في ظلال الصيحيفة السجادية 369

الدعاء الثامن والعشرون

دعاؤه في التفزع

أللهم إني أخلصت بانقطاعي إليك ، وأقبلت بكلي عليك ، وصرفت وجهي عمن يحتاج إلى رفدك ، وقلبت مسألتي عمن لم يستغن عن فضلك ، ورأيت أن طلب المحتاج إلى المحتاج سفه من رأيه ، وضلة من عقله .
فكم قد رأيت يا إلهي من اناس طلبوا العز بغيرك فذلوا ، وراموا الثروة من سواك فافتقروا ، وحاولوا الارتفاع فاتضعوا، فصح بمعاينة أمثالهم حازم . . . وفقه اعتباره ، وأرشده إلى طريق صوابه باختياره .
( أللهم إني أخلصت . . . ) الإخلاص في القول أن تعبر شفتاك عما في نفسك ، والإخلاص في العمل أن يكون بدافع من قلبك ، والإخلاص لله أن لا ترى أحداً سواه تماماً كما قال سيد الشهداء عليه السلام : « ماذا وجد من فقدك ، وما الذي فقد من

في ظلال الصيحيفة السجادية 370

وجدك ؟ لقد خاب من رضي دونك بدلاً » (1) ( ورأيت أن طلب المحتاج إلى المحتاج . . . ) أبداً لا أحد يعطيك شيئاً ، وإن يك تقياً يأخذ ثمنه بالكامل منك ، أو من الله ، أو من ثناء الناس ، لأنه محتاج مثلك ، وإن تنوعت الحاجات ، والذي يعطي ولا يأخذ هو الله الغني عن كل شيء وإليه يفتقر كل شيء . وفي الأمثال : « يستف التراب ، ولا يخضع لأحد على باب إلا لمن يثق بصدق حديثه » (2) . وتقدم مثله (3) .
( فكم قد رأيت يا إلهي من اناس . . . ) اعتزوا بغيرك فذلوا ، لأن العزة لك ، وبك ، ومنك ، كما في قوله تعالى : « من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً » (4) ، ولا أحد ينال منها شيئاً إلا الأخصاء من خلقه ( وحاولوا الارتفاع فاتضعوا ) لا رافع لمن وضع ، ولا واضع لمن رفع ( فصح بمعاينة أمثالهم حازم . . . ) المراد بأمثالهم نفس الذين اعتزوا بغير الله ، وحازم فاعل المعاينة ، والمراد به نفس الإمام عليه السلام ، والمعنى أن الإمام رأى الذل ، والهوان في الذين توكلوا ، واعتمدوا على غير الله ، فوفقه اعتباره ، واختياره إلى طريق الحق ، والصواب ، وهو الإتكال على التواب الوهاب .
فأنت يا مولاي دون كل مسؤول موضع مسألتي ، ودون كل مطلوب إليه ولي حاجتي . أنت المخصوص قبل كل مدعو بدعوتي لا يشركك أحد في رجائي ، ولا يتفق أحد معك في دعائي ، ولا ينظمه وإياك ندائي .
لك يا إلهي وحدانية العدد ، وملكة القدرة الصمد ، وفضيلة
(1) انظر ، إقبال الأعمال : 349 ، بحار الأنوار : 95 / 226 .
(2) انظر ، الغارات لإبراهيم بن محمد الثقفي : 1 / 70 ، وينسب القول إلى ابن أبي الحديد .
(3) انظر ، الدعاء الثالث عشر : فقرة لمجرد التعليم ، والتنوير .
(4) فاطر : 10 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 371

الحول ، والقوة ، ودرجة العلو ، والرفعة ، ومن سواك مرحوم في عمره ، مغلوب على أمره ، مقهور على شأنه ؛ مختلف الحالات ، متنقل في الصفات ؛ فتعاليت عن الأشباه ، والأضداد ، وتكبرت عن الأمثال ، والأنداد ، فسبحانك لا إله إلا أنت .
( فأنت يا مولاي دون كل مسؤول . . . ) هل من إله غيرك يسأل ، ويجيب ؟ وهل من أحد سواك يملك شيئاً من الكائنات حتى نرفع إليه الحاجات ؟ أبداً ( أنت ) وحدك ( المخصوص قبل كل مدعو بدعوتي . . . ) هذا تفسير ، وتكرار لما قبله .
وخلاصته بالله وحده أستعين ، وأستغيث ، لأنه أقرب من دعي ، وأسمع من سئل ، وأسرع من أجاب ، وأكرم من أعطى ( ولا ينظمه وإياك ندائي ) لا أجمع ، ولا أشرك أحداً في دعائي لك ، وندائي . ثم بين الإمام عليه السلام السبب الموجب لتوحيده في الدعاء ، والرجاء قال : ( لك يا إلهي وحدانية العدد ) أي أنت الواحد الأحد في ذاته ، وصفاته ، قال الملا صدرا : « لا تقسيم ، ولا تكثير في الذات ، والصفات ، ولو لم يكن كذلك لم يكن إلهاً ، لأن كل ما هو مركب فهو مفتقر إلى أجزائه ، وواجب الوجود غني عن كل شيء ، وإليه يفتقر كل شيء ، ومعنى هذا أن وصف الله سبحانه بالوحدة هو تعظيم ، وتكبير ، أما وصف سواه بالوحدة تصغير ، وتقليل » (1) .
( وملكة القدرة الصمد ) : من يقصد في الحوائج ، وهو صفة للقدرة ، ويستوي
(1) انظر ، الحكمة المتعالية ( الأسفار ) : 4 / 223 ، شرح الهداية الأثيرية : 2274 .
وهو الفيلسوف الإلهي صدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي المشهور ب ( ملا صدرا ) ، أو ( صدر المتألهين ) ، وهو من أعاظم فلاسفة الإسلام ، بل هو من أقطابها ، بل عمدتهم ، تتلمذ في بداية حياته على الشيخ البهائي ، ثم على المحقق محمد باقر الداماد ، ومن أعرف تلاميذه صهراه ملا محسن الفيض الكاشاني ، والشيخ عبد الرزاق اللاهيجي صاحب شوارق الإلهام .
في ظلال الصيحيفة السجادية 372

فيه التذكير ، والتأثير ، والمعنى يملك سبحانه القدرة المطلقة التي ينتهي إليها كل شيء ، ويعتمد عليها في جميع الحاجات ( وفضيلة الحول ، والقوة ) الحول ، والطول ، والقوة ، والقدرة ، والمناعة ، والمتانة كلمات متقاربة متشابكة في الدلالة ، والمدلول ( ودرجة العلو ، والرفعة ) في ملكه ، وعظمته ، وكرمه ، وقدرته ، وعلمه ، وعدالته ، وجلاله ، ورحمته ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ( ومن سواك مرحوم . . . ) أنت الرحمن الرحيم ، والواحد القهار ، والغالب الجبار ، وكل شيء سواك فهو مسكين حقير . وضعيف فقير إلى فضلك ، ورحمتك .
( مختلف الحالات ، متنقل في الصفات ) يتغير الإنسان من حال إلى حال في حياته ، وبعد مماته . . . حتى الجماد لا يستقر على حال واحدة . وقديماً قال الفيلسوف اليوناني الشهير هيرقليطس ( 540 ـ 575 ق م ) : « كل شيء في تغير متصل ذاتاً لا عرضاً ، ومن أقواله : نحن موجودون ، وغير موجودين ؛ لأن الفناء يدب فينا في كل لحظة ، وقال أيضاً : النار تتحول إلى الهوآء ، والهوآء إلى الماء ، والماء إلى التراب . وقال : أفنيت عمري في البحث عن الروح بلا طائل حيث لم أظفر بحقيقتها لشدة خفائها » (1) . وصدق الله العظيم : « ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ومآ أوتيتم من العلم إلا قليلاً » (2) .
(1) انظر ، مختصر الاسطقسات في الهندسة ،وكتاب الأصول ، وكتاب الأركان ، وكتاب المفتوح لعوالم الروح للسيد محمد علي هبة الدين الشهرستاني ( ت 1386 هـ ) .
(2) الإسراء : 85 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 373

الدعاء التاسع والعشرون

دعاؤه إذا قتر عليه الرزق

أللهم إنك ابتليتنا في أرزاقنا بسوء الظن ، وفي آجالنا بطول الأمل ، حتى التمسنا أرزاقك من عند المرزوقين ، وطمعنا بآمالنا في أعمار المعمرين .
فصل على محمد وآله ، وهب لنا يقيناً صادقاً تكفينا به من مؤونة الطلب ، وألهمنا ثقة خالصة تعفينا من شدة النصب .
واجعل ما صرحت به من عدتك في وحيك ، وأتبعته من قسمك في كتابك . . . قاطعاً لاهتمامنا بالرزق الذي تكفلت به ، وحسماً للاشتغال بما ضمنت الكفاية له ، فقلت وقولك الحق الأصدق ، وأقسمت وقسمك الأبر الأوفى : ( وفي السمآء رزقكم وما توعدون ) (1) ، ثم قلت : ( فو رب السماء والأرض إنه لحق مثل مآ
(1) الذاريات : 22 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 374

أنكم تنطقون ) (1) .
تقدم الدعاء طلباً للرزق (2) ، ثم عاد الإمام هنا وكرر التوسل إلى الله في طلب الرزق عملاً بقول جده الرسول الأكرم عليه السلام : « رحم الله عبداً طلب من الله حاجة فألح في الدعاء » (3) وفي حديث آخر : « إن الله لا يمل حتى تملوا » (4) . وفيما قرأت : أن رجلاً قصد كريماً في حاجة فأحسن إليه ، وبعد أمد جاءه ، وقال له : أنا الذي أحسنت إليه يوم كذا ، وكذا . فقال له : مرحبا بمن توسل إلينا بنا ، وقضى حاجته .
( أللهم إنك ابتليتنا في أرزاقنا بسوء الظن ) اختبرتنا بالخوف من الفقر ، وأنت أعلم بأنفسنا منا ، ولكن لتظهر أفعالنا التي نستحق بها الثواب ، أو العقاب ( وفي اجالنا بطول الأمل ) وأيضاً اختبرتنا بالسهو عن الموت حتى كأنه على غيرنا كتب ، فكانت ثمرة ذلك أن ( التمسنا أرزاقك من عند المرزوقين ) نسترزق طالبي رزقك ، ونستعين بمن لا حول له ، ولا قوة إلا بحولك ، وقوتك ، وانتهينا من نسيان الموت إلى طمعنا ( بآمالنا في أعمار المعمرين ) وما من آفة أعظم من الإغترار بالصحة ، والشباب ، والطمع في طول الأجل ، لأن الموت أقرب شيء إلى الإنسان ، وقد رأينا الشبان الغلمان أكثر من الشيوخ حيث يندر من يكبر ، وفي الأشعار :
يعمر واحد فيغر قوماً وينسوا من يموت من الشباب
(1) الذاريات : 23 .
(2) انظر ، الدعاء الأول ، والعشرون ، والثاني والعشرون ، والخامس والعشرون .
(3) انظر ، الكافي : 2 / 475 ح 6 ، شرح اصول الكافي : 10 / 245 ، وسائل الشيعة : 7 / 59 .
(4) انظر ، مسند أحمد : 6 / 40 ، سنن أبي داود : 1 / 308 ، الموطأ : 1 / 118 ، صحيح مسلم : 1 / 217 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 375


( وهب لنا يقيناً صادقاً تكفينا به من مؤونة الطلب ) لا بد من طلب الرزق ، والسعي وراءه ، وإلا فسدت الحياة ، واختل النظام العام ، وفي أصول الكافي : « إذا جلس الرجل في بيته وقال : أللهم ارزقني . يقال له : ألم آمرك بالطلب ؟ » (1) ، وعليه يكون المراد بمؤنة الطلب هنا ثقلها ، وصعوبتها ، لا نفيها من الاساس ، والدليل على أرادة هذا المعنى قوله : ( تعفينا بها من شدة النصب ) أي شدة التعب ، ومشقته . وتقدم في الدعاء (2) .


وفي السماء رزقكم

( واجعل ما صرحت به من عدتك في وحيك . . . ) العدة بكسر العين : الوعد ، والحسم ، والقطع بمعنى واحد ، والمراد بالوحي هنا قوله تعالى : « وفي السماء رزقكم وما توعدون فو رب السماء والأرض إنه لحق مثل مآ أنكم تنطقون » (3) ، والإمام عليه السلام يسأل الله سبحانه أن يجعل إيماننا بتقدير الرزق الحلال ، وقسمته عن طريق السعي ، والعمل ـ راسخاً ، وقوياً لا يعترضه الريب ، كي ندع التنافس ، والتناحر على المال ، وتملكه ، ولا نندفع وراء الطمع ، والجشع .
وما من أحد يشك ، وينازع في أن حب المال لسد الحاجة مندوب إليه . . . ولكن عن الطريق المأمور به ، وهو أوسع من الطريق المنهي عنه كما قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : « وما أحل لكم أكثر مما حرم عليكم ، فذروا ما قل لما كثر ، وما ضاق لما اتسع ، قد تكفل لكم بالرزق ، وأمرتم بالعلم ، فلا يكونن المضمون لكم طلبه
(1) انظر ، الكافي : 2 / 511 ح 2 ، شرح اصول الكافي : 10 / 304 ، دعوات الراوندي : 33 .
(2) انظر ، الدعاء العشرون : فقرة ولا تجعل عيشي كداّ كداّ .
(3) الذاريات : 22 ـ 23 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 376

أولى بكم من المفروض عليكم » (1) أي عليكم العمل ، وعلى الله الرزق . ومن الجهل ، والحماقة أن تطلبوا الرزق ،وتتركوا العمل . وإلى هذا أشار الإمام السجاد حفيد الإمام علي عليه السلام بقوله : « للاشتغال بما ضمنت الكفاية » أي نطلب الرزق المضمون بالعمل ، والإشتغال بالطريق المشروع لسد الحاجة لا للتضاهي ، والتباهي ، وغير ذلك من المحرمات .
(1) انظر ، نهج البلاغة : 1 / 225 ، الخطبة ( 114 ) ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 7 / 251 و 260 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 377

الدعاء الثلاثون

دعاؤه في المعونة على قضاء الدين

أللهم صل على محمد وآله ، وهب لي العافية من دين تخلق به وجهي ، ويحار فيه ذهني ، ويتشعب له فكري ، ويطول بممارسته شغلي .
وأعوذ بك يا رب من هم الدين ، وفكره ، وشغل الدين ، وسهره . فصل على محمد وآله ، وأعذني منه . وأستجير بك يا رب من ذلته في الحياة ، ومن تبعته بعد الوفاة . فصل على محمد وآله ، وأجرني منه بوسع فاضل ، أو كفاف واصل .
( وهب لي العافية من دين تخلق به وجهي ) أخلق الثوب : بلي ، وخلق الوجه : ذهب رونقه ، ونضاره ، وفي نهج البلاغة : « ماء وجهك جامد يقطره السؤال ، فانظر عند من تقطره » (1) والمراد بماء الوجه النضارة ، والدين مال الناس عندك ، وفي
(1) انظر ، نهج البلاغة : 4 / 81 ، الحكمة ( 346 ) ، شرح اصول الكافي : 1 / 198 ، شرح نهج البلاغة =
في ظلال الصيحيفة السجادية 378

ذمتك ، وله أهميته البالغة عند الكبار ، والصغار ، ولا شيء يوازيه إلا اللحم ، والدم . وفي الحديث : « دماؤكم عليكم حرام ، وأموالكم عليكم حرام » (1) . ومن هنا كان لباذل المال ودائنه أجر عند الله ، وفضل على المدان ، والمبذول له ، والإمام عليه السلام يرجو الله سبحانه أن يعافيه ، ويغنيه من فضله عن مال الناس ديناً ، كان أو بذلاً ، لأن كلاً منهما ثقيل ، ووبيل .
( ويحار فيه ذهني . . . ) في سفينة البحار عن النبي صلى الله عليه وآله : « الدين هم بالليل ، وذل بالنهار » (2) . . . « ما الوجع إلا وجع العين » (3) ، « ولا الهم إلا هم الدين » (4) . . « أعوذ بالله من الكفر ، والدين . فقيل له : يا رسول الله أيعدل الدين الكفر ؟ قال نعم » (5) يريد الدين المغصوب ( ومن تبعته بعد الوفاة ) أي من الحساب ، والعذاب لعدم الأداء ، والوفاء مع القدرة . قال الإمام الباقر عليه السلام : « كل ذنب يكفره القتل في سبيل الله إلا الدين ، فإنه لا كفارة له إلا أن يؤدي ، ويقضى ، أو يعفو الذي له الحق » (6) ، قال
= للمعتزلي : 19 / 261 ، ينابيع المودة : 2 / 249 .
(1) انظر ، المعيار والموازنة لأبي جعفر الإسكافي : 108 ، الاحكام لابن حزم : 2 / 175 ، فتح الباري : 8 / 82 .
(2) انظر ، بحار الأنوار : 100 / 141 ، المقنع للصدوق : 377 ، الكافي : 5 / 95 ح 11 ، كنز العمال : 6 / 231 ح 15479 و 15483 ، فيض القدير شرح الجامع الصغير : 3 / 168 ح 2925 ، كشف الخفاء : 1 / 271 ح 852 ، الجامع الصغير : 1 / 415 ح 2925 ، الوسائل : 18 / 316 ، الفقيه : 3 / 110 ح 2 ، مسند الشهاب : 2 / 97 .
(3) انظر ، وسائل الشيعة : 13 / 78 ، لسان الميزان : 3 / 122 و : 4 / 473 ، علل الشرائع : 2 / 529 .
(4) انظر ، المصادر السابقة ، بالإضافة إلى الرواشح السماوية للمحقق الداماد : 201 .
(5) انظر ، الخصال : 1 / 44 ح 39 ، مسند أحمد : 3 / 38 ، السنن الكبرى : 4 / 453 ، سبل الهدى والرشاد : 9 / 283 .
(6) انظر ، الكافي : 5 / 94 ح 6 ، الوسائل : 13 / 83 ح 1 ، علل الشرائع : 528 ح 4 ، تهذيب =
في ظلال الصيحيفة السجادية 379

الصادق عليه السلام : « مات رجل من الأنصار وعليه دين ، فلم يصل عليه النبي صلى الله عليه وآله ، وقال للصحابة : « لا تصلوا على صاحبكم حتى يقضى عنه الدين » (1) ( وبوسع فاضل ) : زائد عن مقدار الحاجة ( أو كفاف ) مقدار الحاجة من غير زيادة ، أو نقصان .
وجاء يهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله يتقاضاه ديناً عليه لم يحل أجله بعد ، فجذب ثوب النبي وقال : « إنكم مطل يا بني عبد المطلب ، فانتهره عمر ، وشدد له في القول : فالتفت الرسول صلى الله عليه وآله إلى عمر وقال : أنا ، واليهودي كنا إلى غير هذا منك أحوج يا عمر . كان عليك أن ترغب إلى اليهودي في حسن التقاضي ، وإلي بحسن سداد الدين » (2) . وكان هذا السلوك من رسول الله صلى الله عليه وآله سبباً في إسلام اليهودي .
أللهم صل على محمد وآله ، واحجبني عن السرف ، والأزدياد ، وقومني بالبذل ، والاقتصاد ، وعلمني حسن التقدير ، واقبضني بلطفك عن التبذير ، وأجر من أسباب الحلال ارزاقي ، ووجه في أبواب البر إنفاقي ، وازو عني من المال ما يحدث لي مخيلةً ، أو تأدياً إلى بغي ، أو ما أتعقب منه طغياناً .
( واحجبني عن السرف . . . ) وهو التبذير ، وتجاوز الحد المعقول ، قال سبحانه : « إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين » (3) ، والزيادة عطف تكرار ، وأجرى عليه الرزق : أفاضه عليه ( ووجه في أبواب البر ) أي في جهة البر ، وأوزعني : امنعني ،
= الأحكام : 6 / 184 .
(1) انظر ، بحار الأنوار : 100 / 143 ، وسائل الشيعة : 13 / 79 ، المحاسن للبرقي : 2 / 318 .
(2) كان هذا اليهودي هو زيد بن سعنة قبل إسلامه . انظر ، الشفا بتعريف حقوق المصطفى : 1 / 109 ، موارد الظمآن : 517 ، الدر المنثور : 3 / 133 ، الطبقات الكبرى : 1 / 361 قريب منه .
(3) الإسراء : 27 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 380

ومخيلة بفتح الميم من الخيلاء بمعنى الكبر ، والعجب ، والتأدي إلى الشيء : الوصول إليه ، وأتعقب منه طغياناً : ارتكب بسببه حراماً ، وطغياناً .
ومضمون هذا المقطع من الدعاء بجمله مجتمعة أن المال وحده لا يغني عن الدين إذا لم يكن معه تدبير ، وحسن تقدير ، فقد يكون للمرء أملاك طائلة ، ولكن يبذرها في سبيل الشيطان ، فيضطر إلى الدين ، والرهونات . لذا سأل الإمام ربه سبحانه أن يقومه بالبذل ، والإقتصاد ، أي يجعله معتدلاً في بذله ، وإنفاقه ، فيأتيه المال من حلال ، ويصرفه في الحلال ، فلا يأخذ درهماً من غير حق ، ولا يضع درهماً كما سأله أن يزوي عنه من المال ما يوجب الخيلاء ، والكبرياء ، ويؤدي إلى البغي ، والطغيان .
أللهم حبب إلي صحبة الفقراء ، وأعني على صحبتهم بحسن الصبر ، وما زويت عني من متاع الدنيا الفانية فادخره لي في خزائنك الباقية ، واجعل ما خولتني من حطامها ، وعجلت لي من متاعها بلغة إلى جوارك ، ووصلةً إلى قربك ، وذريعةً إلى جنتك .
إنك ذو الفضل العظيم . وأنت الجواد الكريم .

( أللهم حبب إلي صحبة الفقراء ) يتعوذ الإمام عليه السلام من الفقر ، لأنه كفر ، ويحب صحبة الفقراء تواضعاً لله ، وطاعة لأمره تعالى حيث قال لنبيه الكريم صلى الله عليه وآله وهو يوصيه بأهل الفقر ، والمسكنة : « واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا » (1) ، وأيضاً قال لنجيه الأعظم : « واخفض جناحك
(1) الكهف : 28 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 381

للمؤمنين » (1) ، قيل : المراد المستضعفون منهم . وقال نبي الرحمة صلى الله عليه وآله : « أللهم أحيني مسكيناً ، وأمتني مسكيناً ، وأبعثني مع المساكين » (2) . وفي نهج البلاغة : « ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء طلباً لما عند الله ، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء إتكالاً على الله » (3) .
( وأعني على صحبتهم بحسن الصبر ) الفقر مأساة ، ويعاني الفقراء من كفره ، وجوره ما يعانون . . . فيتذمرون ، ويشكون ، لأن أكثر الناس لا اصطبار لهم على المرارة ، والكثير منهم لا يأنفون من كشف الحالات ، والكربات . . . ولا مناص من الإصغاء ، والدعاء ، وإلا زدتهم كرباً على كرب . . . وفي شتى الإحوال فإن مجالسة الفقراء أسلم ديناً ، ودنيا من مجالسة الأغنياء . قال الهادي البشير صلى الله عليه وآله : « لا تجالسوا الموتى . قيل : ومن هم يا رسول الله ؟ قال : كل غني مترف » (4) . وقال وصي النبي عليه السلام : « مجالسة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار » (5) . وقال باقر العلوم عليه السلام : « إياكم ومجالسة الأغنياء ، فإن الإنسان يجالسهم وهو يرى أن لله عليه نعمة ، فما
(1) الحجر : 88 .
(2) انظر ، سنن الترمذي : 4 / 577 ح 2352 ، سنن ابن ماجه : 2 / 1381 ح 4126 ، سنن البيهقي : 7 / 12 .
(3) انظر ، نهج البلاغة : 4 / 95 ، الحكمة ( 406 ) ، شرح نهج البلاغة للمعتزلي : 13 / 149 و : 20 / 39 ، شرح اصول الكافي : 1 / 184 ، عيون الحكم والمواعظ : 478 ، تأريخ بغداد : 9 / 432 البداية والنهاية : 11 / 242 .
(4) انظر ، الخصال : 228 ح 65 ، وسائل الشيعة : 20 / 198 ، بحار الأنوار : 2 / 129 ، مستدرك البحار : 4 / 51 .
(5) انظر ، عيون أخبار الرضا : 1 / 58 ، أمالي الصدوق : 531 ، صفات الشيعة : 6 ، الوسائل : 16 / 265 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 382

يقوم حتى يرى أن ليس لله عليه نعمة » (1) .
وفي كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي : « أن أبا بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث كان لا يلي لمعاوية عملاً ، ولا يقبل منه نائلاً . فقال له معاوية : هي الدنيا ، فإما أن ترضع معنا ، وإما أن ترتدع عنا » (2) .
( وما زويت عني من متاع الدنيا الفانية . . . ) وأوضح تفسير لهذه الجملة ، وأبلغ قول الإمام علي عليه السلام جد الإمام السجاد عليه السلام : « واعلموا أن ما نقص من الدنيا وزاد في الآخرة خير مما نقص من الآخرة وزاد في الدنيا فكم من منقوص رابح ، ومزيد خاسر » (3) .
(1) انظر ، أمالي الصدوق : 1 / 210 ح 3 ، بحار الأنوار : 74 / 194 ح 21 ، روضة الواعظين : 473 ، وسائل الشيعة : 12 / 36 ، وفي بعض المصادر فقط صدر الحديث ( إياكم ومجالسة الأغنياء ) ، كما في سنن الترمذي : 3 / 155 ، شرح نهج البلاغة للمعتزلي : 3 / 159 ، كنز العمال : 3 / 391 ، مستدرك الحاكم : 4 / 312 ، الخصال : 87 .
(2) انظر ، الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي : 3 / 179 ، طبعة الفجالة الجديدة بالقاهرة .
(23) انظر ، نهج البلاغة : 1 / 225 ، الخطبة ( 114 ) ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي : 7 / 251 ، عيون الحكم والمواعظ : 2380 ، غرر الحكم : الحكمة ( 6960 ) .

السابق السابق الفهرس التالي التالي