في ظلال الصيحيفة السجادية 283

الدعاء الحادي والعشرون

دعاؤه إذا حزنه أمر

أللهم يا كافي الفرد الضعيف ، وواقي الأمر ألمخوف ، أفردتني الخطايا ؛ فلا صاحب معي ، وضعفت عن غضبك ؛ فلا مؤيد لي ، وأشرفت على خوف لقائك ؛ فلا مسكن لروعتي ، ومن يؤمنني منك وأنت أخفتني ؟ ومن يساعدني وأنت أفردتني ؟ ومن يقويني وأنت أضعفتني ؟
لا يجير يا إلهي إلا رب على مربوب ، ولا يؤمن إلا غالب على مغلوب ، ولا يعين إلا طالب على مطلوب ، وبيدك يا إلهي جميع ذلك السبب ، وإليك المفر ، والمهرب . فصل على محمد وآله وأجر هربي ، وأنجح مطلبي .
( أللهم يا كافي الفرد الضعيف ) كل فرد من أفراد الإنسان هو ضعيف في نفسه ، وجسمه ، وقد صور الإمام علي عليه السلام ضعفه الجسمي بقوله : « تؤلمه البقة ، وتقتله

في ظلال الصيحيفة السجادية 284

الشرقة ، وتنتة العرقة » (1) . وقال عن ضعفه في نفسه : « إن ملكه اليأس قتله الأسف ، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ ، وإن اسعده الرضى نسي التحفظ ، وإن ناله الخوف شغله الحذر ، وإن اتسع له الأمن استلبته الغرة (2) ، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى ، وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع ، وإن عضته الفاقة شغله البلاء » (3)( وواقي الأمر المخوف ) أي يقي الإنسان ، ويدرأ عنه اذى الطبيعة باسباب طبيعية ، فللداء الدواء وللجوع الغذاء ، وللفيضانات السدود ، وللعبور الجسور . . . إلى كثير من الأسباب ومن ذلك قوله تعالى : « والله جعل لكم مما خلق ظلالاً وجعل لكم من الجبال أكناناً وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون » (4) .
( أفردتني الخطايا ؛ فلا صاحب معي ) فعلت بي الخطايا فعلها حتى جعلتني وحيداً يحمل أثقاله على ظهره لا ناصر له ، ولا ذاب عنه ( وضعفت عن غضبك ) ومن الذي يقوى على غضب الواحد القهار ، والمنتقم الجبار ؟ ( فلا مسكن لروعتي . . . ) أبداً لا اطمئنان ، ولا أمان لمن هددت ، وتوعدت ، ولا معين لمن خذلت ، ولا مجير لمن طردت ( لا يجير يا إلهي إلا رب . . . ) لا أحد يجير ، ويحمي العبد من سيده ، وينقذ المملوك من مالكه إلا السيد ، والمالك ، وهكذا كل مغلوب ، لا
(1) انظر ، نهج البلاغة : 4 / 98 ، الحكمة ( 419 ) ، شرح النهج للمعتزلي : 20 / 62 ، عيون الحكم والمواعظ : 488 .
(2) الغرة ، بالكسر من الغرر ، أي الغفلة كما جاء في الصحاح : 2 / 768 ، وفي نسخة ( العزة ) .
(3) انظر ، نهج البلاغة : 4 / 25 ، الحكمة ( 108 ) ، شرح نهج البلاغة للمعتزلي : 18 / 271 ، عيون الحكم والمواعظ : 430 ، دستور معالم الحكم : 129 ، نثر الدر : 1 / 276 ، خصائص الأئمة للرضي : 97 ، الكافي : 8 / 21 .
(4) النحل : 81 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 285

بد وأن ينزل على حكم الغالب ، وأمره ( وبيدك يا إلهي جميع ذلك . . . ) أنت وحدك الطالب ، والغالب ، فمنك أخاف ، وإليك أفر ، إياك أرجو ، وبك أثق ، وعليك أتوكل .


معنى الفرار من الله

ومعنى الفرار منه تعالى أن نفر من معصيته إلى طاعته ، ومن الضلال إلى الهدى ، ومن الشيطان إلى الرحمن ، ولا نجاة لأحد إلا بهذا الفرار . . . فالكل مسيؤن ، وخاطئون ، وإن رأيت أحداً يبرئ نفسه ، ويزكيها فتعوذ منه ، لأن الشيطان نطق بلسانه ، وقاده إلى الهاوية بعنانه . وفي نهج البلاغة : « فروا من الله إلى الله ، وامضوا في الذي نهجه لكم ، وقوموا بما عصبه بكم ـ أي كلفكم به ـ فعلي ضامن لفلجكم ـ لفوزكم ـ آجلاً ، وإن لم تمنحوه عاجلاً » (1)
أللهم إنك إن صرفت عني وجهك الكريم ، أو منعتني فضلك الجسيم ، أو حظرت علي رزقك ، أو قطعت عني سببك . . . لم أجد السبيل إلى شيء من أملي غيرك ، ولم أقدر على ما عندك بمعونة سواك ؛ فإني عبدك ، وفي قبضتك ؛ ناصيتي بيدك ، لا أمر لي مع أمرك ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ، ولا قوة لي على الخروج من سلطانك ، ولا أستطيع مجاوزة قدرتك ، ولا أستميل هواك ، ولا أبلغ رضاك ، ولا أنال ما عندك إلا بطاعتك ، وبفضل رحمتك .
(1) انظر ، نهج البلاغة : 1 / 63 ، الخطبة ( 24 ) ، شرح نهج البلاغة للمعتزلي : 1 / 331 ، لسان العرب : 1 / 608 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 286


( أللهم إنك إن صرفت عني . . . ) : أعرضت عني ، والجسيم : العظيم ، وحظرت : منعت ، وسببه تعالى : توفيقه ، ورحمته ( لم أجد السبيل إلى شيء من أملي غيرك ) « فلا مصدر لما أوردت ، ولا مغلق لما فتحت ؛ ولا ميسر لما عسرت ، ولا ناصر لمن خذلت » (1) . ( ولم أقدر على ما عندك بمعونة سواك ) لا حول ، ولا قوة لأحد إلا بك ، ومنك ، فكيف أستعين بغيرك على نوال فضلك ، وخيرك ؟ ( فإني عبدك ) ولولاك لا أثر لي ، ولا خير ( وفي قبضتك ) تملك من نفسي ما أنت أملك به مني ( ناصيتي بيدك ) عبدك بين يديك خاضع ، وراغم ، وفي الدعاء السادس : « أصبحنا في قبضتك ، يحوينا ملكك ، وسلطانك » ( لا أمر لي مع أمرك ) لا شيء لي على الإطلاق إلا ما وهبت ، وأعطيت .
( عدل في قضاؤك ) أقر ، وأعترف أن حكمك في ، وعلي حق ، وعدل ، وإن كان بعقابي ، وعذابي ( ولا قوة لي على الخروج من سلطانك ) كيف يستطيع المخلوق الهرب من خالقه ، والمرزوق من رازقه ؟ ( ولا أستطيع مجاوزة قدرتك ) عطف تكرار ( ولا أستميل هواك . . . ) لا سبيل إلى حبك لي ، ورضاك علي ، والفوز منك بحسن الثواب ، والمآب ( إلا بطاعتك ، وبفضل رحمتك ) هناك طريقان إلى النجاة ، والخلاص من غضب الله ، وعذابه ، ولا ثالث : الأول عمل صالح ، ونافع يحبه الله ، ورسوله ، والناس أجمعين ، والثاني رأفة ، ورحمة من رب العالمين ، وهي قريبة من المحسنين كما في الآية : « إن رحمت الله قريب من المحسنين » (2) بعيدة عن المجرمين لقوله تعالى : « إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون » (3) .
(1) انظر ، الدعاء السابع .
(2) الأعراف : 56 .
(3) الزخرف : 74 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 287


وتجدر الإشارة أني ما رأيت كلمة الهوى منسوبة إليه تعالى إلا في هذا الدعاء ولا غضاضة ما دام المراد منها الثواب ، والرضا .
إلهي أصبحت ، وأمسيت عبداً داخراً لك ، لا أملك لنفسي نفعاً ، ولا ضراً إلا بك ؛ أشهد بذلك على نفسى ، وأعترف بضعف قوتي ، وقلة حيلتي ؛ فأنجز لي ما وعدتني ، وتمم لي ما آتيتني ؛ فإني عبدك المسكين المستكين الضعيف الضرير الذليل الحقير المهين الفقير الخائف المستجير .
أللهم صل على محمد وآله ، ولا تجعلني ناسياً لذكرك فيما أوليتني ، ولا غافلاً لإحسانك فيما أبليتني ، ولا آيساً من إجابتك لي وإن أبطأت عني في سراء كنت أو ضراء ، أو شدة ، أو رخاء ، أو عافية ، أو بلاء ، أو بؤس ، أو نعماء ، أو جدة ، أو لأواء ، أو فقر ، أو غنىً .
نكتفي من الشرح هنا فيما يأتي من الدعاء ـ بمجرد الإشارات ، لأن الكلام واضح ، ومكرور ( داخراً ) : ذليلاً صاغراً ( وقلة حيلتي ) : قلة تدبيري ، وضعفي عن التصرف ( فإني عبدك المسكين . . . ) المراد بهذه الصفات ، والنعوت مجرد التضرع ، والتبتل لله سبحانه ، والرضا بأمره ، وطلب الرحمة من فضله ( ولا تجعلني ناسياً لذكرك فيما أوليتني ) : فيما أعطيتني ، ولا تنسني الشكر ، والحمد على عطائك ، وآلائك ( ولا غافلاً لإحسانك فيما أبليتني ) : فيما أحسنت إلي . قال الشيخ الطريحي في مجمع البحرين : « في الحديث : الحمد لله على ما أبلانا ـ أي أنعم علينا ، وتفضل ، من البلاء الذي هو الإحسان والإنعام . . . يقال : أبلاه بلاءً حسناً ـ أي بكثرة المال ، والصحة ، والشباب » (1) .
(1) انظر ، مجمع البحرين : 1 / 348 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 288


( ولا آيساً من إجابتك لي وإن أبطأت عني ) قال سبحانه : « ولا تيأسوا من روح الله إنه لا يايئس من روح الله إلا القوم الكافرون » (1) . وفي أصول الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام : « استجاب للرجل الدعاء ، ثم يؤخر ؟ قال : نعم عشرين سنة . . . وعن هشام بن سالم عنه عليه السلام : قال كان بين قول الله سبحانه عزوجل : « قال قد أجيبت دعوتكما » (2) ، وبين أخذ فرعون أربعون عاماً » (3) ( في سراء كنت . . . ) أو في الحالات كلها بلا استثناء . أو لأواء : الشدة ، وضيق المعيشة .
أللهم صل على محمد وآله ؛ واجعل ثنائي عليك ، ومدحي إياك ، وحمدي لك في كل حالاتي حتى لا أفرح بما آتيتني من الدنيا ، ولا أحزن على ما منعتني فيها ، وأشعر قلبي تقواك ، واستعمل بدني فيما تقبله مني ، واشغل بطاعتك نفسي عن كل ما يرد علي حتى لا احب شيئاً من سخطك ، ولا أسخط شيئاً من رضاك .
أللهم صل على محمد وآله ، وفرغ قلبي لمحبتك ، واشغله بذكرك ، وانعشه بخوفك ، وبالوجل منك ، وقوة بالرغبة إليك ، وأمله إلى طاعتك ، وأجر به في أحب السبل إليك ، وذلله بالرغبة فيما عندك أيام حياتي كلها .
( واجعل ثنائي عليك . . . ) بعد أن تضرع الإمام لله سبحانه راجياً أن لا ينسيه ذكره ، ولا يوئسه من فضله مهما اشتد البلاء ، وتفاقم ـ سأله أن يجعل حمده ،
(1) يوسف : 87 .
(2) يونس : 89 .
(3) انظر ، الكافي : 2 / 489 ، شرح اصول الكافي : 10 / 265 ، فيض القدير شرح الجامع الصغير : 1 / 184 ، العدة لابن فهد الحلي : 189 ، بحار الأنوار : 90 / 375 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 289

ومدحه الله وحده في الحالات كلها ( حتى لا أفرح بما آتيتني من الدنيا ، ولا أحزن على ما منعتني فيها ) قال صاحب مجمع البيان : « سأل رجل الإمام السجاد عليه السلام عن الزهد ؟ فقال له : الزهد كله بين كلمتين من القرآن الكريم قال الله سبحانه : « لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بمآ ءاتاكم والله لا يحب كل مختال فخور » (1) . وقيل لبرز جمهر : « مالك أيها الحكيم لا تأسو على ما فات ، ولا تفرح بما هو آت ؟ فقال : إن الفائت لا يتلافى بالعبرة ، والآتي لا يستدام بالخبرة . وقال آخر (2) : « لا أقول لشيء كان : ليته لم يكن ، ولا لشيء لم يكن : ليته كان » (3) .
( وأشعر قلبي تقواك . . . ) اجعل شعاره ، ومثله الأعلى تقوى الله بالإبتعاد عن معاصيه ، ومحارمه ، وتقدم في الدعاء (4) : « أللهم وأنطفني بالهدى ، وألهمني القوى ، ووفقني للتي هي أزكى ، واستعملني بما هو أرضى » ( واشغل بطاعتك نفسي عن كل ما يرد على ) لا تشغلني عنك بغيرك من لهو ، ولغو ( حتى لا أحب شيئاً من سخطك ، ولا أسخط شيئاً من رضاك ) لا أبتعد عن طاعتك ، ولا أقرب من معصيتك ، ( وفرغ قلبي لمحبتك ) وليس معنى محبة الله ان تقول له : « أحبك حبين : حب الهوى ، وحب لأنك أهل لذاكا » (5) بل معناه أن تجاهد في سبيل الله ، ولا تخاف
(1) الحديد : 23 .
تنسب هذه الحكمة إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، كما جاء في نهج البلاغة : 4 / 102 ، الحكمة ( 439 ) ، كتاب الزهد لحسين بن سعيد الأهوازي : 5 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 20 / 87 ، بحار الأنوار : 78 / 70 ح 27 ، ولا مانع من أن تنسب إلى الإمام السجاد عليه السلام كما ذكر المصنف قدس سره ؛ لأنهم عليهم السلام نور واحد .
(2) القائل : هو عبد الله بن مسعود كما جاء في تفسير مجمع البيان .
(3) انظر ، تفسير القرطبي : 17 / 258 ، تفسير مجمع البيان : 9 / 400 .
(4) انظر ، الدعاء العشرون .
(5) ينسب هذا القول إلى أحد العارفين كما جاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 10 / 156 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 290

فيه لومة لائم ( وانعشه بخوفك ) إذا خاف القلب من الله دفع بصاحبه إلى فعل الخيرات ، وابتعد به عن المحرمات ، والشبهات ، وبهذا ينمو القلب ، وينتعش .
( وقوة بالرغبة إليك ) ليست القوة بالجاه ، والمال ، بل بتقوى الله ، وطاعته ، بالصدق ، والإخلاص ، والأعمال الصالحات ( وأمله إلى طاعتك ) اعدل به عن الشر إلى عمل الخير ( وأجر به في أحب السبل إليك ) وما من شك أن أحب السبل إلى الله ، وأقربها إفشاء السلام ، والعمل من أجل الصالح العام ( وذلله بالرغبة فيما عندك ) سهل عليه مسلك المسابقة إلى المبرات ، وفعل الخيرات كي يفوز يوم المعاد بحسن الثواب ، والمآب .
واجعل تقواك من الدنيا زادي ، وإلى رحمتك رحلتي ، وفي مرضاتك مدخلي . واجعل في جنتك مثواي ، وهب لي قوةً أحتمل بها جميع مرضاتك ، واجعل فراري إليك ، ورغبتي فيما عندك .
وألبس قلبي الوحشة من شرار خلقك . وهب لي الأنس بك وبأوليآئك ، وأهل طاعتك ، ولا تجعل لفاجر ، ولا كافر علي منةً ، ولا له عندي يداً ، ولا بي إليهم حاجةً ،بل اجعل سكون قلبي ، وأنس نفسي ، واستغنائي ، وكفايتي بك ، وبخيار خلقك .
أللهم صل على محمد وآله ، واجعلني لهم قريناً ، واجعلني لهم نصيراً ، وامنن علي بشوق إليك ، وبالعمل لك بما تحب وترضى إنك على كل شيء قدير ، وذلك عليك يسير .
( واجعل تقواك من الدنيا زادي ) إلى يوم ألقاك ، وتكلمنا حول التقوى في فقرة خاصة عند شرح الدعاء (1) ( وإلى رحمتك رحلتي ) وهي الرحلة إلى القبر ، ومنه إلى
(1) انظر ،السادس عشر ، والسابع عشر .
في ظلال الصيحيفة السجادية 291

الحشر ، والنشر ، إلى الوقوف بين يدي الله تعالى لنقاش الحساب ، ولا نجاة ، وخلاص إلا لمن تداركته رحمة من ربه ، وهو سبحانه لا يرحم أحداً تشهياً ، وجزافاً ، بل بموجب علمه ، وحكمته ( وفي مرضاتك مدخلي ) وفقني إلى طاعتك ، واستعملني في مرضاتك ، وتكرر ذلك مرات ( مثواي ) : منزلي ( وهب لي قوةً أحتمل بها جميع مرضاتك ) أمنن علي بقوة الجسم ، والبصيرة كي أقوى بها على العلم ، والعمل بدينك ، وشريعتك ( واجعل فراري إليك ) ومعنى الفرار إليه العمل بطاعته (1) .
( ورغبتي فيما عندك ) في ثوابك ، وتقدم قبل لحظة ( وألبس قلبي الوحشة من شرار خلقك ) في صحبة الأشرار مفاسد ، وأضرار جمة ، منها ما يعود للصاحب ؛ لأنه معتبر بمن يصاحب كما في الآية : « وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم ءايات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً » (2) ، وفي الحديث : « المرء على دين خليله ، وقرينه » (3) . وفي الأشعار :
والريح آخذة مما تمر به نتناً من النتن ، أو طيباً من الطيب

ومنها ما يضر بالصالح العام ، لأن صحبة الأشرار رضا بالمنكر ، وتشجيع له على الإستمرار ، والإنتشار . . . ومن جالس الأخيار ، وصاحبهم تأثر بهم . وأخذ
(1) انظر الدعاء ( 21 ) فقرة : معنى الفرار إلى الله . ( منه قدس سره ) .
(2) النساء : 140 .
(3) انظر ، الكافي : 2 / 375 ح 10 ، شرح اصول الكافي : 1 / 159 ، أمالي الصدوق : 518 ، مسند أحمد : 2 / 303 و 334 ، مستدرك الحاكم : 4 / 174 ، تحفة الأحوذي : 7 / 51 ، مسند الشهاب : 1 / 141 ، كنز العمال : 9 / 38 ح 24821 ، مسند ابن راهويه : 1 / 352 ، وقد زادت بعض المصادر لفظ : ( فلينظر أحدكم من يخالل ) .
في ظلال الصيحيفة السجادية 292

منهم من حيث يريد ، أو لا يريد . قال الإمام علي عليه السلام : « مجالسة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار ، ومجالسة الأخيار تلحق الأشرار بالأخيار » (1) ( وهب لي الأنس بك ) وكل من لزم الحق ، واستوحش من الباطل فهو من الذين يحبون الله ويأنسون بذكره ، وإياهم قصد ، وأراد بقوله تعالى : « ألا بذكر الله تطمئن القلوب » (2) .


لا مفر من التعاون

( ولا تجعل لفاجر ، ولا كافر علي منةً ) أي نعمة . لقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها ، وبغض من أساء ، ولا أحد يستطيع أن يكره قلباً على حب من أساء إليه ، أو بغض من أحسن . وفي الحديث : « القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن » (3) أي لا سلطان عليه إلا لخالقه حتى صاحبه ينقاد لأمره ، وزجره ، ولا ينقاد هو لحامله . وهنا يكمن السر في دعاء الإمام عليه السلام حيث يخشى أن يكون بقلبه ، وهواه مع من ضل سواء السبيل إن كان له عليه من فضل .
( بل اجعل سكون قلبي ) من السكينة بمعنى الإطمئنان ( وأنس نفسي ) ألفتها ، وراحتها ( واستغنائي ، وكفايتي بك ، وبخيار خلقك ) كفايتي تفسيراً لاستغنائي . وما من شك أن في مقدور الإنسان الفرد أن يعيش مستقلاً ، ومستغنياً عن غيره في حياته الشخصية ، وحاجاته الجزئية . . . فالتعاون ، وتبادل المصالح بين أفراد الجماعة قانون تكاملي ، وحتمي لحياة الإنسان . قال أرسطو : « لا غنى لأحد عن
(1) انظر ، عيون أخبار الرضا : 1 / 58 ، أمالي الصدوق : 531 ، وسائل الشيعة : 16 / 264 ، صفات الشيعة : 6 .
(2) الرعد : 28 .
(3) انظر ، كنز العمال : 1 / 390 ح 1682 . وما أثبتناه من المصدر ، وعند المصنف قدس سره ( من أصابع الله ) .
في ظلال الصيحيفة السجادية 293

القصاب ، والخباز ، والحذاء ، وبائع أنواع السلع الضرورية ، وأي شخص لا يحتاج إلى غيره من الناس فهو إما إله ، وإما وحش » (1) . ولذا لم يسأل الإمام عليه السلام الغنى ، والكفاية عن جميع الناس ، بل سأل الكفاية بالاخيار عن الأشرار . وكل طيب ، وبريء من ولد ءادم يود من أعماقه أن يعيش في مجتمع صالح تسوده العدالة ، والمساواة في جميع الحقوق ، والواجبات . . . لا يعرف كذباً ، ولا غشاً ، ولا إحتكاراً ، واستغلالا ، ولا سلباً ، ولصوصيةً .
( أللهم صل على محمد وآله ، واجعلني لهم قريناً . . . ) : موصولاً بالنبي وآله ، واقعاً لا ظاهراً فقط ، وتقدم قول ألصق الناس بمحمد صلى الله عليه وآله ، وأقربهم نسباً له ، وأولاهم به : « إن ولي محمد من أطاع الله ، وإن بعدت لحمته ـ أي نسبه ـ وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت قرابته » (2) ، وتواتر عن أهل البيت عليهم السلام : «والله ما شعيتنا إلا من اتقى الله » (3) ، ومعنى هذا أن الرابطة الجامعة بين النبي ، وآله ، وشيعتهم هي التقوى ، وكفى . وليس العمامة السوداء ، أو الخضراء ، ولا المرجعية ، والرسالة العلمية .
(1) ارسطو : هو من الشخصيات العالمية التي اشتهرت منذ قرون بعيدة ، كان تلميذاً لإفلاطون بعد أن خلفه على دار التعليم عند غيبته إلى صقلية نظر في الفلسفة بعد أن أتى عليه من العمر (30) عاماً ، كان بليغ اليونانيين ، وأجل علمائهم ، كما كان من ذوي الأفكار العالية في الفلسفة ، ويعرف بالمعلم الأول ؛ لأنه كان أول من جمع علم المنطق ، ورتبه واقترع فيه . عاش سبعاً وستين سنة ، بعد أن توفي في خلكيس عام 322 قبل الميلاد . انظر ، كتاب طونيقا ، الإبانة عن غرض ارسطو في كتاب ما بعد البيعة ، وكتاب معاني العقل .
(2) انظر ، نهج البلاغة : 4 / 22 ، الحكمة (96) ، شرح نهج البلاغة : 18 / 252 .
(3) انظر ، الكافي : 2 / 73 ، شرح اصول الكافي : 8 / 235 ، صفات الشيعة : 11 ، أمالي الطوسي : 735 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 294



في ظلال الصيحيفة السجادية 295

الدعاء الثاني والعشرون

دعاؤه عند الشدة

أللهم إنك كلفتني من نفسي ما أنت أملك به مني ، وقدرتك عليه ، وعلي أغلب من قدرتي ، فأعطني من نفسي ما يرضيك عني ، وخذ لنفسك رضاها من نفسي في عافية .

من أعطى قلبه لله كفاه


( أللهم إنك كلفتني من نفسي ما أنت أملك به مني ) . أمرتني ، وزجرتني ، وأنا سميع مطيع ، ولكن الطاعة الكاملة تستدعي أولاً : القدرة على فعل الواجب ، وترك الحرام . ثانياً : التغلب على النفس الأمارة . ثالثاً : أن يكون الترك ، والفعل خالصاً لوجهك الكريم . وقدرتي ، ونفسي ، وقصدي ، كل ذلك ، بيدك لأنك السبب الأول لكل وجود وموجود ، فهبني هذه الصفات ، والأدوات لأقوم بما أوجبت من طاعتك على أكمل وجه ( وقدرتك عليه ) : على ما كلفتني به ( وعلي أغلب ) : أقوى ( من قدرتي ) هذه الجملة بكاملها من قدرتك إلى قدرتي هي تكرار ، وتوضيح لقوله :

في ظلال الصيحيفة السجادية 296

« أنت أملك به مني » ( فأعطني من نفسي ما يرضيك عني ) أعطني القدرة ، والتوفيق لتطهير نفسي وقصدي كأداة ، ووسيلة لفعل الطاعة التي طلبتها مني ، ولا ترضى بغيرها ( وخذ لنفسك رضاها من نفسي ) المراد بخذ هنا أعطيك تماماً كقول القائل : أعطني بذراً وهذ زرعاً . . . وعدل الإمام عليه السلام عن كلمة أعطيك إلى كلمة ( خذ ) تأدباً لأن الله يعطي ، ولا يأخذ ، والمعنى منك يا إلهي العون ، والقدرة ، ومني السمع والطاعة ( في عافية ) : في صحة العمل ، وإخلاص النية .
وتسأل : وأي فضل للعبد على طاعة الله ما دام كل شيء منه تعالى ؟
الجواب : أجل ، إن الله سبحانه منح العبد القدرة ، وسائر الأدوات ، والمعدات ؛ ولكن منحه أيضاً الحرية في أن يختار الطاعة ، أو المعصية ، إذ لا طاعة ، وثواب ، بل ولا حلال ، وحرام ، ولا خطإ ، وصاب بلا حرية ، وإختيار . وبأسلوب آخر أن الله سبحانه يعاقب العاصي غداً محتجاً عليه بالبيان الذي سمعه ، ووعاه ، وبالقدرة التي خانها ، ووضعها في غير موضعها ، ويثيب سبحانه المطيع ؛ لأنه أدى الأمانة بنصح ، وإخلاص .
وبعد ، فنحن لا نملك مع الله شيئاً إلا ما ملكنا ، وقد ملكنا الحرية ، والقدرة ليقول لنا : هذا حلال ، وهذا حرام ، ويحملنا مسؤولية الأخذ ، أو الرفض . . . والإمام عليه السلام يقول بأسلوب الدعاء : لكل عاقل : ما دمت حراً في نفسك ، وأفعالك فاعط قلبك ، وكلك لخالقك ، فإنه يأخذ بيدك ، ويمنحك الهداية ، والتوفيق لما فيه صلاح دنياك ، وآخرتك .
أللهم لا طاقة لي بالجهد ، ولا صبر لي على البلاء ، ولا قوة لي على الفقر ، فلا تحظر علي رزقي ، ولا تكلني إلى خلقك بل تفرد بحاجتي ، وتول كفايتي ، وانظر إلي ، وانظر لي في جميع أموري ، فإنك إن

في ظلال الصيحيفة السجادية 297

وكلتني إلى نفسي عجزت عنها ، ولم أقم ما فيه مصلحتها ، وإن وكلتني إلى خلقك تجهموني ، وإن ألجأتني إلى قرابتي حرموني ، وإن أعطوا أعطوا قليلاً نكداً ، ومنوا علي طويلاً ، وذموا كثيراً . فبفضلك أللهم فأغنني ، وبعظمتك فانعشني ، وبسعتك فابسط يدي ، وبما عندك فاكفني .
( أللهم لا طاقة لي بالجهد ) : بالكدح المضني من أجل لقمة العيش ( ولا صبر لي على البلاء ) . وما من أحد على وجه الأرض صبر على الذبح ، والسبي ، والسجن ، والتشريد كأهل البيت عليهم السلام بخاصة الإمام السجاد عليه السلام الذي (1) :
تحمل من أرزائها محناً لم يحتملها نبي ، أو وصي نبي

ومع ذلك يقول : ( لا صبر لي على الفقر ) ، والسر أن تلك المصائب صبر عليها أهل البيت عليهم السلام ، ورضوا كل الرضا ، لانها في سبيل الله ، والصالح العام ، أما مصيبة الفقر فلا مصلحة فيها لدين ، ولا دنيا ، بل هو كفر ، وموت ، ومفسدة ( ولا قوة لي على الفقر ) ومن يقوى على مقاومة المعدة ، وثورتها ، ومجنون من يقول للجائع : « إصبر إن الله مع الصابرين » (2) ( فلا تحظر . . . ) وسع ،ولا تضيق ، ويسر ، ولا تعسر ( تكلني ) لا تتركني إلى صدقات الناس ، وفتات موائدهم ( بل تفرد . . . ) سهل السبيل إلى كفايتي ( وانظر إلي ) إتجه إلي برحمتك ، واقبل علي بعنايتك ( وانظر لي ) إختر لي ما تراه خيراً لدنياي ، وآخرتي ( فإنك إن وكلتني ) إن تركتني إلى نفسي تمردت ،
(1) انظر ، وفيات الأئمة ، من علماء البحرين والقطيف : 158 ، القسم المختص بوفاة الإمام علي بن الحسين عليهما السلام ، للشيخ علي آل الشيخ سليمان البلادي البحراني ، طبع دار البلاغة سنة 1412 هـ .
(2) مأخوذ من قوله تعالى في سورة البقرة : 153 « يا أيها الذين ءامنوا استعينوا بالصبر والصلوة إن الله مع الصابرين » .
في ظلال الصيحيفة السجادية 298

وطغت ( ولم اقم ما فيه مصلحتها ) أبداً حتى الأنبياء لا يكبحون النفس الجامحة إلا بحبل من الله ( تجهموني ) : استقبلوني بوجه عابس ، وقول غليظ ( نكداً ) : عسراً ( ومنوا ) : شمخوا علي ، وتطالوا بإحسانهم ( فبفضلك أللهم فأغنني ) الغنى بفضله تعالى ، والإنتعاش بعظمته ، والبسط بسعته ، كل أولاء ألفاظ مترادفة ، معناها تيسير السبل إلى الإكتفاء الذاتي .
وبعد ، فإن هذا الجزء من الدعاء واضح ، وتقدم ، وخلاصته الرغبة إلى الله أن يمهد السبيل لمعيشة هادئة ، وادعة لا فضل فيها لأحد إلا الله الذي يسر ، وسهل . وفيه إشارة إلى أن الفقر رذيلة تفسد الحياة ، ووسيلة إلى الجرائم ، والمآثم .
أللهم صل على محمد وآله ، وخلصني من الحسد ، واحصرني عن الذنوب ، وورعني عن المحارم ، ولا تجرئني على المعاصي ، واجعل هواي عندك ، ورضاي فيما يرد علي منك ، وبارك لي فيما رزقتني ، وفيما خولتني ، وفيما أنعمت به علي ، واجعلني في كل حالاتي محفوظاً مكلوءاً مستوراً ممنوعاً معاذاً مجاراً .
أللهم صل على محمد وآله ، واقض عني كلما ألزمتنيه ، وفرضته علي لك . . . في وجه من وجوه طاعتك ، أو لخلق من خلقك ، وإن ضعف عن ذلك بدني ، ووهنت عنه قوتي ، ولم تنله مقدرتي ، ولم يسعه مالي ، ولا ذات يدي ، ذكرته أو نسيته هو يا رب مما قد أحصيته علي ، وأغفلته أنا من نفسي ، فأده عني من جزيل عطيتك ، وكثير ما عندك ، فإنك واسع كريم حتى لا يبقى علي شيء منه تريد أن تقاصني به من حسناتي ، أو تضاعف به من سيئاتي يوم ألقاك يا رب .

في ظلال الصيحيفة السجادية 299

( وخلصني من الحسد ) : نجني من آفاته ، وأبعدني عن كل حاقد ، وحاسد . وتكلمنا حول الحسد (1) . ( واحصرني عن الذنوب ) هب نفسي قوة تمنعها عن كل ذنب ، وبتعبير ثان : أعني على نفسي ( وورعني عن المحارم . . . ) هذا وما بعده عطف تكرار ( ورضاي فيما يرد علي منك ) الرضا بما قسم الله سبحانه بلا تأفف ، وتحاسد ، وتباغض ، وتنافس على الدنيا ، وحطامها هو أصل الأصول للورع ، والتقوى . . وروى الرواة عن المتقين إذا نزلت بهم نازلة قالوا : هذه خير لا شر ، ولنا لا علينا ( وبارك لي فيما رزقتني ) والله سبحانه لا يبارك المال ، ويزيده إلا إذا وضع في واجب ، أو مستحب (2) . ( وفيما خولتني . . . ) هذا وما بعده عطف تكرار .
( واجعلني في كل حالاتي محفوظاً ) من كل سوء ( مكلوءاً ) : محروساً ( مستوراً ) حسن السيرة ( ممنوعاً ) : من المناعة بمعنى القوة ، والحصانة ( معاذاً ) معتصماً بالله لا بسواه ( مجاراً ) : عطف تكرار ( واقض عني كلما ألزمتنيه ، وفرضته علي . . .) حررني من مسؤولية ما أهملت ، وتركت مما علي من حقوق ، وفروض لله ، أو للناس ( وإن ضعف عن ذلك . . . ) إشارة إلى كل ما ثبت ، ووجب أداؤه ، والقيام به ، والوهن عطف تفسير على الضعف ، ومثله عدم القدرة ، والسعة ( ولا ذات يدي ) : كناية عن الفقر ، والعجز المالي . وتجدر الإشارة أن العجز ينفي التكليف ، ببديهة العقل ، وصريح النص : « لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنآ إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنآ أنت مولنا فانصرنا على القوم الكافرين » (3) . أجل ، إذا ثبت الحق المالي لله ، أو
(1) انظر ، الدعاء السابع ، والثامن .
(2) انظر ، الدعاء السادس عشر فقرة : لا يوضع المال إلا في واجب .
(3) البقرة : 285 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 300

للناس ، وأهمل المكلف الأداء ، والوفاء مع القدرة عليه ، ودون أي مبرر ثم طرأ العجز ـ استحق العقاب ، والعذاب على الإهمال ، والتقصير .
( ذكرته أو نسيته هو يا رب مما قد أحصيته ) أنت يا إلهي ( علي ، وأغفلته أنا من نفسي ) يشير الإمام عليه السلام بهذا إلى ما نحن فيه ، وعليه من الغرور ، والجهل بجهلنا حيث نظن ، أو نعتقد بأنه قمنا ، وأدينا كل ما علينا من حق مادي أدبي ، وأنه لا يسوغ لأحد أن يسألنا عن شيء .
( فأده عني . . . ) ضمير الغائب في أده يعود كل ما ألزمتنيه ، وفرضته علي ، والمراد بالأداء هنا ترك المقاصة على الوجه الآتي عند تفسير ( تقاصني ) هذا إن كان الحق المغصوب للناس ، وإن يك الحق المتروك لله تعالى فالمراد بالأداء العفو ، والصفح ( فإنك واسع ) برحمتك ( كريم ) بعطائك ( تريد أن تقاصني به من حسناتي ، أو تضاعف به من سيئاتي يوم ألقاك ) هذه إشارة خاطفة إلى صورة المقاصة من الغاصب ، والظالم يوم القيامة . وإليك توضيح ما أراده الإمام عليه السلام بإشارته هذه : قال سبحانه : « اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً » (1) . وجاء في تفسير هذه الآية أن الظالم يرى غداً في كتابه سيئات ، ومحرمات لم يقترفها ، وايضاً لا يرى حسنات ، وخيرات كان قد فعلها ، فيعجب ، ويقول له : أعطينا حسناتك لفلان من حسنات ، وأرى ما لم أفعل من سيئات ؟ فيقال له : أعطينا حسناتك لفلان الذي اعتديت عليه بكذا ، وكيت ، وألقينا عليك سيئاته قصاصاً لك على ظلمك له ، وجرمك .
والإمام عليه السلام يسأل الله سبحانه أن يعصمه من الإساءة إلى مخلوق ، وإن حدث من ذلك شيء أن يرضي سبحانه المظلوم من فضله ، وكرمه ، ويبقي على حسناته ،
(1) الإسراء : 14 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 301

ولا يلقي عليه شيئاً من سيئات من أساء إليه .
وبعد ، فإذا كان الأدباء ، والشعراء ، وأهل السير ، والفن ، والتأريخ ، يصورون الحياة الدنيا بشتى موضوعاتها ، ومشكلاتها ـ فإن الإمام السجاد عليه السلام بأدعيته ، ومناجاته يرسم حياة الآخرة نعيمها ، وجحيمها ، ويهدي إلى سواء السبيل ، ويحذر من كل مكروه يعكر صفو الحياة دنيا ، وآخرة . وهو العليم الخبير بذلك كله .
أللهم صل على محمد وآله وارزقني الرغبة في العمل لك لآخرتي ، حتى أعرف صدق ذلك من قلبي ، وحتى يكون الغالب علي الزهد في دنياي ، وحتى أعمل الحسنات شوقاً ، وآمن من السيئات فرقاً ، وخوفاً ، وهب لي نورا أمشي به في الناس ، وأهتدي به في الظلمات ، وأستضيء به من الشك والشبهات .
أللهم صل على محمد وآله ، وارزقني خوف غم الوعيد ، وشوق ثواب الموعود حتى أجد لذة ما أدعوك له ، وكأبة ما أستجير بك منه . أللهم قد تعلم ما يصلحني من أمر دنياي وآخرتي ، فكن بحوائجي حفياً .
( وارزقني الرغبة في العمل لك ) طهر قلبي من كل ما يصرفه عنك ، واستعمله فيما تحب ، وترضى ، وتقدم مثله في الدعاء (1) ( لآخرتي ) إشارة إلى أن البعض يعبد الله على حرف (2) أي للدنيا لا للآخرة ، والإمام يسأل الله سبحانه أن تكون
(1) انظر ، الدعاء الحادي والعشرون .
(2) اقتباساً من الآية 11 من سورة الحج : « ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين » .
في ظلال الصيحيفة السجادية 302

جميع أعماله لآخرته لا العبادة فقط ( حتى أعراف صدق ذلك من قلبي ) حتى أحس من الأعماق بأن عملي لله لا لسواه . وسئل النبي صلى الله عليه وآله عن معنى البر ؟ فقال للسائل : « استفت قلبك ، البر : ما اطمأنت إليه النفس ، واطمأن إليه القلب . . . وإن أفتاك الناس وأفتوك » (1) . ومراد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله النهي عن الهوى ، والتقليد ، ومن أخطأ مع التحري والتجرد فما عليه من سبيل ( وحتى يكون الغالب علي الزهد في دنياي ) قيل : « إن الدنيا والآخرة عدوان متفاوتان ، وسبيلان مختلفان ، فمن أحب الدنيا وتولاها أبغض الآخرة وعاداها ، وهما بمنزلة المشرق ، والمغرب ، وماشي بينهما كلما قرب من واحد بعد من الآخر ، وهما بعد ضرتان » (2) . وهذا الوصف قائم بين دنيا الحرام ، والآخرة ، أما دنيا الحلال الطيب فهي من الدين في الصميم ؛ لأن الهدف الأول ، والأساس من دين الإسلام ، سعادة الإنسان دنياً ، وآخرة ، والشيء الواحد لا يكون سبباً للشيء ، وضده (3) .
( وحتى أعمل الحسنات شوقاً ) إلى مرضاة الله ، وثوابه لا بقصد الربح ،
(1) انظر ، المجموع : 9 / 150 ، نيل الأوطار : 1 / 36 ، مسند أحمد : 4 / 228 ، سنن الدارمي : 2 / 246 ، فتح الباري : 1 / 196 ، مسند أبي يعلى : 3 / 162 .
(2) تنسب هذا الحكمة إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، كما ورد في نهج البلاغة : 4 / 23 ، الحكمة ( 103 ) ، شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني : 5 / 292 ، عيون الحكم والمواعظ : 145 ، شرح اصول الكافي : 1 / 154 و : 8 / 362 . وتنسب أيضاً إلى عيسى بن مريم عليه السلام ولكن بلفظ : ( مثل الدنيا والآخرة كمثل رجل له ضرتان ، إن أرضى إحداهما سخطت الاخرى ) كما جاء في تحفة الأحوذي : 7 / 131 ، إحياء علوم الدين للغزالي : 3 / 208 ، البحار : 70 / 119 ح 110 ، روضة الواعظين : 488 ، ولكن الشيخ قدس سره أوردها هكذا : « الدنيا ، والآخرة ضرتان ، وإن ما بينهما من البعد ما بين المشرق ، والمغرب » .
(3) انظر ، الدعاء السادس : فقرة مطالب الروح ، والجسد .
في ظلال الصيحيفة السجادية 303

والإتجار ( وآمن من السيئات ) أي من فعلها ، والقرب منها ( فرقاً ) : فزعاً من غضب الله ، وعذابه ( وهب لي نوراً ) : علماً ( أمشي به في الناس ) أقيم العلاقات ، والروابط معهم على أساس الحق ، والعدل لا على أساس التعصب ، والجهل ، والربح ، والهوى ( وأهتدى به في الظلمات . . . ) إذا تعددت الآراء ، والمعتقدات ، وتضاربت أستطيع بما أملك من العلم أن أميز بين المحق منها ، والمبطل ( وارزقني خوف غم الوعيد ) المراد بالوعيد التهديد بالشر ، وبغمه ما يترتب على مخالفته من الحزن ، والكرب ، وما من شك أن الخوف من سوء العاقبة يستدعي التحفظ ، والإحتياط .
( وشوق ثواب الموعود ) بالخير على عمل الخير ( حتى أجد لذة ما أدعوك . . . ) إذا وهبت لي العلم شعرت باللذة ، والفرح ، وأنا أسألك النعيم ، وبالحزن ، والألم إذا استجرت بك من عذاب الجحيم ، ومثله تماماً قول الإمام علي في وصف المتقين : « فهم والجنة كمن رآها ، فهم فيها متكئون ، وهم والنار كمن رآها ، فهم فيها معذبون ، قلوبهم محزونة ، وشرورهم مأمونة » (1) . ( أللهم قد تعلم . . . ) « قد » للتحقيق لأن الله بكل شيء عليم (حفياً ) من الحفاوة بمعنى العناية .
أللهم صل على محمد وآل محمد ؛ وارزقني الحق عند تقصيري في الشكر لك بما أنعمت علي في اليسر ، والعسر ، والصحة ، والسقم ، حتى أتعرف من نفسي روح الرضا ، وطمأنينة النفس مني بما يحدث لك فيما يحدث في حال الخوف ، والأمن ، والرضا ،
(1) انظر ، نهج البلاغة : 2 / 161 ، الخطبة ( 193 ) ، أمالي الصدوق : 667 ، الهم والحزن لابن أبي الدنيا : 69 ، ينابيع المودة : 3 / 266 ، كنز الفوائد : 32 ، كتاب المؤمن لحسين بن سعيد الأهوازي : 7 ، الكافي : 2 / 53 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 304

والسخط ، والضر ، والنفع .
أللهم صل على محمد وآله ؛ وارزقني سلامة الصدر من الحسد حتى لا أحسد أحداً من خلقك على شيء من فضلك ، وحتى لا أرى نعمة من نعمك على أحد من خلقك في دين ، أو دنيا ، أو عافية ، أو تقوى ، أو سعة ،أو رخاء ، إلا رجوت لنفسي أفضل ذلك ، بك ، ومنك ، وحدك لا شريك لك .
(وارزقني الحق عند تقصيري في الشكر لك . . . ) تدل قرينة السياق ، وهي قوله : (حتى أتعرف من نفسي روح الرضا . . . ) أن المراد بالحق هنا الرضا بحكم الله ، وقضائه في حال البلاء ، كالعسر ، والمرض تماماً كالرضا في حال الرخاء يسراً ، وعافية . ومن معاني الشكر الثناء على المنعم ، وعلى العبد ان يجمع بين الرضا والشكر معاً ، ـ وعلى الاقل ـ أن يرضى عن الله ، وبحكمه عليه في حال اليسر ، والعسر إذا قصر في الثناء عليه تعالى بلسانه ، لأن الرضا بما أمر ، وقسم من ثمرات الإيمان بعدله ، وحكمته ، وجلاله ، وكماله (حتى أتعرف من نفسي روح الرضا) الروح بفتح الراء ، والراحة وسكون القلب الذي أشار إليه بقوله : (وطمأنينة النفس مني بما يحدث) أي يهمني قبل كل شيء ، وأكثر من كل شيء أن أعلم أن نفسي راضية تمام الرضا بكل ما يرد عليها من الله كي تكون من المؤمنين به حقاً ، والمتوكلين عليه ، والعاملين له .


الحسد

(وارزقني سلامة الصدر من الحسد . . . ) نهى سبحانه عن الحسد في كتبه ، وعلى لسان رسله ، وتكلم الناس كثيراً عن شره قديماً ، وحديثاً . . . ونشير هنا إلى أن فئة من الصائمين المصلين يتقون نجاسة الثوب ، أما صدورهم فحاقدة ، واغرة

في ظلال الصيحيفة السجادية 305

على كل ذي فضل ، ونعمة من الله تعالى بخاصة إذا كان من الزملاء ، والرفاق ، ونحن لا ننكر أن التنافس في المهنة طبيعة في الإنسان ، ولكن المؤمن حقاً يتكلف الصبر ، ويتناسى أنانيته حرصاً على دينه . . . وفيما قرأت أن تلميذاً كان له في المدرسة أصدقاء مخلصون ، وبعدها اشتهر ، وانتشر صيته من دونهم فغلا الحقد في صدورهم ، وانقلبوا أعداء ألداء !
قال ابن الجوزي في صيد الخاطر : «نظرت فرأيت أن الإنسان لا يحب ان يرتفع عليه أحد ، فإذا رأى صديقه قد علا عليه تأثر وود لو لم ينل صديقه ما نال ، وهذا معجون في الطين ، ولا لوم إنما اللوم ان يعمل بمقتضاه من قول ، أو فعل » (1) . وعلى هذا جميع العلماء .

وبعد ، فإن المؤمن ، أو العاقل إذا عرض له أي خاطر ، يقف ، ولا يتحرك ، بل ينظر ويتأمل : هل هو للرحمن ، أو للشيطان ، وللخير أو للشر ؟ فإن كان للأول عمل بموجبه ، وإن يك للثاني أحجم ، وتعوذ بالله من الشيطان ، وأي إنسان ينطق مسرعاً ، وبلا روية مع كل خاطر يمر به فهو أرعن يقيم الحجة من نفسه على نفسه : أنه ليس بشيء على الإطلاق .
أللهم صل على محمد وآله ، وارزقني التحفظ من الخطايا ، والاحتراس من الزلل في الدنيا ، والآخرة ، في حال الرضا ، والغضب . . . حتى أكون بما يرد علي منهما بمنزلة سواء عاملاً بطاعتك مؤثراً ، لرضاك على ما سواهما . . . في الأولياء ، والأعداء حتى يأمن عدوي من ظلمي ، وجوري ، وييأس وليي من ميلي ،
(1) انظر ، صيد الخاطر لابن الجوزي : 1 / 147 ، و ص : 558 طبعة الحجر .
في ظلال الصيحيفة السجادية 306

وانحطاط هواي .
واجعلني ممن يدعوك مخلصاً في الرخاء . . . دعاء المخلصين المضطرين لك في الدعاء إنك حميد مجيد .
( وارزقني التحفظ من الخطايا . . . ) هذا توكيد ، وتكرار لقوله السابق في هذا الدعاء : « واحصرني عن الذنوب ، وورعني عن المحارم ، ولا تجرئني على المعاصي » ( حتى أكون بما يرد علي منهما ) : من الرضا ، والغضب ( بمنزلة سواء ) من حيث السمع ، والطاعة لله سبحانه . وتقدم قول الإمام الصادق عليه السلام : « المؤمن إذا غضب لم يخرجه غضبه عن حق ، وإذا رضي لم يدخله رضاه في باطل » (1) ( عاملاً بطاعتك مؤثراً لرضاك على ما سواهما ) لا أتصرف بدافع من سخطي ، ومرضاتي ، من ذاتي ومصلحتي ، بل من طاعتك ، ومرضاتك يا إلهي .
( في الأولياء ، والأعداء حتى يأمن عدوي من ظلمي ، وجوري ، وييأس وليي من ميلي ، وانحطاط هواي ) اي انحداري نحو من أهوى . هذا هو التحديد السديد للمؤمن الحق : « العمل بطاعة الله ، وتقواه لا بوحي من الأصهار ، والأولاد ، أو نكاية بالأعداء ، والأنداد ، ولا أعرف محكاً لمن يلبس لباس الدين ، أو ينتمي إليه أصدق ، وأدق من المحك هذا ، ومثله ما قيل في تعريف الحاكم العادل : « هو الذي يثق به البريء ، ولا يأمنه المجرم » (2) .
( واجعلني ممن يدعوك مخلصاً . . . ) المخلص في الدعاء ، وغير الدعاء هو
(1) انظر ، الكافي : 2 / 233 ، شرح اصول الكافي : 9 / 161 ، عيون الحكم والمواعظ : 211 ، نزهة الناظر وتنبيه الخاطر : 109 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 10 / 159 ، الإختصاص للشيخ المفيد : 233 .
(2) انظر ، المجموع : 14 / 188 ، شرح اصول الكافي : 9 / 172 ، بحار الأنوار : 99 / 199 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 305

الذي يسير على وتيرة واحدة في جميع أحواله ، وأطواره ، في سره ، وعلانيته ، وشبابه ، وهرمه ، ورضاه ، وغضبه ، وحزنه ، وسروره ، وضيقه ، وسعته ، اما من يتقلب ، ويتذبذب فهو ناكب عن الطريق ، قد غلبت عليه شهوته ، وشقوته ، وبها يقاس ، ويعامل .

في ظلال الصيحيفة السجادية 308

السابق السابق الفهرس التالي التالي