في ظلال الصيحيفة السجادية 309

الدعاء الثالث والعشرون

دعاؤه بالعافية

أللهم صل على محمد وآله ، وألبسني عافيتك ، وجللني عافيتك ، وحصني بعافيتك ، وأكرمني بعافيتك ، وأغنني بعافيتك ، وتصدق علي بعافيتك ، وهب لي عافيتك ، وأفرشني عافيتك ، وأصلح لي عافيتك ، ولا تفرق بيني ، وبين عافيتك في الدنيا ، والآخرة .
أللهم صل على محمد وآله ، وعافني عافية كافية شافية عالية نامية ، عافية تولد في بدني العافية ، عافية الدنيا ، والآخرة ، وامنن علي بالصحة ، والأمن ، والسلامة في ديني ، وبدني ، والبصيرة في قلبي ، والنفاذ في أموري ، والخشية لك ، والخوف منك ، والقوة على ما أمرتني به من طاعتك ، والاجتناب لما نهيتني عنه من معصيتك .
( وألبسني عافيتك ) ألبسني ، وجللني ، وحصني ، وأكرمني ، كل هذه ، وما

في ظلال الصيحيفة السجادية 310

بعدها كلمات متشابكة مترادفة تعبر عن معنى واحد ، وهو طلب العافية ، والسلامة في الدين ، والعقل ، والقلب ، والجسم ، أما القصد من هذا الترادف ، والتكرار فهو التضرع ، والإلحاح تماماً كما يفعل الذين يسألون الناس إلحافاً مع الفرق « بأن الله سبحانه كره إلحاح الناس بعضهم على بعض في المسألة ، وأحب ذلك لنفسه » (1) كما في اصول الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام وسبقت الإشارة إليه (2) ، أن التكرار في الدعاء بالخصوص مألوف ، ومعروف .
( والنفاذ في أموري ) المراد بالنفاذ هنا النجاح ( والخشية لك ) : لجلالك ، وهيبتك ( والخوف منك ) : من التقصير في طاعتك بدليل قوله بلا فاصل ( والقوة على ما أمرتني به . . . ) وفي الدعاء : « فأنا الظالم المفرط المضيع الآثم المقصر » (3) ، وهكذا كل مؤمن عالم بالله ، وعظمته يرى نفسه مقصراً في طاعته تعالى مهما جد ، واجتهد . . . الجهول المغرور هو الذي يرى نفسه قد بلغت الغاية ، والنهاية طاعة ، وعبادة ، وتقى وسعادة .
أللهم ، وامنن علي بالحج ، والعمرة ، وزيارة قبر رسولك صلواتك عليه ، ورحمتك ، وبركاتك عليه ، وعلى آله ، وآل رسولك عليهم السلام أبداً ما أبقيتني ، في عامي هذا ، وفي كل عام ، واجعل ذلك مقبولاً مشكوراً مذكوراً لديك ، مذخوراً عندك .
وأنطق بحمدك ، وشكرك ، وذكرك ، وحسن الثناء عليك لساني ،
(1) انظر ، الكافي : 2 / 475 ، شرح اصول الكافي : 10 / 245 ، تحف العقول : 293 ، شرح الأخبار : 3 / 107 .
(2) انظر ، الدعاء السادس .
(3) انظر ، الدعاء الحادي والخمسون .
في ظلال الصيحيفة السجادية 311

واشرح لمراشد دينك قلبي .
وأعذني ، وذريتي من الشيطان الرجيم ، ومن شر السامة ، والهامة ، والعامة ، واللامة ، ومن شر كل شيطان مريد ، ومن شر كل سلطان عنيد ، ومن شر كل مترف حفيد ، ومن شر كل ضعيف ، وشديد ، ومن شر كل شريف ، ووضيع ، ومن شر كل صغير ، وكبير ، ومن شر كل قريب ، وبعيد ، ومن شر كل من نصب لرسولك ، ولأهل بيته حرباً من الجن ، والإنس ، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إنك على صراط مستقيم .
( أللهم وامنن علي بالحج ، والعمرة ) وأهم الفروق بينهما أن وقت العمرة المستقلة موسع يعم ، ويشمل أيام السنة كلها بالإتفاق ، وأفضل أوقاتها عند الشيعة شهر رجب ، وعند غيرهم شهر رمضان المبارك ، أما الحج فقد حدد الإسلام له أشهراً معلومات : شوال ، وذا القعدة ، والشطر الأول من ذي الحجة ، بل جعل مناسكه ساعات محدودة . والتفصيل في كتب الفقه .


بالآثار توزن الأقوال ، والأفعال

وتحدثوا ، وأطالوا الكلام عن منافع الحج ، وفوائده ، بخاصة عن الجوانب الإجتماعية ، وما من شك أن الحج ظاهرة ، أو مظاهرة دينية تضخم ، وتعظم من شأن الإسلام ، ونبيه صلى الله عليه وآله ، والمسلمين ، وأيضاً ما من شك أن الحاج المؤمن يزداد إيماناً في مهبط الوحي ، ويتزود من التقوى بأداء المناسك ، وبخشوعه ، وشعوره بالهيبة ، والرهبة حين يطل على الحرم الأمين ، ويرى ما يرى من أفواج الطائفين ، والعاكفين . . . وما عدا ذلك من الإمتزاج ، والتعارف بين فرد ، وآخر فهو قليل النفع ،

في ظلال الصيحيفة السجادية 312

والجدوى مادام المسلمون شيعاً وأحزاباً ، لا تجمعهم وحدة ، ولا تربطهم صلة .
وفي سنة ( 1963 م ) أديت فريضة الحج ، ومكثت بمكة المكرمة ( 19 ) يوماً ، وكان جاري في الشقة شيخ من كشمير ، فتعارفنا بالأسماء ، وائتلفنا بالأرواح ، وسألني عن مشكلات في علم الكلام ، والفلسفة الإسلامية ، والآن لا يعرف أحدنا شيئاً عن صاحبه ، بل نسيت اسمه ، وغابت صورته عن ذهني حتى كأن لم يكن شيء تماماً كرفيق سيارة الأجرة ، والجليس صدفة في مقهى .
إن الأقوال ، والأفعال ، بل والمبادئ ، والأديان توزن ، وتقاس بما لها من تأثير إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر ، ومن هنا كان التعاون ، والمعاهدات الثقافية ، والإقتصادية ، والسياسية ، وغيرها بين دولة ، ودولة ، وشعب ، وشعب فهل شيء من ذلك بين المسلمين ؟ وهل للدين ، أي دين ، من مكانة ، ومهابة إلا بقوة أهله ، وذويه ؟ وهل من قوة مع النزاع ، والشتات ؟ .
( وزيارة قبر رسولك صلواتك عليه . . . ) قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله : « من أتى مكة حاجاً ، ولم يزرني في المدينة جفوته يوم القيامة » (1) . . . « روي أن الحسين بن علي عليهما السلام ، قال لرسول الله صلى الله عليه وآله ، يا أبتاه ، ما جزاء من زارك ؟ فقال صلى الله عليه وآله : من زارني حياً ، أو ميتاً ، أو زار أباك ، أو زار أخاك ، أو زارك ، كان حقاً علي أن أزوره يوم القيامة ، وأخلصه من ذنوبه » (2) قف ـ أيها القارئ ـ ملياً ، وتمثل في عقلك ، وقلبك
(1) انظر ، كنوز الحقائق : 126 ، هداية الصدوق : 67 ، مستدرك الوسائل : 10 / 186 ح 4 ، مستند الشيعة : 13 / 331 ، ولكن في هذه المصادر بلفظ : ( فقد جفاني ) ، وفي تهذيب الأحكام : 6 / 4 ، كما عند الشارح .
(2) انظر ، الهداية للصدوق : 256 ، الكافي : 4 / 548 ح 4 ، الفقيه : 2 / 345 ح 1 ، أمالي الصدوق : 57 ح 4 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 313

المعنى الحقيقي الظاهر من قول نبيك الصادق الأمين صلى الله عليه وآله : « كان حقاً ـ لا تفضلاً ـ علي أن أخلصه من ذنوبه » . وأي فوز ، ونصر ، وخير ، وغنى ، وكرامة ، وسعادة تعادل الخلاص من عذاب النار ، وغضب الجبار ؟ فأن كنت قد أهملت ، فاعزم من الآن على شد الرحال قبل فوات الأوان .
( في عامي هذا ، وفي كل عام ) متعلق بامنن علي بالحج ، والعمرة ، والزيارة ، وكان السلف يتساءلون ، ويقولون : من يستطيع ذلك ؟ إلا أن يترك كل عمل إلا السفر للحج ، والعمرة ، والزيارة حتى انتقلت المواصلات من الجمل إلى الطائرة ، وأصبح تكرار الحج ، والزيارة ميسوراً للكثرة الكاثرة ، هذا إلى أن الإمام السجاد عليه السلام كان يقيم في المدينة إلى جوار القبر الشريف ، وبالقرب من مكة المكرمة .
( واجعل ذلك ) إشارة إلى الحج ، والعمرة ، والزيارة ( مقبولاً ) : مرضياً ، ومثاباً عليه ، ومشكوراً ، ومذكوراً ، ومذخوراً توكيد ، وتكرار لمقبول ( وأنطق بحمدك . . . ) لله الحمد ، والشكر ( واشرح لمراشد . . . ) الشرح : الفتح ، والمراشد : الطرق المستقيمة ، والمعنى : اهدنا إلى كل ما يؤدي إلى طاعتك ، ومرضاتك ( السامة ) : كل ذات سم غير قاتل ( والعامة ) أي النكبة العامة كما هو المتبادر ، وقيل غير ذلك ( واللامة ) : كل ما يخاف منه ( مريد ) : متمرد على الحق ( عنيد ) يعاند الحق مكابرةً لا جهلاً ( مترف حفيد ) المترف : المنعم ، والحفيد : من له خدم ، وأتباع ، وأنصار ، وما ذكرت كلمة مترف في كتاب الله ، وكلام أهل البيت الأطهار إلا مقرونة بالذم ؛ لأن أكثر الناس إذا اخضرت دنياهم فسدوا ، وأفسدوا .
( كل ضعيف ، وشديد ) وشر الضعيف الغيبة ، والكذب ، والنميمة ، وما أشبه ، قال الإمام علي عليه السلام : « الغيبة جهد العاجز » (1) ، والشديد : القوي ( ومن شر كل من نصب
(1) انظر ، نهج البلاغة : 4 / 106 ، الحكمة ( 461 ) ، عيون الحكم والمواعظ : 51 ، شرح نهج =
في ظلال الصيحيفة السجادية 314

لرسولك ، ولأهل بيته حرباً . . . ) الناصبي : من دان ببغض الإمام أمير المؤمنين ، وهو كافر ، وجاحد لما ثبت بضرورة الدين ، وبالأولى من نصب العداء لسيد الكونين صلى الله عليه وآله ( أنت آخذ بناصيتها ) : مالك لها ، وقادر على ردعها ( إنك على صراط مستقيم ) أي الحق ، والعدل ، وأنه تعالى لا يضيع ظلامه مظلوم . . . ولا يفوته ظالم .
أللهم صل على محمد وآله ، ومن أرادني بسوء فاصرفه عني ، وادحر عني مكره ، وادرأ عني شره ، ورد كيده في نحره ، واجعل بين يديه سداً حتى تعمي عني بصره ، وتصم عن ذكري سمعه ، وتقفل دون إخطاري قلبه ، وتخرس عني لسانه ، وتقمع رأسه ، وتذل عزه ، وتكسر جبروته ، وتذل رقبته ، وتفسخ كبره ، وتؤمنني من جميع ضره ، وشره ، وغمزه ، وهمزه ، ولمزه ، وحسده ، وعداوته ، وحبائله ، ومصائده ، ورجله ، وخيله إنك عزيز قدير .
( ومن أرادني بسوء فاصرفه عني . . . ) لما تعوذ الإمام عليه السلام من شر كل ذي شر عاد ، وكرر الدعاء ، والرجاء أن يصرف الله عنه كل من وما يؤذي ، ويسيء ، والدحر : الطرد ، والدرأ : الدفع ، وعطفها على الصرف تفسير ، وتكرار ( ورد كيده في نحره ) اصنع به المكروه الذي بيته ، ودبره لي في الخفاء ( واجعل بين يديه سداً . . . ) وقد أوضح الإمام عليه السلام مراده من هذا السد ، وأنه عمى البصيرة ، والبصر عنه ، وصمم الأذن عن سماع ذكره ، وخرس اللسان عن النطق باسمه .
( وتقمع رأسه ) كناية عن قهرة ، وإذلاله ، وفي نهج البلاغة : « فرحم الله رجلاً نزع عن شهوته ، وقمع هوى نفسه » SUP>(1)
أي قهر هواه ( وتذل عزه ) اجعله ذليلاً صاغراً
= البلاغة لابن أبي الحديد : 9 / 66 و : 20 / 179 .
(1) انظر ، نهج البلاغة : 2 / 90 ، الخطبة ( 176 ) ، شرح النهج للمعتزلي : 10 / 16 ، ينابيع المودة : =
في ظلال الصيحيفة السجادية 315

( وتكسر جبروته ) : شموخه ، وكبرياءه ( وتذل رقبته ) أي هو بالذات ، من باب تسمية الكل بأهم أجزائه ، وقال العدوي (1) :
وإن قتيل الطف من آل هاشم أذل رقاب المسلمين فذلت

( وتفسخ كبره . . . ) تنقض كبرياءه ، والمراد بالغمز ، واللمز ، والهمز : الطعن في العرض بالقول ، أو بالفعل . وهذا دأب الوضيع اللئيم ، يحقد على كل نبيل ، لشعوره بالنقص من نفسه ، فيحاول تغظيته بالنيل من كرامة الشرفاء ( وحبائله ومصائده ) : حيله ، وخدائعه ( ورجله ) بفتح الراء : جمع راجل ( وخيله ) : فرسانه ، والمراد بالجميع الأتباع ، والأنصار .
= 3 / 436 .
(1) انظر ، الكامل للمبرد : 1 / 223 ، تحقيق محمد أبو الفضل ، وإبراهيم ، وشحاته ، مطبعة النهضة مصر ، مروج الذهب : 3 / 74 ، درر السمط في أخبار السبط لابن الأبار : 115 ، سير أعلام النبلاء : 5 / 59 ، البداية والنهاية : 8 / 230 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 316



في ظلال الصيحيفة السجادية 317

الدعاء الرابع والعشرون

دعاؤه لأبويه عليهما السلام

أللهم صل على محمد عبدك ، ورسولك ، وأهل بيته الطاهرين ، واخصصهم بأفضل صلواتك ، ورحمتك ، وبركاتك وسلامك ؛ واخصص أللهم والدي بالكرامة لديك ، والصلاة منك يا أرحم الراحمين .
أللهم صل على محمد وآله ، وألهمني علم ما يجب لهما علي إلهاماً ، واجمع لي علم ذلك كله تماماً ، ثم استعملني بما تلهمني منه ، ووفقني للنفوذ فيما تبصرني من علمه ، حتى لا يفوتني استعمال شيء علمتنيه ، ولا تثقل أركاني عن الحفوف فيما ألهمتنيه .
( وألهمني علم ما يجب لهما . . . ) العلم بالحلال ، والحرام لا ينبع من داخل الإنسان ، وأوهامه ، وإنما يؤخذ من الوحي ، أو ما يمضيه الوحي ، ويقره ، ولذا طلب الإمام من الله سبحانه أن يرشده ، ويهديه إلى ما يجب عليه لوالديه ، ويتلخص هذا الواجب بطاعتهما في كل شيء إلا في معصية الله حيث : « لا طاعة لمخلوق في



في ظلال الصيحيفة السجادية 318

معصية الخالق » (1) ، وبهذا نجد تفسير : « ووصينا الإنسان بوالديه حسناً وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهمآ » (2) ، وغيرها من آيات هذا الباب ، وأحاديثه .
وبالمناسبة أشير ، لمجرد التنبيه ، والتحذير ، أني أعرف شيخاً باسمه ، وشخصه يحلل ، ويحرم ، ويحكم بالفروج ، والأموال بوحي من فهمه ، ووهمه ، أما الدرس ، والمراجعة ، والمطالعة فهي للذين يسيرون على الطريق لا لمن يطفر بلا رابطة ، وواصلة ! ومع هذا يؤمن ، ويوقن أنه ألمع من تخرج من مدرسة الإمام جعفر الصادق عليه السلام ! أعاذنا الله من مضغ هذا الهوآء .
( واجمع لي علم ذلك . . . ) إشارة إلى واجبات الوالدين بالكامل ، والمعنى إجعلني عالماً بكل ما علي لهما ( ثم استعملني بما تلهمني منه ، ووفقني للنفوذ . . . ) بعد أن طلب الإمام من الله الهداية إلى العلم بالواجبات سأله التوفيق إلى العمل بموجب العلم ؛ لأن الهدف الأساس من كل علم هو التنفيذ ، والتطبيق ، وبتعبير فيلسوف معاصر : « ليست المعرفة بناءات ـ أو بنايات ـ تبنى بالذهن ليتعلمها الإنسان ، ثم يأوي إلى مخدعه ليستريح » وكفى .
( ولا تثقل أركاني عن الحفوف . . . ) المراد بالثقل هنا الكسل ، والفتور ، وبالأركان الأعضاء التي يتركب منها البدن ، وبالحفوف الخدمة ، من حفف الخدم حوله أي أحدقوا به ، والمعنى : هب لي من لدنك قوة ، ونشاطاً في طاعة والدي ، ومرضاتهما .
(1) انظر ، نهج البلاغة : 4 / 41 ، الحكمة ( 165 ) ، المحلى لابن حزم الظاهري : 1 / 45 ، المجموع : 9 / 352 .
(2) العنكبوت : 8 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 319

أللهم صل على محمد وآله كما شرفتنا به ، وصل على محمد وآله كما أوجبت لنا الحق على الخلق بسببه .
أللهم اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف ، وأبرهما بر الأم الرؤوف ، واجعل طاعتي لوالدي ، وبري بهما أقر لعيني من رقدة الوسنان ، وأثلج لصدري من شربة ألظمآن حتى أوثر على هواي هواهما ، وأقدم على رضاى رضاهما ، وأستكثر برهما بي وإن قل ، وأستقل بري بهما ، وإن كثر .
( أللهم صل على محمد وآله كما شرفتنا به ) أي بميراثنا لعلمه ، وعملنا بسنته ، وسيرنا على طريقته ، لا بمجرد الإنتساب إليه ، قال سبحانه : « فإذا نفخ في الصور فلآ أنساب بينهم يؤمئذ ولا يتساءلون » (1) . . . « إن اكرمكم عند الله أتقاكم » (2) . وسئل الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله عن أحب الناس إلى الله ؟ فقال : « أنفعهم للناس » (3) . ويأتي في الدعاء : « لترفعنا فوق من لم يطق حمله » (4) أي حمل علم الكتاب ، والسنة ( كما أوجبت لنا الحق على الخلق بسببه ) يشير بهذا إلى الآية : « قل لآ أسئلكم عليه أجراً إلا المودة في القربى » (5) ، وما وجبت هذه المودة إلا لأن أهل البيت عليهم السلام امتداد لجدهم الرسول صلى الله عليه وآله علماً ، وعملاً ، وسيرةً ، وسريرةً .
( أللهم اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف ) : الظلوم ، يهاب والديه على
(1) المؤمنون : 101 .
(2) الحجرات : 13 .
(3) انظر ، كنز العمال : 1 / 155 ح 772 ، المعجم الأوسط : 6 / 139 ، مجمع الزوائد : 8 / 191 .
(4) انظر ، الثاني والأربعون .
(5) الشورى : 23 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 320

دنوه منهما ، وعلمه بأنهما أرأف به من نفسه ، ولا غرابة ، إنها هيبة التعظيم ، والتقدير ، لا هيبة الخوف من العقاب العسير ، هيبة الأبوة التي لا يشعر بها إلا العارفون . كانت فاطمة عليها السلام بضعة من النبي صلى الله عليه وآله ، وأحب الخلق إلى قلبه ، ومع هذا كانت تقول : « ما استطعت أن أكلم رسول الله من هيبته » (1) . ( وأبرهما بر الأم . . . ) ولا شيء عند الأبوين أغلى ، وأثمن من بر الإبن بهما ، علماً بأنه وفاء لدين سابق . . . ومع هذا يسعدان به سعادة الغارس بثمرات غرسه ، وبهذه السعادة نفسها يشعر الإبن البار إذا تأكد من سعادة أبويه به ، ورضاهما عنه .
( الوسنان ) : من أخذه النعاس ( وأستكثر برهما بي وإن قل ، وأستقل بري بهما وإن كثر ) الخير منه ضئيل ، وصغير بالغاً ما بلغ ، ومنهما جليل ، وكبير وإن كان حبة من خردل ؟ ! وليس هذا تواضعاً ، بل إيماناً ، وعظمة نفس ، وشعوراً حياً بمسؤولية التكليف ، وهو أمره تعالى : « أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير » (2) ، وكل شيء قليل في جنب الله ، والشكر له لمن قرن شكره بشكره . وهكذا العظيم يستصغر الحسنة منه وإن كبرت ، ويستكبر السيئة وإن صغرت على العكس تماماً من الحقير ، وفي الحديث الشريف : « المؤمن يرى ذنبه كأنه صخرة يخاف أن تقع عليه ، والمنافق يرى ذنبه كذباب مر على أنفه فأطار فذهب » (3) . وقال قائل لاحد المتقين حقاً ، رأيت في منامي أنك في الجنة . فقال له : ويحك أما وجد الشيطان من يسخر منه غيري ، وغيرك ؟ .
أللهم خفض لهما صوتي ، وأطب لهما كلامي ، وألن لهما عريكتي ،
(1) انظر ، مناقب آل أبي طالب : 3 / 120 ، مجمع الزوائد : 10 / 327 ، نظم درر السمطين : 190 .
(2) لقمان : 14 .
(3) انظر ، المصنف للكوفي : 8 / 160 ، كنز العمال : 3 / 699 ح 8501 ، مسند أبي يعلى : 2 / 475 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 321

واعطف عليهما قلبي ، وصيرني بهما رفيقاً ، وعليهما شفيقاً . أللهم اشكر لهما تربيتي ، وأثبهما على تكرمتي ، واحفظ لهما ما حفظاه مني في صغري .
أللهم وما مسهما مني من أذى ، أو خلص إليهما عني من مكروه ، أو ضاع قبلي لهما من حق فاجعله حطة لذنوبهما ، وعلوا في درجاتهما وزيادة في حسناتهما يا مبدل السيئات بأضعافها من الحسنات .
( أللهم خفض لهما صوتي ) غض الصوت ، وخفضه من الآداب الشرعية ، والعرفية ، بخاصة عند مخاطبة الكبار ، وأهل المكانة . وفي الآية : « واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير » (1) ، ( وأطب لهما كلامي ) قال سبحانه : « فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً » (2) ، على أن الكلمة الطيبة بوجه عام كالشجرة الطبية : « أصلها ثابت وفرعها في السمآء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها » (3) ، ( عريكتي ) طبيعتي ( رفيقاً ) : لطيفاً لا فظاً غليظاً .
( أللهم اشكر لهما . . . ) أجزهما بالإحسان إحساناً ، وبالسيئات عفواً وغفراناً ( واحفظ لهما ما حفظاه مني في صغري ) أجزل لهما الأجر ، والثواب على ما لقيا من التعب ، والعناء في سبيلي رضيعاً ، وصبياً . وقال رجل للنبي صلى الله عليه وآله : « إن أبوي بلغا من الكبر عتياً ، وأنا أولى منهما ـ أباشر ـ ما وليا مني في الصغر فهل قضيت حقهما ؟ قال : لا ، فإنهما كانا يفعلان ذلك ، وهما يحبان بقاءك ، وأنت تفعله ، وتريد موتها » (4) ( أللهم وما مسهما مني من أذى . . . ) كل ما أصابهما بسببي من مكروه
(1) لقمان : 19 .
(2) الإسراء : 23 .
(3) إبراهيم : 25 .
(4) انظر ، تفسير مجمع البيان : 6 / 241 ، بحار الأنوار : 71 / 43 ، ولكن بلفظ : ( ضم أبويك إلى =
في ظلال الصيحيفة السجادية 322

( فاجعله حطة ) : محواً ( لذنوبهما وعلواً ) لمقامها عندك بحيث يكون شقاؤهما بي في الدنيا سبباً لسعادتهما في الآخرة .
( يا مبدل السيئات بأضعافها من الحسنات ) لمحو السيئات العديد من الطرق ، منها التوبة ، ومنها إصلاح ذات البين ، وكل عمل نافع مفيد للفرد ، والجماعة ، ومنها المرض فإنه يحط السيئات ، ويحتها حت الأوراق ، على حد تعبير نهج البلاغة ، ومنها العدوان حيث يتحمل المعتدي سيئات المعتدى عليه ، وأيضاً يأخذ هذا حسنات ذاك ، وسبقت الإشارة إلى ذلك عند تفسير : « تقاصني به من حسناتي ، أو تضاعف به من سيئاتي يوم ألقاك يا رب » (1) .
أللهم ، وما تعديا علي فيه من قول ، أو أسرفا علي فيه من فعل ، أو ضيعاه لي من حق ، أو قصرا بي عنه من واجب فقد وهبته ، وجدت به عليهما ، ورغبت إليك في وضع تبعته عنهما فإني لا أتهمهما على نفسي ، ولا أستبطئهما في بري ، ولا أكره ما تولياه من أمري يا رب فهما أوجب حقاً علي ، وأقدم إحساناً إلي ، وأعظم منة لدي من أن أقاصهما بعدل ، أو اجازيهما على مثل .
أين إذاً يا إلهي طول شغلهما بتربيتي ؟ وأين شدة تعبهما في حراستي ؟ وأين إقتارهما على أنفسهما للتوسعة علي ؟ هيهات ما يستوفيان مني حقهما ، ولا ادرك ما يجب علي لهما ولا أنا بقاض وظيفة خدمتهما .
= نفسك كما كانا يفعلان بك ، وأنت صغير ) .
(1) انظر ، الدعاء الثاني والعشرون .
في ظلال الصيحيفة السجادية 323

( أللهم ، وما تعديا علي فيه . . . ) كما أوجب سبحانه حقوقاً للوالدين على الولد ، أوجب أيضاً حقوقاً له عليهما ، ومن أهمل ، وقصر استحق اللوم ، والعقاب والداً كان ، أو ولداً ، والإمام السجاد عليه السلام يتجاوز ، ويتنازل عما افترضه الله له على أبويه ، وحملهما من حقه أياً كان نوعه ، ويكون ، وعبر عن هذا التسامح ، والتجاوز بقوله : ( وهبته عليهما . . . ) أسألك أللهم أن لا تؤاخذ أبوي على أي شيء يتصل بي من قريب ، أو بعيد ( فإني لا أتهمهما على نفسي . . . ) هما عندي ، وفي عقيدتي من الناصحين المخلصين لا تواني منهما في حقي ، ولا تقصير ( ولا أكره ما تولياه من أمري ) مهما أتى من المحبوب محبوب ، والعكس بالعكس .
( فهما أوجب حقاً علي ، وأقدم إحساناً إلي . . . ) لي حق ، ولهما حق ، ولكن حقهما أقدم ، وأعظم ( من أن أقاصهما بعدل . . . ) لا مقاصة عادلة إلا مع المساواة ، ولا مكان لها بين المنعم ، والمنعم عليه . ومن هنا يقتل الولد بوالده ، ولا يقتل الوالد بالولد .
( أين إذاً يا إلهي طول شغلهما . . . ) لقد تحملا الضيق ، والشدة لأعيش في سعة ، والتعب ، والعناء لأكون في راحة ، والذل ، والهوان من أجل سعادتي ( هيهات ) بفتح التاء ، وكسرها ، وضمها : إسم فعل بمعنى بعد ( ما يستوفيان مني حقهما . . . ) أقر ، وأعترف بالعجز عن القيام مهما اجتهدت ، وبالغت ، لأنه جسيم ، وعظيم .
وبعد ، فمن أراد أن يستدرك ما فرط من حق أبويه بعد موتهما ، فليستغفر الله لهما ، ويقض دينهما ، إن كان عليهما شيء منه لله ، أو للناس ، وإلا تصدق عنهما بما يستطيع . وفي الحديث : « سيد الأبرار يوم القيامة ، رجل بر واليده بعد موتهما » (1) .
(1) انظر ، مستدرك الوسائل : 13 / 414 ، بحار الأنوار : 17 / 68 ح 100 ، مستدرك سفينة البحار : =
في ظلال الصيحيفة السجادية 324

فصل على محمد وآله ، وأعني يا خير من استعين به ، ووفقني يا أهدى من رغب إليه ، ولا تجعلني في أهل العقوق للآباء ، والأمهات يوم تجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون .
أللهم صل على محمد وآله وذريته ، واخصص أبوي بأفضل ما خصصت به آباء عبادك المؤمنين ، وأمهاتهم يا أرحم الراحمين .
( وأعني يا خير من استعين به . . . ) كل أدعية أهل البيت عليهم السلام ، ومناجاتهم ، تهدف إلى طلب الهداية ، والعون ، والتوفيق للعلم بالحق ، والخير ، والعمل بموجبه ، لأن التوفيق هو الأصل ، والمنطق لكل نفع ، وصالح دنياً ، وآخره ( ولا تجعلني في أهل العقوق ) : العصيان ، والتمرد ( للآباء والأمهات ) ولا أدري كيف يعق الولد والديه ، وهو على علم اليقين أنهما أرحم به من نفسه ، وأنهما يضحيان بالنفس ، والنفيس من أجله ، ولا يجزي الإحسان بالإساءة إلا من فيه طبع الحية ، والعقرب .
( صل على محمد وآله وذريته ) قيل : الذرية أخص من الآل ؛ لأن الآل لكل ذي رحم ، والذرية للنسل فقط . ولكن المراد هنا العكس ؛ لأن القصد من كلمة الآل في الصلاة عليه ، وعليهم ، المعصومون بالخصوص (1) ، أما الصلاة على الذرية فتعم
= 10 / 444 .
(1) يقصد بذلك آل الرسول صلى الله عليه وآله الذين خصهم الله بالمكارم ، والفضائل ، ونزههم عن النقائص بقوله تعالى : « إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً » ، الأحزاب : 33. وفرض مودتهم على جميع المسلمين بقوله تعالى : « قل لأسئلكم عليه أجراً إلا المودة في القربى » الشورى : 23 .
وما أحسن قول الصاحب بن عباد فيهم حيث قال : هم ـ والله ـ الشجرة الطيبة ، والغمامة =
في ظلال الصيحيفة السجادية 325

كل مؤمن صالح من نسل الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ( واخصص أبوي بأفضل ) ما تخص به المقربين لديك .
أللهم لا تنسني ذكرهما في أدبار صلواتي ، وفي أناً من آناء ليلي ، وفي كل ساعة من ساعات نهاري .
أللهم صل على محمد وآله ، واغفرلي بدعائي لهما ، واغفر لهما ببرهما بي ، مغفرة حتماً ، وارض عنهما بشفاعتي لهما رضىً عزماً ، وبلغهما بالكرامة مواطن السلامة .
أللهم ، وإن سبقت مغفرتك لهما فشفعهما في ، وإن سبقت مغفرتك لي فشفعني فيهما ، حتى نجتمع برأفتك في دار كرامتك ، ومحل مغفرتك ، ورحمتك .
إنك ذو الفضل العظيم ، والمن القديم ، وأنت أرحم الراحمين .
( أللهم لا تنسني ذكرهما في أدبار صلواتي ) كان الشعب العاملي ، المعروف الآن بجنوب لبنان ، من أشد الناس ولاءً لأهل البيت عليهم السلام ، وأحرصهم على حفظ مناقبهم ، وآثارهم ، وبخاصة الأدعية حيث يكررونها صباح مساءً ، وكان من عادة العامليين أن يقرأوا سورة الفاتحة بعد الصلاة ، ويهدون ثوابها إلى الأبوين ، وما زال الكثير منهم على ذلك . وغير بعيد أن يكون المصدر هذا الدعاء بالذات ( وفي أناً من
= الصيبة ، والعلم الزاخر ، والبحر الذي ليس يدرك له آخر الفضل العلوي ، والفخر الحسني ، والإباء الحسيني ، والزهد الزينبي ، والعلم الباقري ، والحديث الصادقي ، والحلم الكاظمي ، والتفنن الرضوي ، والمعجز الجوادي ، والبرهان الهادي ، وخذ إلى الحسن وابنه من روح الفضل وغصنه ، إمام بعد إمام ، يعتم بالنبوة ، ويتقمص بالإمامة ، ويتمنطق بالكرامة ( انظر ، ينابيع المودة : 1 / 4 ط 7 قم منشورات الشريف الرضي ) .
في ظلال الصيحيفة السجادية 326

أناء ليلي ، وفي كل ساعة . . . ) لا تنسني ذكرهما في أي وقت ، وحين .
( واغفر لي . . . ) اجعل ثوابي عندك على البر بهما ، وثوابهما على البر بي ـ مغفرتك ورحمتك لي ، ولهما ( حتماً ) : غفراناً محترماً ( رضى عزماً ) : معزوماً أي مقصوداً ( وبلغهما بالكرامة مواطن السلامة ) تكرم عليهما بالجنة ، وتفضل ( وإن سبقت مغفرتك لهما . . . ) إن تك منزلتهما لديك أعلى ، وأرفع من مكانتي فارحمني بشفاعتهما ، وإن تك منزلتي أعلى فارحمهما بشفاعتي ( حتى نجتمع ) في جنانك ، ونسعد برضوانك .
والخلاصة : أن للوالدين حقوقاً تمتاز عن أكثر الحقوق حتى عن حق المؤمن على المؤمن ولو كان الأبوان مشركين بنص القرآن الكريم : (1) .
(1) لقمان : 15 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي