في ظلال الصيحيفة السجادية 150

آمالنا ؛ ونعوذ بك من سوء السريرة ، واحتقار الصغيرة ، وأن يستحوذ علينا الشيطان ، أو ينكبنا الزمان ، أو يتهضمنا اللطان .
ونعوذ بك من تناول الإسراف ، ومن فقدان الكفاف ؛ ونعوذ بك من شماتة الأعداء ، ومن الفقر إلى الأكفاء ، ومن معيشة في شدة ، وميتة على غير عدة ؛ ونعوذ بك من الحسرة العظمى . والمصيبة الكبرى . وأشقى الشقاء ، وسوء المآب ، وحرمان الثواب ، وحلول العقاب .
أللهم صل على محمد وآله ، وأعذني من كل ذلك برحمتك ، وجميع المؤمنين ، والمؤمنات ، يا أرحم الراحمين .
( ونعوذ بك أن ننطوي على غش أحد ) قال رسول الله صلى الله عليه وآله : « من غشنا فليس منا (1) ، ويحشر مع اليهود ؛ لأنهم أغش خلق الله » (2) ، هذي هي جبلتهم منذ وجدوا . . . خبث ، وغش ، ودسائس ، ومكائد ، ولا يروي نار الحقد في قلوبهم إلا إبادة البشرية بالكامل ، ويحمل هذه الجبلة بالذات كل من ساند ، ويساند إسرائيل ، والصهيونية في شرق الأرض ، وغربها ( وأن نعجب بأعمالنا ) المعجب بآرائه ، وأعماله خرافي ، وأحمق لأنه لا يرى إلا ذاته ، ومن خلالها ينظر إلى الأشياء ، فهي دينه ، ودنياه ، وهو يعمى عن نقائضها . . . يجزم باللمحة ، ويحكم بالتهمة ، ولا يشك أبداً ، ولا يضع شيئاً في موضعه ( ونمد في آمالنا ) الأمل نوعان : مذموم إذا بعث إلى العمل للدنيا فقط ، وأنسى ما وراءها ، وممدوح إذا بعث إلى
(1) انظر ، صحيح مسلم : 1 / 99 ، سنن الدارمي : 2 / 248 ، مسند أحمد : 2 / 50 ، المعجم الكبير : 10 / 169 .
(2) انظر ، من لا يحضره الفقيه : 4 / 8 ، بغية الحارث : 73 ، مكارم الأخلاق : 430 ، أمالي الصدوق : 349 ح 1 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 151

العمل للدنيا ، والآخرة معاً . وفي شتى الأحوال لا حياة بلا عمل ، ولا عمل بلا أمل . وفي الحديث الشريف : « الأمل رحمة لأمتي ، ولولاه ما أرضعت والدة ولدها ، ولا غرس غارس شجراً » (1) .
( ونعوذ بك من سوء السريرة ) وهي النية ، والطوية ، وسوءها أن لا يشعر المسيء إلا بنفسه ، ولا يغضب إلا لها . . . هو وحده ، ومن بعده الطوفان . وحسنها أن يشعر المحسن بآلام الآخرين ، ويغضب للمظلومين ، والمحرومين ولو من غير ملته ، ويحب لغيره ما يحبه لنفسه ، ولا إيمان ، ونجاة من عذاب الله إلا بهذا الشعور ، والغضب ، والحب ، قال سبحانه : « يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم » (2) ( واحتقار الصغيرة ) أي السيئة الصغيرة ـ كما يراها الفاعل ـ وهي في واقعها كبيرة لزجره تعالى عنها ونهيه ، وتقدم الكلام عن المحقرات قبل قليل .
( وأن يستحوذ علينا الشيطان ) ولا أعرف أحداً أخذ الشيطان منه مأخذه ، وبلغ منه أمله كأي مغرور قال ، أو يقول بلسان المقال ، أو الحال : « من مثلي » ! استغفر الله . ألا تدل هذه الشطحة ، أو النطحة بنفسها على نفسها تماماً كدلالة الناطق على الإنسان ، والصاهل على الحيوان « أو ينكبنا الزمان » ولا عاقل على وجه الأرض يأمن المخبآت ، والمفاجآت بخاصة الثري ، والقوي « أو يتهضمنا اللطان » كان الإمام السجاد صلى الله عليه وآله في عهد الأمويين الذين اتخذوا مال الله دولاً ، وعباده خولاً (3) . وهذه الفقرة تعريض بهم ، وبجورهم .
( ونعوذ بك من تناول الإسراف ) وهو إتلاف المال في الحرام ، أو في حلال من
(1) انظر ، كنز العمال : 3 / 491 ح 7560 ، تأريخ بغداد : 2 / 50 ، نزهة الناظر وتنبيه الخاطر : 21 .
(2) الشعراء : 88 ـ 89 .
(3) تنسب هذه القطعة الذهبية إلى الإمام علي عليه السلام ، كما في شرح نهج البلاغة للمعتزلي : 4 / 191 ، وكذلك إلى الإمام السجاد عليه السلام ، كما في أمالي الطوسي : 108 ، العمدة : 471 ، كنز العمال : 11 / 165 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 152

غير حكمة ، ومنفعة معقولة ، ومقبولة عند العرف ، قال تعالى : « والذين إذآ أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً » (1) ، ( ومن فقدان الكفاف ) وهو من الرزق ما كفى ، وأغنى عن الناس ، يقال : قوته كفاف حاجته أي مقدار حاجته من غير زيادة ونقصان ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله : « أللهم ارزق محمداً وآل محمد ، ومن أحب محمداً وآل محمد العفاف ، والكفاف » (2) ، ( ونعوذ بك من شماتة الأعداء ) الشماتة من شيم الأوغاد ، واللئام ، وفي الحديث : « لا تبد الشماتة بأخيك ، فيرحمه الله ، ويبتليك » (3) ، ( ومن الفقر إلى الأكفاء ) جمع كفء بمعنى المثيل أي لا تحوجني إلى عبد مثلي . ومن أقواله : « كاد الفقر يكون كفراً » (4) ( ومن معيشة في شدة ) عطف تفسير على فقدان الكفاف .
( وميتة على غير عدة ) وعدة الموت الأعمال الصالحة ، وهي أكثر من أن تحصى ، وفي طليعتها عمل يخرج منه رغيف الجائع ، أو ثوب لعار ، أو دواء لمريض ، أو كلمة تهدي إلى خير ، أو أي شيء ينتفع به الناس ، أما الكلام العقيم فما هو عند الله بشيء ، وإن استوعب مجلدات ( ونعوذ بك من الحسرة العظمى . . . ) يوم يتذكر المقصر الخاسر ويقول : يا ليتني قدمت لحياتي . . . وهكذا كل مجرم ، وآثم ، وجاحد ، وكافر لا بد أن يقف هذا الموقف أمام العدالة الإلهية ، والرقابة السماوية ، ويشعر بأخطائه ، وسيئاته ويجازي عليها بما يستحق وإلا كان المسيء ، والمحسن بمنزلة سواء ، بل يكون المحسن أسوء حالاً من المسيء .
(1) الفرقان : 67 .
(2) انظر ، الكافي : 2 / 140 ح 2 ـ 3 ، كنز العمال : 6 / 483 ح 16647 ، تأريخ دمشق : 4 / 116 .
(3)انظر ، اصول الكافي : 2 / 359 ح 1 ، تهذيب الكمال : 3 / 340 ، سنن الترمذي : ح 2621 .
(4) انظر ، الكافي : 2 / 307 ح 4 ، شرح اصول الكافي : 9 / 318 ، مسند الشهاب : 1 / 342 ، الجامع الصغير : 2 / 266 ، كنز العمال : 6 / 492 ح 16682 ، الدعاء للطبراني : 320 ، تحفة الأحوذي : 7 / 17 و : 10 / 45 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 153

الدعاء التاسع

دعاؤه في الاشتياق

أللهم صل على محمد وآله ، وصيرنا إلى محبوبك من التوبة ، وزلنا عن مكروهك من الإصرار ؛ أللهم ومتى وقفنا بين نقصين في دين ، أو دنياً فأوقع النقص بإسرعهما فناءً ، واجعل التوبة في أطولهما بقاءً .
وإذا هممنا بهمين يرضيك أحدهما عنا ، ويسخطك الآخر علينا ؛ فمل بنا إلى ما يرضيك عنا ، وأوهن قوتنا عما يسخطك علينا ، ولا تخل في ذلك بين نفوسنا ، واختيارها ، فإنها مختارة للباطل إلا ما وفقت ، أمارة بالسوء إلا ما رحمت .
( وصيرنا إلى محبوبك من التوبة ) نسألك أللهم العون ، والهداية إلى طاعتك ، ومرضاتك بخاصة التوبة من معصيتك ( وزلنا عن مكروهك من الإصرار ) المراد بالإصرار هنا العزم . والمعنى نسألك أللهم العون على نفسنا الأمارة الغرارة بخاصة إذا عزمت ، وأصرت على فعل ما نهيتنا عنه( أللهم ومتى وقفنا بين نقصين في دين ،

في ظلال الصيحيفة السجادية 154

أو دنياً فأوقع النقص بأسرعهما فناءً ، واجعل التوبة في أطولهما بقاءً ) المراد بالوقوف هنا الإضطرار ، وبالنقص الشر ، وبالوقوع الوجوب مثل : « ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون » (1) أي وجب العذاب عليهم ، والمراد بأسرعهما فناء أقلهما ضرراً ، وبأطولهما بقاء أكثرهما أجراً ، والمعنى إذا ابتلينا ، واضطررنا إلى فعل أحد الشرين من غير تعيين ، ولم نجد منه مفراً فأوجب أللهم علينا أهون الشرين ، وأقل الضررين ، وأمدنا إلى معرفته ، ووفقنا إلى إختياره حتى إذا أنبنا إليك من فعله كانت التوبة أكثر أجراً ؛ لأنها ، وهذي هي الحال ، مستحبة لا واجبة ، ومثال ذلك : أن نرى منكراً يترتب على إنكاره شر ، وضرر أعظم من ضرر السكوت عنه ، فيجب عندئذ دفع الضرر الأشد ، بالضرر الأخف .
( وإذا هممنا بهمين يرضيك أحدهما . . . ) المراد بالهم هنا حديث النفس ، وترددها بين أمرين . ونسأله تعالى أن يختار لنا ، ويميل بنا إلى ما له فيه رضى ، ولنا خير ، وصلاح حين نبتلي بشيء من ذلك . ويومئ هذا الدعاء الى أن ما من شيء يقع في الكون إلا ولله فيه تدبير بطريق ، أو بآخر ، وأن على الإنسان أن لا يذهل عن هذه الحقيقة .
قال سبحانه : « وما من غآئبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين » (2) ، وقال تعالى : « وهو على كل شيء وكيل » (3) ( ولا تخل في ذلك بين نفوسنا ، واختيارها ) إذا غضب الله على عبد أوكله إلى نفسه ، وسار طول حياته بلا دليل ( فإنها مختارة للباطل . . . ) لأنه خفيف ، ولذيذ ، وفي نهج البلاغة : « واعلموا أنه ما من طاعة الله
(1) النمل : 85 .
(2) النمل : 75 .
(3) الأنعام : 102 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 155

شيء إلا يأتي في كره ـ لأنه مخالف لهوى النفس ـ وما من معصية الله شيء إلا يأتي في شهوة » (1) لأنه موافق لهوى النفس الأمارة بالسوء .
أللهم وإنك من الضعف خلقتنا ، وعلى الوهن بنيتنا ، ومن ماء مهين ابتدأتنا ؛ فلا حول لنا إلا بقوتك ، ولا قوة لنا إلا بعونك ؛ فأيدنا بتوفيقك ، وسددنا بتسديدك ، واعم أبصار قلوبنا عما خالف محبتك ، ولا تجعل لشيء من جوارحنا نفوذاً في معصيتك .
أللهم فصل على محمد وآله ، واجعل همسات قلوبنا ، وحركات أعضائنا ، ولمحات أعيننا ، ولهجات ألسنتنا . . . في موجبات ثوابك ، حتى لا تفوتنا حسنة نستحق بها جزاءك ، ولا تبقى لنا سيئة نستوجب بها عقابك .
( أللهم وإنك من الضعف خلقتنا ) ما من مخلوق إلا وفيه جانبان : سلب ، وإيجاب ، قوة وضعف ، ومن جانب القوي العقل ، والعلم ، وقوة الإرادة في الصبر على الشدائد ، ومن الجانب الضعيف العجز على مقاومة الشهوات ، والمغريات ، وما يتعرض له الإنسان من أحداث ، ونكبات ، وقد صور الإمام علي عليه السلام هذا الجانب أدق تصوير ، وأجمعه ببضع كلمات حيث قال : « مسكين ابن ءادم مكتوم الأجل ، مكنون العلل ، محفوظ العمل ، تؤلمه البقة ، وتقتله الشرقة ، وتنتنه العرقة » (2) . وقال
(1) انظر ، نهج البلاغة : 2 \ 90 ، الخطبة ( 176 ) ، شرح النهج للمعتزلي : 10 / 16 ، ينابيع المودة : 2 / 436 .
(2) انظر ، نهج البلاغة : 4 / 98 ، الحكمة ( 419 ) ، شرح النهج للمعتزلي : 20 / 62 ، عيون الحكم والمواعظ : 488 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 156

مشيراً إلى جانب القوة : « الإنسان يشارك السبع الطباق » (1) .
والعالم العاقل ينظر إلى الجنبين معاً ، ولا يعتز بشيء مما يملك لعلمه بجانب الضعف فيه ، ولا يستسلم ، وإن تراكمت عليه الخطوب ، بل يجاهد ، ويقاوم حتى النفس الأخير لعلمه بجانب القوة .
( وعلى الواهن بنيتنا . . . ) عطف تفسير على الضعف ( فلا حول لنا ) لا نقدر على التصرف في شيء ( إلا بقوتك ) كل القوة لله ، ولا أحد يملك منها شيئاً إلا ما ملكه ( ولا قوة لنا إلا بعونك . . . ) عطف تفسير على ما قبله ( وأعم أبصار قلوبنا عما خالف محبتك ) العمى للبصر ، ويستعار للقلب كناية عن ضلاله ، والمراد به هنا صرف القلوب عن محارم الله ، ومكارهه ( ولا تجعل لشيء من جوارحنا نفوذاً في معصيتك ) الجوارح أعضاء الإنسان ، ويشمل هذا الدعاء أكثر المعاصي ، ومنها الكبائر كالكذب ، والغيبة ، والنميمة ، والزنا ، وأكل الحرام ، وشربه ( واجعل همسات قلوبنا ) الهمس : الصوت الخفي ، والمراد به هنا حديث النفس بالخير ، أو الشر .


الذين بدلوا نعمة الله كفرا

( وحركات أعضائنا ، ولمحات أعيننا ، ولهجات ألسنتنا . . . ) منح سبحانه الإنسان ـ من دون الخلائق ـ قوى ، وطاقات روحية ، ومادية ظهرت آثارها في تقدم العلم الذي تميز به عصرنا الراهن عن كل ما سلف من العصور ، لكن دنس قداسته ، وكرامته الذين حولوه عن طبيعته ، واتخذوا منه وسيلة للحرب ، والرعب ، والسلب ، والاستعلاء على الخلق ، وإلى هؤلاء ، وأمثالهم أشار سبحانه بقوله : « ألم
(1) قريب منه في نهج البلاغة : 1 / 143 و : 2 / 111 و 156 ، و : 4 / 24 ، الحكمة (8) .
في ظلال الصيحيفة السجادية 157

تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار » (1).
والإمام عليه السلام يشكر الله عزوجل على نعمة ، وموهبة تفضل بها عليه ، ويعطيه عهداً قاطعاً بصيغة الدعاء ، وأسلوبه أن يستصلح كل عضو من أعضائه ، وكل طاقة من طاقاته في طاعة الله ، ومرضاته ، وخدمة عباده ، وعياله .
(1) إبراهيم : 28 ـ 29 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 158



في ظلال الصيحيفة السجادية 159

الدعاء العاشر

دعاؤه في اللجوء إلى الله تعالى

أللهم إن تشأ تعف عنا فبفضلك ، وإن تشأ تعذبنا فبعدلك ؛ فسهل لنا عفوك بمنك ، وأجرنا من عذابك بتجاوزك ؛ فإنه لا طاقة لنا بعدلك ، ولا نجاة لأحد منا دون عفوك .
يا غني الأغنياء ، ها نحن عبادك بين يديك ؛ وأنا أفقر الفقراء إليك ، فأجبر فاقتنا بوسعك ، ولا تقطع رجاءنا بمنعك ؛ فتكون قد أشقيت من استسعد بك ، وحرمت من استرفد فضلك ؛ فإلى من حينئذ منقلبنا عنك ؟
وإلى أين مذهبنا عن بابك ؟


الثواب تفضل ، أو إستحقاق ؟

( أللهم إن تشأ تعف عنا فبفضلك ) إختلفوا : هل ثواب من أطاع الله هو لزوم ،

في ظلال الصيحيفة السجادية 160

واستحقاق كما قال المعتزلة ، أو كرم ، وتفضل كما قال الأشاعرة ؟ (1)
وفي رأينا أنه لا مبادلة بين الخالق ، والمخلوق ، ولا عرض ، ومعوض بين الواجب والممكن ، فالملك كله لله ولا أحد يملك معه شيئاً . ولكنه تقدست كلماته ، هو الذي تفضل . وجعل الثواب على طاعته حتماً ، وحقاً على رحمته (2) ، كما قال : « إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً » (3) ، وقال تعالى : « كتب ربكم على نفسه الرحمة » (4) اشترى سبحانه الأنفس ، والأموال من عباده ، وهو بها أملك ، ولكنه تعالى وعد بالثواب ، ووعده حق لازم لمن وعد علماً بأنه تعالى لا يجب عليه أن يعد ، ولا أن يثيب لولا الوعد ، ولكن أصبح الثواب واجباً بالوعد تماماً كما يجب علينا الوفاء بالعهد ، والنذر ، واليمين . وبهذا نجد تفسير قوله تعالى : « ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون » (5) أي بضميمة قوله سبحانه : « مثل الجنة التي وعد المتقون » (6) .


حكمة الله أسبق من رحمته

( وإن تشأ تعذبنا فبعدلك ) العدل : وضع الشيء في موضعه ، ويختلف هذا الوضع تبعاً للمورد ، والموضوع ، فالعدل في القسمة أن تعطي كل ذي حق حقه بلا
(1) انظر ، كتاب السنة لعمرو بن أبي عاصم : 452 ، فتح الباري لابن حجر : 13 / 292 ، شرح العقيدة الطحاوية .
(2) انظر ، رسائل المرتضى : 2 / 241 ، الاعتقادات للشيخ المفيد : 67 ، الاقتصاد للطوسي : 107 .
(3) التوبة : 111 .
(4)الأنعام : 54 .
(5) النحل : 32 .
(6) الرعد : 35 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 161

زيادة ، أو نقصان ، ومثله العدل بالحكم ، والقضاء ، والعدل في الحساب أن تستقصى وتحصى بحيث لا تترك شيئاً من الداخل ، ولا تضيف شيئاً من الخارج ، والعدل في الأجر ، والجزاء ما يعادل العمل دون إجحاف فإن زاد فتفضل .
والله سبحانه أمر عباده بالعدل ، وعاملهم هو بالرحمة ، والمغفرة إلا الذين أشركوا به ، والذين عاملوا عباده ، وعياله بالعسف ، والجور ، والذين حرفوا دينه ، وشريعته عن قصد ، وتصميم ، وبكلمة إن الله سبحانه لا يغفر ، ولا يرحم جزافاً ، وتشهياً ، بل بموجب علمه ، وحكمته ، ومعنى هذا أن حكمته تسبق رحمته كما تسبق رحمته غضبه .
وبالمناسبة : « قتل رجل من أصحاب الإمام علي صلى الله عليه وآله جماعة من جيش معاوية في حرب صفين ، ثم أخذ أسيراً ، ففرح معاوية ، وقال له : الحمد الله الذي أمكنني منك .
فقال له الأسير : لا تقل ذلك يا معاوية ، فإن أسري مصيبة نزلت لك .
فرد معاوية : كلا ، إنها نعمة ، وأية نعمة أعظم من أن أتمكن من رجل قتل العديد من أصحابي ؟ ثم نادى معاوية : يا غلام أضرب عنقه .
فقال الأسير مناجياً إله الخلق : « أللهم اشهد أن معاوية لم يقتلني فيك ، وإنما يقتلني من أجل حطام الدنيا ، فإن فعل فافعل به ما هو أهله ، وإن لم يفعل فاعل به ما أنت أهله . فقال معاوية : ويحك سببت فأبلغت ، ودعوت فأحسنت ، ثم أمر بإخلاء سبيله » (1) .
( يا غني الأغنياء ) عن كل شيء ، لا يستغني عنه شيء ( فأجبر فاقتنا بوسعك )
(1) انظر ، مروج الذهب : 3 / 48 ، طبعة دار الهجرة ، العقد الفريد : 2 / 172 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 162

أي يسر لنا طريق الرزق ، والعيش بهدايتك ، وتوفيقك . وفي الآية : « وهيئ لنا من أمرنا رشداً » (1) ( فتكون قد أشقيت من استسعد بك ) أي استعبد بنعمتك ، والمعنى تفضلت سبحانك ! على عبدك بالكثير من النعم حيث خلقه في أحسن تقويم ، ومنحته البصر ، والبصيرة ، والسمع ، والبيان . . . إلى ما لا يحصيه إلا أنت ، أبعد منك عليه بكل ما أنعمت تحرقه بنارك ؟ .
وقد يقول قائل : إن الله ليس بظلام للعبيد ، وأنه تعالى عاقب من عاقب إلا بعد أن تمرد ، واستنكف عن طاعته ، وأبى أن يشكر الله على نعمته ، وعليه يكون هذا أشبه بالجرأة على العدالة الإلهية .
الجواب : ليس في هذا الخطاب جرأة ، ولا عتاب ، وإنما هو فرار من عذاب الله إلى مغفرته ، ومن عدله إلى رحمته ، هو ثقة بالله ، ولطفه ، ولجوء إلى ظله ، وكنفه . . . هذا إلى أن الله سبحانه هو الذي جرأ عباده على الإلحاح ، وطلب النجدة منه بكل صيحة ، وصرخة حيث قال ، عز من قائل : « إنه لا يايئس من روح الله إلا القوم الكافرون » (2) ( فإلى من حينئذ منقلبنا . . . ) وإلى أين يلتجئ المخلوق إلا إلى خالقه ؟ وإلى من يذهب العبد إلا إلى سيده ؟ وفي مزامير داود : « ارحمني يا رب فحتى متى ؟ » (3) .
سبحانك نحن المضطرون الذين أوجبت إجابتهم ، وأهل السوء الذين وعدت الكشف عنهم ؛ وأشبه الأشياء بمشيتك ، وأولى الامور بك في عظمتك . . . رحمة من استرحمك ، وغوث من استغاث بك ؛
(1) الكهف : 10 .
(2)يوسف 87 .
(3) انظر ، مزامير داود : السفر الثالث والخمسين .
في ظلال الصيحيفة السجادية 163

فارحم تضرعنا إليك ، وأغننا إذ طرحنا أنفسنا بين يديك .
اللهم ان الشيطان قد شمت بنا اذ شايعناه على معصيتك ، فصل على محمد وآله ، ولا تشمته بنا بعد تركنا اياه لك ، ورغبتنا عنه اليك .
( سبحانك نحن المضطرون . . . ) قلت يا رب العالمين : « أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء » (1) ، وقد مسنا السوء ، واضطررنا إلى رحمتك ، وها نحن ندعوك ، فاكشف عنا البلاء ، والضراء كما قلت ، ووعدت ( وأشبه الأشياء بمشيتك ، وأولى الامور بك في عظمتك . . . رحمة من استرحمك . . . ) رحمة خبر لأشبه الأشياء ، والمعنى أنت يا إلهي الجلال ، والكمال المطلق الذي يفيض البر ، والخيرات على عباده ، وقد توسلنا إليك ، وسألناك أمراً هو من آثار سلطانك ، وإحسانك ( فارحم تضرعنا . . . ) يسر أمرنا ، واكشف عنا ما أنت أعلم به منا . . . وسؤالنا هذا حق ، وعدل ما دام المسؤول أهل الجود ، والفضل .
( أللهم إن الشيطان قد شمت بنا إذ شايعناه على معصيتك . . . ) شمت إبليس بآدم بعد أن أغراه بالشجرة ، ونال جزاءه ، بالخروج منها ، ثم تاب ءادم عن قريب ، وعفا الله عما سلف . . . والآن قد مثل الشيطان معنا نحن أولاد ءادم نفس الدور ، وأسرفنا على أنفسنا تماماً كما أسرف الوالد ، وقد تبنا كما تاب ، فاصفح ، وتسامح عن الأولاد كما سمحت ، وسفحت من قبل عن السيد الوالد .
(1) النمل : 62 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 164



في ظلال الصيحيفة السجادية 165

الدعاء الحادي عشر

دعاؤه بخواتم الخير

يا من ذكره شرف للذاكرين ، ويا من شكره فوز للشاكرين ، ويا من طاعته نجاة للمطيعين . . . صل على محمد وآله ، واشغل قلوبنا بذكرك عن كل ذكر ، وألسنتنا بشكرك عن كل شكر ، وجوارحنا بطاعتك عن كل طاعة ، فإن قدرت لنا فراغاً من شغل . . . فاجعله فراغ سلامة ، لا تدركنا فيه تبعة ، ولا تلحقنا فيه سأمة ؛ حتى ينصرف عنا كتاب السيئات بصحيفة خالية من ذكر سيئاتنا ، ويتولى كتاب الحسنات عنا مسرورين بما كتبوا من حسناتنا .


معنى ذكر الله تعالى

( يا من ذكره شرف للذاكرين ) ذكر الله تعالى أحسن الذكر ، ما في ذلك ريب ، ولكن ما هو المراد منه ؟ وهل المطلوب ، والمندوب مجرد التسبيح باللسان ، وعلى حبات المسابح من غير تفكير ؟

في ظلال الصيحيفة السجادية 166

الجواب : إن اللسان الذي ينطق بالكذب ، والباطل ، والغيبة ، وعيوب الناس ، قد يتفوه باسم الله ، ويسبح لسانه بحمده ، ولكن هذا في واقعه ليس من الذكر الصحيح في شيء ؛ لأنه مجرد كلام دار على اللسان بحكم العادة ، والمحاكاة ، والذكر الصحيح المقبول عند الله هو الذي ينبع من قلب تقي خاشع منقطع إلى الله وحده ، لا يعرف الحسد ، والأضغان على عبد من عباد الله ، ولا الطمع ، والتنافس على المناصب . قال رسول الله صلى الله عليه وآله : « ليس ذكر الله هو سبحان الله ، والحمدلله ، ولا إله إلا الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله اكبر ، ولكن إذا ورد على ما يحرم عليه خاف الله عزوجل عنده ، وتركه » (1) . وقال الإمام الصادق عليه السلام : « من قال لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة ، وإخلاصه أن يحجزه قول لا إله إلا الله عما حرم الله » (2) .
وإن قال قائل : إن الآية : « اذكروا الله ذكراً كثيراً » (3) ، مطلقة وغير مقيدة .
قلنا في جوابة : أجل ؟ ولكن الذكر درجات متفاوتات ، وأعلاها ما ذكره الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ، والإمام الصادق عليه السلام .
( ويا من شكره فوز للشاكرين ) المراد بالشاكرين المطيعون لله بقرينة الفوز ، قال سبحانه : « فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز » (4) ( ويا من طاعته نجاة
(1) انظر ، من لا يحضره الفقيه : 4 / 358 ، مصادقة الإخوان للصدوق : 38 ح 5 ، الخصال : 125 ح 122 .
(2) انظر ، توحيد الصدوق : 27 ، مسند زيد بن علي : 176 ، كنز العمال : 1 / 60 ح 203 و 205 و 206 ، مجمع الزوائد : 1 / 17 ، المعجم الأوسط : 2 / 56 ، المعجم الكبير : 5 / 197 و : 20 / 48 ، الدعاء للطبراني : 432 .
(3) الأحزاب : 41 .
(4) آل عمران : 185 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 167

للمطيعين ) عطف تفسير ( واشغل قلوبنا بذكرك ) عن ذكر الدنيا ، وزينتها ، والناس وعيوبهم ، ولا أعرف مجلساً خلا من نغمة الهمز ، واللمز إلا ما ندر ! وهل من أحد أشد فسقاً ، ونفاقاً ممن يلغ ، ويرتع في أعراض الناس ، وهو يدعي الإيمان بالله ، وكتابه ، واليوم الآخر ، وحسابه ؟
( وألسنتنا بشكرك عن كل شكر ) وشكر الألسنة ، والأقلام لله سبحانه أن تنشر العلم ، والوعي ، وتعلن الحق بأمانة بلا تزييف ، وتحريف ، وأن تقاوم البغي ، والفساد في الأرض ، وتفضح كل إنتهازي ، ومنافق يتستر وراء الشعارات الزائفة . أما قال الإمام عليه السلام : « عن كل شكر » فهو إشارة إلى عبادة أهل الجهالة ، والضلالة الذين يدينون بالكتب المنسوبة إلى وحي السماء كذباً ، وافتراء ، وغيرها من كتب الضلال التي تفلسف الإلحاد ، والتحرر من كل قيمة ، وفضيلة .
( وجوارحنا بطاعتك عن كل طاعة ) الجوارح : الأعضاء ، ومن استعمل كل عضو منه فيما خلق له فقد أطاع الله ، وأدى أمانته بالكامل . وسبق مثله (1) ( فإن قدرت لنا فراغاً من شغل . . . ) كل شيء يقاس ، ويقدر بما له من أثر شغلاً أم فراغاً ، فالفراغ من العمل خير من صفقة خاسرة ، وفعل يستحي منه فاعله . وأثبت عالم من علماء الإجتماع بالحس ، والتجربة أن مواد القراءة ، والدراسة التي توجه الإنسان إلى العمل ، والكفاح لمنفعته ، ومنفعة الآخرين هي وحدها السبيل إلى حياة أفضل ، وأكمل . وتقدم الكلام عن الفراغ (2) ، ( كتاب السيئات ) والحسنات ، وهم الملائكة الذين يسجلون على ابن ءادم أقواله ، وأفعاله ، وسبق الحديث عنهم (3) .
(1) انظر ، شرح الدعاء : رقم (8) .
(2) انظر ، شرح الدعاء رقم : (5) .
(3) انظر ، شرح الدعاء : رقم (3و6) .
في ظلال الصيحيفة السجادية 168


وإذا انقضت أيام حياتنا ، وتصرمت مدد أعمارنا ، واستحضرتنا دعوتك التي لا بد منها ، ومن إجابتها . . . فصل على محمد وآله ، واجعل ختام ما تحصى علينا كتبه أعمالنا . . . توبة مقبولة لا توقفنا بعدها على ذنب اجترحناه ، ولا معصية اقترفناها ، ولا تكشف عنا ستراً سترته على رؤوس الأشهاد . . . يوم تبلو أخبار عبادك ، إنك رحيم بمن دعاك ، ومستجيب لمن ناداك .


الموت

( وإذا انقضت أيام حياتنا ) لا شيء أقرب إلى الإنسان من الموت ، بل هو في الطريق إليه منذ ولد ، وأيضاً لا شيء يدفعه ، أو يرجئه ، ويؤخره لحظة عن الأجل الموعود . . . بلى ، يمكن التعجيل ولكن بالإنتحار « حكمة بالغة فما تغن النذر » (1) ، والموت أول ساعة من الآخرة ، وآخر ساعة من الدنيا ، وبها تختم الحياة الأولى . والإمام عليه السلام يسأله تعالى ، ويقول له : اجعل هذه الساعة ( ختام ما تحصى علينا كتبه أعمالنا . . . توبة مقبولة ) سجل علينا الملائكة الكاتبون ما اقترفناه من الذنوب ، ومساوئ الأعمال ، ثم ندمنا ، وتبنا إلى الله ، وسألناه الصفح ، فاستجاب ، وعفا عما سلف ، وأصبحنا كمن لا ذنب له تماماً كما خلقنا ، وهو سبحانه المسؤول أن يميتنا على هذه الحال ، ويرجع إليه أنفسنا « راضية مرضية » (2) .
( لا توقفنا بعدها على ذنب اجترحناه ) لا توقفنا : لا تحاسبنا من الوقوف بين يدي الله للحساب ، واجترحناه : فعلناه ، وبعدها أي بعد التوبة المقبولة ، والمعنى
(1) القمر : 5 .
(2) الفجر : 28 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 169

نسألك أللهم الهداية ، والتوفيق إلى ترك الذنوب كيلا نقف بين يديك للحساب ، على ما تكره ، ومثله تماماً قولك لمن لا شيء له عليك : لا تطلبني بدين . وبتعبير أهل المنطق : سالبة بانتفاء الموضوع ، والدليل على إرادة هذا المعنى قولة بلا فاصل : ( ولا معصية اقترفناها ) ولا عقاب بلا معصية ( ولا تكشف عنا ستراً سترته على ر ؤوس الأشهاد ) جمع شاهد أي حاضر ، والمعنى صفحت أللهم ، وغفرت ، وإذن لا موجب للفضيحة ، وكشف العورة أمام أهل المحضر ( يوم تبلو أخبار عبادك ) تكشف سترهم على رؤوس الأشهاد لتميز بين الطيب ، والخبيث : (1) .
(1) آل عمران : 179 .
السابق السابق الفهرس التالي التالي