في ظلال الصيحيفة السجادية 431

الدعاء السادس والثلاثون

دعاؤه عند سماع الرعد والبرق

أللهم إن هذين آيتان من آياتك ، وهذين عونان من أعوانك . . . يبتدران طاعتك برحمة نافعة ، أو نقمة ضارة ، فلا تمطرنا بهما مطر السوء ، ولا تلبسنا بهما لباس البلاء .
أللهم صل على محمد وآله ، وأنزل علينا نفع هذه السحائب ، وبركتها ، واصرف عنا أذاها ، ومضرتها ؛ ولا تصبنا فيها بآفة ، ولا ترسل على معايشنا عاهةً .
أللهم وإن كنت بعثتها نقمة ، وأرسلتها سخطة . . . فإنا نستجيرك من غضبك ، ونبتهل إليك في سؤال عفوك ؛ فمل بالغضب إلى المشركين ، وأدر رحى نقمتك على الملحدين .
( أللهم إن هذين آيتان من آياتك ) هذين : إشارة إلى البرق ، والرعد ، وآيتان : علامتان قال سبحانه : « ومن ءاياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً » (1) . . . « أو كصيب
(1) الروم : 24 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 432

من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق » (1) ( وهذين عونان من أعوانك ) وليس المراد بالعون هنا المعونة ، والمساعدة ، لأنه تعالى يوجد ما يريد بكلمته ، ومشيئته وكفى بل المراد بالعون مجرد الطاعة في تأدية البشارة بالرحمة ، أو الإنذار بالنقمة كما قال الإمام عليه السلام : ( يبتدران ) : يسارعان إلى ( طاعتك برحمة نافعة ، أو نقمة ضارة ) الرحمة : الغيث ، والنقمة : الصاعقة ، وما أشبه ، وقول الإمام هذا اقتباس من آية الروم السابقة .
( فلا تمطرنا بهما مطر السوء ) كالسيول المغرقة ، والصواعق المحرقة ( ولا تلبسنا بهما لباس البلاء ) لا يكن الرعد ، والبرق إنذاراً لنا بالطمر ، والغمر في الأسواء ، والأدواء ( وأنزل علينا نفع هذه السحائب . . . ) كل ذلك ، وأكثر منه وقد تقدم (2) . ( وإن كنت بعثتها . . . ) إن تلك السحاب ، وبرقها ، ورعدها للوعيد ، والإنذار بالشر ، والعذاب فرحماتك يا رب الأرباب . . . أن تسمع شكوانا ، ولا تخيب أملنا ، ورجانا ، وأصرف عذابك عنا إلى العصاة الجاحدين بالحق ، والعدل ، والمشركين الذين عبدوا الأموال من دونك ، وأثاروا من أجلها الحروب ، والقتال ، وانتهكوا الحرمات ، وأفسدوا طعم الحياة .
وما من شك أن الله يستجيب الدعاء بشرطه ، وقيوده ، قال سبحانه : « ادعوني أستجب لكم » (3) . . . « ونوحاً إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم » (4) . . . « فلولآ أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم
(1) البقرة : 19 .
(2) انظر ، الدعاء التاسع عشر .
(3) غافر : 60 .
(4) الأنبياء : 76 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 433

يبعثون » (1). . . إلى غير ذلك (2) .
أللهم أذهب محل بلادنا بسقياك ، وأخرج وحر صدورنا برزقك ، ولا تشغلنا عنك بغيرك ، ولا تقطع عن كافتنا مادةً برك ؛ فإن الغني من أغنيت ، وإن السالم من وقيت ، ما عند أحد دونك دفاع ، ولا بأحد عن سطوتك امتناع ؛ تحكم بما شئت على من شئت ، وتقضي بما أردت فيمن أردت .
فلك الحمد على ما وقيتنا من البلاء ، ولك الشكر على ما خولتنا من النعماء . . . حمداً يخلف حمد الحامدين وراءه ، حمداً يملأ أرضه ، وسماءه .
إنك المنان بجسيم المنن ، الوهاب لعظيم النعم ، القابل يسير الحمد ، الشاكر قليل الشكر ، المحسن المجمل ذو الطول ، لا إله إلا أنت إليك المصير .
( أللهم أذهب محل بلادنا بسقياك ) « وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج » (3) ، وقد تقدم (4) ( وأخرج وحر صدورنا برزقك ، ولا تشغلنا عنك بغيرك . . . ) الوحر : الغيظ ، والمعنى ارزقنا من العيش الكفاية كيلا تنصرف عنك نفوسنا ، وتمتليء بالغيظ ، وتشتعل بالحسد لمن
(1) الصافات : 143 ـ 144 .
(2) انظر ، الدعاء العشرون فقرة : ضع مع الدعاء شيئاً من القطران .
(3) الحج : 5 .
(4) انظر ، الدعاء التاسع عشر .
في ظلال الصيحيفة السجادية 434

اقتنى ، واستغنى . وقد تقدم (1) ، ( ولا تقطع عن كافتنا مادة برك . . . ) كافتنا : جميعنا ، ومادة برك : دوام خيرك ، والمعنى اجعل نعمتك علينا نامية دائمة ( فإن الغني من أغنيت . . . ) لا غنى إلا بك ، ومنك ، ولا فرار من سطوتك إلا إليك ، وعليك وحدك المعول في كل شيء . وقد تقدم (2) .
( تحكم بما شئت على من شئت . . . ) ولا دافع ، ومانع لما تريد . قال بعض العارفين : « كل شيء ينتهي عند هذه الآية : « إن ربك فعال لما يريد » (3) ، ومثلها في الوضوح : « إن الأمر كله لله » (4) ، ( حمداً يخلف حمد الحامدين . . . ) هذا ، وما بعده كناية عن الكثرة الكاثرة . ومثله في الدعاء الأول : « حمداً لا منتهى لحده ، ولا حساب لعدده ، ولا مبلغ لغايته ، ولا انقطاع لأمده . .. . (5) .
المنان : ( المنعم ) ( المنن ) : النعم ( المجمل ) : صاحب الجميل ، والمعروف ( ذو الطول ) : ذو الفضل ، والعطاء .
(1) انظر ، الدعاء العشرون .
(2) انظر ، الدعاء الثالث عشر ، وغيره .
(3) هود : 107 .
(4) آل عمران : 154 .
(5) انظر ، فقرة الحمد في الدعاء الأول .
في ظلال الصيحيفة السجادية 435

الدعاء السابع والثلاثون

دعاؤه في الشكر

أللهم إن أحداً لا يبلغ من شكرك غاية . . . إلا حصل عليه من إحسانك ما يلزمه شكراً ، ولا يبلغ مبلغاً من طاعتك وإن اجتهد . . . إلا كان مقصراً دون استحقاقك بفضلك ، فأشكر عبادك عاجز عن شكرك ، وأعبدهم مقصر عن طاعتك .
( أللهم إن أحداً لا يبلغ من شكرك غاية . . . ) التوفيق للشكر نعمة طارئة تستدعي الشكر عليها ، ومعنى هذا أنه يحب الشكر على كل شكر إلى ما لا نهاية ، وأيضاً معنى هذا أن من نطق بكلمة الشكر ، ينبغي أن يكررها حتى الممات ، وهنا يكمن سر العجز عن شكره تعالى كما هو أهل له ( ولا يبلغ مبلغاً من طاعتك وإن اجتهد . . . ) لو حاول العبد ، واجتهد مدى الأعصار ـ إن عاشها ـ أن يؤدي شكر نعمة واحدة من نعمة تعالى ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، فكيف إذا تجاوزت النعم حد الإحصاء ، ولذا قال الإمام عليه السلام : ( فأشكر عبادك عاجز عن شكرك ، وأعبدهم مقصر عن طاعتك ) في مقدور العبد أن يحسن لمن ابتداه بالإحسان بقدر ما أحسن ،

في ظلال الصيحيفة السجادية 436

وزيادة ، إن يك المحسن عبداً مثله ، أما إذا كان المحسن هو المعبود ، والخالق فمحال ، لأنه تعالى المصدر لكل فضل ، وإحسان ، والغني بالذات عن كل شيء ، وإليه يفتقر كل شيء .
لا يجب لأحد أن تغفر له باستحقاقه ، ولا أن ترضى عنه باستيجابه ؛ فمن غفرت له فبطولك ، ومن رضيت عنه فبفضلك ، تشكر يسير ما شكرته ، وتثيب على قليل ما تطاع فيه ، حتى كأن شكر عبادك الذي أوجبت عليه ثوابهم ، وأعظمت عنه جزاءهم . . . أمر ملكوا استطاعة الامتناع منه دونك ، فكافيتهم ، أو لم يكن سببه بيدك فجازيتهم .
( لا يجب لأحد أن تغفر له باستحقاقه . . . ) اتفق العلماء أن العاصي يستحق العقاب ، واختلفوا : هل الثواب منه تعالى للمطيع تفضل ، أو إستحقاق ؟ (1) والحق أنه تفضل بالأصل ، واستحقاق بالواسطة ، لأن الطاعة واجبة ، ولا شكر ، وأجر على واجب ، ولكنه تعالى هو الذي أوجب ، وكتب على نفسه الرحمة بعباده . وتقدم الكلام عن ذلك مفصلاً (2) . ( تشكر يسير ما شكرته . . . ) تعطي الجليل على الحقير ، وتعفو عن الكثير .
( حتى كأن شكر عبادك . . . ) أنت يا إلهي الذي أقدرت عبدك على الطاعة ، وفعل الخير ، وهديته إليه ، وقربته منه . . . فعليه ، وهذي هي الحال أن يشكرك هو على ذلك لأنك الوهاب المتفضل ، ولكن كرمك أبى إلا أن تكون أنت الشاكر لمن أعطيت ، ووهبت . فسبحانك من غالب واهب ، وقادر غافر ( أمر ملكوا استطاعة
(1) انظر ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 11 / 90 ، المستصفى للغزالي : 49 ، بحار الأنوار : 68 / 200 .
(2) انظر ، الدعاء العاشر فقرة : الثواب تفضل ، أو إستحقاق ؟
في ظلال الصيحيفة السجادية 437

الامتناع منه دونك . . . ) إذا سألت أخاك حاجة فلبى وجب له الشكر عليك حيث لا تملك القدرة على قهره ، وقسره على الإجابة ، ومع ذلك استجاب ، وليس الأمر كذلك بالنسبة إليه تعالى ، لأن الكون كله في قبضته ، ومع هذا يكافيء العبد ، ويجازيه بالثواب حتماً ، وجزماً ، لو أطاع ، تماماً كما يشكر الإنسان أخاه على إحسانه ، وزيادة . وهنا يكمن سر الإلوهية ، ووجوب العبادة للذات القدسية وحدها لا شريك ، ولا مثيل .
بل ملكت ـ يا إلهي ـ أمرهم قبل أن يملكوا عبادتك ، وأعددت ثوابهم قبل أن يفيضوا في طاعتك .
وذلك أن سنتك الإفضال ، وعادتك الإحسان ، وسبيلك العفو ؛ فكل البرية معترفة بأنك غير ظالم لمن عاقبت ، وشاهدة بأنك متفضل على من عافيت ، وكل مقر على نفسه بالتقصير عما استوجبت .
فلولا أن الشيطان يختدعهم عن طاعتك . . . ما عصاك عاص ، ولو لا أنه صور لهم الباطل في مثال الحق . . . ما ضل عن طريقك ضال .
( بل ملكت يا إلهي أمرهم قبل أن يملكوا عبادتك ) ابتدأهم بالنعم من المهد ـ حيث لا طاعة ، ولا عبادة ـ إلى اللحد ، ومعنى هذا أنه تعالى يعطي ، ولا يأخذ ، كيف ؟ ومن أية يد يأخذ ، وله كل شيء حتى اليد التي تعطي ، وصاحبها ؟ ( وأعددت ثوابهم قبل . . . ) شرع سبحانه ، وقدر الأجر ، والثواب كماً ، وكيفاً لكل من أطاع تبعاً لطاعته قبل أن يوجد . ويسمى هذا لنحو من التشريع بالقضية الحقيقية التي يعم حكمها ، ويشمل السابق ، والحاضر ، واللاحق ( أن سنتك ) : طريقتك ، وِشأنك أن تنعم ، وتكرم ، وتشكر ، وتغفر .

في ظلال الصيحيفة السجادية 438


( فكل البرية معترفة بأنك غير ظالم . . . ) يعترف المؤمن بخلقه ، ومنطقه ، والكافر بخلقه لا منطقه ، وفي دعاء لسيد الشهاء عليه السلام : « تعرفت لكل شيء فما جهلك شيء . . . كيف تخفى ، وأنت الظاهر ؟ وكيف تغيب ، وأنت رقيب ؟ » (1) ، ونجد تفسير هذا وذاك في الآية : « وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لاتفقهون تسبيحهم » (2) بلسان المقال ، والحال معاً ، أو بلسان الخلق ، والحال ( وكل مقر ) بلسان المقال ، أو الحال ( على نفسه بالتقصير . . . ) فيما يجب عليه لله تعالى من الشكر ، والطاعة .
( فلولا أن الشيطان يختدعهم عن طاعتك ما عصاك عاص ) يوميء هذا إلى أن الإنسان ليس شريراً ، وذئباً بطبعه . وإنما يتكيف تبعاً للتربية ، والظروف ، والبيئة كما في الحديث : « كل مولود يولد على الفطره حتى يكون أبواه يهودانه ، أو ينصرانه » (3) . وفي دعاء عرفة لسيد الشهداء عليه السلام : « لم تخرجني لرأفتك ، ولطفك بي ، وإحسانك إلي في دولة أيام الكفر الذين نقضوا عهدك ، وكذبوا رسلك » (4) ، ( ولو لا أنه صور لهم الباطل . . . ) عطف تكرار .
فسبحانك ! ما أبين كرمك في معاملة من أطاعك ، أو عصاك ؟ تشكر للمطيع ما أنت توليته له ، وتملي للعاصي فيما تملك معاجلته
(1) انظر ، إقبال الأعمال : 1 / 339 ـ 350 ، بحار الأنوار : 98 / 216 ، صحيفة الإمام الحسين : 220 .
(2) الإسراء : 44 .
(3) انظر ، صحيح مسلم : 4 / 2047 ح 2658 ، الموطأ : 1 / 241 ح 52 ، مسند أحمد : 2 / 233 ، السنن الكبرى : 6 / 203 ، مجمع الزوائد : 7 / 218 .
(4) انظر ، إقبال الأعمال : 2 / 74 ، بحار الأنوار : 57 / 372 ، تفسير نور الثقلين : 3 / 533 ، حياة الإمام الحسين عليه السلام : 1 / 167 ، كلمات الإمام الحسين عليه السلام : 793 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 439

فيه ، أعطيت كلاً منهما ما لم يجب له ، وتفضلت على كل منهما بما يقصر عمله عنه .
ولو كافأت المطيع على ما أنت توليته . . . لأوشك أن يفقد ثوابك ، وأن تزول عنه نعمتك ؛ ولكنك بكرمك جازيته على المدة القصيرة الفانية بالمدة الطويلة الخالدة ، وعلى الغاية القريبة الزائلة بالغاية المديدة الباقية .
( فسبحانك ! ما أبين كرمك . . . ) الله واسع كريم ، لا يبالي كم أعطى ، ولمن أعطى مطيعاً كان أم عاصياً ( تشكر للمطيع ما أنت توليته له ) تجزي على الحسنة ـ وهي منك بأضعافها ، وتعطي على العمل القليل في أمد قصير نعيماً قائماً ، وملكاً في الآخرة دائماً .


لماذا أملى سبحانه ، وأمهل ؟

( وتملي للعاصي فيما تملك معاجلته . . . ) الله سبحانه يمهل العاصي حتى كأنه يهمله ، ولو شاء لأخذه على الفور أخذ عزيز جبار . وذلك لأمور ثلاثة :
أولاً : إنما يعجل من يخاف الفوت .
ثانياً : عسى أن يرجع إلى رشده ، ويؤوب .
ثالثاً : لتنقطع جميع أعذاره . وتكون الحجة عليه أكمل ، وأبلغ ( أعطيت كلاً منهما ما لم يجب له ) ضمير التثنية للمطيع ، والعاصي ، والمعنى أنه تعالى شكر المطيع ، وأمهل العاصي تفضلاً منه ، وكرماً ، وإلا فما لهذا حق في الإمهال ، ولا لذاك فرض من الثواب ، ( ولو كافأت المطيع على ما أنت توليته . . . ) لا يسوغ للمطيع أن يطلب الأجر ، والمكافأة على طاعته ، لأنه ما فعلها إلا بالقدرة التي هي من عند الله

في ظلال الصيحيفة السجادية 440

سبحانه . وبكلام آخر : إذا دعاك جارك الى مائدته ، ولبيت فهل تطلب منه اجرة الدعوة ، وعوض الطعام الذي أكلت ! ( ولكنك بكرمك جازيته على المدة القصيرة الفانية بالمدة الطويلة الخالدة ، وعلى الغاية القريبة الزائلة بالغاية المديدة الباقية ) ما من شك أن القائم الدائم أفضل ، وأعظم من الراحل الزائل : « ما عندكم ينفد وما عند الله باق » (1) وفي نهج البلاغة : « لا تجارة كالعمل الصالح ، ولا ربح كالثواب » (2) .
ثم لم تسمه القصاص فيما أكل من رزقك الذي يقوى به على طاعتك ، ولم تحمله على المناقشات في الآلات التي تسبب باستعمالها إلى مغفرتك ؛ ولو فعلت ذلك به . . . لذهب بجميع ماكدح له ، وجملة ما سعى فيه ، جزآء للصغرى من أياديك ، ومننك ، ولبقى رهيناً بين يديك بسائر نعمك ؛ فمتى كان يستحق شيئاً من ثوابك ؟ لا متى ؟ ! .
هذا يا إلهي حال من أطاعك ، وسبيل من تعبد لك .


يعطي سبحانه باستمرار

( ثم لم تسمه القصاص فيما أكل من رزقك . . . ) لم تسمه القصاص : أطلقته ، وسامحته ، ولم تقتص منه ، والمراد بالآلات هنا أعضاء الإنسان ، وكل ما له أثر ، وصلة بوجود الفعل سواء أكان محسوساً كالعين ، واليد أم غير محسوس كالعقل ،
(1) النحل : 96 .
(2) انظر ، نهج البلاغة : 4 / 27 ، الحكمة ( 113 ) ، عيون الحكم والمواعظ : الحكمة ( 531 ) ، بحار الأنوار : 75 / 14 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 441

والإرادة ، هذا هو المفهوم من قول الإمام عليه السلام : ( الآلات التي تسبب باستعمالها ) والمعنى الجملي أن المطيع قد ركع لله ، وسجد ،وضحى ، وجاهد ، وشكر ، وحمد ، كل ذلك ، وغيره من خير قد فعله وأتى به بأدوات ، وأسباب هي من صنع الله وفضله ، إضافة إلى أنواع المعاش . . . إلى ما لا يبلغه الإحصاء من مننه تعالى ، ونعمه .
ولو أراد سبحانه أن يدقق ، ويضايق لقال لعبده السميع المطيع فضلاً عن العاصي : أنت فعلت خيراً ، ما في ذلك ريب ، ولكن هل تستحق مني عليه الجزاء باسم العدل ، والإنصاف ؟ تعال إلى العرض ، ونقاش حساب : لقد أعطيتك سلفاً ، وقبل أن تفعل شيئاً ، العقل ، والشعور ، والسمع ، والبصر ، والشم ، والنطق ، والقلب ، والرأس ، واليدين ، والرجلين ، والدم ، والعروق ، وكل ما فيك من قوى ما ظهر منها ، وما بطن ، وعليه فما من خير فعلت إلا وهو من ثمار ، وآثار ما أملكه منك ، ولا تملك أنت منه شيئاً حتى الإرادة ، والإختيار . وفي النهاية يستصغر المطيع العاقل نفسه ، وطاعته لا محالة ، ويوقن بأنه لو كدح مدى حياته في ليله ، ونهاره على أن يؤدي شكر صغيرة من نعم الله ما استطاع إلى ذلك سبيلاً . وهذا معنى قول الإمام عليه السلام : ( ولو فعلت ذلك به ) أي لو دققت الحساب معه ( لذهب بجميع ما كدح له ، وجملة ما سعى فيه ، جزآءً للصغرى من أياديك ) فضلاً عن النعم الكبرى التي لا تعد ، ولا تحصى .
( ولبقى رهيناً بين يديك بسائر نعمك ) فاغره جودك ، وعطاؤك ، وأسره لطفك ، وآلاؤك ، فكيف يطلب الجزاء ، والوفاء وهو رهين الديون تماماً كالذي حكم عليه القاضي بالإفلاس لأن ما عليه من الأموال يزيد أضعافاً مضاعفة على ما لديه من متاع ثابت ، ومنقول ؟ ( لا متى يا إلهي حال من أطاعك . . . ) أبداً لا يستحق أجراً

في ظلال الصيحيفة السجادية 442

على خالقه بالغاُ ما بلغ من الصلاح ، والكفاح ، بل يبقى مديناً لفضله حتى ولو قام الليل ، وصام النهار طول حياته ، وأفطر على التراب ، وماء الرماد . وقد تقدم (1) . وأخيراً ، فإن الله يعطي باستمرار ، وسخاء بلا عوض ؛ لأنه الغني ، ولا غنى عنه . . .
فأما العاصي أمرك ، والمواقع نهيك . . . فلم تعاجله بنقمتك ، لكي يستبدل بحالة في معصيتك . . .حال الإنابة إلى طاعتك ، ولقد كان يستحق في أول ما هم بعصيانك كل ما أعددت لجميع خلقك من عقوبتك ، فجميع ما أخرت عنه من وقت العذاب ، وأبطأت به عليه من سطوات النقمة والعقاب . . . ترك من حقك ، ورضى بدون واجبك .
فمن أكرم منك يا إلهي ، ومن أشقى ممن هلك عليك ؟ لا ! من ؟ فتباركت أن توصف إلا بالإحسان ، وكرمت أن يخاف منك إلا العدل ، لا يخشى جورك على من عصاك ، ولا يخاف إغفالك ثواب من أرضاك . فصل على محمد وآله وهب لي أملي ، وزدني من هداك ما أصل به إلى التوفيق في عملي ، إنك منان كريم . i
( فأما العاصي أمرك ، والمواقع نهيك ) أمرته فأحجم ، ونهيته فأقدم ( فلم تعاجله بنقمتك . . . ) وقد تقدم نصه بالحرف : « أمرنا ليختبر طاعتنا ، ونهانا ليبتلي شكرنا فخالفنا عن طريق أمره ، وركبنا متون زجره ؛ فلم يبتدرنا بعقوبته ، ولم يعاجلنا بنقمته بل تأنانا برحمته تكرماً ، وانتظر مراجعتنا برأفته حلماً » (2) . وأيضاً
(1) انظر ، الدعاء السادس عشر .
(2) انظر ، الدعاء الأول .
في ظلال الصيحيفة السجادية 443

تقدم في نفس الدعاء الذي نحن بصدده ، فقرة لماذا أملى سبحانه ، وأمهل ؟
( ولقد كان يستحق في أول ما هم بعصيانك . . . ) نية الخير تعكس طيب الذات ، والسريرة ، ونية الشر ، والسوء توشي بالخبث ، واللؤم . ويقول الإمام عليه السلام أن الخبيث اللئيم الذي هم بمعصيتك يا إلهي يستحق منك ( كل ما أعددت لجميع خلقك من عقوبتك ) أي جميع عقوبة الجريمة التي نوى ، وهم باقترافها تماماً كما لو مارسها ، وأتى بها ( فجميع ما أخرت عنه من وقت العذاب . . . ) ولكن شاءت حكمتك ، ورحمتك العفو من نوى السوء ، ولم يتجاوز بقول ، أو فعل تفضلاً منك ، وكرماً . وفي الحديث : « من هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له كاملة ، ومن هم بسيئة ولم يفعلها لم يكتبها عليه » (1) . وقد تقدم (2) .
( فمن أكرم منك يا إلهي ؟ ) أعطيت ، وهديت ، ورحمت ، وعافيت ، وسترت ، وأمهلت . تباركت ، وتعاليت ( ومن أشقى ممن هلك عليك ) أي بأمرك ، وعلى يديك ، لأنه تعالى لا يهلك إلا من يستحق العذاب ، والهلاك ببديهة العقل ، ونص القرآن الكريم : « هل يهلك إلا القوم الظالمون » (3) . . . « فأهلكناهم بذنوبهم » (4) . . . « وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً » (5) . . . « ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة » (6) ، وغير ذلك كثير ، وتقدم في الدعاء الأول ( لا من ) لا : نافية ، ومن هنا بمعنى أحد أي لا أحد أشقى
(1) انظر ، مسند أحمد : 1 / 310 ، صحيح البخاري : 7 / 187 ، صحيح مسلم : 1 / 83 ، فتح الباري : 11 / 279 .
(2) انظر ، الدعاء السابع والعشرون .
(3) الأنعام : 47 .
(4) الأنعام : 6 .
(5) القصص : 58 .
(6) الأنفال : 42 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 444

ممن هلك ( فتباركت ) : تقدست ، وتنزهت عن مجانسة مخلوقاتك ، وعن كل وصف إلا وصف الجلال ، والكمال ، كالعدل ، والإحسان ( لا يخشى جورك على من عصاك . . . ) الله عادل ، ومحسن ، والإحسان فوق العدل ، وسبحانه يجزي الحسنة بمثلها ، بل وبأضعاف كثيرة ، ويجزي السيئة بمثلها ، ولا يزيد مثقال ذرة ، بل ويعفو عن كثير . وصل أللهم على الهادي المختار ، وآله الأطهار ( وهب لى أملي ) : مأمولي ، ومطلوبي ( التوفيق في عملي ) حتى تكون أعمالي أحسن الأعمال ، وأنفعها لعبادك ، وأرضاها عني لديك . إنك الوهاب المنان تعطي ولا تبالي لمن أعطيت ، وكم أعطيت .


السابق السابق الفهرس التالي التالي