في ظلال الصيحيفة السجادية 551

الدعاء السابع والأربعون

دعاؤه في يوم عرفة

الحمد لله رب العالمين . أللهم لك الحمد بديع السموات ، والأرض ، ذا الجلال ، والإكرام ، رب الأرباب ، وإله كل مألوه ، وخالق كل مخلوق ، ووارث كل شيء ؛ ليس كمثله شيء ، ولا يعزب عنه علم شيء ، وهو بكل شيء محيط ، وهو على كل شيء رقيب .
عرفة إسم جبل بالقرب من مكة ، يقف عليه حجاج بيت الله الحرام في اليوم التاسع من ذي الحجة ، وأيضاً يطلق عليه عرفات (1) ، كما في الآية : « فإذا أفضتم من عرفات » (2) : جمع عرفة . ولهذا الموقف الكريم العديد من الأدعية عن النبي ، وأهل بيته عليهم السلام منها هذا الدعاء للإمام السجاد عليه السلام ، وآخر لوالده سيد الشهداء عليه السلام ،
(1) هو جبل يبعد عن مكة حوالي أربعة عشر ميلاً ، وهي ميدان فسيح ولا بد للحاج أن يدخل عرفة في يوم مخصوص بالشروط التي نص عليها الفقهاء كما جاء في الصحاح : 4 / 1401 ، معجم البلدان : 4 / 104 ، الفروق اللغوية : 354 .
(2) البقرة : 198 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 552

ونقلنا منه ـ فيما سبق ـ بعض الكلمات لاكثر من مناسبة . ومن قصدنا الآن دمج الكثير منه في هذا الدعاء ، لأن الموضوع ، والباعث ، والهدف واحد ، والمصدر واحد ، وهو نور الوحي ، والرسالة .
( أللهم لك الحمد بديع السموات ، والأرض ) ، أما والد السجاد عليه السلام ، فقد افتتح دعاءه بقوله : « الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع (1) ولا لعطائه مانع ، ولا كصنعه صنع صانع ، وهو الجواد الواسع ، فطر أجناس البدائع » (2 . أي خلق الخلق بشتى أنواعه من غير تمثيل ، ومعونة معين ( ذا الجلال ، والإكرام ) ذا الاستغناء المطلق ، والفضل العام ( رب الأرباب ) لا أحد يشاركه في الملك ، والربوبية ( وإله كل مألوه ) : معبود ، المعنى هو سبحانه المعبود حقاً لكل معبود بزعم المشركين ( ووارث كل شيء ) يبقى بعد كل شيء ، وإليه ينتهي كل شيء ( ليس كمثله شيء ) لأنه خالق كل شيء : « أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون » (3) ، ( لا يعزب ) : لا يغيب ( رقيب ) : حفيظ . وفي دعاء سيد الشهداء عليه السلام : « أم كيف تغيب ، وأنت الرقيب الحاضر ؟ » (4) .
أنت الله لا إله إلا أنت ، الأحد المتوحد ، الفرد المتفرد ، وأنت الله لا إله إلا أنت ، الكريم المتكرم ، العظيم المتعظم ، الكبير المتكبر ، وأنت الله لا اله إلا أنت ، العلي المتعال ، الشديد المحال .
(1) كأنه إشارة إلى يوم الطف ، ( منه قدس سره ) .
(2) انظر ، إقبال الأعمال : 2 / 74 ، مستدرك الوسائل : 10 / 25 ، البحار : 95 / 213 ، حياة الإمام الحسين : 1 / 167 .
(3) النحل : 17 .
(4) انظر ، إقبال الأعمال : 339 ـ 350 ، بحار الأنوار : 95 / 227 ، كلمات الإمام الحسين عليه السلام : 806 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 553


وأنت الله لا إله إلا أنت ، الرحمن الرحيم ، العليم الحكيم ؛ وأنت الله لا إله إلا أنت ، السميع البصير ، القديم الخبير ، وأنت الله لا إله إلا أنت ، الكريم الأكرم ، الدائم الأدوم .
وأنت الله لا إله إلا أنت ، الأول قبل كل أحد ، والآخر بعد كل عدد ؛ وانت الله لا إله إلا أنت ، الداني في علوه ، والعالي في دنوه .
وأنت الله لا إله إلا أنت ، ذو البهاء والمجد ، والكبرياء والحمد ؛ وأنت الله لا إله إلا أنت ، الذي أنشأت الأشياء من غير سنخ ، وصورت ما صورت من غير مثال ، وابتدعت المبتدعات بلا احتذآء .
( الأحد المتوحد الفرد المتفرد ) لله سبحانه الوحدة التامة الكاملة من كل وجه ، وفي جميع الصفات الذاتية . وفي اصول الكافي : « إن الإمام السجاد سئل عن التوحيد ؟ فقال ؛ إن الله تعالى علم أنه يكون في آخر زمان أقوام متعمقون ، فأنزل « قل هو الله أحد » (1) والآيات من سورة الحديد إلى قوله : « عليم بذات الصدور » (2) ، فمن رام وراء ذلك فقد هلك » (3) . ( المتكرم ) هو الكريم مع نوع من المبالغة ( المتعظم . . . المتكبر ) التعظم ، والكبرياء صفتا مدح لله ، وذم في غيره لأنهما ذاتيتان لعلوه ، وجلاله ، وعزته ،وكماله . وفي الحديث القدسي : « الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، من نازعني واحداً منهما ألقيته في النار » (4) .
(1) الإخلاص : 1 .
(2) الحديد : 6 .
(3) انظر ، الكافي : 1 / 91 ح 3 ، توحيد الصدوق : 283 ح 2 ، بحار الأنوار : 64 / 372 ، تفسير الميزان : 19 / 147 .
(4) انظر ، الترغيب والترهيب : 3 / 563 ح 14 ، سنن ابن ماجة : 2 / 1397 ح 4174 ، إعانة =
في ظلال الصيحيفة السجادية 554


( أنت العلي المتعال ) لا شيء فوقه تعالى ، وكل شيء دونه ، والمتعال نوع من المبالغة في العلو ( المحال ) : المكايدة لأهل الكيد ، والمكر . قال سبحانه : « إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً » (1) ، أي يجازيهم جزاء الماكرين ، ويحطمهم بسلاحهم ، فالكيد ، والمكر قبيح بالأبرياء ، وحسن جداً بأهل المكر ، والغدر . قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : « الوفاء لأهل الغدر غدر عند الله ، والغدر بأهل الغدر وفاء عند الله » (2) . ( الرحمن الرحيم ) (3) ( العليم ) لا تخفى عليه خافية دانية كانت ، أم قاصية ( الحكيم ) يضع كل شيء موضعه تبعاً للمصلحة : « قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى » (4) . . . « وخلق كل شيء فقدره تقديراً » (5) ( السميع البصير ) لا بجارحة ، أو أداة ، بل يحيط بما يسمع ، ويرى ذاتاً ، ومباشرة ( القديم ) لا أول لأوله ( الدائم ) لا آخر لآخره ( الأدوم ) مبالغة في الدوام .
( الداني في علوه ، والعالي في دنوه ) دنى بعلمه ، ورحمته ، وعلا بجلاله ، وكماله . وفي نهج البلاغة : « علا بحوله ، ودنا بطوله » (6) . والحول : القدرة ، والطول : العطاء . وفي دعاء سيد الشهداء عليه السلام : « لك الحمد ، والمجد ، وعلو الجد » (7) . أي علو
= الطالبين : 1 / 156 ، شرح اصول الكافي : 1 / 239 ، مستدرك الوسائل : 12 / 31 .
(1) الطارق : 15 ـ 16 .
(2) انظر ، نهج البلاغة : 4 / 57 ، الحكمة ( 259 ) ، دعائم الإسلام : 1 / 368 ، شرح اصول الكافي : 19 / 102 .
(3) انظر : الدعاء السادس والأربعون فقرة : لله رحمتان .
(4) طه : 50 .
(5) الفرقان : 2 .
(6) انظر ، نهج البلاغة : 1 / 132 ، الخطبة ( 83 ) ، نهج السعادة : 3 / 171 ، شرح النهج للمعتزلي : 6 / 241 .
(7) انظر ، إقبال الأعمال : 2 / 86 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 555

العظمة ، قال سبحانه : « جد ربنا ما أتخذ صاحبةً ولا ولداً » (1) ( أنشأت الأشياء من غير سنخ ) من غير أصل سابق ، وبكلمة خلقت أشياء من لا شيء ( وصورت ما صورت من غير مثال ) وجود الله تعالى سابق لوجود الكون ، ثم أوجده سبحانه حيث لا مثيل هناك ، ولا نظير ( وابتدعت المبتدعات بلا احتذاء ) عطف تكرار ، لأن الابتداع ابتداء ، واختراع لا على فعل مماثل ، وتقليد لأي فاعل .
أنت الذي قدرت كل شيء تقديراً ، ويسرت كل شيء تيسيراً ، ودبرت ما دونك تدبيراً ؛ وأنت الذي لم يعنك على خلقك شريك ، ولم يؤازرك في امرك وزير ، ولم يكن لك مشاهد ، ولا نظير .
أنت الذي أردت . . . فكان حتماً ما أردت ، وقضيت . . . فكان عدلاً ما قضيت ، وحكمت . . . فكان نصفاً ما حكمت .
أنت الذي لا يحويك مكان ، ولم يقم لسلطانك سلطان ، ولم يعيك برهان ، ولا بيان ؛ أنت الذي أحصيت كل شيء عدداً ، وجعلت لكل شيء أمداً ، وقدرت كل شيء تقديراً ؛ أنت الذي قصرت الأوهام عن ذاتيتك ، وعجزت الأفهام عن كيفيتك ، ولم تدرك الأبصار موضع أينيتك .
( أنت الذي قدرت كل شيء تقديراً ) كل شيء في خلقه تعالى مدبر ، ومتقن ، ومقدر ، ومحكم ، ولا شيء منه خارج عن القصد ، والحكمة ( ويسرت كل شيء تيسيراً ) إلى الغاية التي خلقته من أجلها ( ودبرت ما دونك تدبيراً ) المراد بما دونك هنا ما عندك من الملك ، والمعنى ملكت الملك كله فأتقنته بحكمتك ، ودبرته بلطفك
(1) الجن : 3 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 556

( لم يعنك على خلقك شريك ) ولا مهندس ، ومشير ( ولم يؤازرك في أمرك وزير ) من الموازرة بمعنى المعاونة ، وعليه يكون العطف للتكرار ( ولم يكن لك مشاهد ، ولا نظير ) ما من أحد رآك حين خلقت الكائنات ، وما من أحد يقدر على خلق ذبابة فما دونها ( أنت الذي اردت فكان حتماً ما أردت ) لا مرد لأمرك ( وقضيت فكان عدلاً ما قضيت ) « وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته » (1) . . . « شهد الله أنه لآ إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قآئماً بالقسط » (2) .
( أنت الذي لا يحويك مكان ) لأنه ليس بجسم ، ولو كان له مكان لافتقر إليه ، والله غني عن كل شيء ، وهو في كل مكان بعلمه ، ورحمته ( ولم يقم لسلطانك سلطان ) هو القاهر الغالب لكل ذي جاه ، وسلطان ، وفي دعاء سيد الشهداء عليه السلام : « الحمد لله الذي علا فقهر ، والحمد لله الذي ملك فقدر » (3) ، ( ولم يعيك ) من العجز ، والأعياء ( برهان ، ولا بيان ) أي إن كتابه تعالى معجز البيان ، ومنير البرهان ( أحصيت كل شيء عدداً ) أحطت بكل شيء علماً ( وجعلت لكل شيء أمداً ) ضرب سبحانه لكل شيء أجلاً موقوتاً ، وحداً محدوداً ( وقدرت كل شيء تقديراً ) ( قصرت الأوهام عن ذاتيتك ) : عن كنهك ، وحقيقتك ، والمعنى عجزت العقول عن إدراك الذات القدسية ، ولذا جاء في الحديث : « تفكروا في الله ، ولا تفكروا في ذات الله » (4) . ( وعجزت الأفهام عن كيفيتك ) أي عما يليق بك من صفات الجلال ،
(1) الأنعام : 115 .
(2) آل عمران : 18 .
(3) انظر ، إقبال الأعمال : 1 / 85 ، الكافي : 2 / 504 ، مصباح المتهجد : 543 ، عدة الداعي : 246 .
(4) انظر ، الجامع الصغير لجلال الدين السيوطي : 1 / 514 ح 3347 و 3349 ، ولكن بلفظ ( ولا =
في ظلال الصيحيفة السجادية 557

والكمال المطلق ( أينيتك ) من أين بمعنى الإستفهام عن مكان الوجود ، ولا مكان لوجوده تعالى كي يدرك بالبصر ، أو البصيرة . وفي نهج البلاغة : « لا يبصر بعين ، ولا يحد بأين » (1) .
أنت الذي لا تحد فتكون محدوداً ، ولم تمثل فتكون موجوداً ، ولم تلد فتكون مولوداً .
أنت الذي لا ضد معك فيعاندك ، ولا عدل فيكاثرك ، ولا ند لك فيعارضك ؛ انت الذي ابتدأ ، واخترع ، واستحدث ، وابتدع ، وأحسن صنع ما صنع .
سبحانك ! ما أجل شأنك ، وأسنى في الأماكن مكانك ، وأصدع بالحق فرقانك !
سبحانك من لطيف ما ألطفك ، ورؤوف ما أرأفك ، وحكيم ما أعرفك ! سبحانك من مليك ما أمنعك ، وجواد ما أوسعك ، ورفيع ما أرفعك ، ذو البهاء ، والمجد ، والكبرياء ، والحمد .
( لا تحد فتكون محدوداً ، ولم تمثل فتكون موجوداً ) أي بالوجود الحسي ، أو الذهني على ما هو عليه ، لأن ذاته القدسية لا بداية لها ، ولا نهاية ، ومعنى هذا أنها
= تفكروا في الله فتهلكوا ) ، وكنز العمال : 3 / 106 ح 5705 و 5708 ، فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي : 3 / 345 و 347 ، كشف الخفاء للعجلوني : 1 / 311 ، تفسير الميزان : 4 / 90 و : 19 / 53 ، تفسير ابن كثير : 4 / 411 ، الدر المنثور : 2 / 110 و : 6 / 130 ، مجمع الزوائد : 1 / 81 ، إِتحاف السادة المتقين : 1 / 162 و : 6 / 536 ، ذيل تأريخ بغداد : 3 / 147 .
(1) انظر ، نهج البلاغة : 2 / 106 ، الخطبة ( 182 ) ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 10 / 88 ، البحار : 4 / 314 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 558

فوق الحس ، والتصور المحدودين ، فكيف يحاط بها ، أو بشيء منها ، وقد تكرر هذا المعنى في كلمات أهل البيت بشتى الأساليب ، منها قول الباقر عليه السلام : « إن الله تعالى خلو من خلقه ، وخلقه خلو منه ، وكل ما وقع عليه اسم شيء فهو مخلوق ما خلا الله عزوجل » (1) . . . « تفكروا في الخلق ، ولا تفكروا في الخالق » (2) ؛ لأن الخالق كامل بالذات ، والمخلوق ناقص كذلك ، والناقص لا يتسع للكامل ، والضعيف لا يتحمل القادر ( ولم تلد فتكون مولوداً ) ؛ لأن من كان له ولد كان هو مولوداً بطريق التناسل كالحيوان ، أو بطريق النشوء كالنبات .
( لا ضد معك فيعاندك ) الضد : المخالف ، وقد تقدم في الدعاء الثامن والعشرين ، وغيره ( ولا عدل ) بكسر العين : النظير ( ولا ند ) أيضاً المثيل ، والنظير ( ابتدأ ، واخترع ، واستحدث ، وابتدع ، وأحسن صنع ما صنع ) وفي دعاء سيد الشهداء عليه السلام : « الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع ، ولا لعطائه مانع ، ولا كصنعه صنع صانع ، وهو الجواد الواسع ، فطر أجناس البدائع » (3) ، حيث لا قدرة كقدرته ، ولا علم كعلمه ؛ لأنه مبدأ كل قدرة ، وعلم ( سبجانك ! ما أجل شأنك ) سبحانك ! من عظيم ما أعظمك ! ( وأسنى في الأماكن مكانك ) أسنى : أرفع ، ومكانك : مقامك ، قال سبحانه : « ذلك لمن خاف مقام » (4) ، وعليه يكون العطف للتكرار ، والتفسير
(1) انظر ، بحار الأنوار : 3 / 322 ، تفسير الميزان : 1 / 101 .
(2) انظر ، الجامع الصغير : 1 / 514 ح 3346 ، كنز العمال : 3 / 106 ح 5706 ، تفسير القرطبي : 4 / 314 .
(3) انظر ، إقبال الأعمال : 2 / 74 ، مستدرك الوسائل : 10 / 25 ، البحار ، 95 / 213 ، حياة الإمام الحسين : 1 / 167 .
(4) إبراهيم : 14 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 559

( وأصدع بالحق فرقانك ! ) صدع بالحق : أظهره ، ونطق به ، والفرقان : ما يفرق بين الحق ، والباطل ، والمعنى ما أقوى ، وأصدق حجتك ، وبرهانك . وقد تقدم قبل قليل بلفظ البيان ، والبرهان .
( سبحانك من لطيف ما ألطفك ) في الآية : « الله لطيف بعباده » (1) ، أي بهم بر رفيق . وفي الدعاء الثاني والثلاثين : « فغذوتني بفضلك غذاء البر اللطيف » . وفي الحديث : « الله لطيف لعلمه بالشيء اللطيف » (2) ، أي بدقائق الأمور ، وغوامضها . وعليه يسوغ أن تستعمل كلمة اللطيف في الرفق ، وفي العلم بالدقيق الغامض . وبهذا يكون المعنى سبحانك ! من رفيق بعبادك ، سبحانك ! من عليم بكل غامض ، ودقيق ( ورؤوف ما أرافك ) والرأفة رحمةً ، وزيادة ، ولذا قدم سبحانه ذكر الرؤف على الرحيم في كل آية جمعت بينهما . وفي دعاء سيد الشهداء عليه السلام : « إلهي وصفت نفسك باللطف ، والرأفة لي قبل وجود ضعفي أفتمنعني منهما بعد وجود ضعفي ؟ (3) . هذا هو خطاب أهل الله مع الله ، لا فرق بينه وبين الوحي من حيث الصدق ، وإيثار الحق .
( وحكيم ما أعرفك ! ) بالإتقان ، والتدبير ، والمصالح ، والمفاسد ، وكل شيء ( سبحانك من مليك ما أمنعك ) قهرت بملكك كل مالك ، وامتنعت بقدرتك عن كل شيء ، ولا شيء يمتنع منك ( وجواد ما أوسعك ) واضح وتقدم مرات ، منها في هذا الدعاء بالذات ( ورفيع ما أرفعك ) تكرار لقوله قبل لحظة : « ما أجل شأنك ، واسنى
(1) الشورى : 19 .
(2) انظر ، مستدرك سفينة البحار : 9 / 256 ، مجمع البحرين : 4 / 121 .
(3) انظر ، بحار الانوار : 95 / 225 ، البلد الأمين : 251 ، زاد المعاد : 146 ، صحيفة الحسين عليه السلام : 210 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 560

في الأماكن » ، وذكرنا في الدعاء السادس أن من شأن الأدعية التكرار ( ذو البهاء ) بهاء الله تعالى : كماله ، وجلاله ، وعزته ، وعظمته ( وألمجد ) لعظمته في ذاته ، وصفاته ، وأفعاله ( والكبرياء ) انظر ، تفسير الكبير المتكبر في أول هذا الدعاء ( والحمد ) « وإن من شيء إلا يسبح بحمده » (1) .
سبحانك بسطت بالخيرات يدك ، وعرفت الهداية من عندك ، فمن التمسك لدين ، أو دنيا . . . وجدك .
سبحانك خضع لك من جرى في علمك ، وخشع لعظمتك ما دون عرشك ، وانقاد للتسليم لك كل خلقك ؛ سبحانك لا تجس ، ولا تحس ، ولا تمس ، ولا تكاد ، ولا تماط ، ولا تنازع ، ولا تجارى ، ولا تمارى ، ولا تخادع ، ولا تماكر .
سبحانك سبيلك جدد ، وأمرك رشد ، وأنت حي صمد ؛ سبحانك قولك حكم ، وقضآؤك حتم ، وإرادتك عزم ؛ سبحانك لا راد لمشيتك ، ولا مبدل لكلماتك ؛ سبحانك قاهر الأرباب ، باهر الآيات ، فاطر السموات بارئ النسمات .
( سبحانك بسطت بالخيرات يدك ) وفي دعاء سيد الشهداء عليه السلام : « يا من أياديه عندي لا تحصى ، يا من نعمه عندي لا تجازى ، يا من عارضني بالخير ، والإحسان ، وعارضته بالإساءة ، والعصيان » (2) ، ( وعرفت الهداية من عندك ) ، أيضاً في دعاء سيد الشهداء : « يا من هداني بالإيمان قبل أن أعرف شكر الإمتنان » (3) ( فمن
(1) الإسراء : 44 .
(2) انظر ، إقبال الأعمال : 339 ـ 350 ، البلد الأمين : 251 ـ 258 ، بحار الأنوار : 95 / 221 .
(3) انظر ، إقبال الأعمال : 2 / 81 ، بحار الأنوار : 95 / 221 ، صحيفة الإمام الحسين عليه السلام : 188 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 561

التمسك لدين ) : للصفح ، والعفو عن الذنوب ، وفي دعاء سيد الشهداء عليه السلام : « يا من وسع المستقيلين رأفة ، وعلماً » (1) ( أو دنيا وجدك ) كما قلت في كتابك العزيز : « أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء » (2) ( خضع لك من جرى في علمك ، وخشع لعظمتك ما دون عرشك . . . ) أي ما تحته ، والمعنى كل ما ومن في الكون خاضع لأمرك ، وخاضع لعظمتك لأنك العلي الأعلى الذي ليس كمثله شيء .
( سبحانك لا تحس ) : لا تدرك بالحواس ( ولا تجس ) لا يمكن التجسس عليك ، ومعرفة ما لديك ، وقيل غير ذلك ( ولا تمس ) باليد ، وغيرها ( ولا تكاد ) لا نخدع ( ولا تماط ) ماط عنه : تنحى عنه ، وابتعد ، والمراد هنا لا مفر منك إلا إليك ( ولا تنازع ) لأنك العلي الكبير ، وفوق كل قدير ( ولا تمارى ) : لا تجادل ، قال سبحانه : « أفتمارونه على ما يرى » (3) ، أي تجادلونه ( سبيلك جدد ) بفتح الجيم ، والدال : الطريق الصلبة المستقبلة ، والمعنى دينك هو الدين القويم ، والصراط المستقيم ( وأمرك رشد ) بفتح الراء ، والشين : الهدى ، والخير ( حي صمد ) : مقصد الخلائق في الحاجات ، والمهمات الذي لا يقضي دونه أمر ( قولك حكم ) مبرم ( وقضآؤك حتم ) قضاؤه تعالى علمه السابق بحدوث الشيء على حاله ، ووضعه ، وما من شك أن المعلوم لا ينفك ، ويتخلف عن علمه .
( وإرادتك عزم ) المراد بالعزم هنا الحتم ، فقد جاء في أصول الكافي عن الإمام الرضا عليه السلام : « الإرادة من الخلق الضمير ، وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل ، وأما من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك لأنه لا يروي ، ولا يهم ، ولا يفكر ، وهذه الصفات
(1) انظر ، حياة الإٍمام الحسين عليه السلام : 1 / 178 ، زاد المعاد : 146 ، بالإضافة إلى المصادر السابقة .
(2) النمل : 62 .
(3) النجم : 12 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 562

منفية عنه وهي صفات الخلق ، فإرادة الله الفعل لا غير ذلك يقول له : كن فيكون بلا لفظ ، ولا نطق بلسان ، ولا همة ، ولا تفكر ، ولا كيف لذلك ، كما أنه لا كيف له » (1) ( لا راد لمشيتك . . . ) توكيد ، وتكرار ( باهر الآيات ) غلبت آياتك ، ودحضت بيناتك كل حجة ، ودليل ( فاطر السموات ) : أبدعتها من غير مثال يحتذى ( بارئ النسمات ) : خالق النفوس .
لك الحمد حمداً يدوم بدوامك ، ولك الحمد حمداً خالداً بنعمتك ، ولك الحمد حمداً يوازي صنعك ، ولك الحمد حمداً يزيد على رضاك ، ولك الحمد حمداً مع حمد كل حامد ، وشكراً يقصر عنه شكر كل شاكر .
. . . حمداً لا ينبغي إلا لك ، ولا يتقرب به إلا إليك ؛ حمداً يستدام به الأول ، ويستدعى به دوام الآخر .
حمداً يتضاعف على كرور الأزمنة ، ويتزايد أضعافاً مترادفةً ؛ حمداً يعجز عن إحصآئه الحفظة ، ويزيد على ما أحصته في كتابك الكتبة .
حمداً يوازن عرشك المجيد ، ويعادل كرسيك الرفيع ، حمداً يكمل لديك ثوابه ، ويستغرق جزآء جزآؤه ؛ حمداً ظاهره وفق لباطنه ، وباطنه وفق لصدق النية فيه . حمداً لم يحمدك خلق مثله ، ولا يعرف أحد سواك فضله .
(1) انظر ، الكافي : 1 / 109 ، شرح اصول الكافي : 3 / 267 ، اوائل المقالات : 369 ، مسألة في الإرادة للشيخ المفيد : 11 ، بحار الأنوار : 4 / 138 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 563


حمداً يعان من اجتهد في تعديده ، ويؤيد من أغرق نزعاً في توفيته ؛ حمداً يجمع ما خلقت من الحمد ، وينتظم ما أنت خالقه من بعد ؛ حمداً لا حمد أقرب إلى قولك منه ، ولا أحمد ممن يحمدك به .
حمداً يوجب بكرمك المزيد بوفوره ، وتصله بمزيد بعد مزيد طولاً منك ، حمداً يجب لكرم وجهك ، ويقابل عز جلالك .
من حمد الله سبحانه فقد توجه إليه ، وأثنى عليه معترفاً بربوبيته ، وجلاله ، وأنعمه ، وإفضاله . وما من مخلوق إلا ويسبح بحمد خالقه بطبعه ، ووضعه ، قال سبحانه : « وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً » (1) ، ومن هنا كان تكرار الحمد ، والشكر لله تكراراً لعبادته تماماً كالركوع ، والسجود ، والطواف حول البيت العتيق ، والامام علي بن الحسين عليه السلام عبد الله سبحانه حتى اشتهر بالسجاد ، وزين العباد ، وهذا الجزء من دعائه مظهر من مظاهر عبادته ، وانقطاعه لخالقه ، وهو في غاية الوضوح لا يحتاج إلى الشرح ، والتفسير ، وايضاً تقدمت كلماته ، أو الكثير منها في الأدعية السابقة ، لذا ندع توضيح الواضح ، وإعادته ، ونذكر فيما يلي بعض ما جاء في التحميد ، والتمجيد : قال سبحانه : « وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار » (2) . وتكرار الأمر بالتحميد في العديد من الآيات . وفي اصول الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام : « إحمد الله ؛ فإنه لا يبقى أحد يصلي إلا دعا له ، لأنه يقول في صلاته : سمع الله لمن حمده » (3) . وكان رسول
(1) الإسراء : 44 .
(2) غافر : 55 .
(3) انظر ، الكافي : 2 / 503 ح 1 ، روض الجنان : 274 ، شرح اصول الكافي : 10 / 389 ، عدة الداعي : 245 ، الوسائل : 4 / 940 ح 2 ، بحار الأنوار : 81 / 192 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 564

الله صلى الله عليه وآله إذا أصبح قال : « الحمد لله رب العالمين كثيراً على كل حال ثلاثمائة وستين مرة ، وإذا أمسى قال مثل ذلك » (1) . « كل دعاء لا يكون قبله تحميد فهو أبتر » (2) .
رب صل على محمد وآل محمد المنتجب ، المصطفى ، المكرم ، المتقرب . . . ، أفضل صلواتك ، وبارك عليه أتم بركاتك ، وترحم عليه أمتع رحماتك .
رب صل على محمد وآله . . . ، صلاةً زاكيةً ، لا تكون صلاةً أزكى منها ، وصل عليه صلاةً ناميةً ، لا تكون صلاةً أنمى منها ، وصل عليه صلاةً راضيةً ، لا تكون صلاةً فوقها .
رب صل على محمد وآله . . . ، صلاةً ترضيه ، وتزيد على رضاه ، وصل عليه صلاةً ترضيك ، وتزيد على رضاك له ، وصل عليه صلاةً لا ترضى له إلا بها ، ولا ترى غيره لها أهلاً .
رب صل على محمد وآله ، صلاةً . . . ، تجاوز رضوانك ، ويتصل اتصالها ببقآئك ، ولا ينفد كما لا تنفد كلماتك .
رب صل على محمد وآله . . . صلاةً تنتظم صوات ملآئكتك ، وأنبيائك ، ورسلك ، وأهل طاعتك ؛ وتشتمل على صلوات عبادك من جنك ، وإنسك ، وأهل إجابتك ، وتجتمع على صلاة كل من ذرأت ، وبرأت من أصناف خلقك .
(1) انظر ، الكافي : 2 / 504 ح 3 و 4 ، شرح اصول الكافي : 10 / 289 ، وسائل الشيعة : 7 / 171 ، علل الشرائع : 2 / 353 .
(2) انظر ، الكافي : 2 / 504 ، شرح اصول الكافي : 10 / 290 ، وسائل الشيعة : 7 / 82 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 565


رب صل عليه وآله . . . صلاةً تحيط بكل صلاة سالفة ، ومستأنفة ، وصل عليه وعلى آله صلاةً مرضيةً لك ، ولمن دونك ، وتنشئ مع ذلك صلوات تضاعف معها تلك الصلوات عندها ، وتزيدها على كرور الأيام زيادةً في تضاعيف لا يعدها غيرك .
أمر سبحانه بالصلاة له في العديد من الآيات ، وأيضاً امر بالصلاة على نبيه الكريم محمد في قوله : « إن الله وملآئكته يصلون على النبي يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً » (1) ، وفي حديث شريف : « أكثروا الصلاة على محمد ، وعلى آل محمد » (2) . وفي آخر : « ارفعوا أصواتكم بالصلاة على محمد وآله » (3) . وفي ثالث : « من صلى علي صلى الله عليه ، وملائكته » (4) . وفي رابع : « من ذكرت عنده ولم يصل علي دخل النار » (5) . . إلى كثير من أحاديث هذا الباب ، وهنا يكمن سر تكرار الصلاة عليه وعلى آله في العبادة ، والأدعية ، والأندية ، وعند ذكره ، وفي كل مناسبة ، وحين .
وللإمام السجاد عليه السلام : دعاء خاص بالصلاة على سيد الكونين وآله ، وهو الثاني في صحيفة ، وآخر خاص بصحابته ، ثم كرر الصلاة على محمد وآله في جميع
(1) الأحزاب : 56 .
(2) انظر ، فقه الرضا : 339 ، مصباح المتهجد : 344 ، السرائر : 3 / 577 .
(3) انظر ، الكافي : 2 / 493 ، ثواب الأعمال : 159 ، شرح اصول الكافي : 10 / 271 ، بحار الأنوار : 91 / 59 .
(4) انظر ، مسند زيد : 33 ، إعانة الطالبين : 1 / 280 ، مواهب الجليل : 2 / 103 ، حاشية رد المحتار : 1 / 429 .
(5) انظر ، شرح اصول الكافي : 10 / 269 ، مستدرك الوسائل : 5 / 352 ، فتح الباري : 11 / 144 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 566

أدعيته السابقة ، واللاحقة ، وبالخصوص في هذا الدعاء الذي نحن بصدده حيث ذكر الرسول المنتخب المقرب بأكمل الصفات ، وألح على الله سبحانه ، وأطال في أن يصلي عليه صلاةً تتجاوز الحد كماً ، وكيفاً ، وتكلمت ـ فيما سبق ـ عن الصلاة ، وعلى محمد وآله وعن شخصيته صلى الله عليه وآله ، وذكرت طرفاً من أقوال المستشرقين المنصفين ، وغيرهم من الغربيين الذين يهتمون بالدراسات الإنسانية ، والإسلامية (1) . ومن أجل ذلك أدع شرح هذا الجزء « الواضح » الخاص بالصلاة على محمد ، إلى الأهم ، والأكثر فائدة ، وهو الفقرة التالية :


محمد هو الوحيد في كتاب جديد

الآن ، وبعد أشهر مما نقلت ، وذكرت عن محمد صلى الله عليه وآله في كتابي هذا ـ قرأت مقالا في مجلة العربي الكويتية العدد ( 241 ) تأريخ كانون الأول سنة ( 1987 م ) للأستاذ أحمد بهاء الدين ، بعنوان المئة الأوائل ، جاء في ما يلي :
ظهر أخيراً في الولايات المتحدة الأميركية كتاب جديد للدكتور « مايكل هارث » الذي يحمل أربع شهادات : الأولى في الرياضيات ، والثانية في القانون ، والثالثة في الفيزياء ، والرابعة في الفلك ، وهو الآن مسئول علمي عن التطبيقات العلمية لعلوم الفضاء ، ومن أخص صفاته أنه يبذل جهداً جبارا خارقاً في القراءة ، والمطالعة بخاصة تأريخ العالم ، وحضارته بكل وجوهها ، واسم كتابه الجديد « المئة » ! وموضوعه أهم مئة رجل في التأريخ الإنساني كله ، وقد أخذ على نفسه أن يترتب المئة في الذكر تبعا لأهمية كل واحد منهم ، فالأول عظمةً هو الأول ذكراً ،
(1) انظر شرح الدعاء الثاني فقرة : طبيعة الدعوة ، وشخصية الداعي ، والدعاء السادس فقرة : الشخصية اللامعة الجذابة ، والدعاء الثاني والأربعون فقرة : شخصية محمد .
في ظلال الصيحيفة السجادية 567

وهكذا الثاني ، والثالث . . .
وقد إختار الأول من المئة محمداً صلى الله عليه وآله ، ويدلنا هذا ـ كما قال بهاء الدين ـ أن المؤلف على درجة عالية من التجرد ، وعدم الإنحياز ، لأنه مسيحي علماً بأنه جعل السيد المسيح عليه السلام في الرقم الثالث ، وموسى الكليم عليه السلام في الرقم السادس عشر ، وبرر المؤلف المسيحي إختياره محمداً للأولية بقوله :
« إن إختياري محمداً ليكون الأول في قائمة أهم رجال التأريخ قد يدهش القراء . لكنه الرجل الوحيد في التأريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين : الديني ، والدنيوي . فهناك رسل ، وحكماء بدأوا رسالات عظيمة ، ولكنهم ماتوا دون إتمامها كالمسيح في المسيحية . . . ، أو شاركهم فيها غيرهم ، أو سبقهم فيها غيرهم ، أو سبقهم إليها سواهم كموسى في اليهودية ، ولكن محمداً هو الوحيد الذي رسالته الدينية كاملة ، وتحددت كل أحكامها ، وآمنت بها شعوب بأسرها في حياته ؛ لأنه أقام إلى جانب الدين دولة جديدة ، ووحد القبائل في شعب ، والشعوب في أمة ، ووضع لها كل أسس حياتها ، ورسم أمور دنياها ، ووضعها في موضع الإنطلاق إلى العالم . . . أيضاً في حياته » .
ثم يضيف المؤلف المسيحي إلى ذلك : « إن معظم الذين غيروا التأريخ ظهورا في قلب أحد المراكز الحضارية في العالم . . . ولكن محمداً هو الوحيد الذي نشأ في بقعة من صحراء جرداء مجردة تماماً من كل مقومات الحضارة ، والتقدم ، ولكنه جعل من البدو البسطاء المتحاربين قوة معنوية هائلة قهرت بعد ذلك إمبراطوريات فارس ، وبيزنطية ، وروما المتقدمة بما لا يقاس . وفي تأريخ الغزو في كل زمان ، ومكان يكون الغزو عسكرياً ، ولكن الرسالة المحمدية جعلت معظم البلاد التي فتحها خلفاؤه عرباً تماماً ، وتغيرت لغةً ، وديناً ، وقوميةً . . .وثبت ذلك واستقر بما

في ظلال الصيحيفة السجادية 568

ليس له مثيل في تأريخ الفتح في العالم . . . كذلك لا يوجد نص في تأريخ الرسالات نقل عن رجل واحد ، وبقي بحروفه كاملاً دون تحريف سوى القرآن الذي نقله محمد ، الأمر الذي لا ينطبق على التوراة مثلاً ، أو الإنجيل . . . ومن أجل ذلك وجدت أن محمداً هو صاحب الحق الوحيد في أن أعتبره صاحب أعظم تأثير على الإطلاق في التأريخ الإنساني » .
هذا ما قرأته عن محمد ، وأنا أكتب في الصلاة عليه وعلى آله في شهر كانون الأول 1978 م ، وأيضاً بهذا التأريخ قرأت عن الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله مايلي :
نشرت مجلة المستقبل التي تصدر الآن في باريس العدد ( 95 ) تأريخ ( 16 ) كانون الأول مقالاً بعنوان : « الإسلام ولعبة الأمم » ، جاء فيه :
موضوع الإسلام في هذه الأيام يشغل الصحافة اليومية الغربية ، فجريدة لوموند الفرنسية نشرت سلسلة مقالات للمستشرق الفرنسي ( مكسيم رودنسون ) عن العودة إلى الاصول الإسلامية ( أي عودة المسلمين إلى الإسلام ) ، وجريدة الهيرالد تربيون نشرت أكثر من تعليق حول الإسلام ، والسبب المباشر لهذا الإهتمام الجديد بالإسلام هو ثورة إيران باسم الإسلام ضد الظلم ، والطغيان . . . لقد اكتشف الغرب فجأة أن الدين الإسلامي ما زال حياً في نفوس ( 700 ) مليون إنسان (1) ، وهذا يهدد مصالح الغرب . . .ولكنه نتيجة طبيعة في مجتمعات خرجت حديثاً من تحت نير
(1) في مجلة العربي الكويتية العدد ( 223 ) تأريخ حزيران ( 1977 م ) ص : 50 مانصه بالحرف : « إن ربع سكان الكرة الأرضية الآن ألف مليون ينتمون إلى الإسلام ، والربع الآخر يعتنق المسيحية ، والربع الثالث موزع بين الهندوكية ، والبوذية ، واليهودية ، والمجوسية ، وبقايا أديان أخرى ، والربع الأخير يعتنق الشيوعية » أي اللادينية .
في ظلال الصيحيفة السجادية 569

الإستعمار ، وترفض في الوقت ذاته تبني عقيدة مادية .
وفي العدد المذكور من مجلة المستقبل مقال آخر بعنوان ( عاشوراء الشاة ) في ساعاتها الاخيرة ، ختمه الكاتب بالعلاقة بين ثورة كربلاء ، وثورة ايران .
وأيضاً قرأت في مجلة الحوادث التي تصدر الآن بلندن العدد ( 1145 ) تأريخ ( 15 ) كانون الأول ( 1978 م ) ، مقالاً بعنوان : « مطلبان لا مطلب واحد للشعوب المقهورة » جاء فيه : ( إن شدة هجوم الغرب على الإلحاد الشيوعي يوحي بأن الغرب إذا لم يكن متديناً فإنه يحترم الدين ، ويسمح للمتدينين بأن يمارسوا الحياة الدينية غير أن مواقف الغرب بحكوماته ، وصحافته من ثورة إيران ـ التي تهدد مصالح الغرب ـ يثير الإستغراب . . . وهنا يلتقي الغرب ، والشرق ضد الإسلام . . . إن الدين قد أصبح محركاً للشعوب ، وليس أفيوناً لها كما قال ماركس ) .
أبداً ، لا ذنب للإسلام عند خصومه إلا ذنب الطاهرة عند العاهرة ، والمخلص عند الخائن ، والضاري الشقي عند البر التقي ، وهل يطلب من الصهاينة ، والمستعمرين القدامى ، والجدد أن يهادنوا الإسلام ، والقرآن الذي يثير الشعوب والأجيال ضد كل جائر ، وكافر بقوله : « فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين » (1) . . . ، « وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان » (2) . . . ، « فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً » (3) . . . ، « فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لآ أيمان لهم لعلهم ينتهون » (4) . . . ،
(1) الأعراف : 44 .
(2) النساء : 75 .
(3) النساء : 76 .
(4) التوبة : 12 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 570

« والكافرون هم الظالمون » (1) . . . ، إلى عشرات الآيات ، والأحاديث .
رب صل على أطائب أهل بيته الذين اخترتهم لأمرك ، وجعلتهم خزنة علمك ، وحفظة دينك ، وخلفآءك في أرضك ، وحججك على عبادك ، وطهرتهم من الرجس ، والدنس تطهيراً بإرادتك ، وجعلتهم الوسيلة إليك ، والمسلك إلى جنتك .
رب صل على محمد وآله صلاةً . . . تجزل لهم بها من تحفك خ ل ، ( أو نحلك ) ، وكرامتك ، وتكمل لهم الأشياء من عطاياك ، ونوافلك ، وتوفر عليهم الحظ من عوائدك ، وفوائدك .
رب صل عليه وعليهم . . . صلاةً لا أمد في أولها ، ولا غاية لأمدها ، ولا نهاية لآخرها ؛ رب صل عليهم زنة عرشك وما دونه ، وملء سماواتك ، وما فوقهن ، وعدد أرضيك ، وما تحتهن ، وما بينهن ، صلاةً تقربهم منك زلفى ، وتكون لك ، ولهم رضىً ، ومتصلة بنظائرهن أبداً .


أهل البيت

( رب صل على أطائب أهل بيته الذين اخترتهم لأمرك . . . ) في صحيح مسلم القسم الثاني من الجزء الثاني : « قالت عائشة : خرج النبي صلى الله عليه وآله غداة ، وعليه مرط ( أي كساء غير مخيط ) فجاء الحسن فأدخله ، ثم جاء الحسين فأدخله ، ثم جاءت فاطمة فأدخلها ، ثم جاء علي فأدخله ، ثم قال : « إنما يريد الله ليذهب عنكم
(1) البقرة : 254 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 571

الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً » (1) .
وتسأل : من أي نوع هي الإرادة الإلهية في هذه الآية ؟ هل هي نوع من الأمر ، والتشريع ، وإذن فلا مبرر للتخصيص بأهل البيت ؛ لأنه تعالى يأمر بالبعد عن المعصية كل المكلفين ، أو هي من نوع التكوين أي تقول للشيء كن فيكون ، وإذن فلا فضيلة لأهل البيت ما داموا غير مختارين ؟ .
الجواب : ـ لا إرادة تشريعية ، ولا تكوينية ، وإنما مجرد حكاية عن العصمة ، والطهارة بالفعل في أهل البيت عليهم السلام ، واسندها سبحانه إلى إرادته ، لأنه المبدأ الأول لكل شيء . وقد تقدم الكلام حول أهل البيت في شرح الدعاء الثاني والأربعين فقرة مودة آل الرسول .
( والمسلك إلى جنتك . . . ) في الجزء الثاني من كتاب فضائل الخمسة للفيروز آبادي : أن النبي صلى الله عليه وآله قال : « مثل أهل بيتي كسفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق » (2) .
(1) الأحزاب : 33 .
انظر ، صحيح مسلم باب فضائل أهل البيت : 2 / 268 طبعة عيسى الحلبي بمصر ، و : 15 / 194 طبعة مصر أيضاً بشرح النووي ، ذخائر العقبى للطبري الشافعي : 24 ، فتح البيان لصديق حسن خان : 7 / 365 ، فتح القدير للشوكاني : 4 / 279 ، شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي : 2 / 56 ح 676 ـ 684 تحقيق الشيخ المحمودي ، المستدرك للحاكم : 3 / 147 ، الدر المنثور للسيوطي : 5 / 198 ، كفاية الطالب للحافظ الكنجي الشافعي : 54 و 373 و 374 طبعة الحيدرية ، نظم درر السمطين للزرندي الحنفي : 133 .
(2) انظر ، فضائل الخمسة : 2 / 100 ، وروى هذا الحديث الحاكم في مستدرك الصحيحين : 2 / 343 ، طبعة سنة 1324 هـ ، حلية الأولياء : 4 / 306 طبعة سنة ( 1351 هـ ، والخطيب البغدادي : =
في ظلال الصيحيفة السجادية 572


( من تحفك خ ل ، ( أو نحلك ) : جمع نحلة وهي العطية ( ونوافلك ) : جمع نافلة أي هبة مجانية ( من عوائدك ) : جمع عائدة أيضاً الصلة ، والمنفعة ، ومثلها الفائدة ، وكل هذه الكلمات متقاربة ، ومتشابهة في معناها ( زلفى ) : قربى ، ومنزلة ، ودرجة ( ومتصلة بنظائرهن أبداً ) : بلا انفصال ، وانقطاع .
أللهم إنك أيدت دينك في كل أوان بإمام أقمته علماً لعبادك ، ومناراً في بلادك ، بعد أن وصلت حبله بحبلك ، وجعلته الذريعة إلى رضوانك ، وافترضت طاعته ، وحذرت معصية ، وأمرت بامتثال أمره ( أوامره خ ل ) والانتهآء عند نهيه ، وألا يتقدمه متقدم ، ولا يتأخر عنه متأخر ، فهو عصمة اللائذين ، وكهف المؤمنين ، وعروة المستمسكين ، وبهآء العالمين .
أللهم فأوزع لوليك شكر ما أنعمت به عليه ، وأوزعنا مثله فيه وآته من لدنك سلطاناً نصيراً ، وافتح له فتحا يسيراً ، وأعنه بركنك الأغر ، وأشدد أزره ، وقو عضده ، وراعه بعينك ، واحمه بحفظك ، وانصره بملآئكتك ، وامدده بجندك الأغلب ، وأقم به كتابك ، وحدودك ، وشرائعك ، وسنن رسولك صلواتك أللهم عليه وآله .
وأحي به ما أماته الظالمون من معالم دينك ، وأجل به صدأ الجور
= 12 / 19 طبعة سنة 1349 هـ ، وغيرهم ، ( منه قدس سره ) . وغاية المرام : 238 باب 32 من المقصد الأول رقم 10 ، المعارف لابن قتيبة : 252 ، التهذيب : 4 / 249 ، و : 8 / 9 ، و : 3 / 58 ، الصواعق المحرقة لابن حجر : 152 و 186 ، مودة القربى : 33 ، الاحتجاج للطبرسي : 1 / 156 ، ينابيع المودة : 28 ، عيون الأخبار للدينوري : 1 / 211 ، ( منه قدس سره ) .
في ظلال الصيحيفة السجادية 573

عن طريقتك ، وأبن به الضرآء من سبيلك ، وأزل به الناكبين عن صراطك ، وامحق به بغاة قصدك عوجاً ، وألن جانبه لأوليائك ، وابسط يده على أعدائك ، وهب لنا رأفته ، ورحمته ، وتعطفه ، وتحننه .
واجعلنا به سامعين مطيعين ، وفي رضاه ساعين ، وإلى نصرته والمدافعة عنه مكنفين ، وإليك وإلى رسولك صلواتك أللهم عليه وآله بذلك متقربين .
( أللهم إنك أيدت دينك ) وهو الإسلام لقوله تعالى : « إن الدين عند الله الإسلام » (1) ( بإمام أقمته علماً لعبادك . . . ) قضى سبحانه أن الأرض لا تخلو من عالم بالله ، وعامل بشريعته ، وداع إليه ، وإليها ، يكون حجة على الجاهل المقصر ، والفاسق المستهتر ( وصلت حبله بحبلك . . . ) : طاعته بطاعتك ( فهو عصمة اللائذين ) من الخطايا ، والذنوب ( وكهف المؤمنين ) في رد الشبهات ، وحل المشكلات ( وعروة المستمسكين ) أي من عمل بقوله نجا من عذاب الآخرة ( وبهآء العالمين ) هذا الوصف للمعصوم ، لأنه هو وحده من بين الناس نور العالمين ، ولذا دعا له الإمام عليه السلام بقوله : ( أللهم فأوزع لوليك . . . ) ألهمه الشكر على أن جعلته نوراً ورحمةً للعالمين ( وأوزعنا مثله فيه ) أي كما تلهمه شكرك أيضاً ألهمنا نحن هذا الشكر بسببه .


الدولة الإنسانية

( وآته من لدنك سلطاناً نصيراً . . . ) يسأل الله سبحانه أن يمد الإمام المعصوم
(1) آل عمران : 19 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 574

بعونه حتى يقيم دولة إنسانية تجمع البشرية بكاملها تحت لواء واحد يسود فيها الأمن ، والعدل ، والإخاء ، والرخاء الذي يعم جميع الناس على السواء ، وتختفي فيها الحروب ، والإحتكارات ، والأحقاد ، وتؤكد الروايات عن النبي ، وأهل البيته عليهم السلام ، أن هذه الدولة آتية لا ريب فيها ، وإليها ينتهي العالم بأكماله لا محالة ، لأنه دعوة الفطرة التي لا يختلف فيها عاقلان ، ولأن الله واحد ، فيجب أن يكون الدين واحداً والدولة واحدة ، وأن يخضع العالم كله لشريعة واحدة ( وأحي به ما أماته الظالمون . . . ) ، وهم أصحاب الأسلحة المهلكة ، والقوة الباطشة ، والميول الجشعة ، والأعمال البشعة ( وامحق به بغاة قصدك عوجاً ) ، وهم الذين يحرفون الدين ، ويأكلون أموال اليتامى ، والمساكين ( والن جانبه . . . ) جعله رحمة للمحقين ، وصاعقة على المبطلين (واجعلنا له سامعين مطيعين . . . ) الحقوق بين الناس كلها متكافئة متبادلة ، لا يستوجب بعضها إلا ببعض حتى بين الراعي ، والرعية ، قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : « قد جعل الله سبحانه إلي عليكم حقاً بولاية أمركم ، ولكم علي من الحق مثل الذي لي عليكم . . . ولا يجري لأحد إلا جرى عليه ، ولا يجري عليه إلا جرى له » (1) .
أللهم وصل على أوليآئهم المعترفين بمقامهم ، المتبعين منهجهم ، المقتفين آثارهم ، المستمسكين بعروتهم ، المستمسكين بولايتهم ، المؤتمين بإمامتهم ، المسلمين لأمرهم ، المجتهدين في طاعتهم ، المنتظرين أيامهم ، المادين إليهم أعينهم . . . ، الصلوات المباركات ، الزاكيات ، الناميات ، الغاديات ، الرائحات .
(1) انظر ، نهج البلاغة : 2 / 198 ، الخطبة ( 216 ) ، شرح نهج البلاغة للمعتزلي : 11 / 88 ، الكافي : 8 / 352 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 575


وسلم عليهم ، وعلى أرواحهم ، واجمع على التقوى أمرهم ، وأصلح لهم شؤونهم ، وتب عليهم إنك أنت التواب الرحيم ، وخير الغافرين ؛ واجعلنا معهم في دار السلام ؛ برحمتك يا أرحم الراحمين .


من خصائص الشيعة

( أللهم ، وصل على أوليائهم . . . ) لما ذكر الإمام عليه السلام السادة الأطهار من آل الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله بأسلوب الدعاء ـ أشار إلى شيعتهم الموالين بنفس الأسلوب ، وذكر من أخص خصائصهم أربعة أوصاف ، وهي :
1 ـ الإيمان بأن الأئمة الهداة معصومون عن الخطإ ، والخطيئة ، وأن قولهم ، وفعلهم ، وتقريرهم يحكي ، ويعكس قول جدهم النبي صلى الله عليه وآله ، وفعله ، وتقريره ، وإلى ذلك أشار الإمام عليه السلام بقوله : ( المعترفين بمقامهم ) .


إيماننا نظري لا عملي

2 ـ الطاعة لله في كل شيء ، ولا يعصونه في شيء ، وإلى هذا أشار الإمام عليه السلام بقوله : ( المتبعين منهجهم ، المتقفين آثارهم . . . ) ، لأن الهدف الأول ، والأساس من الإمامة هو إصلاح المؤتم عملياً لا نظرياُ . . . فالكثير منا يؤمن ، ويوقن بالله تماماً كما لو رآه بالحس ، والعيان بحيث لو كشف له الغطاء ما ازداد يقيناً ، ولكن عند التنفيذ ، والعمل ننسى عذاب الله ، ولا نخشاه ، ويطغى شيطان الأهواء على ما نملك من دين ، وإيمان ، وعقل أيضاً ! ولا وزن لهذا الإيمان ، بل هو حجة تخرسنا عن الجواب ، وتزيدنا عذاباً على عذاب ، وبهذا يكمن السر في قول سيد الشهداء عليه السلام : « أللهم إجعلني أخشاك كأني أراك ، وأسعدني بتقواك ، ولا تشقني بمعصيتك » (1) .
(1) انظر ، زاد المعاد : 146 ، البلد الأمين : 251 ، جمال الأسبوع : 134 ، مستدرك الوسائل : 10 / 25 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 576

ولم يقل : إجعل إيماني من يراك وكفى . انظر شرح الدعاء السادس والعشرون فقرة : من هم الشيعة ؟ .
3 ـ التسليم بكل ما يرد عن الأئمة الولاة لأمره تعالى بلا شك ، وتردد لا في الظاهر ، ولا في الباطن ، وهذا هو المراد بقول الإمام عليه السلام : ( المسلمين لأمرهم المجتهدين في طاعتهم ) .
4 ـ الإيمان بدولة المهدي المنتظر التي تسيطر على شرق الأرض ، وغربها ، ويظهر فيها دين الله على الدين كله ، ولا يبقى على ظهرها عين ، ولا أثر لشرك ، أو فسق ، ولا لظلم ، وخوف أو فقر . . . أبداً ، لا شيء إلا الحق ، والعدل ، والحب ، والإخاء ، والإستقامة ، والمساواة ، والرخاء كما أشرنا قبل قليل في فقرة الدولة الإنسانية . وإلى هذه الدولة أشار الإمام عليه السلام بقوله : ( المنتظرين أيامهم ، المادين إليهم أعينهم ) وأيضاً تقدم في شرح الدعاء السابع والعشرين فقرة : المهدي المنتظر ثورة إجتماعية ، وإنسانية .
( الغاديات ، الرائحات ) أي ليل نهار ( في دار السلام ) : الجنة .
أللهم هذا يوم عرفة ، يوم شرفته ، وكرمته ، وعظمته ، نشرت فيه رحمتك ، ومننت فيه بعفوك ، وأجزلت فيه عطيتك ، وتفضلت به على عبادك .
أللهم ، وأنا عبدك الذي أنعمت عليه قبل خلقك له ، وبعد خلقك إياه ، فجعلته ممن هديته لدينك ، ووفقته لحقك ، وعصمته بحبلك ، وأدخلته في حزبك ، وأرشدته لموالاة أوليائك ، ومعاداة أعدائك .
ثم أمرته فلم يأتمر ، وزجرته فلم ينزجر ، ونهيته عن معصيتك فخالف أمرك إلى نهيك ، لا معاندةً لك ، ولا استكباراً عليك ، بل دعاه

في ظلال الصيحيفة السجادية 577

هواه إلى ما زيلته ، وإلى ما حذرته ، وأعانه على ذلك عدوك ، وعدوه ، فأقدم عليه عارفاً بوعيدك ، راجياً لعفوك ، واثقاً بتجاوزك ، وكان أحق عبادك ـ مع ما مننت عليه ـ ألا يفعل .
( أللهم هذا يوم عرفة ، يوم شرفته . . . ) وفي الحديث : « الحج عرفة » (1) . وعن الإمام الباقر عليه السلام : « ما يقف أحد في تلك الجبال إلا استجاب الله له براً كان ، أو فاجراً ، فأمر البر فيستجاب له في آخرته ، ودنياه ، وأما الفاجر فيستجاب له في دنياه » (2) ( أللهم وأنا عبدك الذي أنعمت عليه قبل خلقك له . . . ) للإنسان ـ وغير الإنسان أيضاً ـ وجودان : الوجود الأول في عالم الغيب كوجود الولد في صلب والده ، فإنه موجود فيه بلا ريب ، ولكن علمه عند الله دون سواه . الوجود الثاني في عالم الشهادة أي خروجه من صلب والده إلى رحم والدته ، ثم إلى الخارج المحسوس الملموس ، ومراد الإمام عليه السلام بالنعمة عليه قبل خلقه أن الله سبحانه أوجده في عالم الغيب ، وهو علمه تعالى حيث قدر ، وهيأ الأسباب الموجبة لوجوده في عالم الشهادة ، ومثله تماماً في دعاء سيد الشهداء عليه السلام : « ابتدأتني يا إلهي بنعمتك قبل أن أكون شيئاً مذكوراً » (3) أي في عالم الشهادة ، وإلا فقد كان شيئاً موجوداً في عالم الغيب عن الناس .
(1) انظر ، كنز العمال : 5 / 63 ، سنن البيهقي : 5 / 173 ، سنن الترمذي : 2 / 188 ، مستدرك الصحيحين : 2 / 278 .
(2) انظر ، الكافي : 4 / 256 قريب منه ، الوسائل : 8 / 113 ، عدة الداعي : 35 ، مسند الإمام الرضا عليه السلام : 2 / 215 .
(3) انظر ، إقبال الأعمال : 240 ، بحار الأنوار : 94 / 315 ، العدد القوية : 372 ، تفسير نور الثقلين : 3 / 533 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي