في ظلال الصيحيفة السجادية 241

الدعاء التاسع عشر

دعاؤه في الاستسقآء

أللهم اسقنا الغيث ، وانشر علينا رحمتك بغيثك المغدق من السحاب المنساق لنبات أرضك المونق في جميع الآفاق ؛ وامنن على عبادك بإيناع الثمرة ، وأحي بلادك ببلوغ الزهرة ، وأشهد ملائكتك الكرام السفرة بسقي منك نافع دائم غزره ، واسع درره ، وابل سريع عاجل تحيي به ما قد مات ، وترد به ما قد فات ، وتخرج به ما هو آت ، وتوسع به في الأقوات ، سحاباً متراكماً هنيئاً مريئاً طبقاً مجلجلاً ، غير ملث ودقة ، ولا خلب برقه .
أللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريعاً ممرعاً عريضاً ، واسعاً غزيراً ترد به النهيض وتجبر به المهيض .
إذا قست الطبيعة ، والظروف على الإنسان ، وعجز العلم ، وشتى الوسائل عن العلاج ، والمقاومة ـ اتجه بكله تلقائياً إلى خالق الطبيعة ، وناداه خاشعاً متضرعاً . . . حتى فرعون الذي ادعى الربوبية اتجه إلى السماء حين أدركه الغرق ، وقال : « إذآ

في ظلال الصيحيفة السجادية 242

أدركه الغرق قال ءامنت أنه لآ إلا الذي ءامنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين » (1) وفي ذات سنة منعت السماء ماءها عن الأرض ، وأهلها فاستسقى الإمام عليه السلام بهذا الدعاء وقال : ( أللهم اسقنا الغيث ، وانشر علينا رحمتك بغيثك المغدق ) الغيث : المطر . وأغدق المطر : كثر قطره ( لنبات أرضك المونق ) من الأناقة بمعنى الحسن ، والجمال ( في جميع الآفاق ) : جمع أفق بمعنى الجهة ، والناحية ( وأشهد ملائكتك الكرام السفرة ) أي الكتبة ، قال سبحانه : « بأيدى سفرة كرام بررة » (2)وهم الذين يكتبون في الصحف المطهرة ، وطلب الإمام عليه السلام حضور هؤلاء السفرة ليسجلوا سحائب فضله ، ونعمه على عباده ( غزره ) من الغزارة بمعنى الكثرة ( طبقاً ) طبق السحائب الجو : ملأه ، وغطاه ( مجلجلاً ) الجلجلة : صوت الرعد ( غير ملث ودقة ) غير دائم مطهره ، وإلا أفسد الأرض بعد إصلاحها .
وعن النبي صلى الله عليه وآله أنه استسقى ، ولما استمر المطر قال : « أللهم حوالينا ، ولا علينا » (3) . ( مريعاً ممرعاً ) خصيباً مخصباً ( ترد به النهيض ) أي النبات الناهض
(1) يونس : 90 .
(2) عبس : 16 .
(3) جاء في الحديث أن أهل المدينة أصابهم قحط ، فبينا رسول الله صلى الله عليه وآله يخطب ، إذ قام إليه رجل ، فقال : هلك الكراع ، والشاء ، فادع الله أن يسقينا ، فمد رسول الله صلى الله عليه وآله يديه ، ودعاء ، قال أنس ، والسماء لمثل الزجاجة ، فهاجت ريح ، ثم أنشأت سحاباً ، ثم اجتمع ، ثم أرسلت السماء عزإليها (العزالي : جمع العزلاء ، وهو فم المزادة الأسفل ، فشبه اتساع المطر ، واندفاقه بالذي يخرج من فم المزادة . انظر ، النهاية لابن الأثير : 3 / 231 ) . فخرجنا نخوض الماء ، حتى أتينا قبل منازلنا ، فلم تزل تمطر إلى الجمعة الأخرى ، فقام الرجل ، أو غيره ، فقال ، يا رسول الله تهدمت البيوت ، واحتبس الركبان ، فادع الله أن يحبسه ، فتبسم رسول الله ثم قال : ( أللهم حوالينا ، ولا =
في ظلال الصيحيفة السجادية 243

المرتفع ( المهيض ) الكسير .


إرادة الله سبب الأسباب

وبعد ، فإذا كان الله سبحان يجري النتائج على مقدماتها ، والأمور على أسبابها ـ فإن إرادته تعالى سبب الأسباب توحيد الشيء من لا شيء ، فإذا انسدت الأبواب على المخلوق بالكامل لجأ مخلصاً إلى السبب الأول ، وهو سبحانه يمده من فضله ، وإحسانه . وأعرف بعض علماء جبل عامل صلى في الجماهير صلاة الاستسقاء فاستجاب سبحانه ، وسالت جداول ، وأودية ، ونبت الزرع ، ودر الضرع .
أللهم اسقنا سقياً تسيل منه الظراب ، وتملأ منه الجباب ، وتفجر به الأنهار ، وتنبت به الأشجار ، وترخص به الأسعار في جميع الأمصار ، وتنعش به البهائم ، والخلق ، وتكمل لنا به طيبات الرزق ، وتنبت لنا به الزرع ، وتدر به الضرع ، وتزيدنا به قوة إلى قوتنا .
أللهم لا تجعل ظله علينا سموماً ، ولا تجعل برده علينا حسوماً ، ولا تجعل صوبه علينا رجوماً ، ولا تجعل ماءه علينا اجاجاً .
= علينا ) . فنظرت إلى السماء تتصدع حول المدينة كأنه إكليل . ( انظر ، سنن أبي داود : 1 / 304 ، سنن البيهقي : 3 / 356 ، منتهى المطلب للحلي : 1 / 331 و 354 ) . أما سبب هذه الصلاة فالجدب ، وقلة الأمطار ، وغور الأنهار ، ( انظر ، الام : 1 / 246 ، المغني : 2 / 283 ، الميزان للشعراني : 1 / 20 ، التذكرة : 4 / 203 ، الخلاف : 1 / 685 . وقد اتفقوا على أنه إذا تأخر السقي بعد الصلاة يستحب تكرارها ، وأن يصام لها ثلاثة أيام ، وأن يخرج الناس مشاة خاشعين متضرعين ، ومعهم الناسء ، والأطفال ، والشيوخ ، والعجائر ، والدواب ، ليكون ذلك أدعى لرحمة الله . انظر ، الام : 1 / 248 ، المجموع : 5 / 65 ، الخلاف : 1 / 686 ، التهذيب : 3 / 148 ، الذكرى : 4 / 250 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 244


أللهم صل على محمد وآل محمد ، وارزقنا من بركات السماوات ، والأرض ، إنك على كل شيء قدير .
( تسيل منه الظراب ) جمع ظرب بفتح الظاء ، وكسر الراء : الجبل الصغير أي الرابية ( الجباب ) جمع جب بضم الجيم ، وهو البئر .


التسعير

( وترخص به الأشعار ) إختلف الفقهاء في التسعير إذا وقع الغلاء ، والذي نراه أن الفوضى إذا عمت في الأسواق ، وتحكم التاجر بالمستهلك المضطر تبعاً لرغبته ، وشهوته ، وتجاوز كل حد ـ فللحاكم العادل أن يسعر مراعياً مصلحتي البائع ، والمستهلك ، أما حديث « إن الله هو المسعر » (1) المروي عن النبي صلى الله عليه وآله فهو أشبه بقول الخوارج : « لا حكم إلا لله » (2) أجل ، له الحكم ، والتسعير أصلاً ، وتشريعاً ، وللفقيه العمل تفريعاً ، وتطبيقاً ، كما في حديث : « علينا أن نلقي إليكم الاصول ، وعليكم أن تفرعوا » (3) ، وحكم الله هنا حماية المصالح العامة ، ورعايتها بدفع الضر ، والقضاء على الفوضى ، والإستغلال .
( وتنبت لنا به الزرع ، وتدر به الضرع ، وتزيدنا به قوة إلى قوتنا ) هذا اقتباس من قوله تعالى : « ويقوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السمآء عليكم مدراراً
(1) انظر ، الشرح الكبير لابن قدامة : 4 / 44 ، منتهى المطلب للعلامة الحلي : 2 / 1007 ، طبعة قديم ، مسند أحمد : 3 / 286 ، السنن الكبرى : 6 / 29 ، المعجم الصغير : 2 / 7 ، الدر المنثور : 1 / 313 .
(2) مأخوذ من الآية الكريمة : « إن الحكم إلا لله » ، الأنعام : 57 .
(3) انظر ، وسائل الشيعة ، الباب السادس من أبواب صفات القاضي ح 52 ، الحق المبين للفيض الكاشاني : 7 ، مستطرفات السرائر : 575 ، قوانين الاصول للميرزا القمي : 280 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 245

ويزدكم قوة إلى قوتكم » (1) . ( لا تجعل ظله علينا سموماً ) جمع سم ، والمعنى لا تجعل أثر المطر علينا ظاراً كالسم القاتل ( حسوماً ) : شراً ، وشؤماً ( ولا تجعل صوبه ) : نزوله ( رجوماً ) : عذاباً ( اجاجاً ) ملحاً .


إلا ما شاء الله

وأخيراً ، فإن الله سبحانه يتعامل مع عباده بإرادته التشريعية دون التكوينية ، ويسير الكون وفق نظام كامل ، ومطرد ، يستند في مسيره إلى نواميس ثابتة لا استثناء إلا ما شاء الله . ولا يشاء إلا بمقتضى علمه ، وحكمته ( أي حيث تدعو الحاجة ) وقد ربط نزول المطر بقانون طبيعي خاص ، فإذا شح هذا القانون لسبب ، أو لآخر ، وعطش عباد الله ، وعياله ، فلجأوا إليه مستغيثين ـ أنشأ لهم المطر إنشاءً ، وابتداه ابتداءً تماماً كما خلق الكون أول مرة بلا مواد طبيعية حيث كان ، ولم يكن معه شيء . وهكذا يشفي المريض الذي عجز عنه الطب ، والأطباء ، ويفتح باب العون ، والفرج للمكروبين ، والمعذبين الذين لا عم لهم ، ولا خال ، ولا شفيع ، ولا مال ، وما ذاك على الله بعزيز ، بل هو أقل القليل في قدرته ، ورحمته ، وبهذا يتبين لنا السر لتكرار قوله تعالى في العديد من الآيات الكونية ، وغيرها : « إلا ما شآء الله » وما في معناه .
(1) هود : 52 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 246

الدعاء العشرون

دعاؤه في مكارم الأخلاق

أللهم صل على محمد وآله ، وبلغ بإيماني أكمل الإيمان ، واجعل يقيني أفضل اليقين ، وانته بنيتي إلى أحسن النيات ، وبعملي إلى أحسن الأعمال . أللهم وفر بلطفك نيتي ، وصحح بما عندك يقيني ، واستصلح بقدرتك ما فسد مني .
أللهم صل على محمد وآله ، واكفني ما يشغلني الاهتمام به ، واستعملني بما تسألني غداً عنه ، واستفرغ أيامي فيما خلقتني له ، وأغنني ، وأوسع علي في رزقك ، ولا تفتني بالنظر ، وأعزني ، ولا تبتليني بالكبر ، وعبدني لك ، ولا تفسد عبادتي بالعجب ، وأجر للناس على يدي الخير ، ولا تمحقه بالمن ، وهب لي معالي الأخلاق ، واعصمني من الفخر .



( أللهم صل على محمد وآله ، وبلغ بإيماني أكمل الإيمان ) اصول الإسلام

في ظلال الصيحيفة السجادية 247

ثلاثة : الإيمان بالله ، ورسوله محمد ، واليوم الآخر بصرف النظر عن العمل ، ولك أن تضغط هذه الثلاثة في أصل واحد ، وهو الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله . أما الإيمان فهو عمل كله ، « ولا يقبل إيمان بلا عمل ، وعمل بلا إيمان » (1) كما قال الإمام الصادق عليه السلام برواية صاحب الكافي ، وفي نهج البلاغة ، وغيره : « الإيمان معرفة بالقلب ، وإقرار باللسان ، وعمل بالاركان » (2) وإن قال قائل : إن الله سبحانه قال : « وبشر الذين ءامنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل » (3) . والعطف دليل التغاير ، ومعنى هذا أن العمل ليس جزءاً من مفهوم الإيمان ـ قلنا في جوابه : المراد بالإيمان هنا مجرد التصديق تماماً كقوله تعالى حكاية عن أخوة يوسف : « ومآ انت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين » (4) أما أكمل الإيمان فهو أن يعمل حامله بموجب إيمانه ، ويؤثره على ميوله ، وأهوائه ، ويتجشم الصعاب من أجله لا لشيء إلا طاعة لأمر الله .
( واجعل يقيني أفضل اليقين ) وهو العلم بالشيء كما هو في واقعه ، ولا يحتمل النقيض بحال تماماً كيقين الإمام أمير المؤمنين الذي قال : » لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً « (5) ، ويقين الذين وصفهم بقوله : » فهم والجنة كمن رآها ، فهم فيها
(1) انظر ، الكافي : 2 / 24 ، كنز العمال : 1 / 68 ح 260 ، مجمع الزوائد : 1 / 35 ، الجامع الصغير : 2 / 758 .
(2) انظر ، نهج البلاغة : 4 / 50 ، الحكمة ( 227 ) ، عيون أخبار الرضا : 1 / 133 ، شرح اصول الكافي : 1 / 218 ، المعجم الأوسط : 6 / 226 و : 8 / 262 ، شرح النهج لابن أبي الحديد : 19 / 51 ، سنن ابن ماجه : 1 / 26 .
(3) البقرة : 25 .
(4) يوسف : 17 .
(5) انظر ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 7 / 253 ، الكافي : 4 / 554 ، عيون الحكم =
في ظلال الصيحيفة السجادية 248

متكئون ، وهم والنار كمن رآها ، فهم فيها معذبون ، قلوبهم محزونة ، وشرورهم مأمونة » (1) .
( وانته بنيتي إلى أحسن النيات ، وبعملي إلى أحسن الأعمال ) النية مصدر العمل ومفتاحه ، وبها يقاس ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر لحديث « إنما الأعمال بالنيات إنما لكل امرئ ما نوى » (2) أما حسن النية فالمراد به أن تكون خالصة لوجه الله وحده ، بعيدة عن شائبة الرياء غير متطلعة إلى جزاء ، او ثناء تماماً كما قال سبحانه حكاية عن الأبرار ، والآل الأطهار : « لا نريد منكم جزآءً ولا شكوراً » (3) ( اللهم وفر بلطفك نيتي ) الوفر : كثرة المال . والمراد به هنا التمام ، والمال من كل الوجوه . من جهة حب الخير لكل الناس ، وجهة السلامة من الحقد ، والحسد ، والتضحية بكل نفيس في نصرة الحق ، ومقاومة الباطل ، وأهله . . وغير ذلك من السير على صراط الخير ، والحق ، والإخلاص . قال غاندي في كتاب هذا مذهبي : « الله هو يبنوع الصفاء والحياة . . . الله هو الضمير ، بل حتى هو الألحاد في الملحد » (4) يريد الإخلاص لما يعتقد .
= والمواعظ : 415 ، شرح مئة كلمة لابن ميثم البحراني : 52 ، شرح اصول الكافي : 3 / 173 و : 6 / 231 ، ينابيع المودة : 65 .
(1) انظر ، أمالي الصدوق : 667 ، الهم والحزن لابن أبي الدنيا : 69 ، ينابيع المودة : 3 / 226 ، كنز الفوائد : 32 .
(2) انظر ، صحيح البخاري : 1 / 92 ح 53 و : 7 / 58 ، صحيح مسلم : 3 / 1515 ح 155 , سنن الترمذي : 4 / 154 ح 1647 ، سنن أبي داود : 2 / 269 ح 2201 ، سنن النسائي : 1 / 58 ، سنن ابن ماجه : 2 / 1413 ح 4227 ، السنن الكبرى : 7 / 341 ، التهذيب : 4 / 186 ح 518 .
(3) الإنسان : 9 .
(4) انظر ، كتاب هذا مذهبي لغاندي : 215 ، ( منه قدس سره ) .
في ظلال الصيحيفة السجادية 249


( وصحح بما عندك يقيني ) وصحة اليقين عند الإمام عليه السلام أن يكون علمه بحلال الله ، وحرامه معصوماً عن الخطأ ( واستصلح بقدرتك ما فسد مني ) أسألك الهداية ، والتوفيق لما في صلاح دنياي ، وآخرتي ( واكفني ما يشغلني الاهتمام به ) افتح لي باب رزقك الواسع ، لأنصرف بكلي إلى العمل بطاعتك ، ومرضاتك .


المسؤول عنه غداً

( واستعملني بما تسألني غداً عنه ) لا يسأل سبحانه غداً و يحاسب إلا على فعل الحرام ، وترك الواجب .
وتسأل : قوله تعالى : « إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً » (1) . يدل بظاهره على العموم ، والشمول لكل خاطر ، ومنظور ، ومسموع حتى ولو كان مباحاً ، ومثله في العموم حديث : « يسأل المرء غداً عن عمره فيما أفناه ، وجسمه فيما أبلاه ، وماله فيما اكتسبه ، وفيما أنفقه » (2) .
الجواب : إن المسؤول هنا هو العاصي ، والمطيع والهدف من السؤال الثواب ، والعقاب ، ولا طاعة ، ومعصية إلا مع الواجب ، والحرام ، ,وعليه يكون المراد بالآية والحديث ، وغيرهما من نصوص الباب ، خصوص الأفعال التي بها يستحق الثواب ، أو العقاب ، ومهما يكن فعلينا أن ننتفع بهذه الحكمة البالغة فلا نتجشم البحث عن
(1) الإسراء : 36 .
(2) انظر ، المعجم الكبير : 11 / 84 ح 11177 ، شرح الأخبار : 2 / 508 ح 898 ، المعجم الأوسط : 9 / 155 ح 9406 ، جامع الأخبار : 499 ح 1384 ، المناقب لابن المغازلي : 120 ح 157 ، فرائد السمطين : 2 / 301 ح 557 ، أمالي الصدوق : 42 ح 9 ، الخصال : 253 ح 125 ، تحف العقول : 56 مرسلاً ، تنبيه الخواطر : 2 / 75 ، أمالي الطوسي : 593 ح 1227 ، روضة الواعظين : 549 مرسلاًَ .
في ظلال الصيحيفة السجادية 250

أشياء لا نسأل عنها غداً ، ولا تمت إلى الحياة بسبب ، كالبحث والسؤال عن طول ءادم ، وقصره ، ووزنه ، وعن نوع الشجرة التي أكل منها ، ومكان الجنة التي كان فيها ، والأرض التي هبط عليها ، وعن خلق الملائكة ، والجن ، ولون عصا موسى ، وطول نخلة مريم ، وعيسى . . . وما إلى ذلك من مضغ الكلمات ، ومضيعة الأوقات .


خلق الإنسان للعلم ، والعمل

( واستفرغ أيامي فيما خلقتني له ) ما خلق الإنسان للظفر بالملذات ، ولا للتباهي بالمظاهر ، ولا للصراع ، والحرب ، والاغتيال ، ولا للتنافس ، والغش ، والنفاق ، أو للإحتكار ، وجمع المال ، أو لتتبع عيوب إخوانه ، وعوراتهم ، أو لتعدد المذاهب ، والأحزاب ، وما إلى ذلك من أسواء ، وتصرفات هوجاء . وإنما خلق ليعمل بوحي العقل ، وشريعة العدل لا بالميول ، والأهواء ، وأنظمة الإضطهاد ، والإستغلال ، خلق الإنسان للعلم النافع ، والتعارف ، والتعاون على بناء حياة فاضلة كاملة . قال خالق العباد لعباده : « وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب » (1) وكلمة « تعاونوا » تشمل التعاون بين الأفراد ، ومع الجماعة . وكل ما فيه صلاح ، وإصلاح للحياة فهو بر ، والمراد بالتقوى هنا الإخلاص ، وأن يتسم العمل ، والتعاون بطابع العقيدة ، وإنسانيتها ، ولا إثم أسوأ أثراً من الشتات ، والتفرقة ، والتحزب ، والتعصب ، وأقسى مظاهر العدوان وضع الإنسانية بكاملها على حافة الجحيم ، وتهديدها بالفناء ، والإبادة بالأسلحة النووية الجهنمية .
( وأغنني ، وأوسع علي في رزقك ) سهل علي سبل الرزق ، والرضا بالميسور
(1) المائدة : 2 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 251

( ولا تفتني بالنظر ) أي بالتطلع إلى ما في أيدي الناس . ومن دعاء لرسول الله صلى الله عليه وآله : « أللهم اعوذ بك من الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، ومن الخوف إلا منك » (1) ( وأعزني ) بك لا بسواك ؛ فإن الاعتزاز به ذل ، وهوان .


كلنا جاهل بنفسه

( ولا تبتليني بالكبر ) الكبر ، والعجب يعمي حتى عن المحسوسات ، والمسلمات ، وإليك هذا المثال من كتاب صيد الخاطر لابن الجوزي : « قال الحجاج : والله لا أرجو الخير إلا بعد الموت » (2) أي أن الله قد ادخر الخير للحجاج إلى يوم القيامة ؛ لأنه تقرب إلى الله بمعصية الله ، وطلب رضاه بغضبه ! ! ولا تعجب من هذا التناقض ، فكم من مغرور ظن جهله عين اليقين ، وخطأه نفس الصواب ، وتوهم انه من عباد الرحمن ، وهو من حزب الشيطان . . . وأخيراً كلنا لا يعرف نفسه على حقيقتها . والمناسبة قال كنفشيوس : « لا تتصور نفسك كبيراً كي لا يصبح الناس عندك صغاراً » (3) .
( وعبدني لك ) اجعل عبادتي خالصة لوجهك الكريم كي استحق بها جزيل ثوابك ( ولا تفسد عبادتي بالعجب ) والعجب أمام الناس أن يمشي بينهم كالطاووس ، أما العجب في العبادة فهو أن يشعر بالتفوق فيها ، وأنه أول العابدين ، وأصلح الصالحين ! ولا فرق بين من أعجب بصومه ، وصلاته ، ومن أعجب بجاهه ، وماله ، كل منها ذميم ، وكريه عند الله ، والناس ، واختلف الفقهاء : هل يفسد
(1) تقدم إستخراجه .
(2) تقدم إستخراجه .
(3) دراسات في التعليم الثانوي المقارن الدكتور محمد جواد رضا : 11 طبعة بغداد 1962 م .
في ظلال الصيحيفة السجادية 252

العجب العبادة ؟ قيل : أجل إنه فاسد ، ومفسد . وقيل : هو فاسد غير مفسد ، ولكنه مسقط للأجر ، والثواب (1) ! ولو كنت من الأقوام الذين أعجبتهم لصححت أعمال المتعجرفين . . . وفي شتى الأحوال فلا بأس بمجرد السرور ، والإبتهاج بالطاعة ، والعبادة ، فإنه تماماً كفرحة البشرى بالسلامة ، والعافية .


صانع المعروف

( وأجر للناس على يدي الخير . . . ) كل عاقل يود بفطرته أن يكون محسناً لا مسيئاً ، وهل من شيء أعظم من صنع الخير للناس ، وأن يجري على يدك خلاص المكروبين من المصائب ، والشدائد ؟ قال سبحانه : « فأما الزبد فيذهب جفآء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض » (2) ، وقال تعالى : « ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً » (3) . وجاء في الروايات : « أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة ، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة » (4) . . . « اصنع المعروف إلى أهله ، وإلى غير أهله ، فإن أصبت أهله أصبت من هو أهله ، وإذا لم تصب تصب أهله كنت أنت من أهله » (5) .
( وهب لي معالي الأخلاق ) إن حياة الانسانية لا تستقيم ، وتنسجم ،
(1) انظر ، كتاب الطهارة للسيد الخوئي : 5 / 41 ، مصباح الفقيه لرضا الهمداني : 1 / ق 1 / 121 .
(2) الرعد : 17 .
(3) المائدة : 32 .
(4) انظر ، الكافي : 4 / 29 ، دعائم الإسلام : 2 / 321 ، المصنف لمحمد بن أبي شيبة : 6 / 102 ، كتاب الزهد لحسين بن سعيد الأهوازي : 31 ، تأريخ مدينة دمشق لابن عساكر : 7 / 228 .
(5) انظر ، كشف الخفاء للعجلوني : 1 / 133 ، حياة الإمام الرضا لباقر شريف القرشي : 268 ح 146 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 253

وشرورها لا تنتهي ، وتنحسم إلا برعاية الحق ، والعدل ، والمساواة . . . لقد بلغ العلم المعملي ، والتقدم المادي الغاية ، والنهاية ، فهل ربحت الإنسانية شيئاً من هذا التقدم ؟ كلا ، العكس هو الصحيح ، فأين القيادة الصالحة ، والعدالة الإحتماعية ، والسلام ، والرفق بالإنسان ؟ وأين الرخاء ، والحب ، والإخاء ؟ أبداً لا شيء سوى الموت ، والإذلال ، والحرمان ، وتشريد الشعوب ، وتكثير الأرامل ، والأيتام !
( واعصمني من الفخر ) وأبلغ ما قيل فيمن يفخر ، ويتبختر . وما جاء في نهج البلاغة : « ما لابن ءادم والفخر ؟ أوله نطقة ، وآخره جيفة ، لا يرزق نفسه ، ولا يدفع حتفه » (1) . . . « تؤلمه البقة ، وتقتله الشرقة ، وتنتنة العرقة » (2) .
أللهم صل على محمد وآله ، ولا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها ، ولا تحدث لي عزاً ظاهراً إلا أحدثت لي ذلة باطنة عند نفسي بقدرها .
أللهم صل على محمد وآل محمد ، ومتعني بهدى صالح لا أستبدل به ، وطريقة حق لا أزيغ عنها ، ونية رشد لا أشك فيها وعمرني ما كان عمري بذلة في طاعتك ، فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتك إلي ، أو يستحكم غضبك علي .
(1) انظر ، نهج البلاغة : 4 / 104 ، الحكمة ( 454 ) ، شرح نهج البلاغة : 20 / 150 ، عيون الحكم والمواعظ : 479 .
(2) انظر ، نهج البلاغة : 4 / 98 ، الحكمة ( 419 ) ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 20 / 62 ، عيون الحكم والمواعظ : 488 ، شرح اصول الكافي : 10 / 457 ، مناقب الخوارزمي : 377 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 254


أللهم لا تدع خصلة تعاب مني إلا أصلحتها ، ولا عائبة ، اؤنب بها إلا حسنتها ، ولا اكرومة في ناقصة إلا أتممتها .
بعد ما قال الإمام عليه السلام : « وهب لي معالي الأخلاق » ضرب من هذه المكارم ، والمعالي بأسلوب الدعاء ، وقال : ( ولا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها . . . ) ولماذا هذا الربط بين درجة العلو ، والرفعة عند الناس ، ودرجة الوضع ، والحط عند نفسه ؟ وهل يكره الإمام عليه السلام الرفعة ، والسمعة من حيث هي ؟ الجواب بل كي لا يرى الناس أصغر منه ، وقد خلقهم سواسية كأسنان المشط (1) كما قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله الذي عاش حياة الفقر ، وهو يستطيع أن يحيا الملوك ، والأمراء . وهكذا عاش أمير المؤمنين علي عليه السلام من شجرة النبوة ، وبيت الرسالة . وتكلمنا مفصلاُ ، ومطولاً حول هذه الجملة في كتاب بين الله والإنسان (2)
( ومتعني بهدى صالح ) زدني من هداك ما أصلح به أمر آخرتي ، ودنياي ( لا أستبدل به ) غيره ( وطريقة حق لا أزيغ عنها ) بل أثبت عليها ، وأضحي في سبيلها بكل غال ، وعزيز ( ونية رشد لا أشك فيها ) أي ومتعني بنية صافية خالصة من شائبة الشك ، والارتياب ( وعمرني ما كان عمري . . . ) ويومئ هذا إلى أن الإمام عليه السلام لا ينظر إلى الحياة من حيث هي نظرة المتشائم ، أو المتفائل ، بل يقيس حياة
(1) الحديث ورد بلفظ : ( الناس سواء كأسنان المشط ) . انظر ، سبل السلام : 3 / 129 ، كنز العمال : 9 / 38 ح 24822 و 24823 ، كشف الخفاء : 2 / 326 ، مسند الشهاب : 1 / 145 ، نزهة الناظر وتنبيه الخاطر : 39 ، تحف العقول : 368 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 9 / 30 و : 20 / 199 .
(2) انظر ، كتابه قدس سره المعنون بعنوان ( بين الله والإنسان ) ، وقد طبع مرات عديدة ، من قبل دار التعارف .
في ظلال الصيحيفة السجادية 255

الإنسان الفرد بأعماله ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر . وفي الحديث : « يتبع الرجل بعد موته ثلاث خصال : صدقة أجراها الله في حياته فهي تجري له بعد وفاته ، وسنة هدى سنها فيها يعمل بها بعد موته ، أو ولد صالح يستغفر له » (1) . والصدقة الجارية تشمل كل ما فيه للناس خير ، وصلاح بجهة من الجهات كشق الطرقات ، وحفر الآبار ، والأنهار ، والمستشفيات ، ومصانع الكساء ، والغذاء .
( لا تدع خصلة تعاب مني إلا أصلحتها . . . ) كل خصال الإمام عليه السلام ، وصفاته عالية زاكية ، لا عيب فيها ، ولا ريب ، ولكن نفسه الكبيرة ترى الكثير من خيرها ، وفيضها قليلاً ، وحقيراً كما يقول المتنبى : (2)
ويعظم في عين الصغير صغيرها ويصغر في عين العظيم العظائم

أللهم صل على محمد وآل محمد ، وأبدلني من بغضة أهل الشنئان المحبة ، ومن حسد أهل البغي المودة ، ومن ظنة أهل الصلاح الثقة ، ومن عداوة الأدنين الولاية ، ومن عقوق ذوي الأرحام المبرة ، ومن خذلان الأقربين النصرة ، ومن حب المدارين تصحيح المقة ، ومن رد الملابسين كرم العشرة ، ومن مرارة خوف الظالمين حلاوة الأمنة .
أللهم صل على محمد وأله ، واجعل لي يداً على من ظلمني ولساناً على من خاصمني ، وظفراً بمن عاندني ، وهب لي مكراً
(1) انظر ، الكافي : 7 / 56 ، الخصال : 151 ، أمالي الصدوق : 233 ، مجمع الفائدة والبرهان : 3 / 124 .
(2) انظر ، مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب : 3 / 183 ، سبل الهدى والرشاد : 10 / 326 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 256

على من كايدني ، وقدرة على من اضطهدني ، وتكذيباً لمن قصبني ، وسلامة ممن توعدني ، ووفقني لطاعة من سددني ، ومتابعة من أرشدني .


الحب

( وأبدلني من بغضة أهل الشنئان المحبة ) الحب فضيلة ، بل أصل الفضائل ، لأنه المنهج المرسوم لعلاقة الإنسان بخالقه ، وبأخيه الإنسان ، ومعنى حب العبد لله سبحانه أن يحب ما أحب الله ، ويبغض ما أبغض (1) ، ولا يخاف فيه لومة لائم (2) . وفي الأشعار (3) :
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع

ولا معنى لحب الناس بعضهم إلا الإخوة ، والمساواة ، والتكافل ، والتضامن ، وبه تستقيم الحياة ، ويعيش الفرد ، والجماعة في دعة ، وأمان . ومن الحكم القديمة الخالدة : « لا تصنع بالآخرين ما لا تريد أن يصنعوا بك » . وفي الحديث الشريف : « لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا (4) . . .
(1) طبقاً للحديث الشريف : « . . . ولكن أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله ، وتبغض في الله ) ، أو الحديث : ( أفضل الأعمال الحب في الله ، والبغض في الله ) . انظر ، كشف القناع : 1 / 501 ، المحاسن للبرقي : 1 / 165 ، تحف العقول : 55 ، الكافي : 2 / 124 .
(2) انظر ، إقبال الأعمال : 2 / 369 ، منية المريد : 165 ، الطرائف : 55 ، التفسير الصافي : 2 / 43 .
(3) انظر ، إرشاد الأذهان : 1 / 19 ، كشف الخفاء : 2 / 203 ، روضة الواعظين : 418 ، مناقب آل أبي طالب : 3 / 395 ، فيض القدير شرح الجامع الصغير : 2 / 37 و : 6 / 38 ، الشفا بتعريف حقوق المصطفى : 2 / 10 .
(4) انظر ، المصنف لابن أبي شبية الكوفي : 6 / 140 ، المجموع : 4 / 593 ، إعانة الطالبين : 4 / 213 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 257

الخلق عيال الله ، فأحب الخلق إلى الله من أدخل على أهل بيت مؤمن سروراً ، ومشى مع أخيه في حاجته » (1) .
وهل للحياة من معنى ، وللإيمان من وزن بلا حب ، ومن هنا كان هدفاً ، ومثلاً أعلى في كل دين ، وشريعة ، وكل مذهب ، وفلسفة فيما قرأت : « إن الله خلق الإنسان ليحب » وليس هذا بغريب ، فإن المظالم ، والمآسي مصدرها بغض الإنسان ، وغرائزه الشريرة ، على النقيض من الحيوان بدافع من حاجته الذي لا يعرف حقداً ، ولا حسداً ، ولا ضغينة ، وانتقاماً ، وإذا قتل ، وافترس فإنه يفعل ذلك بدافع من حاجته الضرورية التي تساعده على الحياة ، والبقاء ، ومتى شبع فلا شيء يحركه على القتل ، والعدوان ، وبهذا يكون الوحش بريئاً حتى وهو يلتهم فريسته .
( ومن حسد أهل البغي المودة . . . ) يطلب الإمام عليه السلام من الله سبحانه أن يبدل بغض الحاسدين له بالمودة ، وتهمة الصالحين بالثقة به ، وعداوة القرابة بالحب ، وعقوق الأولاد بالطاعة ، وخذلان الأقربين بالمناصرة ، وحب المداراة بحب الموالاة ، والخوف بالأمن ، أما قوله : ( ومن رد الملابسين كرم العشرة ) فمعناه أبدلني سوء معاشرة من يخالطني ، ويجالسني بحسن عشرته ؛ لأن معنى الرد عدم القبول ، ومعنى الملابسين المخالطين ، والمعاشرين .


ضع مع الدعاء شيئاً من القطران

وقد تسأل : الظاهر من كلام الإمام عليه السلام أن الدعاء وحده كاف ، واف لإيجاد المعدوم وخلقه ، أو تحويل الضد الموجود إلى ضده دون أن يقوم الداعي بأية حركة
(1) انظر ، فقه الرضا : 369 ، الكافي : 2 / 164 ح 6 ، دعائم الإسلام : 2 / 320 ، شرح اصول الكافي : 9 / 30 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 258

علماً بأن النبي صلى الله عليه وآله قال لصاحب الناقة : «أعقلها ، وتوكل» (1) ، وأن علياً عليه السلام قال لمن يداوي ناقته الجرباء بالدعاء فقط : ضع مع الدعاء شيئاً من القطران (2) ، وقال سبحانه : «ولا تستوى الحسنة ولا السيئة أدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم» (3) .
الجواب : إن الحديث «أعقلها ، وتوكل» يأمر الأعرابي بشيئين : الأول : أن يربط الناقة كيلا تتحرك . الثاني : أن يتوكل على الله في أمر بقائها معقولة . وهذا هو بالذات ما فعله الإمام ، فقد روى الرواة في سيرته ، وفضائله أنه كان يدرأ السيئة بالحسنة ، أما دعاؤه هذا فهو تعبير عن التوكل على الله في كف شر كل ذي شر .
( واجعل لي يداً على من ظلمني . . . ) وظيفة المظلوم أن يلتمس العلة لردع الظلم عنه ، فإن خذلته الوسائل السلمية ، واستطاع قتل الظالم فعل ، ولا شيء عليه ، فقد جاء في كتاب الوسائل باب الجهاد : «أن رجلاً قال للإمام الباقر عليه السلام : اللص يدخل علي بيتي يريد نفسي ، ومالي ؟ فقال الإمام عليه السلام : اقتله .. فأشهد الله ، ومن سمع أن دمه في عنقي» (4) . وعن النبي الكريم صلى الله عليه وآله : «من قتل دون عقال من ماله فهو
(1) انظر ، صحيح الترمذي : 4 / 77 ، فتح الباري : 3 / 304 ، الجامع الصغير : 1 / 180 ، كنز العمال : 3 / 101 ح 5687 و 5695 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 20 / 306 ، صحيح ابن حبان : 2 / 510 .
(2) القطران : بفتح القاف ، وكسرها ، وسكون الطاء ، وكسرها ، مادة سوداء تؤخذ من عصارة شجر الأرز ، والصنوبر ، يشبه السائل الدهني يغلي حتى يذهب ثلثاء ، ويتصف بخاصية القضاء على الجراثيم ، تطلى به الإبل ، وتلطخ اصابتها بمرض جلدي كالجرب . انظر ، معجم لغة الفقهاء : 366 ، لسان العرب : 5 / 105 .
(3) فصلت : 34 .
(4) انظر ، الكافي : 5 / 51 ح 1 ، تهذيب الأحكام : 6 / 158 و : 10 / 210 ، جامع المدارك : 7 / 171 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 259

شهيد» (1) . وما من شك أن الساكت عن ظالمه ، وهو قادر على مقاومته فقد ظلم نفسه ، وما ربك بظلام للعبيد . وأخيراً لو علم الظالم أن المظلوم يستميت دون حقه لتحاماه .
( وهب لي مكراً على من كايدني ) أي على من أضمر لي المكر ، والخداع ، ومجمل المعنى هب لي قوة أبطل بها مكر الماكرين ، وكيد الشياطين ، قال سبحانه : «ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين» (2) ، أي إن الله سبحانه أبطل مكرهم ، وعاقبهم عليه عقاب الماكرين ( وقدرة على من اضطهدني ) عطف تكرار على اجعل لي يداً ... ( وتكذيباً لمن قصبني ) : عابني كذباً ، وافتراءً ( ووفقني لطاعة من سددني ) : أرشدني إلى الخير ، والصلاح ( ومتابعة من أرشدني ) عطف تكرار .
أللهم صل على محمد وآله ، وسددني لأن أعارض من غشني ... بالنصح ، وأجزي من هجرني بالبر ، واثيب من حرمني ... بالبدل ، وأكافي من قطعني ... بالصلة ، وأخالف من اغتابني ... إلى حسن الذكر ، وأن أشكر الحسنة ، وأغضي عن السيئة .
أللهم صل على محمد وآله ، وحلني بحلية الصالحين ، وألبسني زينة المتقين ... في بسط العدل ، وكظم الغيظ ، وإطفاء النائرة ، وضم أهل الفرقة ، وإصلاح ذات البين ، وإفشاء العارفة ،
(1) انظر ، التهذيب : 6 / 157 ح 282 ، مسالك الافهام : 15 / 51 ، وسائل الشيعة : 11 / 91 ح 5 ، شرح الأزهار : 4 / 583 ، وفي بعض المصادر : ( دون عياله ، وفي لفظ عقال بعير ) .
(2) آل عمران : 54 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 260

وستر العائبة ، ولين العريكة ، وخفض الجناح ، وحسن السيرة ، وسكون الريح ، وطيب المخالقة ، والسبق إلى الفضيلة ، وإيثار التفضل ، وترك التعبير ، والإفضال على غير المستحق ، والقول بالحق ، وإن عز ، واستقلال الخير ، وإن كثر من قولي ، وفعلي ، واستكثار الشر وإن قل من قولي ، وفعلي ، وأكمل ذلك لي بدوام الطاعة ، ولزوم الجماعة ، ورفض أهل البدع ، ومستعملي الرأي المخترع .


هذا هو الإمام السجاد

( وسددني لأن أعارض من غشني ... بالنصح ) سددني : وفقني ، وأعارض : اقابل ، وأكافيء بالخير من أراد بي سوءاً ، وكل ما ذكر الإمام السجاد عليه السلام ، وعدد في دعاءه هذا من مكارم الأخلاق ، ومعاليها ، فقد مارسه بالفعل طول حياته ، وحرص عليه حرصه على صومه ، وصلاته ، ولا يختلف في ذلك إثنان من الذين عاصروا ، وذكروا هذا الهادي المهدي في رواية ، أو كتاب . وفيما يلي نشير إلى بعض ما تواتر عن جلاله ، وخلاله تبعاً لكلمات الدعاء :
( وأجزي من هجرني بالبر ) كان الإمام السجاد عليه السلام يطوف بالليل متنكراً على بيوت الفقراء ، يوزع عليهم الدراهم ، والدنانير ، ومن بينهم ابن عم له ، وكان إذا أعطاه يأخذ المال ، ويقول : ابن عمي علي بن الحسين لا يواصلني ، فلا جزاه الله عني خيراً (1) ، فيتحمل الإمام عليه السلام ولا يعرفه بنفسه ، واستمر الإمام في العطاء ، واستمر هو على هذا الدعاء حتى انتقل الإمام إلى الرفيق الأعلى ، وانقطعت الصلة ، فعندها
(1) انظر ، بحار الأنوار : 46 / 100 ، كشف الغمة : 2 / 318 .
السابق السابق الفهرس التالي التالي