه فأتى زوجته رحمة بنت يوسف ووسوس إليها .
روي أنّه أتاه في صورة طبيب ، فدعته إلى مداواة أيّوب عليه السلام ،
(1) سورة الأنبياء : 83 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1128

فقال : اُداويه على أنّه إذا برئ قال : أنت شفيتني ، لا اُريد جزاء سوى ذلك .
قال : فأشارت إلى أيّوب بذلك ، فصاح واضطرب واستجار بالله وحلف ليضربنّها مائة ضربة .
وقيل : أوحى الله إلى أيّوب : يا أيّوب ، إنّ سبعين نبيّاً من أنبيائي سألوني هذا البلاء فلا تجزع ، فلمّا أتاه الله بالعافية في بدنه اشتاق إلى ما كان عليه من البلاء ، فلذلك قال سبحانه : «إنّا وجدناه صابراً نعم العبد إنّه أوّاب»(1) .
ولمّا انقضت المحنة وقرب الفرج أتاه جبرئيل بأمر الله بعد أن دغامت به الأسقام والأمراض سبع سنين ، وقال : يا أيّوب ، «اركض برجلك» أي ادفع الأرض برجلك «هذا مغتسل بارد وشراب»(2) ، فركض برجله فنبعث عينان ، فاغتسل من أحدهما فبرئ ، وشرب من الاُخرى .
وروي عن الصادق عليه السلام أنّ الله تعالى أحيا له أهله الذين ماتوا بأعيانهم قبل البليّة ، وأحيا أهله الذين ماتوا وهو في البليّة .
قالوا : ولمّا ردّ الله عليه ولده وأهله وماله ، وعافاه في بدنه أطعم أهل قريته سبعة أيّام ، وأمرهم أن يحمدوا الله ويشكروه ، ثمّ امره جبرئيل أن يأخذ ضغثاً وهو ملء الكفّ من الشماريخ وما أشبه ذلك ، فيضربها ضربة واحدة براءة ليمينه لأنّه كان قد حلف ليضربنّها ماءة ضربة .(3)
فانظر إلى شدّة إخلاصه ، وعظيم اختصاصه ، وحسن مراقبته لمعبوده ، ومقابلته البلاء بالشكر في ركوعه وسجوده .
(1) سورة ص : 44 .
(2) سورة ص : 42 .
(3) مجمع البيان : 4 / 59 و478 . عنه البحار : 12 / 340 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1129

وكذلك كان روح الله وكلمته المسيح بن مريم ، كان عليه السلام كما وصفه أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين بقوله : كان يَلبَسُ الخشِن ، ويأكل الجشب(1) ، وكان إدامه الجوع(2) ، وسراجه بالليل القمر ، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها ، تولم يكن له ولد يحزنه ، ولا زوجة تفتنه ، دابّته(3) رجلاه ، وخادمه يداه .(4)
وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال : والله ما تبع عيسى شيئاً من المساوئ قطّ ، ولا انتهر يتيماً(5) قطّ ، ولا قهقه ضاحكاً قط ، ولا ذبّ ذباباً عن وجهه ، ولا أخذ على أنفه من شيء نتن قطّ(6) ، ولا عبث قطّ .(7)
وروي أنّه عليه السلام مرّ برهطٍ ، فقال بعضهم لبعض : قد جاءكم الساحر ابن الساحرة ، والفاعل ابن الفاعلة ، فقذفوه باُمّه ، فسمع ذلك عيسى عليه السلام ، فقال : اللهم أنت ربّي خلقتني ولم آتهم من تلقاء نفسي ، اللهم العن من سبّني ، وسبّ اُمّي ، فاستجاب الله له دعوته ، فمسخهم خنازير .
(1) كذا في النج ، وفي الأصل : الحشيش ـ وهو تصحيف ـ .
طَعامٌ جَشِبٌ ومجشوبٌ : أي غليظ خَشِنٌ . وقيل : هو الذي لا اُدم له «لسان العرب : 1 / 265 ـ جشب ـ » .
(2) قال المجلسي رحمه الله : لعلّ المعنى أنّ الانسان إنّما يحتاج إلى الإدام لأنّه يعسر على النفس أكل الخبز خالياً عنه ، فأمّا مع الجوع الشديد فيلتذّ بالخبز ولا يطلب غيره ، فهو بمنزلة الإدام ، أو أنّه كان يأكل الخبز دون الشبع ، فكان الجوع مخلوطاً به كالإدام .
(3) في النهج : وظلاله في الشتاء مشارق الارض ومغاربها ، وفاكهته وريحانه ما تنبتُ الأرض للبهائم ، ولم تكن له زوجة تفتِنُهُ ، ولا ولد يحزنُهُ ، ولا مال يلفِتُه ، ولا طمَعٌ يذلّه ، دابّته ... .
(4) نهج البلاغة : 227 خطبة رقم 160 ، عنه البحارر : 14 / 238 ح 16 .
(5) كذا في المجمع وفي الأصل : شيء .
(6) كذا في المجمع ، وفي الأصل : ولا أخذ على نفسه من بين شيء قطّ .
(7) مجمع البيان : 2 / 266 ، عنه البحار : 14 / 263 . وانظر : عرائس المجالس : 398 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1130

ولمّا مسخهم الله سبحانه بدعائه بلغ ذلك يهوذا وهو رأس اليهود ، فخاف أن يدعو عليه ، فجمع اليهود ، فاتّفقوا على قتله ، فبعث الله سبحانه جبرئيل يمنعه منهم ، ويعينه عليهم ، وذلك معنى قوله : «وأيّدناه بروح القدس»(1) فاجتمع اليهود حول عيسى ، فجعلوا يسألونه فيقول لهم : يا معشر يهود ، إنّ الله تعالى يبغضكم ، فثاروا(2) إليه ليقتلوه ، فأدخله جبرئيل خوخة البيت الداخل ، لها روزنة في سقفها ، فرفعه جبرئيل إلى السماء ، فبعث رأس اليهود رجلاً من أصحابه اسمه ططيانوس(3) ، ليدخل عليه الخوخة فيقتله ، فدخل فلم يره ، فأبطأ عليهم ، فظنّوا أنّه يقاتله في الخوخة ، فألقى الله عليه شبه عيسى ، فلمّا خرج على أصحابه قتلوه وصلبوه ؛ وقيل : ألقى الله عليه شبه وجه عيسى ، ولم يلق عليه شبه جسده ، فقال بعض القوم : إنّ الوجه وجه عيسى ، والجسد جسد ططيانوس ، فقال بعضهم : إن كان هذا ططيانوس فأين عيسى ؟ وإن كان هذا عيسى فأين ططيانوس ؟ فاشتبه الأمر عليهم .(4)
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّ عيسى لم يمت ، وانّه راجع إليكم قبل يوم القيامة .
وقد صحّ عنه صلى الله عليه وآله أنّه قال : كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم(5) وإمامكم منكم . رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما .(6)
(1) سورة البقرة : 87 و253 .
(2) في المجمع : فساروا .
(3) في المجمع : طيطانوس ، وفي العرائس : فلطيانوس ، وكذا في المواضع الآتية .
(4) مجمع اليان : 2 / 135 ـ 136 ، عرائس المجالس : 400 .
(5) كذا في غالبية المصادر ، وفي الأصل : عليكم .
(6) صحيح البخاري : 4 / 205 ، صحيح مسلم : 1 / 136 ب 71 ح 244 و245 .
وانظر أيضاً : المصنف لعبد الرزّاق : 11 / 400 ح 20841 ، جواهر البحار في فضائل النبي
=
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1131

وقوله سبحانه : «ورافعك إليّ»(1) ؛ قيل : أي أي بعد نزولك من السماء في آخر الزمان .(2)
وروي أنّ عيسى لمّا أخرجه قومه واُمّه من بين ظهرانيهم عاد إليهم مع الحواريّين ، وصاح فيهم بالدعوة ، فهمّوا بقتله ، فرفعه جبرئيل إلى السماء ـ كما مرّ ـ .
وروي أنّ الحواريّين اتّبعوا عيسى ، وكانوا إذا جاعوا قالوا : يا روح الله ، جعنا ، فيضرب بيده إلى الأرض ، سهلاً كان أوجبلاً ، فيخرج لكلّ إنسان رغيفين يأكلهما ، وإذا عطشوا قالوا : يا روح الله ، عطشنا ، فيضرب بيده إلى الأرض ، سهلاً
= المختار للنبهائي : 1 / 311 ، منتخب الصحيحين للنبهاني : 289 ، مسند أحمد بن حنبل : 2 / 272 و336 ، مسند أبو عوانة : 1 / 106 ، ابن حبّان : 8 / 283 ـ 284 ح 6764 ، الأسماء والصفات للبيهقي : 535 ، مصابيح البغوي : 3 / 516 ح 4261 ، شرح السنّة للبغوي : 15 / 82 ، الفردوس : 3 / 342 ح 4916 ، جامع الاًصول : 11 / 47 ح 7808 ، مطالب السؤول : 2 / 80 ، بيان الشافعي : 495 ـ 496 ب 7 ، عقد الدرر : 229 ب 10 ، الفصول المهمّة : 294 ف 12 وص 295 وص 299 ، جمع الجوامع : 1 / 632 ، برهان المتقي : 159 ب 9 ح 4 ، كنز العمّال : 14 / 332 ح 38840 وص 334 ح 38845 ، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي : 4 / 101 ، وج 16 / 106 ، فرائد فوائد الفكر : 22 ب 6 ، نور الأبصار : 188 ، ينابيع المودّة : 186 ب 56 ، فض القدير : 5 / 58 ح 6440 ، العطر الوردي : 71 ، تصريح الكشميري : 97 ح 2 ، عقيدة أهل اسنّة : 8 ح 1 و2 ، العمدة لابن بطريق : 431 ح 903 وص 432 ح 905 ، كشف الغمّة : 3 / 228 و269 و279 ، إثبات الهداة : 3 / 599 ح 63 وص 606 ح 106 ، غاية المرام للبحراني : 698 ح 65 وص 697 ح 40 ـ 42 وص 702 ح 128 ، حلية الأبرار : 2 / 692 و693 و698 و710 ، البحار : 51 / 88 ب 1 .
(1) كذا الصحيح ، وفي الأصل : إليّ آمنوا .
والآية في سورة آل عمران : 55 .
(2) مجع البيان : 1 / 449 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1132

كان أو جبلاً ، فتنبع عين ماء(1) فيشربون .
فقالوا : يا روح الله ، من أفضل منّا إذا جعنا أطعمتنا ، وإذا عطشنا سقيتنا(2) ، وقد آمنّا بك واتّبعناك ؟
قال : أفضل منكم من يعمل بيده ، ويأكل من كسبه ، فصاروا يغسلون الثياب بالكراء .(3)
والحوارى شدّة البياض ، ومنه الحواري من الخبز لشدّة بياضه ، فكأنّهم هم المبيّضون للثياب .(4)
وقيل : إنّ الذي دلّهم على المسيح كان رجلاً من الحواريّين وكان منافقاً ، وذلك أنّ عيسى جمعهم تلك الليلة ، وأوصاهم ، وقال : ليكفرنّ بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ، ويبيعني بدراهم يسيرة ، وخرجوا وتفرّقوا ، وكانت اليهود تطلبه ، فأتى أحد الحواريّين إليهم فقال(5) : ما تجعلون لي إن دللتكم عليه ؟ فجعلوا له ثلاثين درهماً ، فأخذها ودلّهم عليه ، فألقى الله عليه شبه عيسى عليه السلام لما دخل البيت ، ورفع عيسى فأُخذ وقال : أنا الذي دللتكم عليه ! فلم يلتفتوا إلى قوله ، وقتلوه وهم يظنّون أنّه عيسى .
فلمّا رفع عيسى وأتى عليه سبعة أيّام قال الله له : اهبط على مريم لتجمع لك الحواريّين ، وتبثّهم في الأرض دعاة ، فهبط عليها ، واشتعل الجبل نوراً ، فجمعت له الحواريّين ، فبثّهم في الأرض دعاة ، ثمّ رفعه الله
(1) في المجمع : فيخرج ماء .
(2) في المجمع : إذا شئنا أطعمتنا ، وإذا شئنا سقيتنا .
(3) مجمع البيان : 1 / 448 .
(4) مجمع البيان : 1 / 447 .
(5) كذا في المجمع ـ وهو الصحيح ـ ، وفي الأصل : وقالوا .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1133

تعالى في تلك الليلة ، وهذه الليلة هي الليلة التي تسمّيها النصارى ليلة الدخنة ويدخّنوا فيها .
فلمّا أصبح الحواريّون حدّث كلّ واحدٍ منهم بلغة من أرسله إليه(1) عيسى عليه السلام(2) .
وكانت مريم بنت عمران اُمّ عيسى ليس أبوها عمران أبوموسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب ، بل هو عمران بن الهشم(3) بن امون من ولد سليمان بن داود عليه السلام ، وكان بينه وبين عمران أبي موسى ألف وثمانمائة سنة .
وكانت امرأة عمران اسمها حنّة اُمّ مريم، وهي جدّة عيسى واُختها إيشاع واسم أبيها فاقوذ بن قبيل ، وهي امرأة زكريّا ، فيحيى ومريم ولدا خالة .(4)
وكان يحيى بن زكريّا كما وصفه الله سبحانه وأثنى عليه في كتابه العزيز بقوله : «وآتيناه الحكم صبيّاً وحناناً من لدنّا وزكاةً وكان تقيّاً وبرّاً بوالديه ولم يكن جبّاراً عصيّاً وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّاً»(5) وكانت ولادته آية من آيات الله سبحانه ، لأنّ زكريّا لمّا رأى من كرامات الله لمريم حين كفلها ، وكان يرى عندها فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في
(1) في المجمع : إليهم .
(2) مجمع البيان : 1 / 448 ـ 449 .
(3) كذا في المجمع ، وفي الأصل : اشهم .
(4) انظر : الكامل في التاريخ : 1 / 298 ـ وفيه : عمران بن ماثان ـ عرائس المجالس : 166 و371 ، ومجمع البيان : 1 / 433 ـ 434 ، وج 3 / 503 .
(5) سورة مريم : 12 ـ 15 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1134

الصيف ، خلاف ما جردت به العادة ، فسألها عن ذلك فيقول : «أنّى لك هذا» ؟ فتقول : من رزق الله .(1)
فعندها دعا الله سبحانه ، كما قال سبحانه : «إذ نادى ربّه نداءً خفيّاً»(2) أي دعا ربّه سرّاً غير جهر يخفيه في نفسه لا يريد به رياء ، وفي هذا دلالة على أنّ المستحبّ في الدعاء الإخفاء ، فإنّه أقرب إلى الاجابة .
وفي الحديث : خير الدعاء الخفيّ ، وخير الرزق ما يكفي .
وقيل : إنّما أخفاه لئلّا يهزأ به الناس فيقولوا : انظروا إلى هذا الشيخ سأل الولد على الكبر .(3)
قال ابن عبّاس : كان عمر زكريّا حين طلب الولد عشرين ومائة سنة ، وكانت امرأته ابنة ثمان وتسعين سنة .(4)
فأوحى الله إليه : «يا زكريّا إنّا نبشرّك بغلامٍ اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميّاً»(5) أي لم نسمّ أحداً قبله بهذا الاسم .
وكذلك الحسين عليه السلام لم يسم أحد قبله باسمه .
وكان قاتل يحيى ولد زنا ، وكذلك قاتل الحسين عليه السلام كان ولد زنا .
وحمل رأس يحيى بن زكريّا إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل .
وكذلك حمل رأس الحسين إلى نجل بغيّة من بغايا قريش ، ولم تبك
(1) إشارة إلى الآية : 37 من سورة آل عمران .
(2) سورة مريم : 3 .
(3) مجمع البيان : 3 / 502 .
(4) مجمع البيان : 1 / 439 ، وفيه : يوم بشّر بالولد .
(5) سورة مريم : 7 .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1135

السماء الا عليهما بكت أربعين صباحاً .
وسئل الصادق عليه السلام عن بكائها ، قال : كانت الشمس تطلع حمراء ، وتغيب حمراء .(1)
وروي عن علي بن زيد ، عن علي بن الحسين عليه السلام قال : خرجنا مع الحسين عليه السلام إلى العراق فما نزل منزلاً ، ولا ارتحل منه الا ذكر يحيى بن زكريّا .(2)(3)
وعن أبي جعفر عليه السلام ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال : لا يقتل الأنبياء وولد الأنبياء الا ولد زنا .(4)
وسئل الصادق عليه السلام عن قول فرعون : «ذروني أقتل موسى»(5) ، فقيل : من كان يمنعه منه ؟
قال : إنّه كان لرشده ، ولم يكن ولد زنا ، لأنّ الأنبياء والحجج لا يقتلها الا ولد الزنا .(6)
(1) انظر كامل الزيارات : 88 ب 28 ، قصص الأنبياء للراوندي : 220 ح 291 ، بحار الأنوار : 45 / 201 ب 40 ، عوالم العلوم : 17 / 466 ب 2 .
(2) مناقب ابن شهراشوب : 4 / 85 ، عنه البحار : 45 / 298 ح 10 ، وعوالم العلوم : 17 / 608 ح 3 .
(3) مجمع البيان : 3 / 504 ، عنه البحار : 14 / 175 .
(4) كامل الزيارات : 78 ح 9 وص 79 ح 10 ، عنه البحار : 27 / 240 ح 5 و6 .
وأورده الراوندي في قصص الأنبياء : 220 ح 290 و291 ، عنه البحار : 27 / 240 ح 3 و4 .
(5) سورة غافر : 26 .
(6) كامل الزيارات : 78 ح 7 ، علل الشرائع : 57 ح 1 ، عنهما البحار : 27 / 239 ح 2 .
وأخرجه في البحار : 13 / 132 ح 35 عن العلل .
تسلية المُجالس وزينة المَجالس ـ ج 1136

وكان يحيى أكبر من عيسى بستّة أشهر ، وكلّف التصديق به ، وكان أوّل مصدّق به ، وشهد أنّه كلمة الله وروحه ، وكان ذلك أحد معجزات عيسى عليه السلام ، وأقوى الأسباب لإظهار أمره ، فإنّ الناس كانوا يقبلون قوله لمعرفتهم بصدقه وزهده .(1)
فلهذا اجتمعت اليهود على قتله(2) ، فلمّا أحسّ بذلك فرّ منهم واختفى في أصل شجرة ، فالتأمت عليه ، فدلّهم إبلي عليه ؛ وقيل : إنّه جذب طرف ردائه فلاح(3) لهم في ظاهر الشجرة ، فوضعوا عليه منشاراً ، وقدّوا أصل الشجرة ويحيى بنصفين ، فأرسل الله سبحانه عليهم بخت نصّر ، وكان دم يحيى يفور من أصل الشجرة ، فقتل عليه سبعين ألفاً ، وكذلك قتل بالحسين سبعون وسبعون ألفاً ، وما أُخذ بثأره إلى الآن .
المناجاة

يا من أغرق أصحاب الأفكار الصائبة في بحار إلهيّته ، وحيّر أرباب الأنظار الثاقبة في مبدأ ربوبيّته ، ويا من تفرّد بالبقاء في قديم أزليّته ، ويا من توحّد بالعلى في دوام عظمته ، ويا من وسم ما سواه بميسم «كلّ شيءٍ هالك الا وجهه»(4) ، ويا من جعل لكلّ حيّ إلى سبيل الموت غاية ووجهة ، ويا
(1) مجمع البيان : 1 / 438 ، عنه البحار : 14 / 169 .
(2) روي هذا في زكريّا عليه السلام ، انظر : علل الشرائع : 80 ح 1 ، عنه البحار : 14 / 179 ح 15 .
وقصص الأنبياء للراوندي : 217 ح 284 ، عنه البحار : 14 / 181 ح 22 .
(3) في «ح» : أي فظهر .
(4) سورة القصص : 88 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي