في ظلال الصيحيفة السجادية 515

الدعاء الخامس والأربعون

دعاؤه لوداع شهر رمضان

أللهم يا من لا يرغب في الجزاء ، ويا من لا يندم على العطاء ، ويا من لا يكافئ عبده على السواء . . . . منتك ابتداء ؛ وعفوك تفضل ، وعقوبتك عدل ، وقضاؤك خيرة ، إن أعطيت لم تشب عطاءك بمن ، وإن منعت لم يكن منعك تعدياً .
تشكر من شكرك ، وانت ألهمته شكرك ، وتكافئ من حمدك ، وأنت علمته حمدك .
كان الدعاء السابق في استقبال رمضان ، وهذا الدعاء في وداعه ، وما من شك أن المؤمن يودع رمضان وداع محب ، لا قال على عكس الشره النهم . وفي الحديث : « أن النبي صلى الله عليه وآله قال لبعض الصحابة : هذه آخر جمعة من شهر رمضان فودعه » (1) ( أللهم يا من لا يرغب في الجزاء ) لأنه الغني ، ونحن الفقراء ، ولا نقش
(1) انظر ، فضائل الأشهر الثلاثة للشيخ الصدوق : 139 ، إقبال الأعمال : 1 / 422 ، وسائل الشيعة : =
في ظلال الصيحيفة السجادية 516

بلا عرش . وقد تقدم (1) . وتسأل : ما معنى قوله تعالى : « ولكن يناله التقوى منكم » (2) ؟
الجواب : المراد بالتقوى هنا الرضا ، والمعنى إنه تعالى يريد من عباده أن يتقوه حق تقاته ، فإن استجابوا كان التقوى رضاً له ، ولهم علماً بان مرضاة الله هي أيضاً لخير العباد ، ومنافعهم .
( ويا من لا يندم على العطاء ) لأنه تعالى يعطي ، ويمنع عن علم ، وحكمة ، وعدل ، والندامة ثمرة الجهل ، والتفريط . تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً « وكل شيء عنده بمقدار » (3) ( ويا من لا يكافئ عبده على السواء ) لأنه يجزي الحسنة بأضعاف مضاعفة ، ويعفو عن السيئة ، وإن دعت الحكمة إلى العقاب ، فبعد الإنذار ، والإمهال أمداً غير قصير ، لعل المسيء يتذكر ، أو يخشى ، وكل ذلك تفضل ، وإحسان . وقد تقدم (4) . ( منتك ابتداء ) المنة : النعمة ، وكل سخاء هو ابتداء لا معملة ، ومبادلة ( وعفوك تفضل ) من غير وجوب ، وإلزام ، ولكن عفوه لا يكون ، ولن يكون إلا عن حكمة ، وعلم بأن المعفو عنه أهل ، ومحل .
( وعقوبتك عدل ) حيث تجزي المسيء بما فعل ، ولا يظلم فتيلا . وتسأل : قال سبحانه وتعالى : « ومن يفعل ذلك يلق أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة
= 10 / 365 ، بحار الأنوار : 95 / 172 ، حيث قال صلى الله عليه وآله : « أللهم لا تجعله آخر العهد من صيامنا إياه ، فإن جعلته فاجعلني مرحوماً ، ولا تجعلني محروماً . . . » .
(1) انظر ، الدعاء السادس عشر .
(2) الحج : 37 .
(3) الرعد : 8 .
(4) انظر ، الدعاء السادس عشر .
في ظلال الصيحيفة السجادية 517

ويخلد فيه مهاناً » (1) ، والمضاعفة الزيادة عن الإستحقاق ، والواجب ؟ الجواب : ليس المراد بالمضاعفة هنا الزيادة ، وإنما هي كناية عن العذاب الأليم على الذنب العظيم ( وقضاؤك خيرة ) بكسر الخاء : من الخير لا من الإختيار : « والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشئ إن الله هو السميع البصير » (2) ( إن أعطيت لم تشب عطاءك بمن ) وهو أن تظهر ، وتعلن أنك المتفضل المحسن ، وهذا من أقبح القبائح ، ومبطل لعمل الخير ، قال سبحانه : « يا أيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى » (3) ( وإن منعت لم يكن منعك تعدياً ) بل عن استحقاق ، وحكمة ( وتشكر من شكرك ) تكافئ القليل بالكثير علماً بأنك أملك منا بأنفسنا ، وقد تقدم (4) .
تستر على من لو شئت فضحته ، وتجود على من لو شئت منعته ، وكلاهما أهل منك للفضيحة ، والمنع .
غير أنك بنيت أفعالك على التفضل ، واجريت قدرتك على التجاوز ، وتلقيت من عصاك بالحلم ، وأمهلت من قصد لنفسه بالظلم .
تستنظرهم بأناتك إلى الإنابة ، وتترك معاجلتهم إلى التوبة ، لكيلا يهلك عليك هالكهم ، ولا يشقى بنعمتك شقيهم . . . إلا عن طول الإعذار إليه ، وبعد ترادف الحجة عليه ؛ كرماً من عفوك يا كريم ،
(1) الفرقان : 68 ـ 69 .
(2) غافر : 20 .
(3) البقرة : 264 .
(4) انظر ، الدعاء الثاني عشر ، والسابع والثلاثون .
في ظلال الصيحيفة السجادية 518

وعائدة من عطفك يا حليم .
( تستر على من لو شئت فضحته ) تستر القبيح ، وتظهر الجميل ، وهكذا يفعل كل شريف ، ونبيل على عكس الخسيس اللئيم الذي يدفن الجميل ، ويشهر بالقبيح . وقد تقدم (1) . اقرأ فقرة النحلة ، والخنفساء (2) ، ( وتجود على من لو شئت . . . ) أنت يا إلهي سترت ، وأغنيت ، وعافيت من لا يستحق منك إلا الهوان ، والحرمان . وقد تقدم (3) .


القائد الحق

( غير أنك بنيت أفعالك على التفضل . . . ) هذا هو الإله الذي نعبد ، يأمر بالجود ، ويجود ، وبالعفو ، ويعفو ، وبالحلم ، ويحلم ، وبالإمهال ، ويمهل . . . وهكذا كل داع ، وقائد ، وواعظ ، وعالم ، وبمقياس الحق ، والعدل ، يبدأ بنفسه ، ويمارس أمره ، ونهيه في سلوكه ، وأفعاله ، لا في ألفاظ منمقة ، وعبارات طنانة ، وإلا فهو دجال ، ومحتال ، قال سبحانه وتعالى : « يا أيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون » (4) ، وقال تعالى : « أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم » (5) . . . وقال تعالى : « لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة » (6) . فما نطق صلى الله عليه وآله بكلمة إلا بعد أن يصدقها ، ويؤكدها بالفعل . . . وجاء في سيرته المقدسة أنه أصيب في بعض الغزوات حتى سال الدم
(1) انظر ، الدعاء السادس .
(2) انظر ، الدعاء الثامن والثلاثون .
(3) انظر ، الدعاء الثالث عشر .
(4) الصف : 2 .
(5) البقرة : 44 .
(6) الأحزاب : 21 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 519

الزكي على وجهه ، ودخلت حلقتان من المغفر في رأسه الشريف ، وما أكثر ما يروي التأريخ في هذا المجال عن قادة الحق (1) .
( وتستنظرهم بأناتك ) : بالتأني ، والمعنى تؤخرهم صابراً عليهم ، عسى أن يرجعوا إلى الرشد ، والهداية ( وتترك معاجلتهم ) هذا تفسير ، وتوضيح لتستنظرهم بأناتك ، وقد تقدم (2) . ( لكيلا يهلك عليك هالكهم ) وهو الذي يستحق الهلاك ، والعذاب لأنه تعالى لا يهلك أحداً إلا بالحق ، والعدل وأيضاً تقدم في الدعاءالسابع والثلاثين ، ( ولا يشقى بنعمتك شقيهم ) وهو الذي يطغي الغنى . وفي نهج البلاغة : « لا تكن عند النعماء بطراً ، ولا عند البأساء فشلاً » (3) ( إلا عن طول الإعذار . . . ) استثناء من لا يهلك ، والمعنى أن الله سبحانه يدع لمن لا يملك حجة ، ولا عذراً ( وعائدةً ) : هبةً ، وعطية .
أنت الذي فتحت لعبادك باباً إلى عفوك ، وسميته التوبة ، وجعلت على ذلك الباب دليلاً من وحيك لئلاً يضلوا عنه ، فقلت تبارك اسمك : « توبوا إلى الله توبةً نصوحاً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين ءامنوا معه ونورهم يسعى بين أيديهم وبإيمانهم يقولون ربنآ أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير » (4) ،
(1) انظر ، صحيح مسلم : 5 / 178 ح 1791 ، مسند أحمد : 1 / 31 ، صحيح البخاري : 3 / 227 ، سنن ابن ماجه : 2 / 1147 ، سنن أبي داود : 2 / 380 ، سنن الترمذي : 4 / 294 .
(2) انظر ، الدعاء السابع والثلاثون .
(3) انظر ، نهج البلاغة : 3 / 58 ، الكتاب ( 33 ) ، شرح نهج البلاغة للمعتزلي : 16 / 138 ، نهج السعادة : 5 / 296 .
(4) التحريم : 8 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 520

فما عذر من أغفل دخول ذلك المنزل بعد فتح الباب ، وإقامة الدليل .
( أنت الذي فتحت لعبادك باباً . . . ) يدعو سبحانه إلى رحمته ، ومغفرته كل طالب وراغب ، بل ويدعو من كفر ، وأدبر ( وجعلت على ذلك الباب دليلاً . . . ) إعلاناً من السماء لا من المحتكرين ، والمستغلين ، بأن الله يحب التوابين ، ويحب المتطهرين ، فهلموا إلى أبوابه ، وثوابه ، وتقدم في الدعاء الثاني عشر ، والسادس عشر ، وهما في التوبة خاصة ، وأيضاً سبق الحديث عنها في غيرهما من الفصول « توبوا إلى الله ـ إلى ـ على كل شيء قدير » (1) ( فما عذر من أغفل . . . ) ، أبداً ما ترك سبحانه عذراً لمعتذر .
وأنت الذي زدت في السوم على نفسك لعبادك ، تريد ربحهم في متاجرتهم لك ، وفوزهم بالوفادة عليك ، والزيادة منك ؛ فقلت تبارك اسمك ، وتعاليت : « من جآء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جآء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها » (2) ، وقلت : « مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء » (3) ، وقلت : « من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرةً » (4) ؛ وما أنزلت من نظائرهن في القران من تضاعيف الحسنات .
(1) التحريم : 8 .
(2) الأنعام : 160 .
(3) البقرة : 261 .
(4) البقرة : 245 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 521


في نهج البلاغة : « أيها الناس ، إنما أنتم في هذه الدنيا غرض تنتضل فيه المنايا مع كل جرعة شرق ، وفي كل أكلة غصص . . . » (1) إن الله سبحانه يتجلى لعباده في كتابه ومثله عن الإمام الصادق عليه السلام ، ولكن لكتاب الله اسرار ، واهداف لا يعلمها الا الذين يعرفون الله ، ويقدرونه حق قدره كالنبي ، وآله صلى الله عليه وآله . وفي هذا الدعاء يكشف الإمام عليه السلام بأسلوب المناجاة عن بعض هذه الأسرار ، ونعني بها بعض وسائل الإقناع التي استخدمها سبحانه ، وخاطب بها العباد لجذبهم إليه ، واستمالتهم إلى دينه ، وشريعته ، والتخلي عن سائر الأديان ، والمعتقدات الزائفة الباطلة . وإليك الشرح ، والتفسير لما كشف عنه الإمام عليه السلام في هذا الدعاء :


التجارة الرابحة

( وأنت الذي زدت في السوم . . . ) الخطاب مع الله سبحانه ، والسوم من البائع عرض السلعة مع تحديد الثمن ، ومن المشتري طلب الشراء بما يريد من الثمن ، ومعنى هذه الكلمات المشرقة بجملتها أن الله يطلب من عباده أن يؤمنوا به ، ويعملوا بدينه ، وشريعته ، كما يطلب التاجر من الناس أن يشتروا ما لديه من سلعة ، ومتاع . وأيضاً التاجر يستميل المستهلك بالإعلام ، والدعاية ، والله سبحانه ينشر دعوته ، ويتصدى لأعدائها ، بالحكمة والموعظة الحسنة كما في الآية : « ادعو الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن » (2) ، وقال سبحانه لموسى ، وهارون حين أرسلهما إلى فرعون : « فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى » (3) ، وفي الخطاب الذي وجه إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وآله ، كما جاء
(1) انظر ، نهج البلاغة : 2 / 28 و : 4 / 44 ، شرح نهج البلاغة : 9 / 91 ، كشف الغمة : 1 / 171 ، بحار الأنوار : 75 / 4 .
(2) النحل : 125 .
(3) طه : 44 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 522

في الآية : « فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة » (1) . وسماحة الخلق عند الرسول صلى الله عليه وآله هي بذاتها أبلغ أثراً من كل إعلام ، ودعاية ، وبها ملك قلوب الناس ، ودخلوا في دين الله أفواجاً بشهادة العناية الإلهية : « ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك » (2) حيث ربط سبحانه إقبال الناس عليه ، وهدايتهم به بخلقه الكريم العظيم . اقرأ في الدعاء السادس فقرة ( الشخصية اللامعة الجذابة ) ، وفي الدعاء الثاني ( طبيعة الدعوة ، وشخصية الداعي ) ، وفي الدعاء الثاني والأربعين ( شخصية محمد ) . وأيضاً يأتي إن شاء الله .
أجل ، إن الله سبحانه يدعو الناس إليه ، ويساوم كالتاجر ، ولكن مع الفروق التي تنطوي عليها هذه المناجاة ، وهي :
1 ـ إن الله سبحانه يعطي كل شيء ، ولا يأخذ من أحد شيئاً ؛ لأنه لا يحتاج إلى شيء ، والتاجر لا يعطي حتى يأخذ .
2 ـ إن الله يعطي باستمرار ، وكل الخلائق يعجزون عن ذلك .
3 ـ إن التاجر يعطي الفانيات ، والله يعطي الباقيات الصالحات .
4 ـ إن الهدف الأول ، والنهائي للتاجر من تجارته هو الربح الشخصي ، والمنفعة الخاصة ، وفيها يجد الغبطة ، والسعادة ، أما ربح التجارة مع الله سبحانه فهو بالكامل للمشتري ، ولا شيء منه للبائع . وهذا ما أراده الإمام بقوله : « تريد ربحهم في متاجرتهم لك ، وفوزهم بالوفادة عليك ، والزيادة منك ) ، حتى الدعاة إليه تعالى ، وحملة رسالته يعطون ، ولا يأخذون : « قل مآ أسئلكم عليه من أجر إلا من شآء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً » (3) .
(1) الأنعام : 147 .
(2) آل عمران : 159 .
(3) الفرقان : 57 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 523


5 ـ إن التاجر يعطي بمقدار ما ياخذ من المال ، والله سبحانه يعطي على الحسنة الواحدة أضعافاً تزيد إلى عشرة أمثال ، أو إلى سبعمئة ، أو إِلى ما لا يبلغه الإحصاء وفقاً لنوايا المحسن ، وصفاته ، ومقاصده .
وأنت الذي دللتهم بقولك من غيبك ، وترغيبك الذي فيه حظهم على ما لو سترته عنهم لم تدركه أبصارهم ، ولم تعه أسماعهم ، ولم تلحقه أوهامهم ؛ فقلت : « فاذكروني أذكركم واشكرولي ولا تكفرون » (1) ، وقلت : « لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد » (2) ، وقلت : « ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين » (3) .
فسميت دعاءك عبادة ، وتركه استكباراً ؛ وتوعدت على تركه دخول جهنم داخرين ؛ فذكروك بمنك ، وشكروك بفضلك ، ودعوك بأمرك ، وتصدقوا لك طلباً لمزيدك ، وفيها كانت نجاتهم من غضبك ، وفوزهم برضاك .


القرآن ، ومصادر المعرفة

( وأنت الذي دللتهم بقولك من غيبك . . . ) قال الماديون : لا طريق للمعرفة إلا الحواس ، والتجربة . والقرآن يقر ، ويعترف بهذا المصدر ، قال في الآية : « لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم ءاذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام
(1) البقرة : 152 .
(2) إبراهيم : 7 .
(3) غافر : 60 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 524

بل هم أضل » (1) وأيضاً قال في الآية : « أفلا يبصرون » (2) ، ومعنى هذا بوضوح أن الحواس من مصدر المعرفة ، ولكنها ليست أقواها ، ولا أشملها ، بل هناك مصدران آخران وهما : العقل ، والوحي ، وقد جمع سبحانه المصادر الثلاثة في الآية : « ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدىً ولا كتاب منير » (3) . فالعلم إشارة إلى الحواس ، والتجربة ، والهدى إلى العقل ، والكتاب المنير إلى الوحي من الله الذي خلق الحواس ، والعقل (4) .
وقد أشار الإمام عليه السلام في دعائه هنا إلى المصادر الثلاثة ، فكلمة ( من غيبك ) توميء إلى الوحي ، وقوله : ( لم تدركه أبصارهم ، ولم تعه أسماعهم ) صريح في الحواس ، والمراد بالأوهام في قوله : ( ولم تلحقه أوهامهم ) العقول ( اذكروني أذكركم ) أطيعوني : أثيبكم ( واشكروا لي ولا تكفرون ) : اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم بالحمد ، والطاعة ، وأعمال الخير ، ولا تجحدوها بالعصيان ، والتمرد ( لئن شكرتم لأزيدنكم ، ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ) هذا نص الآية (5) ، ومعناها من شكر نعمة الله زاده أضعافاً ، ومن جحدها فجزاؤه جهنم وبئس المهاد .
( ادعوني أستجب لكم ، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) أيضاً نص الآية (6) ، وداخرين : صاغرين ، وقال كثير من المفسرين (7) : إن
(1) الأعراف : 179 .
(2) السجدة : 27 .
(3) الحج : 8 .
(4) انظر ، تفسير الميزان : 1 / 48 و 88 و 369 ، نظرات في الكتب الخالدة : 70 ، شرح اصول الكافي : 3 / 253 ، نحو إنقاذ التأريخ الإسلامي ، حسن بن فرحان المالكي : 303 .
(5) إبراهيم : 8 .
(6) غافر : 60 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 525

المراد بأدعوني اعبدوني ، وباستجب أثب ، ونحن على هذا الرأي حيث قال سبحانه بلا فاصل : « إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين » (8) ولم يقل عن دعائي . هذا ما قلناه في التفسير الكاشف قبل أن نقرأ في الصحيفة السجادية قول الإمام عليه السلام : ( فسميت دعاءك عبادةً ) ومعنى هذا أن المراد بالعبادة في هذه الآية الدعاء ، وليس المراد بالدعاء العبادة كما قلنا تبعاً للمفسرين .
( فذكروك بمنك ) إن عبادك يا إلهي ذكروك بالطاعة ، والتعظيم ليفوزوا بجنات النعيم ، وأنت أرشدتهم ، وهديتهم إلى هذه السبيل ، بقولك : اذكروني أذكركم ، ( وشكروك بفضلك ) وأيضاً أنت طلبت منهم أن يشكروا نعمتك لتزيدهم أضعافاُ حيث قلت : لئن شكرتم لأزيدنكم ، ( ودعوك بأمرك ) إذ قلت : ادعوني أستجب لكم ، ( وتصدقوا لك ) أي لوجهك الكريم ( طلباً لمزيدك ) وطمعاً بما وعدت به المتصدقين بأن الدرهم الواحد في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة ( وفيها ) أي ، وبسبب هذه الأعمال الصالحات من الذكر ، والشكر ، والدعاء ، والصدقة نجوا من الجحيم ، وفازوا بالنعيم .
ولو دل مخلوقاً . . . من نفسه . . . على مثل الذي دللت عليه عبادك منك . . . كان موصوفاً بالإحسان ، ومنعوتاً بالامتثال ، أو بالإمتنان ، ومحموداً بكل لسان .
فلك الحمد ما وجد في حمدك مذهب ، وما بقي للحمد لفظ تحمد به ، ومعنى ينصرف إليه .
يا من تحمد إلى عباده بالإحسان ، والفضل ، وغمرهم بالمن ،
(7) انظر ، تفسير الثعالبي : 5 / 120 ، تفسير التبيان : 3 / 332 .
(8) غافر : 60 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 526

والطول ، ما أفشى فينا نعمتك ، وأسبغ علينا منتك ، وأخصنا ببرك ! ، هديتنا لدينك الذي اصطفيت ، وملتك التي ارتضيت ، وسبيلك الذي سهلت ، وبصرتنا الزلفة لديك ، والوصول إلى كرامتك .
( ولو دل مخلوق مخلوقاً . . . من نفسه . . . على مثل الذي دللت عليه . . . ) أي لو أن عبداً من عباد الله ادعى دعوة ، وأقام عليها حجة من حجج الله سبحانه لصدقناه حامدين مع العلم ، واليقين أنه فعل ما فعل بعنايته تعالى ، وتوفيقه ، ولو قطع عنه العون لم يجد السبيل إلى شيء ، فبالأولى أن نشكر ، ونحمد من سبب الأسباب بقدرته ( فلك الحمد ما وجد في حمدك مذهب ) : مسلك ، والمعنى نحمدك ما دمنا قادرين على الحمد ( وما بقي للحمد لفظ . . . ) أي مدى الدهر ، وتقدم في الدعاء الأول فقرة الحمد .
( يا من تحمد إلى عباده . . . ) طلب منهم أن يحمدوه على الإحسان ، والنعم الجسام ، وقد تقدم (1) . ( وغمرهم بالمن ، والطول . . . ) : الفضل ، والعطاء ، والمعنى خص عباده بنعم لا تحصى . وقد تقدم (2) . ( هديتنا لدينك الذي اصطفيت ) الإسلام هو دين الحق الذي اصطفاه سبحانه ، وارتضاه لعباده لا شيء إلا لأنه دين الحب ، والإستقامة ، والتعاون ، والتسامح لا دين التناحر ، والتفاخر ( وبصرتنا الزلفة لديك ، والوصول إلى كرامتك ) الزلفة بضم الزاي : القربة ، والدرجة ، والمعنى أرشدنا سبحانه إلى سواء السبيل ، ولا يعمى عنه إلا أعمى . وقد تقدم في هذا الدعاء ، وغيره .
(1) انظر ، الدعاء الثاني عشر .
(2) انظر ، الدعاء السادس والثلاثون .
في ظلال الصيحيفة السجادية 527


أللهم ، وأنت جعلت من صفايا تلك الوظائف ، وخصائص تلك الفروض . . . شهر رمضان الذي اختصصته من سائر الشهور ، وتخيرته من جميع الأزمنة ، والدهور ، وآثرته على كل أوقات السنة بما أنزلت فيه من القرآن ، والنور ، وضاعفت فيه من الإيمان ، وفرضت فيه من الصيام ، ورغبت فيه من القيام ، وأجللت فيه من ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر .
ثم آثرتنا به على سائر الأمم ، واصطفيتنا بفضله دون أهل الملل .
( وأنت جعلت من صفايا ) : جمع الصفي بمعنى الخالص من الشوائب ( الوظائف ) : جمع وظيفة هي ما يعين من عمل ، أو رزق ، وغير ذلك ( وخصائص تلك الفروض شهر رمضان . . . ) الخصائص : الصفات الخاصة بالشيء دون سواه ، والفروض : جمع فرض بمعنى المفروض ، وشهر مفعول جعلت ، والمعنى إنك يا إلهي جعلت شهر رمضان بفضائله ، وأعماله صفوة الشهور ، وأفضل الأوقات ( وضاعفت فيه من الإيمان ) المراد بمضاعفة الإيمان قوته ، ورجحانه . وما من شك أن الصبر على الصيام يدل على صدق العقيدة ، ورسوخها ( وفرضت فيه من الصيام . . . ) واضح ، وقد تقدم (1) . ( ثم آثرتنا ) : اكرمتنا به ، وفضلتنا ( على سائر الأمم ) وتسأل : كان الصيام قبل الإسلام بنص الآية : « كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم » (2) ، وعليه فلا إيثار ، واختيار ؟ . الجواب : المراد بالإيثار ظرف الصوم لا الصوم بالذات .
(1) انظر ، الدعاء الرابع والأربعون .
(2) البقرة : 183 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 528

فصمنا بأمرك نهاره ، وقمنا بعونك ليلة ؛ متعرضين بصيامه وقيامه لما عرضتنا له من رحمتك ، وتسببنا إليه من مثوبتك .
وانت المليء بما رغب فيه إليك ، الجواد بما سئلت من فضلك ، القريب إلى من حاول قربك .
وقد أقام فينا هذا الشهر مقام حمد ، وصحبنا صحبة مبرور ، وأربحنا أفضل أرباح العالمين ، ثم قد فارقنا عند تمام وقته ، وانقطاع مدته ، ووفاء عدده .
فنحن مودعوه وداع من عز فراقه علينا ، وغمنا ، وأوحشنا انصرافه عنا ؛ ولزمنا له الذمام المحفوظ ، والحرمة المرعية ، والحق المقضي .
( فصمنا بأمرك . . . ) قمنا بواجب شهر رمضان ليلاً ، ونهاراً ( متعرضين بصيامه وقيامه . . . ) الهدف الأساس من أعمال الخير في هذا الشهر المبارك أن تنشر علينا من رحمتك ، تمن بثوابك ( وأنت المليء . . . ) عملنا في شهرك لوجهك الكريم راغبين في فضلك ، وأنت الغني الحميد ، والكريم المجيد ( وقد أقام فينا هذا الشهر مقام حمد ) ودعنا شهر رمضان ، وهو شاكر حامد جهادنا فيه ليل نهار ( وصحبنا صحبة مبرور ) أحسنا صحبته ، واكرمنا وفادته ( وأربحنا أفضل أرباح العالمين ) ربحنا الكثير بوجود رمضان .
( ثم قد فارقنا . . . ) ارتحل عنا بأيامه ، وما كان أسرعها ، وأعجلها ! وهكذا الحياة كلها لحظات ( فنحن مودعوه . . . ) آسفين ، مستوحشين ( الذمام ) والحرمة ، والحرام كلمات متشابكة ، متقاربة .

في ظلال الصيحيفة السجادية 529


فنحن قائلون :
السلام عليك يا شهر الله الأكبر ، ويا عيد أوليائه . السلام عليك يا أكرم مصحوب من الأوقات ، ويا خير شهر في الأيام ، والساعات .
السلام عليك من شهر قربت فيه الآمال ، ونشرت فيه الأعمال . السلام عليك من قرين جل قدرة موجوداً ، وأفجع فقده مفقوداً ، ومرجو آلم فراقه .
السلام عليك من أليف آنس مقبلاً فسر ، وأوحش منقضياً فمض . السلام عليك من مجاور رقت فيه القلوب ، وقلت فيه الذنوب . السلام عليك من ناصر أعان على الشيطان ، وصاحب سهل سبل الإحسان .
السلام عليك ما أكثر عتقاء الله فيك ، وما أسعد من رعى حرمتك بك ! . السلام عليك ما كان أمحاك للذنوب ، وأسترك لأنواع العيوب ! ؛ السلام عليك ما كان أطولك على المجرمين ، وأهيبك في صدور المؤمنين ! .
السلام عليك من شهر لا تنافسه الأيام . السلام عليك من شهر هو من كل أمر سلام . السلام عليك غير كريه المصاحبة ، ولا ذميم الملابسة . السلام عليك كما وفدت علينا بالبركات ، وغسلت عنا دنس الخطيئات . السلام عليك غير مودع برماً ، ولا متروك صيامه سأماً .
السلام عليك من مطلوب قبل وقته ، ومحزون عليه قبل فوته .

في ظلال الصيحيفة السجادية 530

السلام عليك كم من سوء صرف بك عنا ، وكم من خير أفيض بك علينا . السلام عليك وعلى ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر .
السلام عليك ما كان أحرصنا بالأمس عليك ، وأشد شوقنا غداً إليك . السلام عليك وعلى فضلك الذي حرمناه ! ، وعلى ماض من بركاتك سلبناه .

هذا الجزء من الدعاء لا يحتاج إلى تفسير ؛ لأنه مجرد تحية للشهر المبارك ، والثناء عليه بما أهله ، وتعداد ماله من جليل الصفات مع التوجع ، والأسف عل فراقه . لذا نوجز ، ولا نطيل .
( فنحن قائلون : السلام عليك يا شهر الله الأكبر ) بنزول القرآن فيه من دون الشهور : « شهر رمضان الذي انزل فيه القرءان هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان » (1) ( ويا عيد أوليائه ) أهل الله يعيدون ، ويفرحون بشهر الله الأكبر ؛ لأنه ذكرى للذاكرين ( يا أكرم مصحوب . . . ) لأنه ينادي : هلموا إلي ، واغتنموا هذه الفرصة : « ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم » (2) ( من شهر قربت فيه الآمال ) بذهاب السيئات ، ومجيء الحسنات ( ونشرت فيه الأعمال ) في صحفها ، حيث تعلن يوم القيامة على رؤوس الأشهاد ؛ إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر ، قال سبحانه في سورة التكوير : « وإذا الصحف نشرت وإذا السمآء كشطت وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت علمت نفس ما آحضرت » (3) .
(1) البقرة : 185 .
(2) النور : 22 .
(3) التكوير : 10 ـ 14 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 531

( من قرين جل قدره موجوداً ) رمضان رفيع الشأن ، جليل القدر ؛ لأن الله هو الذي قدسه ، وعظمه ، فمن قام بواجبه فقد قدر الله حق قدره ، ووفى بعهده ، والمقصر هو الخاسر ( وأفجع فقده مفقوداً ) أحدث ذهابه فراغاً لا يسده شيء ( ومرجو آلم فراقه ) أي والسلام عليك من مرجو ، والمعنى تألم لفراقك يا شهر رمضان كل من يرجو لقاء ربه ، ويعمل لرحمته ، ومغفرته ( من ناصر أعان على الشيطان ) رمضان من أعدى أعداء الشيطان ؛ لأن كل صائم يلعنه ، ويأمر بمعصيته بلسان المقال ، أو الحال ( وصاحب سهل سبل الإحسان ) والشاهد على ذلك كثرة البذل ، والإنفاق في سبيل الخير ، وإقبال الصائمين على المعابد ، والمساجد ، وختاماً زكاة الفطر .
( ما أكثر عتقاء الله فيك ) من النار ، وفي ذلك الكثير من الأخبار ( ما كان أطولك على المجرمين ) رمضان يرحب به المتقون ، ويألمون لفراقه ، على عكس الفاسقين ، يتبرمون ، ويفرحون بذهابه ، لأنه النطاسي (1) الذي يستأصل الأهواء ، والشهوات الشريرة ، ويأبى المجرمون إلا الهوى ، والضلال ( لا تنافسه الأيام ) لا تعارضه ، ولا تباريه أجراً ، وذخراً ( من شهر هو من كل أمر سلام ) من عمل بموجب شهر رمضان فهو في أمن ، وأمان من غضب الله ، وعذابه ، يوم لا ينفع مال ولا بنون ، ( غير كريه المصاحبة . . . ) تكرار لقوله قبل لحظة : وصاحب سهل سبل الإحسان ( غير مودع برماً . . . ) ومللاً من وجودك ، بل حزناً ، وأسفاً على فراقك . أيضاً تقدم قبل قليل .
( كم من سوء صرف . . . ) وجودك أنزل علينا الخيرات ، والبركات ، ودفع عنا الأسواء ، والآفات ( وعلى فضلك الذي حرمناه . . . ) بذهابك يا شهر رمضان فاتنا
(1) النطاسي : هو الطبيب الحاذق ، العالم . انظر ، لسان العرب : 15 / 436 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 532

الكثير من رحمة الله ، وفضله . وقد تقدم هذا المعنى .
أللهم إنا أهل هذا الشهر الذي شرفتنا به ، ووفقتنا بمنك له حين جهل الأشقياء وقته ، وحرموا لشقائهم فضله ، أنت ولي ما اثرتنا به من معرفته ، وهديتنا من سنته ، وقد تولينا بتوفيقك صيامه ، وقيامه على تقصير ، وأدينا فيه قليلاً من كثير .
أللهم فلك الحمد إقراراً بالإساءة ، واعترافاً بالإضاعة ، ولك من قلوبنا عقد الندم ، ومن ألسنتنا صدق الاعتذار ؛ فأجرنا على ما أصابنا فيه من التفريط . . . أجراً نستدرك به الفضل المرغوب فيه ، ونعتاض به من أنواع الذخر المحروص عليه .
وأوجب لنا عذرك على ما قصرنا فيه من حقك ، وابلغ بأعمارنا ما بين أيدينا من شهر رمضان المقبل ، فإذا بلغتناه فأعنا على تناول ما أنت أهله من العبادة ، وادنا إلى القيام بما يستحقه من الطاعة ، وأجر لنا من صالح العمل ما يكون دركاً لحقك في الشهرين من شهور الدهر .
( أللهم إنا أهل هذا الشهر . . . ) أي العاملون بموجبه ( حين جهل الأشقياء . . . ) في الحديث : « من علامات الشقاء : جمود العين ، وقسوة القلب ، وشدة الحرص في طالب الدنيا ، والإصرار على الذنب » (1) . وقال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : « الشقي من انخدع لهواه » (2) . . . « وأِشقى الناس من باع دينه لدنياه » (3) . ( أنت ولي ما اثرتنا به
(1) انظر ، الكافي : 2 / 290 ح 6 ، شرح اصول الكافي : 9 / 285 ، مجمع الزوائد : 10 / 226 ، وسائل الشيعة : 15 / 337 ، الخصال : 243 ح 96 ، تحف العقول : 47 .
(2) انظر ، نهج البلاغة : 1 / 150 ، الخطبة ( 86 ) ، تحف العقول : 151 ، بحار الأنوار : 74 / 291 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 533

من معرفته . . . ) أنت الهادي ، والمعين على العلم بحق شهر رمضان ، والعمل به ، والدليل على إرادة هذا المعنى قوله بلا فاصل : ( وقد تولينا بتوفيقك صيامه ، وقيامه على تقصير ) أي كان علينا أن نجد ، ونجتهد في طاعة الله تعالى أكثر مما فعلنا . وكل نبي ، وتقي يرى نفسه مقصراً في القيام بحق الخالق الرازق ، قال سيد الشهداء عليه السلام وهو يلفظ النفس الأخير : « أللهم إني أدعوك محتاجاً ، وأرغب إليك فقيراً ، وأفزع إليك خائفاً » (1) . وكلنا يعلم أن الحسين عليه السلام أعطى الله كل شيء . ولا أحد يرى أنه قد أدى حقوق الله بالكامل ، إلا جهول ضال .
( أللهم فلك الحمد إقراراً بالإساءة . . . ) أي بالتقصير ، ومن أدعية أهل البيت عليهم السلام : « أللهم لا تخرجنا من التقصير » (2) ، أي من الاعتراف به ، وعن الإمام الباقر عليه السلام : « أنه قال ـ يا جابر ـ لبعض أصحابه : « لا أخرجك الله من النقص ، والتقصير » (3) ، أي من أن ترى النقص ، والتقصير في عملك ، وطاعتك لله ( ولك من قلوبنا عقد الندم ) : التوبة من التقصير ( ومن ألسنتنا صدق الاعتذار ) بمطابقة القول للفعل ، والواقع ( فأجرنا على ما أصابنا فيه من التفريط . . . ) ضمير « فيه » لشهر رمضان ، والمعنى نحن يا إلهي معترفون بالتقصير في طاعتك ، وفي حق شهر رمضان ، وقد فاتنا بذلك الكثير من ثوابك ، فهل تعوضنا ثواباً حاضراً لا لشيء إلا
(3) انظر ، عيون الحكم والمواعظ : 117 ، أمالي الصدوق : 478 ح 4 ، أمالي الطوسي : 435 ، معاني الأخبار : 198 .
(1) انظر ، مصباح المتهجد : 827 ، إقبال الأعمال : 3 / 304 ، بحار الأنوار : 101 / 347 .
(2) روي الحديث عن أبي الحسن موسى الكاظم عليه السلام ، بلفظ قال لبعض ولده : ( يا بني عليك بالجد ، ولا تخرجن نفسك من حد التقصير في عبادة الله عزوجل ، وطاعته ؛ فإن الله لا يعبد حق عبادته ) . انظر ، توحيد الصدوق : 405 ، شرح اصول الكافي : 8 / 232 ، السرائر : 3 / 591 .
(3) انظر ، الكافي : 2 / 72 ح 2 ، وسائل الشيعة : 1 / 72 ح 4 ، بحار الأنوار : 69 / 235 ح 17 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 534

لمجرد الاعتراف بالذنب ، والخطيئة ؟
( وأوجب لنا عذرك . . .) اعذرنا على الإهمال . وفي نهج البلاغة : « العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن ءادم ستون سنة » (1) ، أي لا عذر بعد الستين ( وابلغ بأعمارنا ما بين أيدينا . . . ) كل ما يستقبله الإنسان حتماً فهو بين يديه تماماً كالوضع الذي هو عليه بالفعل ، أو كان فيه بالأمس ، ومن ذلك قوله تعالى : « ونفخ في الصور » (2) ، والمعنى أطل أعمارنا إلى رمضان المقبل ( فإذا بلغتناه فأعنا . . . ) على صيامه ، وسائر واجباته ، ومستحباته حتى تكون أعمالنا في شهر رمضان المقبل ( دركاً لحقك في الشهرين من شهور الدهر ) الدرك : البلوغ ، والإدراك ، والشهران : رمضان الماضي ، والمقبل ، والمراد بالدهر هنا مدة العمر ، والمعنى وفقنا في كل شهر ، وكل يوم لأن نعمل صالحاً يكون استدراكاً لتقصيرنا في رمضان مضى ، وآخر يأتي .
أللهم وما ألممنا به في شهرنا هذا من لمم ، أو إثم ، أو واقعنا فيه من ذنب ، واكتسبنا فيه من خطيئة على تعمد منا ، أو انتهكنا به حرمةً من غيرنا ، فصل على محمد وآله ، واسترنا بسترك ، واعف عنا بعفوك ، ولا تنصبنا فيه لأعين الشامتين ، ولا تبسط علينا فيه ألسن الطاغين ، واستعملنا بما يكون حطة ، وكفارةً لما أنكرت منا فيه برأفتك التي لا تنفد ، وفضلك الذي لا ينقص .
(1) انظر ، نهج البلاغة : 4 / 77 ، الحكمة ( 326 ) ، شرح اصول الكافي : 12 / 42 ،شرح نهج البلاغة للمعتزلي : 19 / 238 ، وسائل الشيعة : 16 / 101 ، عيون الحكم والمواعظ : 59 ، بحار الأنوار : 6 / 120 .
(2) الزمر : 68 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 535


أللهم صل على محمد وآله ، واجبر مصيبتنا بشهرنا ، وبارك لنا في يوم عيدنا ، وفطرنا ، واجعله من خير يوم مر علينا ، أجلبه لعفو ، وأمحاه لذنب ، واغفر لنا ما خفي من ذنوبنا ، وما علن .
( أللهم وما ألممنا به في شهرنا هذا من لمم . . . ) ألممنا : باشرنا ، واللمم ، الصغائر من الذنوب ، والإثم : يعم ، ويشمل الكبائر ، والصغائر من الخطايا ، والذنوب ، والمعنى اغفر لي كل ذنب عملته ، سترته ، أو أعلنته . وقد تقدم (1) . ( واسترنا بسترك . . . ) لا تفضحنا بما فينا من عيوب ، وذنوب . أيضاً تقدم في الدعاء الحادي والثلاثين ، وغيره ( واستعملنا بما يكون حطةً وكفارةً . . . ) وفقنا لعمل الحسنات التي تذهب السيئات . وقد تقدم (2) . ( واجبر مصيبتنا بشهرنا ) اجعل شهر رمضان شفاء لنا من كل داء ( وبارك في يوم عيدنا . . . ) لا عيد حقاً ، وواقعاً لأحد منا على الإطلاق إلا نفس اليوم الذي نتوب فيه من كل ذنب لوجه الله تعالى ، ولا نعود إلى معصيته في شيء . وفي نهج البلاغة : « وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد » (3) .
أللهم اسلخنا بانسلاخ هذا الشهر من خطايانا ، وأخرجنا بخروجه من سيئاتنا ؛ واجعلنا من أسعد أهله به ، وأجزلهم قسماً فيه ، وأوفرهم حظاً منه .
أللهم ومن رعى حق هذا الشهر حق رعايته ، وحفظ حرمته حق حفظها ، وقام بحدوده حق قيامها ، وأتقى ذنوبه حق تقاتها ، أو تقرب
(1) انظر ، الدعاء الحادي والثلاثون ، وغيره .
(2) انظر ، الدعاء الرابع والعشرون ، وغيره .
(3) انظر ، نهج البلاغة : 4 / 100 ، الحكمة ( 428 ) ، نهج السعادة : 3 / 161 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 536

إليك بقربة ، أوجبت رضاك له ، وعطفت رحمتك عليه . . . . ، فهب لنا مثله من وجدك ، وأعطنا أضعافه من فضلك ، فإن فضلك لا يغيض ، وإن خزائنك لا تنقص ، بل تفيض ، وإن معادن إحسانك لا تفنى ، وإن عطاءك للعطآء المهنا .
أللهم صل على محمد وآله ، واكتب لنا مثل أجور من صامه ، أو تعبد لك فيه إلى يوم القيامة .
( أللهم اسلخنا بانسلاخ هذا الشهر . . . ) طهرنا في رمضان من كل رجس ، ودنس . وقد تقدم في الدعاء الرابع والأربعين ( واجعلنا . . . ) شهر رمضان سعداء لا أشقياء ( أللهم ومن رعى حق هذا الشهر حق . . . ) كل من اتقى ، وكف عن معاصيك في هذا الشهر المبارك ، وقام بواجبه على أكمل وجه ، وتقرب إليك فيه بالخيرات ، والمستحبات ، وكتبت له الأجر ، والثواب الجزيل ـ ( فهب لنا مثله ) من الأجر كماً ، وكيفاً ( من وجدك ) : من غناك ، وبكلام آخر ارفعنا في شهر رمضان إلى مراتب العاملين ، ودرجات الصالحين . وقد تقدم في الدعاء السابع عشر ( فإن فضلك ، لا يغيض ، وإن خزائنك لا تنقص ، بل تفيض . . . . ) خزائن رحمته تعالى لا حد لها ، ولا نهاية تماماً كالذات القدسية ، والقدرة الإلهية . وقد تقدم (1) . ( للعطآء المهنا ) : السائغ الذي لا يكدره شيء ( واكتب لنا مثل أجور من صامه ، أو تعبد لك فيه إلى يوم القيامة ) ولا غرابة في ذلك ، فإن الله واسع كريم ، يعطي الكثير على صدق النية بمجردها ، وفي نهج البلاغة : « فإنه من مات منكم على فراشه ، وهو على معرفة حق ربه ، وحق رسوله ، وأهل بيته مات شهيداً ، ووقع أجره على الله ، واستوجب ثواب
(1) انظر ، الدعاء الخامس ، والثالث عشر .
في ظلال الصيحيفة السجادية 537

ما نوى من صالح عمله ، وقامت النية مقام إصلاته لسيفه » (1) في سبيل الله .
أللهم إنا نتوب إليك في يوم فطرنا الذي جعلته للمؤمنين عيداً ، وسروراً ، ولأهل ملتك مجمعاً ، ومحتشداً . . . من كل ذنب أذنبناه ، أو سوء اسلفناه ، أو خاطر شر اضمرناه . . . ، توبة من لا ينطوي على رجوع إلى ذنب ، ولا يعود بعدها في خطيئة ، توبة نصوحاً خلصت من الشك ، والارتياب ، فتقبلها منا ، وارض عنا ، وثبتنا عليها .
أللهم ارزقنا خوف عقاب الوعيد ، وشوق ثواب الموعود ، حتى نجد لذة ما ندعوك به ، وكأبة ما نستجريك منه ، واجعلنا عندك من التوابين الذين أوجبت لهم محبتك ، وقبلت منهم مراجعة طاعتك ؛ يا أعدل العادلين .
( إنا نتوب إليك ) ضمير المتكلم هنا لا يراد به التعظيم ، لأن التائب لا يعظم نفسه ، بل المراد به مشاركة الخلق طراً في الخشوع ، والرجوع إليه تعالى ، لأن التوبة تتضمن هذا المعنى ( ولأهل ملتك مجمعاً ) : لأهل دينك حيث يجتمع المسلمون في عيد الفطر للصلاة ، والتهاني ، وغير ذلك ( من كل ذنب ) متعلق بنتوب إليك ( توبة من لا ينطوي . . . ) لا يضمر الرجوع إلى ما كان عليه . وتقدم في الدعاء الحادي والثلاثين ، وغيره ( أللهم ارزقنا خوف عقاب الوعيد . . . ) ارزقنا الطاعة لك رهبةً من عذابك ، ورغبةً في جنتك ( حتى نجد لذة ما ندعوك به . . . ) ومصدر اللذة الأمل بالثواب ، أما الكآبة فمصدرها الخوف من العقاب . وقد تقدم (2) ( واجعلنا عندك من
(1) انظر ، نهج البلاغة : 2 / 133 ، الخطبة ( 190 ) ، اصول الكافي : 12 / 149 ، شرح النهج للمعتزلي : 13 / 111 ، ينابيع المودة : 1 / 87 و : 3 / 453 .
(2) انظر ، الدعاء الثاني والعشرون .
في ظلال الصيحيفة السجادية 538

التوابين . . . ) أمتنا مهتدين غير ضالين ، وتائبين غير مصرين . وقد تقدم (1) .
أللهم تجاوز عن آبائنا ، وأمهاتنا ، وأهل ديننا جميعاً من سلف منهم ، ومن غبر إلى يوم القيامة .
أللهم صل على محمد نبينا وآله . . . ؛ كما صليت على ملائكتك المقربين ؛ وصل عليه وآله . . . ؛ كما صليت على أنبيائك المرسلين ؛ وصل عليه وآله ، كما صليت على عبادك الصالحين ، وأفضل من ذلك يا رب العالمين ؛ صلاةً تبلغنا بركتها ، وينالنا نفعها ، ويستجاب لنا دعاؤنا .
إنك أكرم من رغب إليه ، وأكفى من توكل عليه ، وأعطى من سئل من فضله ، وأنت على كل شيء قدير .
( أللهم تجاوز ) : اعف ، واصفح ( من سلف ) : من مضى ( ومن غبر ) : من بقي ، والمعنى الجملي اغفر لعبادك المؤمنين الحاضر منهم ، والماضي ، ومن هو آت إلى يوم يبعثون ( أللهم صل على محمد نبينا وآله ) أكثر ما صليت على أحد من خلقك ، وأفضل ما أتيت أحداً من عبادك ، إنك الكريم العظيم .
(1) انظر ، الدعاء الأربعون .
السابق السابق الفهرس التالي التالي