في ظلال الصيحيفة السجادية 261

عرف المصدر (وأثيب من حرمني . . . بالبذل) كان هشام بن إسماعيل والياً على المدينة في عهد الإمام عليه السلام ، وكان أشد الناس قسوة على زين العباد ، وأهله حتى قاسوا منه ألواناً من الأذى ، والتنكيل ، ولما عزله الوليد بن عبد الملك أوقفه الناس ، وأتاح لكل من ظلمه ، وأساء إليه أن يقتص منه كيف يشاء ، فقال هشام : «لا أخاف إلا من علي بن الحسين لعلمه بما صنعت يداه ، ولما مر به الإمام عليه السلام سلم عليه ، وقال : طب نفساً منا ، ومن كل من يطيعنا ، فإن أعجزك المال لتذب به عن نفسك فعندنا منه من يسعفك ، ويسعدك . فقال هشام : «الله أعلم حيث يجعل رسالته» (1)
( وأكافي من قطعني . . . بالصلة ، وأخالف من اغتابني ... إلى حسن الذكر) قال مريض بغيض للإمام عليه السلام : كلاماً يليق بقائله ، فأجابه أيضاً بما يليق بعصمته ، وعظمته وقال : «إن كنت أنا كما تقول أنت فاستغفر الله ، وإلا فغفر الله لك . قال الرجل : بل قلت ما ليس فيك ، وأنا أحق به» (2) (وأن أشكر الحسنة وأغضي عن السيئة) أجزي من أحسن بالإحسان ، ومن أساء بالغفران (وحلني بحلية الصالحين) ومثله في دعاء آخر : «أللهم ألحقني بصالح من مضى ، واجعلني من صالح ما بقي ، وخذ بي سبيل الصالحين» (3) ( وألبسني زينة المتقين . . . في بسط العدل ) هذا دليل واضح على ما أخترناه ، وذكرناه في الدعاء السابع عشر فقرة التقي من أنه هو ، والعادل بمعنى واحد .
(1) الأنعام : 124 .
انظر ، القصة في تذكرة الخواص : 328 ، شرح الأخبار : 3 / 260 ، مناقب آل أبي طالب : 3 / 301 ، تأريخ اليعقوبي : 2 / 283 ، المنتخب من ذيل المذيل : 120 ، تأريخ الطبري : 5 / 216 ، تأريخ دمشق : 2 / 305 و : 11 / 108 .
(2) انظر ، مناقب آل أبي طالب : 3 / 296 ، بحار الأنوار : 46 / 55 ، الإرشاد : 273 .
(3) انظر ، مصباح المتهجد : 143 و 273 و 596 ، الكافي : 2 / 586 ، إقبال الأعمال : 1 / 173 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 262


( وكظم الغيظ ، وإطفاء النائرة ) أي الشحناء ، أو العاطفة الملتهبة ، كانت بعض جواريه تهيء له ماء وضوئه ، فسقط الإبريق من يدها على وجه الإمام ، وأدماه ، ولما نظر إليها قالت : «والكاظمين الغيظ .
قال : كتمت غيظي .
قالت : والعافين عن الناس .
قال : عفوت عنك .
قالت : «والله يحب المحسنين» (1) . قال : إذهبي أنت حرة لوجه الله» (2) . (وضم أهل الفرقة) ببيان الحق ، والصواب ، وإقناعهم به ، وإجماعهم عليه (وإصلاح ذات البين) لقد كرم الله سبحانه بني ءادم ، وضمن لهم دوام الكرامة بشرط أن لا يتنازعوا ، ويتصارعوا كما نص القرآن الكريم في الآية : «ولقد كرمنا بني ءادم وحملنهم في البر والبحر ورزقنهم من الطيبت وفضلنهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً» (3) ، والآية : «وأطيعوا الله ورسوله ولا تنزعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصبرين» (4) ؛ ولكنهم رفضوا هذا الشرط ، وأبوا إلا الصراع ، والنزاع ، فقتل قابيل أخاه هابيل ، واستمر الاقتتال من يومهما إلى اليوم ، وحتى اليوم الأخير ، وصدقت نبوءة الملائكة حيث : «قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء» (5) والإمام يسأل الله سبحانه العون على إصلاح ذات البين ، عسى أن يخفف من حدة القتل ، والقتال .
(1) آل عمران : 134 .
(2) انظر ، البداية والنهاية : 9 / 125 ، مجمع البيان : 2 / 393 ، شرح الأخبار : 3 / 259 ، مناقب آل أبي طالب : 3 / 296 ، الدر المنثور : 2 / 73 .
(3) الإسراء : 70 .
(4) الأنفال : 46 .
(5) البقرة : 30 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 263



بين الطيب ، والخبيث

( وإفشاء العارفة ، وستر العائبة) العارفة : المعروف ، والعائبة : العيب .
يهتم علماء الطبيعة بالكشف عن كنوزها ، وأسرارها ، وعلماء النفس بملكاتها ، وغرائزها ، ويبحث الفقهاء عن حلال الله ، وحرامه . . . وهكذا كل فرد من العلماء ، وغيرهم يبحث ، وينقب عما يتصل بحقله ، وما هو من أهله . وأيضاً هكذا اللئيم الخبيث يحصر نشاطه ، ويكرس جهده للكشف عن عيوب الناس ، وعوراتهم ، فإن رأى سيئة طار بها فرحاً ، وأشاع ، وأعلن ، وإن رأى حسنة كتم ، ودفن . . . على العكس من الطيب الفاضل حيث يتجاهل السيئات ، ويعلن الحسنات كما قال الإمام عليه السلام . وفي الأشعار :
من تكن نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئاً جميلا

(ولين العريكة . . .) الطبيعة ، وخفض الجناح : كناية عن الرفق ، والتواضع ، والسيرة : السلوك ، وسكون الريح : الوقار ، وطيب المخالقة ، حسن المعاشرة ، ومثله خالقوا الناس ، والفضيلة : فعل الواجبات ، والمستحبات ، وترك الشبهات ، والمحرمات ، والتفضل : العطاء ابتداءً لا جزاءً ، ومثله الإفضال على غير المستحق .


التعيير

(وترك التعيير) عيره بفعله : قبح ، وأعابه به ، وما من شك أن التعيير بالذنب ذنب ، لأنه تزكية للنفس ، ورضىً عنها ، ولقول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله : «من أذاع فاحشة كان كمبتدئها ـ أي فاعلها ـ ومن عير مؤمناً بشيء لم يمت حتى يركبه» (1) .
(1) انظر ، الكافي : 2 / 356 ح 3 ، شرح اصول الكافي : 10 /6 ، السرائر : 3 / 643 ، مستطرفات السرائر : 643 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 264

وفي نهج البلاغة : «لا تعجل في عيب أحد بذنبه فلعله مغفور له ، ولا تأمن على نفسك صغير معصية فلعلك معذب عليه» (1) وقال خبير قديم : «ما أحسب أحداً تفرغ لعيوب الناس إلا عن غفلة غفلها عن نفسه . . . إن كل طاعة يرضاها المرء من نفسه فهي عليه لا له ، وكل معصية يعير بها أخاه فهي إليه كما لو فعلها» .
(والقول بالحق ، وإن عز) حين دعا محمد صلى الله عليه وآله إلى الإسلام كان أهل الأرض بكاملهم على غير دينه ، ومن هنا قالوا به : «إنك لمجنون» (2) وكل المصلحين ، والمحقين مجانين عند أهل الجهل ، والضلال (واستقلال الخير ، وإن كثر . . .) فيما قرأت : «جاء إبليس إلى موسى بن عمران عليه السلام ، وهو يناجي ربه ، فقال له لملك من الملائكة : ما ترجو منه ، وهو في هذه الحال يناجي ربه ؟ فقال : أرجو منه ما رجوت من أبيه ءادم وهو في الجنة » (3) . والقصد من هذا المثال التحذير من ألاعيب الشيطان ، وأنه لا ييأس من الزهاد ، والعباد ، بل يحاول أن يخرجهم عن حد الإيمان ، والاعتدال إلى التطرف ، والغرور ، فيريهم الخير القليل من أعمالهم كثيراً ، والشر الكثير منها قليلاً ! وما من شك أن الغرور يجعل الحسنات سيئات . وفي الحديث الشريف : «من رأى إنه مسيء فهو محسن ، ومن رأى إنه محسن فهو مسيء» (4) وفي معناه قول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : «سيئة تسوءك خير من حسنة تعجبك» (5) ؛ لأن الإعجاب بالحسنة يجر إلى السيئات ، وكراهية السيئة يبعث على
(1) انظر ، نهج البلاغة : 2 / 23 ، الخطبة (140) ، شرح النهج للمعتزلي : 9 / 59 ، عيون الحكم والمواعظ : 550 .
(2) الحجر : 6 .
(3) انظر ، أمالي الصدوق : 764 ، معاني الأخبار : 54 ، بحار الأنوار : 13 / 338 ، تأريخ دمشق : 61 / 124 .
(4) انظر ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 20 / 317 ، الحكمة (641) .
(5) انظر ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 20 / 317 ، الحكمة (462 ) .
في ظلال الصيحيفة السجادية 265

فعل الحسنات .
(وأكمل ذلك لي بدوام الطاعة) وهي الإنقياد لأمر الله تعالى ، ونهيه ، وتدوم هذه الطاعة ، وتكمل بلجام النفس عن معاصي الله (ولزوم الجماعة) المراد بهذا اللزوم عدم الخروج على جمع الشمل ، ووحدة الكلمة ، والتعاون مع الجميع على المصلحة العامة ، ومن شق العصا بقصد الفتنة ، والتفرقة فقد برئ الإسلام منه لحديث : «من فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه ، ومات ميتة جاهلية» (1) . (ورفض أهل البدع) بدعة بكسر الباء بمعنى الإحداث في الدين من غير دليل (ومستعمل الرأي المخترع) عطف تكرار ، وتفسير للبدع .
أللهم صل على محمد وآله ، واجعل أوسع رزقك علي إذا كبرت ، وأقوى قوتك في إذا نصبت ، ولا تبتليني بالكسل عن عبادتك ، ولا العمى عن سبيلك ، ولا بالتعرض لخلاف محبتك ، ولا مجامعة من تفرق عنك ، ولا مفارقة من اجتمع إليك .
أللهم اجعلني أصول بك عند الضرورة ، وأسألك عند الحاجة ، واتضرع إليك عند المسكنة ، ولا تفتني بالاستعانة بغيرك إذا اضطررت ، ولا بالخضوع لسؤآل غيرك إذا افتقرت ، ولا بالتضرع إلى من دونك إذا رهبت فاستحق بذلك خذلانك ، ومنعك ، وإعراضك يا أرحم الراحمين .
(أللهم صل على محمد وآله ، واجعل أوسع رزقك علي إذا كبرت) إذا رق جلد
(1) انظر ، أمالي الصدوق : 413 ، المجموع : 19 / 190 ، إعانة الطالبين : 4 / 178 ، كشف القناع : 6 / 206 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 266

الإنسان ، ودق عظمة عجز عن الحركة ، والإنتاج ، وذهبت هيبتة حتى عند زوجته ، واولاده ، ولا جابر ، وناصر في هذه الحال إلا المال ، فإنه خاتم لبيك . ويروى أن شيخاً من الأعراب قيل له : «كيف حالك في الأكل ؟ قال : إن أكلت ثقلت ، وإن تركت ضعفت . قيل له : ونكاحك ؟ قال إذا بذلت لي عجزت ، وإذا منعت شرهت . قيل : ونومك ؟ قال : أنام في المجمع ، وأسهر في المضجع . قيل : وقيامك ، وقعودك ؟ قال : إذا قعدت تباعدت عني الأرض ـ كناية عن اهتزازه ، وتعبه ـ وإذا قمت لزمتني . وقيل : ومشيك ؟ قال : تعقلني الشعرة ، وتعثرني البعرة» (1) .
(وأقوى قوتك في إذا نصبت) من النصب بمعنى التعب ، وتجدر الإشارة إلى أن قوة الله سبحانه على نسق واحد كماً ، وكيفاً لا شيء منها أقوى من شيء سواء تعلقت بخلق الكون أم البعوضة ، وعليه يكون المعنى ادخر القسم الأوفى مما كتبت لي عندك من القوة إلى يوم عجزي ، وإعيائي (ولا تبتليني بالكسل عن عبادتك) ولا سبب موجب للتواني ، والتثاقل عن عبادة الله إلا ضعف العقيدة . وعن الإمام الباقر عليه السلام : «لا تمزح فيذهب بهائك ، ولا تكذب فيذهب نورك ، إياك وخصلتين : الضجر ، والكسل ، فإنك إن ضجرت لم تصبر على حق ، وإن كسلت لم تؤد حقاً» (2)
(ولا العمى عن سبيلك) العمى المقصود هنا ترك الحق ، والإنحراف عنه جهلاً ، أو ضلالاً ، وسبيل الله صراطه إلى دينه ، وشريعته (ولا بالتعرض لخلاف محبيك . . .) لا تبتلني بالتهالك على الدنيا ، وحطامها ، ولا بموالاة من عاداك ، أو معاداة من والاك (أللهم اجعلني اصول بك عند الضرورة) هب لي من لدنك إيماناً
(1) انظر ، شجرة طوبى للشيخ محمد مهدي الحائري : 1 / 37 .
(2) انظر ، السرائر : 3 / 616 ، تأريخ دمشق : 24 / 345 ، أمالي الصدوق : 636 ، مكارم الأخلاق : 434 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 267

راسخاً ، ويقيناً صادقاً اعتصم به في ساعة العسرة من اللجوء إلى غيرك (وأسألك عند الحاجة) ولا أسأل سواك ، لأنك أنت ، وحدك الفعال لما يريد (وأتضرع إليك عند المسكنة) المراد بالسكنة هنا الضعف ، والمعنى : إجعلني قوياً ، وقادراً حتى لا أتضرع ، وأخضع إلا لك (ولا تفتني بالاستعانة . . .) عطف تكرار ، وتفسير (فأستحق بذلك خذلانك . . .) من توكل على مخلوق أوكله الله إليه ، وماله في الآخرة من نصيب .
أللهم اجعل ما يلقي الشيطان في روعي من التمني ، والتظني ، والحسد . . . ذكراً لعظمتك ، وتفكراً في قدرتك ، وتدبيراً على عدوك ، وما أجرى على لساني من لفظة فحش ، أو هجر ، أو شتم عرض ، أو شهادة باطل أو اغتياب مؤمن غائب ، أو سب حاضر ، وما أشبه ذلك نطقاً بالحمد لك ، وإغراقاً في الثناء عليك ، وذهاباً في تمجيدك ، وشكراً لنعمتك ، واعترافاً بإحسانك ، وإحصاء لمننك .
اللهم صل على محمد وآله ، ولا اظلمن وانت مطيق للدفع عني ، ولا اظلمن وانت القادر على القبض مني ، ولا اضلن وقد امكنتك هدايتي ، ولا افتقرن ومن عندك وسعي ، ولا اطغين ومن عندك وجدي .
(أللهم اجعل ما يلقي الشيطان في روعي من التمني ، والتظني ، والحسد) الروع بضم الراء ، وتشديدها ، وسكون الواو : القلب ، والتمني : الإرادة ، والتظني : الحدس ، والمعنى أسألك أللهم أن تعصمني من الأهواء ، والأفكار السوداء ، ومن كل ما يوسوس به الشيطان ، واجعل مكان ذلك ( ذكراً لعظمتك ) وذكر الله حسن على كل حال سوءاً كان القلب متجهاً إليه تعالى ، ومقبلاً عيله أم مشغولاً عنه بغيره لإطلاق

في ظلال الصيحيفة السجادية 268

الآية : «يا أيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً» (1) وأحسن أنواع الذكر ترك المحرمات ، وفعل الخيرات (وتفكراً في قدرتك) لأنه يؤدي حتماً إلى معرفة الخالق ، والإيمان بعظمته ، قال سبحانه : «ويتفكرون في خلق السموت والأرض ربنا ما خلقت هذا بطلاً » (2) فقد ربط سبحانه الإيمان به ، وبحكمته ، بالتأمل ، والتفكر .
وفي الحديث : «تفكروا في خلق الله ، ولا تفكروا في ذات الله» (3) .
(وتدبيراً على عدوك) كل من لا يؤمن شره ، ولا يرجى خيره فهو عدو لله ، وللإنسانية ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله : «شر الناس من أكرمه الناس اتقاء شره» (4) . ومعنى التدبير على عدو الله مقاومته ، والعمل على ضده ، وردعه (وما أجرى على لساني) أي ما يحاول الشيطان أن يجربه على لساني (من لفظة فحش ، أو هجر ، أو شتم عرض ، أو شهادة باطل ، أو اغتياب مؤمن . . .) لفظة الفحش القبيح من القول ، والهجر : الهذر ، والهذيان ، والعرض بكسر العين : ما يصونه الإنسان يحامي عنه من نفسه ، وصفاته ، ونسبه ، وأهله (أو شهادة باطل) قال سبحانه في وصف المؤمنين : «والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراماً» (5) (أو اغتياب مؤمن) «ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه» (6) .
(1) الأحزاب : 41 .
(2) آل عمران : 191 .
(3) انظر ، الجامع الصغير : 1 / 514 ح 3347 و 3349 ، كنز العمال : 3 / 106 ح 5705 و 5708 ، فيض القدير شرح الجامع الصغير : 3 / 345 ، كشف الخفاء : 1 / 311 ، الدر المنثور : 2 / 110 .
(4) انظر ، مكارم الأخلاق : 433 ، السرائر : 3 / 615 ، من لا يحضره الفقيه : 4 / 353 ، الوسائل : 16 / 34 .
(5) الفرقان : 72 .
(6) الحجرات : 12 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 269

والمعنى أسألك أللهم أن تعصم لساني عن النطق بأي قبيح ، ومكروه ، واجعل مكان ذلك (نطقاً بالحمد لك) على السراء ، والضراء (وإغراقاً) الإغراق : الإطناب ، والإمعان (في تمجيدك) في تعظيمك (لمننك) : لنعمك .
(ولا اظلمن وأنت مطيق للدفع عني) لا يريد الإمام عليه السلام بدعائه هذا أن يسكت المظلوم عن ظالمه ، ويدع أمره إلى الله ، بل المراد أن لا يسلط عليه من يظلمه ، ويمكنه من الإعتداء عليه (1) . (ولا أظمن وأنت القادر على القبض مني) ، وأيضاً لا تسلطني ظالماً على أحد ، بل امنعني عن الظلم بالهداية منك ، والعناية . والدليل على إرادة هذا المعنى قوله بلا فاصل : (وقد أمكنتك هدايتي) إلى العدل ، وترك الظلم (ولا أفتقرن ومن عندك وسعي) بضم الواو بمعنى الغنى ، واليسار (ولا أطغين) بالغنى ، والمال (ومن عندك وجدي) بضم الواو أي الغنى ، والقدرة ، والمعنى لا تجعلني بما أنعمت علي من السعة ، واليسار كالذي أشرت إليه بقولك : «كلآ إن الإنسان ليطغى أن رءاه استغنى» (2) .
أللهم إلى مغفرتك وفدت ، وإلى عفوك قصدت ، وإلى تجاوزك اشتقت ، وبفضلك وثقت ، وليس عندي ما يوجب لي مغفرتك ، ولا في عملي ما أستحق به عفوك ، وما لي بعد أن حكمت على نفسي إلا فضلك ، فصل على محمد وآله ، وتفضل علي . أللهم وأنطقني بالهدى ، وألهمني التقوى ، ووفقني للتي هي أزكى ، واستعملني بما هو أرضى .
أللهم اسلك بي الطريقة المثلى ، واجعلني على ملتك اموت
(1) انظر ، (فقرة ضع مع الدعاء شيئاً من القطران المذكورة في هذا الدعاء) .
(2) العلق : 6 ـ 7 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 270

وأحيى .
أللهم صل على محمد وآله ، ومتعني بالاقتصاد ، واجعلني من أهل السداد ، ومن أدلة الرشاد ، ومن صالحي العباد ، وارزقني فوز المعاد ، وسلامة المرصاد .
(أللهم إلى مغفرتك وفدت . . .) العفو ، والمغفرة ، والتجاوز كلمات معانيها متقاربة ، ومتشابكة ، ومثلها وفدت ، وقصدت ، واشتقت ، ومجمل المعنى لا شيء أحب إلي من منك علي بالصفح ، والمسامحة علماً مني بأنه (ليس عندي ما يوجب لي مغفرتك . . .) هذا واضح ، وقد تقدم مرات (1) . (وانطقني بالهدى) لا بالجهل ، والضلال ، والهوى . وفي نهج البلاغة : «اللسان سبع إن خلي عنه عقر» (2) (وألهمني التقوى) وهي بمعنى العدل كما سبقت الإشارة ، وأصدق علامة تدل عليها ، وعليه أن تكبح هواك عن الحرام حيث لا أحد يراك إلا الله .


لا هدف من الدين إلا الإنسان

(ووفقني للتي هي أزكى) وأقدس الأعمال ، وأنماها ما فيه مصلحة الفرد ، أو الجماعة . . . أبداً لا هدف للدين إلا الإنسان ، وخيره ، وإسعاده ، والمساواة بين جميع أفراده في الحقوق ، ولاواجبات : «وقيل للذين اتقوا ماذآ أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الأخرة خير ولنعم دار المتقين» (3) ، ومعنى هذا
(1) انظر ، على سبيل المثال لا الحصر ، الدعاء الثالث عشر ، والسادس عشر . (منه قدس سره) .
(2) انظر ، نهج البلاغة : 4 / 15 ، الحكمة (60) ، شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي : 7 / 90 و : 18 / 196 ، عيون الحكم والمواعظ : 246 ، وفي لفظ : (إن أطلقته عقر) .
(3) النحل : 30 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 271

أن كل ما فيه للناس خير ، وصلاح فهو من الإسلام في الصميم ، وأيضاً معنى هذا أن الإسلام لا يرفض سائر الأديان ، والفلسفات . ومذاهب جملة ، وتفصيلا ، بل يرفض ما فيها من شر ، وضرر ، ويقر ما فيها من خير ، ونفع ، ونجد هذا صريحاً واضحاً في العديد من الآيات بالإضافة إلى آية الخير السابقة ، ومن ذلك : «ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث» (1) . . . وقال تعالى : «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر» (2) . ومن أوضح الواضحات في الدلالة على هذه الحقيقة قول الإمام عليه السلام ونعيده مرة ثانية : (أللهم وأنطقني بالهدى ، وألهمني التقوى ، ووفقني للتي هي أزكى ، واستعملني بما هو أرضى . أللهم اسلك بي الطريقة المثلى) وهل من شيء عند الله سبحانه أتقى ، وأبقى ، وأزكى ، وأرضى من العمل لحياة أفضل ؟ .
(وأجعلني على ملتك أموت ، وأحيى) الملة : الدين ، والحياة عليه : الدوام ، والإستمرار على أداء فرائضه ، واجتناب محارمه حتى النفس الأخير . وفي نهج البلاغة : «فمن الإيمان ما يكون ثابتاً مستقراً في القلوب ، ومنه ما يكون عواري بين القلوب ، والصدور إلى أجل معلوم» (3) وعن الإمام الصادق عليه السلام ما معناه : «من اتفقت أقواله مع أفعاله فإيمانه مستقر ، ومن خالفت أقواله أفعاله فإيمانه عارية» (4)
(1) الأعراف : 157 .
(2) البقرة : 185 .
(3) انظر ، نهج البلاغة : 1 / 386 ، الخطبة (189) ، شرح النهج لابن أبي الحديد : 13 / 101 ، ينابيع المودة : 3 / 452 ، عيون الحكم والمواعظ : 360 ، شرح اصول الكافي : 8 / 105 .
(4) انظر ، أمالي الطوسي : 528 قريب منه ولكن عن الرسول صلى الله عليه وآله ، مكارم الأخلاق : 460 ، بحار الأنوار : 74 / 77 ، كنز العمال : 10 / 307 ، تفسير القرطبي : 14 / 330 ، ولكن نسبه إلى ابن العربي بلفظ : (إن كلام المرء بذكر الله إن لم يقترن به عمل صالح لم ينفع ؛ لأن من خالف قوله فعله
في ظلال الصيحيفة السجادية 272

(ومتعني بالاقتصاد) اجعلني من «والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً» (1) والقوام : الوسط ، والإستقامة (واجعلني من أهل السداد) من أهل الحق ، والصدق في القول ، والفعل (ومن أدلة الرشاد) من خزنة العلم ، وحفظته (ومن صالحي . . .) السامعين المطيعين لأمرك ، ونهيك ، والداعين لدينك ، وصراطك (وارزقني فوز المعاد) بمرضاتك ، وجنتك (وسلامة المرصاد) أي سلامة من جهنم حيث أطلق سبحانه كلمة مرصاد عليها في الآية : «إن جهنم كانت مرصاداً» (2) .
أللهم خذ لنفسك من نفسي ما يخلصها ، وأبق لنفسي من نفسي ما يصلحها ؛ فإن نفسي هالكة ، أو تعصمها .
أللهم أنت عدتي إن حزنت ، وأنت منتجعي إن حرمت ، وبك استغاثتي إن كرثت ، وعندك مما فات خلف ، ولما فسد صلاح ، وفيما أنكرت تغيير ؛ فامنن علي قبل البلآء بالعافية ؛ وقبل الطلب بالجدة ، وقبل الضلال بالرشاد ، واكفني مؤونة معرة العباد ، وهب لي أمن يوم المعاد ، وامنحني حسن الإرشاد .
(خذ لنفسك من نفسي ما يخلصها ، وأبق لنفسي من نفسي ما يصلحها) بعض الناس ينسى نصيبه من الدنيا ، وينصرف بكله إلى العبادة صياماً ، وقياماً ، ومن أقوال الصوفية ، أو شطحاتهم : «تخل عن نفسك ، وتعال» ! (3) وكيف يتخلى الإنسان
(1) الفرقان : 67 .
(2) النبأ : 21 .
(3) انظر ، كراس هذه هي الصوفية : 84 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 273

عن معدته ، وغريزته ؟ وفي المقابل يتعبد البعض الآخر للدنيا كل التعبد ، ويؤثرها على دينه ، وآخرته ، والأول أفرط ، وأفسد بطغيان آخرته على دنياه ، والثاني قصر ، وأضر بطغيان دنياه على آخرته ! والإمام عليه السلام يقف موقفاً وسطاً بين هذين ، ويقول بأسلوب الدعاء : «إن خلاص النفس ، ونجاتها من غضب الله ، وعذابه ، بفعل الواجبات ، وترك المحرمات ، وكفى» (1) . وهذا معنى قوله : (خذ لنفسك من نفسي ما يخلصها) ، ومتى أدت النفس لله تعالى كل ما عليها ، فلها أن تسرح ، وتفرح بزينة الحياة الدنيا ، والطيبات من الرزق كما نصت الآية : «قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين ءامنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون» (2) . وبهذا نجد تفسير قوله : «وأبق لنفسي من نفسي ما يصلحها» وفيه إيماء إلى أن النفس لا تصلح بالضغط ، والحرمان ، ومن هنا جاء النهي في قوله تعالى : «وابتغ فيمآ ءاتاك الله الدار الأخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا و أحسن كمآ أحسن الله إليك» (3) .
أما قول الإمام عليه السلام : (فإن نفسي هالكة ، أو تعصمها) فمعناه أن التوازن ، والتعادل بين كفة العمل للآخرة ، وكفة العمل للدنيا صعب مستصعب إلا بحبل من الله ، وتوفيقه (أللهم أنت عدتي إن حزنت) أنت المفزع ، والملجأ إن اشتدت الأزمات ، وضاقت الحلقات (وأنت منتجعي) المنتجع : الموضع الذي يقصده المحاويج (وبك استغاثتي إن كرثت) لا أستغيث إلا بك إن نزلت بي كارثة (وعندك مما فات خلف) إذا افتقد عبدك نعمة عوضته بغيرها ، وفي الأمثال : يد تشج ،
(1) تقدم إستخراجه .
(2) الأعراف : 32 .
(3) القصص : 77 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 274

وأخرى تأسو (1) . وفي الأشعار : لنا علم ، وللجهال مال . وفي نهج البلاغة : «فكم من منقوص رابح ، ومزيد خاسر! » (2) (ولما فسد صلاح) لكل داء دواء إلا الحماقة ، والهرم حتى الأدمغة السوداء تداوى بعملية غسل الدماغ (وفيما أنكرت تغيير) أنت القادر بتوفيقك ، وهدايتك أن تغير ما تنكره مني ، ومن أفعالي إلى ما تحب ، وترضى .
(فامنن علي قبل البلآء بالعافية) اعفني من كل مكروه ، وارفعه عني قبل أن يقع (وقبل الطلب بالجدة) : بالغنى ، أي اغنني بخيرك عن غيرك كيلا اشتغل بطلب الرزق عن عبادتك (وقبل الضلال بالرشاد) اهدني سبيل الرشاد قبل أن أضل ، وأشقى (واكفني مؤونة معرة العباد) المؤنو : المشقة ، والمعرة : العيب ، والمعنى ادفع المشقة ، والشدة التي تنالني من لغو الناس ، وعيبهم علي بالفقر ، ونحوه (وهب لي أمن يوم المعاد) أي الأمن من أهواله ، وأثقاله (وامنحني حسن الإرشاد) إلى الحق ، والصواب .
أللهم صل على محمد وآله ، وادرأ عني بلطفك ، واغذني بنعمتك ، واصلحني بكرمك ، وداوني بصنعك ، وأظلني في ذراك ، وجللني رضاك ، ووفقني إذا اشتكلت علي الأمور لأهداها ، وإذا تشابهت الأعمال لأزكاها ، وإذا تناقضت الملل لإرضاها .
أللهم صل على محمد وآله ، وتوجني بالكفاية ، وسمني حسن
(1) انظر ، كتاب الأمثال البغدادية : 421 .
(2) انظر ، نهج البلاغة : 1 / 225 ، الخطبة (140) ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 7 / 251 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 275

الولاية ، وهب لي صدق الهداية ، ولا تفتني بالسعة ، وامنحني حسن الدعة ، ولا تجعل عيشي كداً كداً ، ولا ترد دعائي علي رداً ؛ فإني لا أجعل لك ضداً ولا أدعو معك نداً .
هذا جزء من الدعاء ، والبقية منه مجرد توكيد ، وتكرار لما سبق (1) . لذا نجمل هنا ، ولا نفصل (أللهم وادرأ عني بلطفك) ادفع عني كل مكروه ببرك ، وإحسانك (واغذني) من الغذاء . وفي روايات الأئمة الأطهار : «غذانا رسول الله صلى الله عليه وآله بعلم الله تبارك وتعالى ، فعلمنا تأويل القرآن ، ومشكلات الأحكام» (2) . (بنعمتك) تعم ، وتشمل العصمة عن الخطأ ، والخطيئة (وأصلحني بكرمك) سبق في أول هذا الدعاء : «أللهم لا تدع خصلة تعاب مني إلا أصلحتها» (وداوني بصنعك) المراد بالمداواة هنا الصحة ، والسلامة من كل آفة ، وشدة ، والصنيعة : الإحسان (وأظلني في ذراك) المراد بالظل هنا العز ، والسلطان ، وبالدرى الحفظ ، والحرز ، والمعنى احفظني بحفظك ، واحرزني ، وامنع عني بعزك ، وسلطانك (وجللني رضاك) اغمرني برضاك ، ولا تستعملني إلا فيها تحب (ووفقني إذا اشتكلت) التبست ، واشتبهت (علي الأمور لأهداها) لأقربها إلى الحق ، والصواب (وإذا تشابهت الأعمال لأزكاها) لأنفعها دنياً ، وآخرة (وإذا تناقضت الملل) : المذاهب (لأرضاها) لما فيها من الخير ، والرشد ، والصواب .
(وتوجني بالكفاية) اكفني ما يشغلني الاهتمام به (وسمني) من السوم بمعنى الإرادة أي أرد لي (حسن الولاية) على من ، وما تحت يدي (وهب لي صدق الهداية) ثبتني عليها ، وعلى العمل بموجبها حتى ألقاك هادياً ، مهدياً (ولا تفتني
(1) انظر ، الدعاء السادس : فقرة التكرار في الأدعية .
(2) انظر ، الإحتجاج للطبرسي : 1 / 417 ، بحار الأنوار : 44 / 94 ، صحيفة الإمام الحسين : 282 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 276

بالسعة) أبعدني ، إذا أنا استغنيت ، عن البغي ، والبطر ، والتضاهي ، والتباهي (وامنحني حسن الدعة) : رغد العيش (ولا تجعل عيشي كداً كداً) جهداً ، وتعباً ، وشقاءً ، ووصباً (ولا ترد دعائي علي رداً) مخالفاً (ولا أدعو معك نداً) مماثلاً ، بل أعبدك ، وأدعوك وحدك لا شريك لك ، آمنت بك ، وبرئت ممن عبد سواك .
أللهم صل على محمد وآله ، وامنعني من السرف ، وحصن رزقي من التلف ، ووفر ملكتي بالبركة فيه ، وأصب بي سبيل الهداية للبر فينا انفق منه .
أللهم صل على محمد وآله ، واكفني مؤونة الاكتساب ، وارزقني من غير احتساب ، فلا أشتغل عن عبادتك بالطلب ، ولا أحتمل إصر تبعات المكسب . أللهم فأطلبني بقدرتك ما أطلب ، وأجرني بعزتك مما أرهب .
أللهم صل على محمد وآله ، وصن وجهي باليسار ، ولا تبتذل جاهي بالإقتار فأسترزق أهل رزقك ، وأستعطي شرار خلقك ، فأفتتن بحمد من أعطاني ، وابتلى بذم من منعني ، وأنت من دونهم ولي الإعطاء ، والمنع .
أللهم صل على محمد وآله ، وارزقني صحة في عبادة ، وفراغاً في زهادة ، وعلماً في استعمال ، وورعاً في إجمال .
(وامنعني من السرف) : التبذير ، قال سبحانه : «إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفوراً» (1) (ووفر ملكتي بالبركة فيه) المراد
(1) الإسراء : 27 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 277

بالملكة هنا الملك يقال : هو ملكة يميني أي أملكه ، وأقدر على التصرف فيه ، والمعنى أكمل ، وأتمم البركة فيما رزقني ( وأصب بي سبيل الهداية للبر فيما انفق منه ) خذ بيدي ، ووفقني أن أضع المال في موضعه . قيل للإمام علي عليه السلام صف لنا العاقل ؟ فقال : « هو الذي يضع الشيء مواضعه . فقيل له : صف الجاهل ؟ قال : قد فعلت » (1) . وسبق الكلام عن ذلك (2) .
( واكفني مؤونة الاكتساب ) المراد بالمؤنة هنا الشدة ، والمشقة ، والمعنى سهل علي طريق العمل لاكتساب الرزق ، ولا تجعله كداً كداً كما تقدم قبل لحظة ، ويأتي في الدعاء (3) . ( وأتضرع إليك في أن تسهل إلى رزقي سبيلاً ) أي تسهل السبيل إلى رزقي . وأي عاقل يتصور أن رزقه يأتيه دون أن يبذل أي جهد ؟ ومتى أمطرت السماء عسلاً ، وسمناً ؟ قال سبحانه : « هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور » (4) . ( وارزقني من غير احتساب ) اقتباس من قوله تعالى : « ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً » (5) ، وقال الإمام الصادق عليه السلام في تفسيره هذه الآية : « أي ان الله سبحانه يبارك له فيما آتاه » (6) .
(1) انظر ، نهج البلاغة : 4 / 52 ، الحكمة ( 235 ) ، شرح نهج البلاغة للمعتزلي : 19 / 66 ، جواهر المطالب في مناقب الإمام علي ، لابن الدمشقي : 165 ، بحار الأنوار : 1 / 160 ح 36 ، نهج السعادة : 8 / 187 .
(2) انظر ، الدعاء السادس عشر : فقرة لا يوضع المال إلا في واجب ، ( منه قدس سره ) .
(3) انظر ، الدعاء الثاني والثلاثون .
(4) الملك : 16 .
(5) الطلاق : 3 .
(6) انظر ، تفسير مجمع البيان : 10 / 43 و 306 ، التفسير الأصفى : 2 / 1316 ، نور الثقلين : =
في ظلال الصيحيفة السجادية 278


( ولا أحتمل إصر . . . ) عطف تفسير ، وتكرار على اكفني مؤنة الاكتساب ، لأنه معنى الإصر المؤنة ، وهي الشدة ، والمشقة كما أشرنا ( أللهم فأطلبني بقدرتك ما أطلب ) كن معي في قدرتك ، وأنا أجلب الرزق ، وأسعى إليه ( وأجرني بعزتك . . . ) احفظني بسلطانك ، وفضلك مما أحذر ، وأخاف .


الفقر

( وصن وجهي باليسار . . . ) صيانة الوجه : حفظه من التعرض للسؤال . وقديماً قيل : « السؤال ذل ولو أين الطريق » ؟ (1) والإقتار : الضيق في النفقة . وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : « أعوذ بك من الفقر ، والفاقة » (2) . . . « كاد الفقر يكون كفراً » (3) . وقال الإمام علي عليه السلام : « الفقر الموت الأكبر ، والأحمر » (4) . . . « لو كان الفقر رجلاً لقتلته » (5) ( ( فأسترزق أهل رزقك . . . ) الإمام عليه السلام لا يسترزق ، ولا يستعطف مخلوقاً على الإطلاق مهما كانت الظروف ، وتكون ، ولا يمدح من لا يستحق ، وإن أعطاه الدنيا بكاملها ، ولا يذم من هو أهل للمدح ، وإن أساء لشخصه ، ولكنه أراد التعريض بمن
= 5 / 375 ، تفسير القرطبي : 18 / 160 ، ولكن لم ينسبه إلى الإمام الصادق عليه السلام ، وفتح القدير شرح الجامع الصغير : 5 / 242 .
(1) انظر ، كشف الخفاء : 1 / 415 ، تحت الرقم ( 1327 ) وذكره النلجم : ( الدين ولو درهم ، والبنت ولو مريم . . . ) .
(2) انظر ، الكافي : 2 / 526 و : 4 / 464 ، شرح اصول الكافي : 10 / 337 ، أمالي المفيد : 244 .
(3) انظر ، الكافي : 2 / 307 ح 4 ، شرح اصول الكافي : 9 / 318 ، مسند الشهاب : 1 / 342 ، الجامع الصغير : 2 / 266 ، كنز العمال : 6 / 492 ح 16682 ، الدعاء للطبراني : 320 ، تحفة الأحوذي : 7 / 17 و : 10 / 45 .
(4) انظر ، المحاسن : 1 / 218 ، الخصال : 620 ، تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة : 189 .
(5) لم أعثر على هذه الحكمة .
في ظلال الصيحيفة السجادية 279

يفعل ذلك .
وبعد ، فإن الإسلام يرى الفقر من أفتك الأدواء الإجتماعية ، ولا صلة له بصفات الإنسان الفرد ، وشخصيته ، ولذا أعلن الثورة على المحتكرين ، والمستغلين ، وعلى كل نظام يؤدي إلى الفقر ، والقهر . وتقدم قول الإمام الصادق عليه السلام : « إن الناس ما افتقروا ، ولا احتاجوا ، ولا عروا إلا بذنوب الأغنياء » (1) .
( وارزقني صحة في عبادة ) خالصة لوجهك الكريم تماماً كعبادة الأحرار ( وفراغاً في زهادة ) إن صادفتني ساعة فراغ ، وبطالة فزهدني ، وأبعدني عما يوجب العقاب ، والعذاب ( وعلماً في استعمال ) وفقني للعمل بما أعلم . وفي الحديث : « العلماء رجلان : رجل عالم آخذ بعلمه ، فهذا ناج ، وعالم تارك لعلمه ، فهذا هالك » (2) . وعن الإمام الصادق عليه السلام : « إن في جهنم ( خمساً ) أفلا تسألون ما طحنها ؟ فقيل له : فما طحنها يا أمير المؤمنين ؟ قال : العلماء الفجرة ، والقراء الفسقة ، والجبابرة الظلمة ، والوزراء الخونة ، والعرفاء الكذبة » (3) . ( وورعاً في إجمال ) في اعتدال بلا تحجر ، وتزمت ، أو وسوسة أشبه بالسفاهة ، والحماقة .
أللهم اختم بعفوك أجلي ، وحقق في رجاء رحمتك أملي ، وسهل إلى بلوغ رضاك سبلي ، وحسن في جميع أحوالي عملي .
(1) انظر ، الرسالة السعدية : 157 ، وسائل الشيعة : 6 / 4 ، من لا يحضره الفقيه : 2 / 7 ، مدارك الأحكام : 5 / 8 .
(2) انظر ، إرشاد الأذهان : 1 / 15 ، الكافي : 1 / 44 ح 1 ، الخصال : 51 ، شرح اصول الكافي : 2 / 139 ، منية المريد / 146 ، المعالم : 18 .
(3) انظر ، الخصال : 296 ، ثواب الأعمال : 253 ، روضة الواعظين : 507 ، مستدرك الوسائل : 4 / 251 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 280

أللهم صل على محمد وآله ، ونبهني لذكرك في أوقاف الغفلة ، واستعملني بطاعتك في أيام المهلة ، وانهج لي إلى محبتك سبيلاً سهلة أكمل لي بها خير الدنيا ، والآخرة .
أللهم وصل على محمد وآله كأفضل ما صليت على أحد من خلقك قبله ، وأنت مصل على أحد بعده ، وآتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقني برحمتك عذاب النار .
( أللهم اختم بعفوك أجلي ) أي عمري ، وأيام حياتي ، ومن أحسن فيما مضى ، وأساء فيما بقي فهو من الأخسرين أعمالاً ، والعكس بالعكس ، ولذا قيل : « الأمور بخواتيمها » (1) ، ولا خاتمة لحياة الإنسان أحمد من مرضاة الله تعالى ، ولا مصير أكرم ، وأعظم من عفوه ( وحقق في رجاء رحمتك أملي ) لا تقطع رجائي من رحمتك ، ولا تخيب أملي من فضلك ( وسهل إلى بلوغ رضاك سبلي ) أسلك بي سبل الهداية إلى العمل بما تحب ، وترضى ( وحسن في جميع أحوالي عملي ) أبقني في عنايتك ، ولا تخرجني عن طاعتك في جميع أطواري ، وأدواري في سري ، وعلانيتي ، وفرحي ، وحزني ، وبؤسي ، ونعيمي ، وشبابي ، وهرمي . قال الإمام الصادق عليه السلام : « إنما المؤمن إذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق ، وإذا رضي لا يدخله رضاه في باطل » (2) .
( ونبهني لذكرك في أوقات الغفلة ) مهما نسيت ، وغفلت عن أي شيء فلا
(1) انظر ، السير الكبير للشيباني : 1 / 226 ، تفسير الميزان : 9 / 361 .
(2) انظر ، الكافي : 2 / 233 ، شرح اصول الكافي : 9 / 161 ، عيون الحكم والمواعظ : 211 ، نزهة الناظر وتنبيه الخاطر : 109 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 10 / 159 ، الإختصاص للشيخ المفيد : 233 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 281

تجعلني ناسياً لإحسانك ، وغافلاً عن شكرك ، وحمدك ( واستعملني بطاعتك في أيام المهلة ) وهي مدة العمر ؛ لأن الأعمال تختم بالموت . وتقدم في الدعاء : « وقني من المعاصي ، واستعملني بالطاعة » (1) ( وانهج لي إلى محبتك سبيلاً سهلة . . . ) أوضح لي أقرب السبل ، وأسهلها ، وأكملها إلى ما فيه رضاً لك ، وطاعة ، ولي خير ، وصلاح دنياً ، وآخرة .
( وصل على محمد . . . ) أللهم صل على محمد وآله الطيبين الطاهرين ( وآتنا في الدنيا حسنة ) ومن حسناتها الصحة ، والأمان ( وفي الآخرة حسنة ) وأحسن حسناتها الزحزحة عن عذاب الحريق ، وأنجح السبل إلى هذه السعادة ، وأقربها كف الأذى عن عباد الله ، وعياله .
(1) انظر ، الدعاء السادس عشر . ( منه قدس سره ) .
في ظلال الصيحيفة السجادية 282




السابق السابق الفهرس التالي التالي