في ظلال الصيحيفة السجادية 70

أموره .
والحمد لله بكل ما حمده به أدنى ملائكته إليه ، وأكرم خليقته عليه ، وأرضى حامديه لديه ، حمداً يفضل سائر الحمد كفضل ربنا على جميع خلقه .
ثم له الحمد مكان كل نعمة له علينا وعلى جميع عباده الماضين ، والباقين عدد ما أحاط به علمه من جميع الأشياء ، ومكان كل واحدة منها عددها أضعافاً مضاعفة أبداً سرمداً إلى يوم القيامة .
حمداً لا منتهى لحده ، ولا حساب لعدده ، ولا مبلغ لغايته ، ولا انقطاع لأمده .

الحمد

( والحمد لله بكل ما حمده به أدنى ملائكته إليه ) الملائكة المقربون إلى الله يحمدونه ، ويعبدونه بروح مخلصة خالصة من كل شائبة ، والإمام عليه السلام يحمده ، ويعبده بهذه الروح لا لشيء إلا لأنه جل وعز أهل لذلك وكفى ، وإلا كان الحمد ، والتعبد خاضعاً لجلب المنفعة ، أو لدفع المضرة ، وهذا حمد العبيد ، أو التجار ( وأكرم خليقته عليه . . . ) أكرم الخلائق ، وأرضاهم لديه تعالى هم الأنبياء ، والأوصياء ، وفي طليعتهم سيد الأنبياء محمد وأهل بيته الأطهار عليهم جميعاً أفضل الصلوات ( حمداً يفضل سائر الحمد كفضل ربنا على جميع خلقه ) وفضله تعالى على خلقه لا يعادله فضل ، وكذلك حمد الإمام لله لا يعادله حمد ( ثم له الحمد مكان كل نعمة له ) من نعمه التي لا تحصى ( علينا ) نحن الأحياء الموجودين الآن ( وعلى جميع عباده الماضين ) من الأموات ( والباقين ) الآتين إلى آخر يوم ( عدد ما أحاط به علمه

في ظلال الصيحيفة السجادية 71

من جميع الأشياء ) ممن كان ، ويكون في الأرض ، والسماء ( ومكان كل واحدة منها عددها أضعافاً مضاعفة ) مثلاً مع كل حبة من الرمل عدد ما في الكون من حباته مرات ، ومرات ، وهكذا كل شيء من أشياء الكون التي لا يعملها إلا الله والإمام يحمد الله على كل نعمة من نعمه حمداً يفوق من حيث الوزن كل ما خلق أضعافاً لا يحصيها سواه ، والمقصود بذلك مجرد التعظيم لجلاله تعالى ، والخضوع لكماله المطلق ( أبداً سرمداً إلى يوم القيامة ) الأبد : لا آخر له ، والأزل : لا أول له ، والسرمد ، لا أول له ولا آخر ( حمداً لا منتهى لحده ، ولا حساب لعدده ، ولا مبلغ لغايته ، ولا انقطاع لأمده ) هذه الجمل مترادفة ، وهي عطف تفسير على ما سبق ، والكل اقتباس من الآية (1) والآية (2) . ولا بدع فإن كلام أهل بيت الوحي ، وخزنة علمه ، فيض من بحاره ، وثماره .
حمداً يكون وصلة إلى طاعته ، وعفوه ، وسبباً إلى رضوانه ، وذريعة إلى مغفرته ، وطريقاً إلى جنته ، وخفيراً من نقمته ، وأمناً من غضبه ، وظهيراً على طاعته ، وحاجزاً عن معصيته ، وعوناً على تأديه حقه ، ووظائفه .
حمداً نسعد به في السعداء من أوليآئه ، ونصير به في نظم الشهداء بسيوف أعدائه إنه ولي حميد .
( حمداً يكون وصلة ) وسيلة ( إلى طاعته ) طاعة الله سبحانه هي الهدف الأول
(1) الكهف : 109 « قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مداداً » .
(2) لقمان : 27 . « ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم » .
في ظلال الصيحيفة السجادية 72

من الإيمان به ، والسبيل لمرضاته ، وثوابه ، والنجاة من غضبه ، وعقابه ، وأفضل الطاعات لله أن نحسن لعياله ولو بكف الأذى عنهم ( وسبباً إلى رضوانه وذريعة إلى مغفرته ، وطريقاً إلى جنته ) كل ذلك وما إليه هو من ثمار الطاعة ، وآثارها ( وخفيراً ) حارساً ، ومانعاً ( وظهيراً ) معيناً ، وباعثاً ( وحاجزاً ) عطف تفسير على خفير ( وعوناً ) عطف تفسير على ظهير ( ووظائفه ) وهي ما أوجبه تعالى على عباده من صوم ، وصلاة ، وحج ، وزكاة ( ونصير به في نظم الشهدآء ) أي ننضم إليهم ، ونجتمع معهم في منازل الكرامة ( بسيوف أعدائه ) أي استشهدوا في سبيل الله بسيوف أعداء الله .

في ظلال الصيحيفة السجادية 73

الدعاء الثاني

الصلاة على محمد وآله

والحمد لله الذي من علينا بمحمد نبيه صلى الله عليه وآله دون الأمم الماضية ، والقرون السالفة ، بقدرته التي لا تعجز عن شيء وإن عظم ، ولا يفوتها شيء وإن لطف ، فختم بنا على جميع من ذرأ ، وجعلنا شهداء على من جحد ، وكثرنا بمنه على من قل .


طبيعة الدعوة وشخصية الداعي

( والحمد لله الذي من علينا بمحمد نبيه صلى الله عليه وآله ) الإسلام إصلاح للحياة في إرشاده ، وهدايته ، وحق ، وصدق في مصدره ، لأنه يخاطب العقل ، ويأمر بأتباع العلم ، وينهى عن الأخذ بالظن ، والمحاكاة ، والتقليد ، وقال كاتب معاصر : « إذا تتبعنا في القرآن الكريم لفظ العقل ، ومشتقاته ، ومترادفاته ، وجدنا ذلك يبلغ 80 مرة ، أما لفظ العلم ، وما يتفرع منه فقد بلغ ( 880 ) مرة ، وكل مدلولات العلم ، والعقل في كتاب الله ترتبط بالدين ، والتشريع ، والحياة ، وآداب السلوك » وفي

في ظلال الصيحيفة السجادية 74

الحديث : « العقل أصل ديني » (1) ، وفي أصول الكافي : « العقل دليل المؤمن » (2) ، « ومن كان عاقلاً كان له دين » (3) . ومن دان بدين العقل ، والعلم لا يحتاج إلى شاهد على دينه ، وإيمانه وإلا تحول الدليل على غيره مدلولاً عليه ، وإنما يطالب بالدليل على أنه يدين بهذا الدين القويم ، وشاهد الإسلام كتاب الله ، وسنة نبيه ، وأقوال العلماء ، والمفكرين من المسلمين ، وغيرهم المنصفين .
ولكن هل تثمر الدعوة ، وتنتشر لمجرد أنها سداد ، ورشاد ؟ فقد أرسل سبحانه مئات الأنبياء للأمم الماضية قبل محمد صلى الله عليه وآله فكذبوا بآياته ، ونكلوا برسله ـ « فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون » (4) ـ فأهلكهمم بالخسف ، أو الطوفان ، أو الصيحة ، وما أشبه حيث لا علاج على الإطلاق إلا الهلاك ؛ لأنه تعالى يكره العذاب لعباده ، ومن هنا فتح باب التوبة للمذنبين . وفي أصول الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام : « إن الله جل وعز أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة . . . » (5) لا لشيء إلا لأنه
(1) أورده الشيخ قدس سره ، بتقديم وتأخير ، وما أثبتناه ورد عن الإمام الصادق عليه السلام كما جاء في مستدرك الوسائل : 11 / 173 ح 12672 ، والمحجة البيضاء : 8 / 101 .
(2) انظر ، الكافي : 1 / 25 ، شرح أصول الكافي للمازندراني : 1 / 315 ، وسائل الشيعة : 15 / 207 ، كنز الفوائد : 88 ، نهج السعادة : 8 / 190 ح 215 .
(3) انظر ، ورد عن الإمام الصادق عليه السلام كما ورد في الكافي : 1 / 11 ح 6 ، شرح اصول الكافي : 1 / 78 ، ثواب الأعمال للصدوق : 14 ، وسائل الشيعة : 15 / 206 ، الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري : 520 .
(4) المائدة : 70 .
(5) ما أثبتناه من المصادر ، والشيخ قدس سره ، نقل الحديث بصورة مشوشة ، انظر ، مسند أحمد : 2 / 524 ، و534 ، أو بلفظ : ( الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته ) كما ورد في صحيح مسلم : 8 / 91 ، شرح صحيح مسلم : 17 / 60 ، فتح الباري : 11 / 91 ، أو بلفظ : ( يجد ضالته فقال الله =
في ظلال الصيحيفة السجادية 75

نجا من العذاب : « ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وءامنتم وكان الله شاكراً عليماً » (1) .
وهنا سؤال يطرح نفسه : لماذا استجابت النفوس لدعوة الإسلام ، وتفاعلت معه حتى انتشر في شرق الأرض ، وغربها في أمد لا يتجاوز نصف قرن ، وما ظفرت أية دعوة من قبل بمثل هذا الفتح ، وأمده ، فما هو السر يا ترى ؟ .
الجواب : السر كل السر يمكن في عظمة الإسلام ، وأسراره ، وفي شخصية محمد التي دانت لها الرقاب طوعاً ، وأدهشت الألباب بذاتيها المؤثرة ، وبصيرتها النافذة ، وحكمتها الرزينة ، وسموها على الهوى والفردية ، ولو جاء بالإسلام غير محمد ، أو جاء محمد بغير الإسلام ما كان للرسالة ، ولا للرسول هذا الثقل ، والأثر الذي عرفه تأريخ الإنسانية للإسلام ونبيه ، ولا قال فيه المنصفون الأجانب الذين يهتمون بالدراسات الإنسانية ما قالوه ، ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ قول ديورانت : « إذا حكمنا على العظماء بما كان للعظيم من أثر في الناس ، قلنا كان محمد أعظم العظماء » (2) . وقول برناردشو : « إن رجلاً مثل محمد لو تسلم زمان الحكم المطلق اليوم في العالم كله لتم له النجاح في حكمه ، وقاده إلى الخير ، وحل مشكلاته بوجه يحقق للعالم السلام ، والسعادة المنشودة » (3) .
لقد ذكر المسلمون لمحمد صلى الله عليه وآله ألف معجزة ـ كما في مجمع البحرين للشيخ
= أشد فرحاً . . . ) ، الديباج على مسلم : 6 / 91 ، المصنف لعبد الرزاق الصنعاني : 11 / 298 ، ( الله أسر بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته ) مسند الشاميين للطبراني : 3 / 47 ، رياض الصالحين للنووي : 253 ، كنز العمال : 1 / 255 ح 1136 .
(1) النساء : 147 .
(2) انظر ، قصة الحضارة : 3 / 570 و : 13 / 130 ـ 131 .
(3) انظر تأريخ الفلسفة لفندلبند : 552 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 76

الطريحي (1) ـ من يوم ولادته إلى يوم انتقاله للرفيق الأعلى ، ولمجرد التيمن ، والتبرك نذكر واحدة منها ، قالت حليمة السعدية : « ناولت محمداً ، وهو في المهد ، وللمرة الأولى ، الثدي اليمنى فأقبل عليها ، ثم أعطيته اليسرى فأبى وتركها لأخيه ، وكان هذا دأبه لا يأخذ إلا الواحدة ، ويترك لأخيه الأخرى » (2) أي لأخيه من الرضاع . وعلق على ذلك عالم معاصر بقوله : « لله أنت يا محمد ! هكذا فطرت على القناعة ، والعدل ، وعلى كراهية الإستثار بالفضل ، لقد طبت في المهد صبياً كما طبت رجلاً سوياً » وبهذا العدل ، وكل الخلال الفضلى جلب محمد الناس إلى الإسلام بشهادة القرآن : « ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك » (3) ، ولو انفظوا من حوله لكان الإسلام مجرد كلام في كلام ، ومن هنا كان محمد رحمة مهداة للعالمين ، ونعمة كبرى على المسلمين ، وجزاءاً متمماً للإسلام ، كما أن الإسلام جزء متمم لمحمد .
( بقدرته التي لا تعجز عن شيء وإن عظم ، ولا يفوتها شيء وإن لطف ) أي دق وصغر . إختلف الفلاسفة ، وعلماء الكلام في معنى قدرته تعالى ، وأطالوا الكلام كما في أسفار الملا صدرا ! علماً بأن الله سبحانه قد حددها ، وأوضحها بقوله : « إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون » (4) خطيراً كان الشيء أم حقيراً ـ فخلق الكون بكامله ، وخلق الذرة سواء في قدرته تعالى ، وفي نهج البلاغة : « وما الجليل ،
(1) انظر ، مجمع البحرين : 3 / 126 ، الخرائج والجرائح : 3 / 972 ، فتح الباري : 6 / 425 ، البداية والنهاية : 12 / 9 ، سبل الهدى والرشاد : 9 / 409 و 423 و : 10 / 300 .
(2) انظر ، تأريخ الطبري : 1 / 573 ، سيرة ابن هشام : 1 / 106 ، الثقات لابن حبان : 1 / 39 .
(3) آل عمران : 159 .
(4) يس : 82 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 77

واللطيف ، والثقيل ، والخفيف ، والقوي ، والضعيف في خلقه إلا سواء » (1) ( فختم بنا على جميع من ذرأ ) أي خلق . ختم سبحانه الوحي والنبوة بمحمد صلى الله عليه وآله فلا نبي ، وأهل بيت نبي بعد محمد عليهم أفضل الصلوات ( وجعلنا شهداء على من جحد ) جاء في أصول الكافي : « أن الإمام الصادق قال في تفسير هذه الآية : « فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً » (2) : نزلت هذه الآية في أمة محمد صلى الله عليه وآله خاصة ، في كل قرن منهم ، إمام منا شاهد عليهم ، ومحمد صلى الله عليه وآله شاهد علينا » (3) ( وكثرنا بمنه على من قل ) أمة محمد صلى الله عليه وآله أكثر الأديان السماوية أئمة ، وعلماء بدين ، ويشهد بذلك كتب التفسير ، والحديث ، والعقيدة ، والفقه ، وأصوله ، والأخلاق ، وكتب السيرة ، والمناقب ، بل وعدداً أيضاً ، لأن موسى ، وعيسى عليهم السلام يبرءان ممن حرف التوراة ، والإنجيل ، وفي صحيح مسلم ، كتاب الإيمان باب في قول النبي : « أنا أول الناس يشفع في الجنة ، وأنا أكثر الأنبياء تبعاً . . . وإن نبياً من الأنبياء ما يصدقه من أمته إلى رجل واحد » (4) .
اللهم فصل على محمد أمينك على وحيك ، ونجيبك من خلقك ، وصفيك من عبادك ، إمام الرحمة ، وقائد الخير ، ومفتاح البركة ، كما نصب لأمرك نفسه ، وعرض فيك للمكروه بدنه ، وكاشف في الدعآء
(1) انظر ، نهج البلاغة : 2 / 117 ، خطبة ( 185 ) ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 13 / 56 .
(2) النساء : 41 .
(3) انظر ، الكافي : 1 / 190 ح 1 ، شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي : 1 / 420 ، غاية المرام : 2 / 387 ح 5 قريب منه ، التفسير الصافي : 1 / 451 ، التفسير الأصفى : 1 / 210 .
(4) انظر ، صحيح مسلم ، : 1 / 130 ح 196 و 330 و 332 ، بتفاوت يسير في اللفظ ، الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض : 207 ، مسند أبي يعلى : 7 / 51 ح 3967 و ص 52 ح 3970 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 78

إليك حامته ، وحارب في رضاك أسرته ، وقطع في إحياء دينك رحمة ، واقصى الأدنين على جحودهم ، وقرب الأقصين على استجابتهم لك ، ووالى فيك الأبعدين ، وعادي فيك الأقربين .


الأمانة

( اللهم فصل على محمد أمينك على وحيك ) إختار سبحانه محمداً لرسالته ، لا لذكائه ، وفطنته ، أو لنسبه ، وشجاعته ، وكفى ، بل ولصلابته في الحق إلى حد التضحية بالنفس من أجله ، ولالتزامه بالصدق وإن أضربه ، وقيامه بالقسط ولو على نفسه ، ولطهره في السيرة ، والسريرة ، وحبه للخير ، ورحمته بأعدائه ، وأوليائه ، وحرصه على سعادة الجميع ، وهذه الخلال الفضلى ، وأمثالها ألزم له من ظله قبل النبوة ، وبعدها ؛ لأنها تنبع من نفسه ، ومن هنا كان أهلاً لوحي الله ، ورسالته ، وأيضاً من هنا قال الشيعة الإمامية بعصمة النبي عن الخطأ ، والخطيئة كبارها ، وصغارها منذ خلقه الله إلى أن قبضه إليه .
والأمانة من حيث هي من أمهات الفضائل ، فهي توأم العفة في البطن ، والفرج ، والنزاهة في اليد ، واللسان ، والورع عن جميع المعاصي ، والمحارم . وفي سفينة البحار مادة ( خ . و . ن ) عن رسول الله صلى الله عليه وآله : « من خان أمانة في الدنيا ، ولم يردها إلى أهلها ، ثم أدركه الموت ـ مات على غير ملتي » (1) ، ومعنى هذا أن من لا وفاء له لا دين له .
وتجدر الإشارة أن الأمانة يجب ردها لمن هي له حتى ولو حل دمه ، وماله ـ
(1) انظر ، مستدرك سفينة البحار : 3 / 230 ، منتهى المطلب : 2 / 1016 ، من لا يحضره الفقيه : 4 / 15 ، أمالي الصدوق : 516 ، بحار الأنوار : 72 / 171 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 79

غير الأمانة ـ قال الإمام الصادق عليه السلام : « أن ضارب علي بالسيف ، وقاتله لو ائتمنني ، قبلت ذلك منه لأديت له الأمانة » (1) . وقال الإمام زين العابدين عليه السلام : « فوالذي بعث بالحق محمداً نبياً لو أن قاتل أبي الحسين عليه السلام ائتمنني على السيف الذي قتل به أبي لأديته إليه » (2) . وهذا الحكم من الأحكام الشرعية الإلزامية ، لا من الأخلاقيات ، والمستحبات ، على أن كل الأحكام الشرعية أخلاقية ، وكل الأحكام الأخلاقية شرعية ( ونجيبك ) أي صفيك . وما بعده تفسير له .


الرحمة

( إمام الرحمة ) العدل : هو القصد في الأمور ، وكل ما يدل على التسوية ، والمعادلة ، والممائلة في الحقوق ، والواجبات .
والعفو : التجاوز عن الذنب . والرحمة تعم ، وتشمل الإحسان ، والعناية ، والاهتمام ، والتيسير ، والتسهيل ، وتخفيف العقوبة عن المذنب ، أو تركها من الأساس ، ومحمد صلى الله عليه وآله رحمه مهداة للعالمين بكل ما لهذه الكلمة من معنى ، أجل لا رحمة ، ولا رأفة بالظالمين ، والمجرمين ؛ لأنها تتحول جوراً على المجتمع ، قال سبحانه : « وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين » (3) . . . . . « الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم
(1) انظر ، الكافي : كتاب المعيشة ، باب أداء الأمائة ح 5 ، وسائل الشيعة : 19 / 74 ، تهذيب الأحكام : 6 / 351 ، وسائل الشيعة 19 / 74 ، تنبيه الخواطر : 1 / 12 ، التفسير الصافي : 1 / 461 .
(2) انظر ، أمالي الصدوق 319 ، بحار الأنوار : 75 / 114 ح 3 ، معاني الأخبار : 108 ، وسائل الشيعة : 19 / 76 ، روضة الواعظين : 373 ، مستدرك سفينة البحار : 1 / 223 .
(3) البقرة : 93 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 80

بهما رأفة في دين الله » (1) .
ثم إن رحمته تعالى على نوعين : عامة وإليها أشار سبحانه بقوله : « ورحمتي وسعت كل شيء » (2) ، وتشمل نعمة الوجود ، والحياة ، والعناية ، والرزق ، والإدراك ، وإرسال الرسل ، ورحمة خاصة وإشار إليها جل وعز بقوله : « والله يختص برحمته من يشآء والله ذو الفضل العظيم » (3) ، وهذه يمنحها سبحانه ـ مضافة إلى تلك ـ للأنبياء ، والأئمة ، والعلماء العالمين ، وكل من آمن بالله ، واتقى معاصيه ، وبكلمة كل من يستحق الثواب .
( وقائد الخير ، ومفتاح البركة ) كل حاكم يثق به البريء ، ويخافه المجرم فهو قائد بحق ، أما قائد الخير ، والبركة فهو بالإضافة إلى العدل ، كبير في نفسه ، عظيم في همته ، سريع في نجدته ، لا يهنأ بعيش إلا أن تمتلئ الأرض عدلاً ، وأمناً ، وبراً ، وخيراً . ولهذه الغاية أرسل سبحانه محمداً للعالمين كما نصت الآية : « ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين » (4) ، وفي الحديث : « أنا رحمة مهداة » (5) ( كما نصب
(1) النور : 2 .
(2) الأعراف : 156 .
(3) البقرة : 105 .
(4) الأنبياء : 107 .
(5) انظر ، الطبقات الكبرى : 1 / 192 ، كنز العمال : 11 / 423 ح 31985 و 31995 ، سنن الدارمي : 1 / 9 ، مستدرك الحاكم : 1 / 35 ، مجمع الزوائد : 8 / 257 ، المصنف للكوفي : 7 / 441 ، سؤالات حمزة للدار قطني : 127 ، مسند الشهاب : 2 / 189 ح 1195 ـ 1161 ، الجامع الصغير : 1 / 395 ، تفسير القرطبي : 4 / 63 ، تفسير ابن كثير : 3 / 211 ، الدر المنثور : 4 / 342 ، فتح القدير : 3 / 423 ، الكامل في التأريخ : 4 / 231 ، علل الدار قطني : 10 / 105 ، بحار الأنوار : 16 / 115 ، تأريخ دمشق : 5 / 41 ، فقه السنة سيد سابق : 1 / 10 و 2 / 595 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 81

لأمرك ) أي للإسلام وسيطرته حتى أذل الأديان بجهاد محمد ، وحكمته ( وعرض فيك للمكروه بدنه ) بعث سبحانه محمداً صلى الله عليه وآله إلى المشركين ، والضالين ، ليستأصل الفساد من جذوره ، فيقضي على العقائد الفاسدة ، والتقاليد الموروثة ، فامتثل ، وبدأ يعيب عليهم دينهم ، وعاداتهم ، ويتوعدهم بما أعد لهم من عذاب الله ، فحاولوا جاهدين أن يثنوه بالحسنى عن عزمه فلم يسمع ، فأغروه بالملك ، والمال فرفض . وعندها صمموا على إيذائه ، والتنكيل به ، وبمن أتبعه من الناس ، ولكنه صبر ، واحتمل الكثير من المشقة ، والمصاعب ، وما من أحد ناصر الحق بقول ، أو فعل إلا ودفع ثمنه غالياً من نفسه ، وأهله ، أو من ماله ، وعرضه حتى ولو كان المتكبر على الحق فرداً لا فئةً ، أو مجتمعاً ، فكيف إذا ناضل الفرد الأعزل أمة ، أو شعباً ؟ .
( وكاشف في الدعاء إليك حامته ) ، وهي الجماعة التي تحميه ، وتذب عنه ( وحارب في رضاك أسرته ) الذين اصروا على الشرك كعمه أبي لهب ( وأقصى الأدنين على جحودهم ، وقرب الأقصين على استجابتهم لك ، ووالى فيك الأبعدين ، وعادى فيك الأقربين ) قال الإمام علي عليه السلام : « إن ولي محمد من أطاع الله ، وإن بعدت لحمته ـ أي نسبة ـ وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت قرابته » (1) ، وعلى هذا الأساس قرب محمد الأباعد المطيعين لله ، وأبعد الأقارب المتمردين على طاعة الله ، وهذا هو شأن من أخرج الدنيا من قلبه ( وأدأب ) من الدأب بمعنى الجد في العمل ، والإستمرار عليه ( إلى ملتك ) إلى دينك ، وشريعتك ( لأهل دعوتك ) وهم أهل بيته الأطايب ، وعلماء الصحابة الذين حفظوا سنته وأقواله ، ونشروها من بعد .
( وهاجر إلى بلاد الغربة . . . ) كان المسلمون في مكة ضعافاً مغلوبين على
(1) انظر ، نهج البلاغة : 4 / 22 ، الحكمة ( 96 ) ، شرح نهج البلاغة : 18 / 252 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 82

أمرهم ، يقاسون المحن الرهيبة من أعداء الدعوة الجديدة ، فهاجروا إلى المدينة ، وكانت هذه الهجرة فاتحة يمن ، وخير للمسلمين ، بل وللبشرية كلها حيث أصبح لدين العدل ، والحرية دولة قوية ، ورادعة تكفل ، وتصون لكل إنسان حقه ، وكرامته من أي ملة كان ، ويكون ، ولا سبيل عليه لأية سلطة حتى ينتهك حرمة الآخرين ، وعندئذ يتسلط عليه الحق لردعه ، وتأديبه ( إرادة منه لإعزاز دينك ، واستنصاراً على أهل الكفر بك . . . ) هذا هو الهدف الأول ، والأخير من دولة الإسلام : صيانة الحق لأهله ، وردع العابث ، والناكث ( فنهد إليهم . . . ) أسرع إلى جهاد أعداء الله ، والإنسانية ، وفي نهج البلاغة : « فبلغ رسالات ربه غير وان ، ولا مقصر ، وجاهد في الله أعداءه غير واه ولا معذر » (1) ، أي لا يعتذر .
( اللهم فارفعه بما كدح فيك إلى الدرجة العليا من جنتك . . . ) مقام محمد صلى الله عليه وآله عند الله لا يعلوه مقام ، بل ، ولا يدانيه ، ويساويه ، لأن الجزاء من جنس الأعمال ، والآثار ، وآثار محمد صلى الله عليه وآله هي عين آثار القرآن ، والإسلام ، وعليه يكون هذا الدعاء ، والطلب تماماً كالصلاة على محمد ، وتمجيداً لعظمته ، وخصاله ، وتحميداً لجهاده ، وأفعاله ، وتسبيحاً بفضله ، وكماله . ( يا مبدل السيئات بأضعافها من الحسنات إنك ذو الفضل العظيم الجواد الكريم ) لسبب موجب ، كالتوبة ، وإصلاح ذات البين ، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور ، ومن الضعف ، والضلالة إلى القوة ، والهداية .
(1) انظر ، نهج البلاغة : 1 / 229 ، خطبة ( 116 ) ، وفي بعض شروح نهج البلاغة ، بلفظ ( فبلغ رسالات ربه كما أمره لا متعدياً ، ولا مقصراً ، وجاهد في الله أعداءه لا وانياً ، ولا ناكلاً ) كما جاء في الشرح الحديدي : 7 / 276 ، مناقب آل أبي طالب : 1 / 136 ، بحار الأنوار : 18 / 220 ، جواهر المطالب في مناقب علي لابن الدمشقي : 1 / 318 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 83

الدعاء الثالث

الصلاة على حملة العرش

اللهم ، وحملة عرشك الذين لا يفترون من تسبيحك ، ولا يسأمون من تقديسك ، ولا يستحسرون من عبادتك ، ولا يؤثرون التقصير على الجد في أمرك ، ولا يغفلون عن الولة إليك .
وإسرافيل صاحب الصور ، الشاخص الذي ينتظر منك الإذن ، وحلول الأمر ؛ فينبه بالنفخة صرعى رهائن القبور ؛ وميكائيل ذو الجاه عندك ، والمكان الرفيع من طاعتك ؛ وجبرئيل الأمين على وحيك ، المطاع في أهل سماواتك ، المكين لديك المقرب عندك ؛ والروح الذي هو على ملائكة الحجب ؛ والروح الذي هو من أمرك فصل عليهم .
( اللهم ، وحملة العرش ) وجود الجن ، والملائكة حقيقة واقعية ؛ لأن الوحي أثبته ، والعقل لا ينفيه ، فيجب الإيمان ، والتصديق على سبيل الإجمال بلا تفصيل وتطويل .

في ظلال الصيحيفة السجادية 84

وإذا قال قائل : العلم الحديث لم يثبت وجود الجن ، والملائكة .
قلنا في جوابه : وهل في العلم القديم ، والحديث ما ينفيه ؟ ثم هل أحاط العلم الحديث بكل شيء ، وأحصى عدد الكائنات ما ظهر منها وما بطن ؟ وأي عالم قديم ، أو جديد يعرف حقيقة نفسه ، وعقله ، بل وجسمه المحسوس ، وما فيه من شعر ، وخطوط ، وذرات ؟ ومن جهل نفسه فهو بغيره أجهل .
والله سبحانه لا يجلس على العرش ، لأنه منزه عن الجسم ، والمادة ، وإلا افتقر إلى مكان ، وكل مفتقر حادث .
ثانياً : لو جسماً لكان له مثيل ، والله تعالى ليس كمثله شيء .
ثالثاً : لا بد أن يكون الحامل أقوى من المحمول ، والله أشد قوة ، وغنى عن كل شيء . وإليه يفتقر كل شيء ، وعليه يكون العرش كناية ، وتعبير عن ملكه تعالى و مشيءته التي تنفذ كيف شاء ومتى شاء إثباتاً ، ونفياً ، أما حملة العرش فكناية عن جلاله ، وإكرامه ، وقدرته ، وعظمته .
( يفترون عن تسبيحك . . . ) اقتباس من قوله تعالى : « وترى الملائكة حآفين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم » (1) . . . . « يسبحون الليل والنهار لا يفترون » (2) « ولا يستحسرون عن عبادتك » أي لا يعيون ، ولا يملون من التسبيح ، والعبادة . وفي الآية : « لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون » (3) ( ولا يغفلون عن الوله إليك ) الوله : الحب الشديد ( وإسرافيل صاحب الصور ، الشاخص ) المراد بالصور ما أشار إليه سبحانه بقوله : « ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم
(1) الزمر : 75 .
(2) الأنبياء : 20 .
(3) الأنبياء : 19 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 85

ينسلون » (1) . والشاخص : المائل ( وميكائيل ذو الجاه عندك ) في الآية : « من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين » (2) ، ساوى سبحانه بين عداوة جبريل ، وميكائيل ، وعداوة الله ، ورسله .
( وجبريل الأمين على وحيك . . . ) جبريل عليه السلام هو الملك المقرب إلى الله والأمين على وحيه المطاع عند الملائكة ، قال سبحانه في وصفه : « ذي قوة عند ذى العرش مكين مطاع ثم أمين » (3) . . . « علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى » (4) ذو مرة : ذو حصافة في عقله ، ورأيه ، فاستوى : فاستقام على صورته التي خلقه الله عليها .
وعلى الملائكة الذين من دونهم : من سكان سماواتك ، وأهل الامانة على رسالاتك ؛ الذين لا تدخلهم سامة من دؤب ، ولا إعياء من لغوب ، ولا فتور ، ولا تشغلهم عن تسبيحك الشهوات ، ولا يقطعهم عن تعظيمك سهو الغفلات ، الخشع الأبصار فلا يرومون النظر إليك ، النواكس الأذقان ؛ الذين قد طالت رغبتهم فيما لديك ، المستهترون بذكر آلائك ، والمتواضعون دون عظمتك ، وجلال كبريائك ، والذين يقولون إذا نظروا إلى جهنم تزفر على أهل معصيتك : سبحانك ما عبدناك حق عبادتك فصل عليهم . . .
( وعلى الملائكة الذين من دونهم ) أي من دون إسرافيل ، وميكائيل ، وجبريل
(1) يس : 51 .
(2) البقرة : 98 .
(3) التكوير : 21 .
(4) النجم : 7 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 86

( وأهل الأمانة على رسالاتك ) فيه إيماء إلى أن هناك ملائكة ـ غير جبريل ـ أمناء على وحي الله لأنبيائه ، وأن جبريل سيد الملائكة يحمل الوحي إلى محمد سيد الأنبياء ، وأن من دونه من الأنبياء يحمل إليه الوحي من هو دون جبريل من الملائكة ، فكل ملك يبعث إلى نظيره منزلة ، وقدراً ( لا تدخلهم سامة من دؤب ) من استمرار وملازمة ، وهذا اقتباس من قوله تعالى : « يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسئمون » (1) ( ولا إعياء من لغوب ) التعب الشديد ( ولا فتور ) ولا تقصير ( الخشع الأبصار ) لا يرفعون الأبصار إلى فوق ، ولا يلتفتون يميناً ، وشمالاً ( فلا يرومون النظر إليك ) ؛ لأنهم على علم اليقين بأنه تعالى : « لا تدركه الأبصر وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير » (2) ، وأيضاً لا يتوهمونه بالتصور ؛ لأن ذاته فوق العقول ، وفي الحديث : « تفكروا في خلق الله ، ولا تفكروا في الله فتهلكوا » (3) . ( النواكس الأذقان ) من نكس بمعنى طأطأ ( المستهترون بذكر آلائك ) المولعون بذكر نعمه تعالى ( والذين يقولون إذا نظروا إلى جهنم تزفر ) تصيح . وفي نهج البلاغة : « ونار شديد كلبها ، عال لجبها ، ساطع لهبها ، متغيظ زفيرها ، متأجج سعيرها ، بعيد خمودها ، ذلك وقودها . . . » (4) أي صوت لهبها ، من شدة سطوعه ،
(1) فصلت : 38 .
(2) الأنعام : 103 .
(3) انظر ، الجامع الصغير : 1 / 514 ح 3347 و 3349 ، كنز العمال : 3 / 106 ح 5705 و 5708 ، فيض القدير شرح الجامع الصغير : 3 / 345 ، كشف الخفاء : 1 / 311 ، الدر المنثور : 2 / 110 و : 6 / 130 ، ذيل تأريخ بغداد : 3 / 147 ، مجمع الزوائد : 1 / 81 ، إتحاف السادة المتقين : 1 / 163 و : 6 / 536 ، وأورده الشيخ قدس سره بلفظ : ( ولا تفكروا في ذات الله فتهلكوا ) وما أثبتناه من المصادر السابقة .
(4) انظر ، نهج البلاغة : 2 / 131 ، خطبة ( 190 ) عيون المواعظ والحكم : 449 ، غرر الحكم : =
في ظلال الصيحيفة السجادية 87

واضطرابه ، إذا نظر الملائكة إلى جهنم على هذا الكلب ، واللجب حمدوا الله على النجاة منها ، وشعروا بالتقصير في شكرة تعالى على هذه السعادة العظمى ، والنعمة الكبرى .
وعلى الروحانيين من ملائكتك ، وأهل الزلفة عندك ، وحمال الغيب إلى رسلك ؛ والمؤتمنين على وحيك ، وقبائل الملائكة الذيم اختصصتهم لنفسك ، وأغنيتهم عن الطعام ، والشراب بتقديسك ، وأسكنتهم بطون أطباق سماواتك ؛ والذين على أرجائها إذا نزل الأمر بتمام وعدك .
وخزان المطر، وزواجر السحاب ؛ والذي بصوت زجره يسمع زجل الرعود ؛ وإذا سبحت به خفيفة السحاب . . . التمعت صواعق البروق ، ومشيعي الثلج ، والبرد ، والهابطين مع قطر المطر إذا نزل ؛ والقوام على خزائن الرياح ، والموكلين بالجبال فلا تزول ؛ والذين عرفتهم مثاقيل المياه ، وكيل ما تحويه لواعج الأمطار ، وعوالجها .
ورسلك من الملائكة إلى أهل الأرض بمكروه ما ينزل من البلاء ، ومحبوب الرخاء ؛ والسفرة الكرام البررة ؛ والحفظة الكرام الكاتبين ؛ وملك الموت ، وأعوانه ؛ ومنكر ، ونكير ، ورومان فتان القبور .
( وعلى الروحانيين من ملائكتك )
كل الملائكة روحيون ـ نسبة إلى الروح ـ
= ( 9995 ) ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 13 / 110 ، جواهر المطالب في مناقب علي لابن كثير الدمشقي : 1 / 210 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 88

والمراد بالروحانيين هنا الملائكة الذين هم أعلم بالله من غيرهم ( وأهل الزلفة ) المنزلة القريبة عند الله ( وحمال الغيب إلى رسلك ؛ والمؤتمنين على وحيك ) اقتباس من الآية : « الله يصطفى من الملائكة رسلاً » (1) وتقدم قبل لحظة ( وقبائل الملائكة الذين اختصصتهم لنفسك ) قربتهم منك ، وأوكلت إليهم المهمات ( وأسكنتهم بطون أطباق سماواتك ) في إحدى خطب النهج : « من ملائكة أسكنتهم سمواتك ، ورفعتهم عن أرضك » (2) . وفي ثانية « وليس في أطباق السماء موضع إهاب إلا وعليه ملك ساجد ، أو ساع حافد » (3) أي خفيف سريع .
وإن قال قائل : لقد صعد الإنسان إلى القمر ، وطاف آفاق السماء بالطائرة ، وسفينة الفضاء ، وما رأى ملكاً ساجداً ، أو ساعياً .
قلنا في جوابه : لقد أقر العلم القديم ، والحديث وجود العديد من كائنات لا تقع تحت الحواس وعليه فليس من الضروري لنؤمن بشيء أن نراه رأي العين ، بل قد نؤمن إيماناً صادقاً بما لا تراه الأعين ، وقد لا نؤمن بما تراه العين إحتراساً من خداع الحواس . هذا إلى أن الذي يخلق الشيء من لا شيء قادر على أن يخلق أشياء لا ترى بالبصر ، بل ولا بالبصيرة ، أيضاً ، ونحن المسلمين نؤمن ، ونوقن بأن ما من إنسان مكلف إلا وعلى يمينه ، ويساره ملكين يسجلان كل ما يقول ، ويفعل ، والمصدر الوحيد لإيماننا هذا ، الوحي ، ومنه قوله تعالى : « وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون » (4)
(1) الحج : 75 .
(2) نهج البلاغة : 1 / 210 ، خطبة ( 109 ) ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 7 / 200 .
(3) انظر ، نهج البلاغة : 1 / 173 ، خطبة ( 91 ) ، شرح النهج لابن أبي الحديد : 6 / 425 .
(4) الأنفطار : 12 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 89


( وخزان المطر ، وزواجر السحاب . . . ) جاء في بعض الروايات : « أن ما من شيء في الكون من أصغر صغير إلى أكبر كبير إلا ومعه ملك موكل به يحفظة ، ويدبر شؤونة في جميع مراحله ، علماً بأن وجود الأشياء الطبيعية ، وصفاتها محكومة بقوانين ضرورية ، ولا شيء منها يتوقف على إرادة ملك ، أو جن ، أو إنس ، وظاهر القرآن الكريم يقرر ذلك بوضوح : « وخلق كل شيء فقدره تقديراً . . . » (1) ، وقال تعالى : « سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا » (2) ، وقال الإمام الصادق عليه السلام : ( أبى الله أن يجري الإشياء إلا بأسباب ، فجعل لكل شيء سبباً ) (3) وعليه ينبغي طرح روايات الملائكة المدبرة ، أو تأويلها بما يتفق مع كتاب الله ، والواقع .
الجواب : إن السبب ، والمصدر الأول للسنن ، والنواميس الكونية هو الله سبحانه الذي خلق الكون ، وأودع فيه السنن ، والقوانين ، وغيرها ، ومعنى هذا أن كلمة الأسباب لا تطلق على القوانين الكونية إلا على سبيل المجاز ؛ لأن السبب الحقيقي هو الله الذي خلق الكون بكل ما فيه ، وعليه يكون ذكر الملائكة القائمين بالتدبير لكل شيء ، كناية عن أن الأشياء بالكامل حتى ربط العلل بمعلولاتها ، والنتائج بمقدماتها هي في قبضة الله ، ورهن بمشيئته ، وبكلمة من ربط المعلول بعلته في القضايا الطبيعية يستطيع أن يفصل بينهما .
( ولواعج الأمطار ، وعوالجها ) قال الشيخ الطريحي في مجمع البحرين : « لواعج الأمطار : هي التي لها تأثير شديد في النبات ، من لعجة الضرب : إذا آلمه ،
(1) الفرقان : 2 .
(2) الفتح : 23 .
(3) انظر ، الكافي : 183 ح 7 ، شرح اصول الكافي : 5 / 139 و : 11/ 234 و : 11 / 213 .
في ظلال الصيحيفة السجادية 90

وأحرق جلده ، وعوالجها هي ما تراكم منها ، مثل عوالج الرمال (1) ( والحفظة الكرام الكاتبين ) لأقوال العباد ، وأفعالهم ( ومنكر ، ونكير ) إشارة إلى حساب القبر( ورومان فتان القبور ) في مجمع الطريحي مادة ( ط . ي . ر . ) أن رسول الله صلى الله عليه وآله : « أول من يدخل على الميت في قبرة ملك اسمه رومان ، يقول للميت : « اكتب ما عملت من حسنات ، وسيئات إلى آخر الحديث » (2) ، أما وصفة بالفتان فيشير أن الله سبحانه يبتلي به صاحب القبر المسكين ، إضافة إلى زنزانته ، وظلمته ، ووحشته ! وهكذا حال الإنسان من العناء ، والبلاء على ظهر الأرض إلى رومان ، ومنكر ، ونكير في بطنها . . . أبداً لا نجاة إلا لمن اتقى معاصي الله في الخلوات .
والطائفين بالبيت المعمور ، ومالك ، والخزنة ، ورضوان ، وسدنة الجنان ، والذين « لا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما مؤمرون » (3) . والذين يقولون : « سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبي الدار » (4) . والزبانية الذين إذا قيل لهم : « خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه » (5) ابتدروه سراعاً ، ولم ينظروه . ومن أوهمنا ذكره ، ولم نعلم مكانه منك ، وبأي أمر وكلته . وسكان الهوآء ، والارض ، والمآء ، ومن منهم على الخلق .
(1) انظر ، مجمع البحرين : 4 / 123 ، مادة « ل . ع . ج » .
(2) انظر ، مجمع البحرين : 2 / 254 ، بحار الأنوار : 56 / 234 ، مستدرك سفينة البحار : 4 / 255 و : 8 / 366 ، سبل الهدى والرشاد : 9 / 251 ، ينابيع المودة : 3 / 414 .
(3) التحريم : 6 .
(4) الرعد : 24 .
(5) الحاقة : 30 ـ 31 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي