حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 159

حكم ومواعظ
من حياة الانبياء عليهم السلام
(4)






النبي موسى عليه السلام






حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 160


حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 161

قال الله تعالى : «ولقد ارسلنا موسى بآياتنا ان اخرج قومك من الظلمات الى النور وذكرهم بايام الله ان في ذلك لآيات لكل صبار شكور» (1) .
من نعم الله تعالى على البشرية هو ان يبعث لهم رسولا ونبيا ومبلغا من انفسهم يرشدهم الى طريق الحق ويبلغ لهم رسالات الله ، «هو الذي بعث في الميين رسولا منهم ...» (2) وعلى الرسول ان تكون له صلة وثيقة بالدرجة الاولى مع قومه وعشيرته يحدثهم بلسانهم وبلغتهم حتى يتمكن من هدايتهم الى طريق الحق ، وكذلك اذا اراد ان ينتخب له خليفة ووزيرا يساعده على تبليغ رسالته ويكون خليفة من بعده ينتخب من القريبين منه وممن يثق بهم ويعتمد عليهم وافضلهم علما وعملا وحكمة ، وبامر من الله تعالى ، مثلما حدث لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم عندما امر الله تعالى ان ينذر عشيرته ويدعوهم «وانذر عشيرتك الاقربين» (3) فدعاهم وجمعهم وصنع لهم طعاما وانتخب من بينهم ابن عمه علي بن ابي طالب عليه السلام وزيرا وخليفة ، وقد جاء في حديث الانذار يوم الدار ، دعى النبي صلى الله عليه واله وسلم اقرباءه وعشيرته الى دار عمه ابي طالب ، وهم يومئذ اربعون رجلا
1ـ ابراهيم : 5.
2ـ الجمعة : 2.
3ـ الشعراء : 214.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 162

يزيدون رجلا او ينقصونه ، وفيهم اعمامه ، ابو طالب ، وحمزة ، والعباس ، وابو لهب ، وابن عمه علي بن ابي طالب عليه السلام ، وقام رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وخطب فيهم وكان آخر ما قال : «يا بني عبد المطلب اني والله ما اعلم شابا من العرب جاء قومه بافضل مما جئتكم به ، جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد امرني الله ان ادعوكم اليه ، فايكم يؤازرني على امري هذا على ان يكون اخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟ فاحجم القوم عنه غير علي بن ابي طالب عليه السلام اذ قال : انا يا نبي الله اكون وزيرك عليه ، فاخذ رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وقال : ان هذا اخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له واطيعوا ...» اخرج هذا الحديث كثير من الصحاح والسنن فراجع (1) .
وكذلك نراه قد اختار اقرب الناس اليه اخيه هارون ليكون خليفة ووزيرا له في حياته ومن بعد وفاته يشدد به ازره ويساعده على نشر رسالته .. «واجعل لي وزيرا من اهلي ، هارون اخي ، اشدد به ازري ، واشركه في امري ...» (2) .
نسب موسى عليه السلام


موسى اسم مركب من اسمين بالقبطية ، ـ مو ـ بمعنى الماء ، و ـ سي ـ بمعنى الشجر ، وسمي بذلك لان التابوت الذي كان فيه موسى عليه السلام وجد عند الماء والشجر ، وجدته جواري آسية عندما خرجن ليغتسلن .
وقال الثعلبي : هو موسى بن عمران ، بن يصهر ، بن قاهث ، ابن لاوي ، بن
1ـ الطبري ج2 ص319 ، الكامل في التاريخ ج2 ص62 ، السيرة الحلبية ج1 ص311 كنز العمال ج15 ص115 ومسند احمد ج5 ص41 ، شواهد التنزيل ج1 ص371 الى غير ذلك .
2ـ طه : 29ـ 32.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 163

يعقوب عليه السلام .
وقال اهل العلم باخبار الاولين : ان عمران بن يصهر نكح «نخيب» بنت إشموئيل بن بركيا بن يقشان بن ابراهيم ، فولدت له هارون وموسى عليه السلام «وقد اختلف في اسم ام موسى ، فقال محمد بن اسحاق : اسمها ، نخيب ، وقيل : افاحية ، وقيل : بوقائيد ، وهو مشهور ، وقيل : ناجية ، وفي الطبري : يوخابد» .
وكان عمر عمران مائة وسبعا وثلاثين سنة ، وعندما ولد له موسى عليه السلام كان له من العمر سبعون سنة . (1)
وكان عمر موسى عليه السلام مائتين واربعين سنة ، وكان بينه وبين ابراهيم عليه السلام خمسمائة سنة (2) .
روي عن ابي الحسن الاول عليه السلام «الامام الكاظم عليه السلام» عن النبي صلى الله عليه واله وسلم قال :
ان الله اختار من الانبياء اربعة للسيف : ابراهيم ، وداود ، وموسى ، وانا : واختار من البيوتات اربعة فقال عز وجل : «ان الله اصطفى آدم ونوحا وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين» (3) .
وكذلك روي عن ابي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : اول نبي من بني اسرائيل موسى عليه السلام وآخرهم عيسى وستمائة نبي» (4) .
1ـ عرائس الثعلبي ص105 وكامل التواريخ : ج1 ص85.
2ـ البحار : ج13 ص6.
3ـ آل عمران : 33 .
4ـ نفس المصدر : ص7.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 164

ولادته عليه السلام


قال تعالى : «نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون ، ان فرعون علا في الارض وجعل اهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح ابناءهم ويستحيي نساءهم انه كان من المفسدين ، ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين ...» (1) الخ .
تشرح لنا هذه الآيات المباركة من آية 3 الى آية 35 من سورة القصص بشكل مفصل عن حياة موسى عليه السلام من حين ولادته الى حين وفاته ، ونحن نختصر بعض اهم ما حدث في حياة موسى عليه السلام .
بعدما استولى فرعون على الحكم وعلا في الارض ، وبغى وتجبر واستكبر ، اخذ يظلم قومه ويعذبهم ويقتلهم وجعلهم شيعا ، يكرم البعض ويقربهم ويذل الآخرين ويستضعفهم وكان حكمه في بني اسرائيل ، حيث اخذ ـ يذبح ابناءهم ويستحي نساءهم ـ ويقتل الاطفال ويبقر بطون الحوامل ، وكان سبب افعاله الاخيرة هذه هو :
«ان فرعون راى في منامه ان نارا اقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فاحرقت القبط وتركت بني اسرائيل ، فجمع علماء قومه فسالهم تفسير منامه ، فقالوا له : يخرج من هذا البلد رجل يكون هلاك مصر على يده وهلاك فرعون .
فلما سمع فرعون بذلك قال : لاقتلن ذكور اولادهم حتى لا يكون ما يريدون ، وفرق بين النساء والرجال ، وحبس الرجال في المحابس وكلف جلاوزته ان يفتشوا النساء وكلما رأوا حامل يبقروا بطنها ويقتلوا وليدها اذا كان
1ـ القصص : من 3 الى 5.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 165

ذكرا ، كما كلف القوابل ان يفتشن النساء تفتيشا دقيقا ...
فلما حملت ام موسى بموسى عليه السلام لم يظهر حملها ، ولم ترتفع بطنها ولم يتغير لونها ولم يظهر لبنها ، فكانت القوابل لا يعرضن لها ، فلما وضعته عليه السلام نظرت اليه امه حزنت واغتمت وبكت وخافت عليه من الذبح ، فاوحى الله تعالى اليها ، ان ارضعيه ، فارضعته واشبعته ، بعد ذلك انزل الله على ام موسى التابوت «اي الصندوق» ونوديت ، ضعيه في التابوت فاقذفيه في اليم ، وهو البحر ، ولا تخافي ولا تحزني انا رادوه اليك .
وقيل : اخفته امه ثلاثة اشهر ترضعه في حجرها لا يبكي ولا يتحرك ، فلما خافت عليه عملت له تابوتا مطبقا ووضعته فيه ثم القته في البحر ليلا كما امرها الله تعالى .
كان لفرعون قصرا للنزهة على شط النيل ، وفي ذلك اليوم كان جالسا مع زوجته آسية على ضفاف النيل واذا به ينظر الى سواد من بعيد في النيل ترفعه الامواج وتضربه الرياح حتى جاء الى باب القصر ، فامر فرعون باخذه فاخذ التابوت ورفع اليه فلما فتحه وجد فيه صبيا جميلا ، فقال : هذا اسرائيلي ، فالقى الله في قلب فرعون وزوجته آسية محبة شديدة ، ولكن تذكر فرعون المنام واراد ان يقتله ، فقالت آسية : لا تقتلوه عسى ان ينفعنا او نتخذه ولدا ، وهم لا يشعرون انه موسى ، ولم يكن لفرعون ولد ، فوافق فرعون وعفى عنه وقال : التمسوا له مرضعة ترضعه وتربيه ، فجاءوا بعدة نساء فلم يشرب لبن احد من هذه النساء ، وذلك قوله تعالى : «وحرمنا عليه المراضع من قبل» (1) .
لما بلغ ام موسى ان فرعون قد اخذه فحزنت عليه وبكت وكادت ان
1ـ القصص : 12.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 166

تموت حزنا ثم ضبطت نفسها وقالت لاخته ، «اخت موسى» اتبعيه «قصيه» فجاءت اخته اليه فابصرته ورات النساء حوله لا يقبل موسى باخذ ثدي احد من النساء وكان فرعون مغتما غما شديدا ، فدخلت اخت موسى قالت لهم : هل ادلكم على اهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ، قالوا نعم : فجاءت بامه ، فلما اخذته في حجرها والقمته ثديها التقمه وشرب من لبنها ، ففرح فرعون واهله واكرموا امه واكرموها واتخذوها ربيبة لموسى وقالوا لها ربيه لنا ونعطيك ما تريدين «فرددناه الى امه كي تقر عينها ولا تحزن وليعلم ان وعد الله حق ولكن اكثرهم لا يعلمون» (1) .
وكان فرعون يقتل اولاد بني اسرائيل كل ما يلدون ، ويربي موسى ويكرمه ، ولا يعلم ان هلاكه على يده .
فلما درج موسى واخذ يمشي كان يوما عند فرعون فعطس موسى فقال : «الحمد لله رب العالمين» فانكر فرعون ذلك عليه ولطمه وقال : ما هذا الذي تقول ؟ فوثب موسى على لحيته ، وكان فرعون طويل اللحية ـ فقلعها ، فهم فرعون يقتله ، فقالت امراته غلام حدث لا يدري ما يقول وما يصنع ، فقال فرعون : بل يدري فقالت له آسية : ضع بين يديه تمرا وجمرا ، فان ميز بينهما فهو الذي تقول ، فوضع بين يديه تمرا وجمرا وقال له كل ، فمد يده الى التمر فجاء جبرئيل فصرفها الى الجمرة فمسكها في يده واراد ان ياكلها فاحترقت يده وصرخ واخذ يبكي ويتالم ، فقالت آسية لفرعون : الم اقل لك انه لا يعقل ؟ فعفى عنه .
1ـ القصص : 13.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 167

خروج موسى من طاعة فرعون


فلم يزل موسى عند فرعون في اكرم كرامة حتى بلغ مبلغ الرجال ، وكان ينكر على فرعون ما يتكلم ويجادله ، وكان موسى يتكلم بالتوحيد حتى هم به ليضربه فخرج موسى من عنده ودخل مدينة لفرعون فوجد رجلان يقتتلان ، احدهما من شيعة موسى والآخر من شيعة فرعون ، فاستغاثه الذي من شيعته ، فجاء موسى فوكزه فقضى عليه ، وصل الخبر الى فرعون بعث خلف موسى ليقتله فهرب موسى وضل في المدينة متواريا حتى خرج منها خائفا يترقب ، ويقول : «رب نجني من القوم الظالمين» (1) .

موسى عليه السلام وبنات شعيب


ظل موسى يسير في الصحراء يريد مدينة مدين حتى وصل الى باب مدين راى بئرا يستقي الناس منها لاغنامهم ودوابهم ، فجلس ناحية يستريح ولم يكن اكل شيء منذ ثلاثة ايام ، فبينما هو جالس ، نظر الى جاريتين ومعهما غنيمات لا تدنوان من البئر ، فقال لهما : ما لكما لا تستقيان ؟ فقالتا : لا نتمكن «حتى يصدر الرعاء وابونا شيخ كبير» (2) فرحمهما موسى ودنا من البئر فقال لمن على البئر ، استقي لي دلوا ولكم دلوا ، فوافقوا ، فاستقى لبنتي شعيب واغنامهما «ثم تولى الى الظل فقال رب اني لما انزلت الي من خير فقير»(3) .
كان موسى عليه السلام فقيرا لا يجد ما ياكله ، فكان ياكل بقلة الارض واوراق
1ـ القصص : 21.
2ـ القصص : 23.
3ـ القصص : 24.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 168

الشجر حتى كانت ترى خضرة البقل من جلدة بطنه من هزاله وضعفه .

زواج موسى عليه السلام


فلما رجعتا ابنتا شعيب الى ابيهما شعيب ، قال لهما : لقد اسرعتما في الرجوع ؟! فاخبرتاه بقصة موسى فقال شعيب لواحدة منهما : اذهبي اليه فادعيه لنجزيه اجر ما سقى لنا ، فجاءت اليه «تمشي على استحياء» فقالت له : «ان ابي يدعوك ليجزيك اجر ما سقيت لنا» فقام موسى عليه السلام معها ، فلما وصل الى البيت دخل على شعيب وقص عليه قصته مع فرعون وقتل القبطي ، فقال له شعيب «لا تخف نجوت من القوم الظالمين» ، قالت احدى بنات شعيب : «يا أبت استأجره ان خير من استأجرت القوي الأمين» .
فقال له شعيب : اني اريد ان ازوجك احدى ابنتي هاتين على ان تشتغل عندي ثمان سنين فان زدت الى عشرة سنين فذلك اليك ، ولا اريد ان اشق عليك ، فوافق موسى على هذا المهر وتزوج احدى بناته التي جاءت اليه ودعته وقالت استاجره ... .
فلما قضى موسى الاجل وانتهت العشر سنين قال لشعيب ، لا بد لي ان ارجع الى وطني وامي واهل بيتي فوافق شعيب واعطاه بعضا من غنمه وحمل زوجته وخرج .

خروج موسى من مدينة شعيب


فلما اراد موسى عليه السلام الخروج من بيت شعيب قال له : ابغي عصا تكون معي ، وكان عصي الانبياء عند شعيب قد ورثها منهم وجمعها في بيت ، فقال
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 169

شعيب لموسى عليه السلام ادخل هذا البيت وخذ عصا من بين تلك العصي ، فدخل فوثبت عليه عصا نوح وابراهيم عليهما السلام وصارت في كفه ، فاخرجها ونظر اليها شعيب وقال له خذها فقد خصك الله بها ، هذا بعدما قال له ارجعها ثلاث مرات ولكن كان ياخذ نفس العصا ... وكانت لهذه العصا معاجز وكرامات كثيرة ياتي ذكرها انشاء الله تعالى .

تبليغ الرسالة


خرج موسى عليه السلام مع اهله وغنمه يريد مصر ، فلما صار في الصحراء ومعه اهله اصابهم برد شديد وريح وظلمة ، وقد جنهم الليل ونظر موسى الى نار قد ظهرت من بعيد فقال لاهله اني ارى نارا انتظروا هنا لعلي آتيكم منها بخبر ، او اجلب لكم منها للتدفئة بها .. «فلما قضى موسى الاجل وسار باهله آنس من جانب الطور نارا قال لاهله امكثوا اني ءآنست نارا لعلي ءآتيكم منها بخبر او جذوة من النار لعلكم تصطلون» (1) .
فلما وصل موسى الى النار راى شجرة تلتهب عليها النار ، فذهب اليها ليقتبس منها اهوت اليه ففزع منها ورجع ورجعت النار ، كرر العملية ثلاث مرات فلم يتمكن منها فرجع عنها .
وعند رجوعه سمع صوت «نداء من الله» ان يا موسى اني انا الله رب العالمين ، وان القي عصاك ، فالقاها واذا هي تهتز كانها جان ، فصارت حية ، ففزع منها موسى وهرب فناداه الله : خذها ولا تخف انك من الآمنين ، اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ، ففعل ذلك موسى ومسك الحية عادت عصا ،
1ـ القصص : 29.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 170

واخرج يده فاذا هي بيضاء يشع منها النور ، فقال له الله هذه آيتين ، يدك والعصاء اذهب الى فرعون انه طغا وتكبر وبلغ رسالتك له وادعوه الى التوحيد .
فقال موسى يا رب اني قتلت منهم نفسا فاخاف ان يقتلوني وهذا اخي هارون افصح مني لسانا فارسله معي ليساعدني واشد به ازري ، فارسل الله معه هارون وقال له : انطلق برسالتي هذه الى فرعون وانت بعيني وحمايتي ونصرتي ، وقل له في البداية قولا لينا لعله يتذكر او يخشى ، ولا تخف منه ومن حاشيته وجنده .

دخول موسى عليه السلام على فرعون


فلما بعث الله موسى الى فرعون اتى بابه فاستاذن ولم يؤذن له ، فضرب الباب بعصاه فانفتحت ثم دخل على فرعون فاخبره انه رسول من رب العالمين ، وطلب منه ان يرسل معه بني اسرائيل ليعلمهم التوحيد ويهديهم الى الحق وعبادة الله .
فالتفت اليه فرعون وقال له يا موسى الم نربك فينا عندما كنت وليدا ، وبقيت عندنا حتى كبرت ، وقتلت رجلا منا وكفرت بنعمتي ، فلم يعتني موسى عليه السلام بكلامه ودعاه الى عبادة رب العالمين ، فرد عليه فرعون وقال له انا رب العالمين واذا اتخذت ربا غيري سوف اسجنك واعذبك .
فقال له موسى كيف بك اذا جئتك بمعجزة وبينة ، قال فرعون لا باس اين معجزتك ؟! فالقى عصاه فاذا هي ثعبان عظيم ، فلم يبق احد من الجلساء ، الا هرب ودخل فرعون رعب شديد ، فقال فرعون لموسى عليه السلام ، انشدك بالاهك والحليب الذي رضعته الا ما كففتها عني ، فمسكها وعادت عصى ، ثم نزع يده
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 171

فاذا هي بيضاء للناظرين ، فعند ذلك عاد فرعون الى هدوءه واطمئنت نفسه وهود روعه واراد ان يصدق موسى ولكن هامان وزيره قال له : كيف تؤمن به وانت اله تعبد وتريد ان تصير تابعا لعبدك .
رجع فرعون عن تصميمه وقال للملأ الذين حوله : ان هذا ساحر عليم يريد ان يخرجكم من ارضكم بسحره فماذا تامرون ، قالوا له : ابعث وراء السحرة حتى يغلبوه ، فوافق وامر ان يجمعوا السحرة من كل المدائن فاجتمع الف ساحر من كبارهم واختار من الالف مائة ومن المائة ثمانين ، وطلب منهم ان يغلبوا موسى ، فقالوا له اذا غلبناه فما تعطينا ؟ قال انكم لمن المقربين عندي واشارككم في ملكي اذا غلبتم موسى فوافقوا وجعلوا موعدهم يوم عيد لهم .

ايمان السحرة بموسى عليه السلام


فلما ارتفع نهار ذلك اليوم ، وجمع فرعون الخلق والسحرة من كل الاقطار ، وجلس هو في القبة التي صنعت له من الحديد والفولاد ، وكانت اذا وقعت الشمس عليها لم يقدر احد ان ينظر اليها من لمع الحديد ووهج الشمس ، وجاء السحرة وقالوا لموسى : اما تلقي انت او نلقي نحن ، فقال لهم موسى : القوا ما انتم ملقون ، فالقوا حبالهم وعصيهم فاقبلت تضطرب مثل الحيات وهاجت ، فلما راى موسى ذلك خاف وكاد ان ينهزم ، فجائه النداء ، لا تخف يا موسى انك انت الاعلى والقي ما في يمينك ، فالقى العصى واذا هي ثعبان عظيم فتحت فاها واخذت تاكل ما القوه ، وانهزم الناس خوفا منها ، وقتل منهم عشرة آلاف رجل وامراة وصبي وطأ بالاقدام عند الهرب ، ودارت الافعى على قبة فرعون وهامان فاحدثا في ثيابهما من شدة الخوف وغشي عليهما ... بعد ذلك ناداه الله : خذها يا
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 172

موسى ولا تخف سنعيدها الى سيرتها الاولى ، فادخل يده في فمها ومسكها فاذا هي عصا كما كانت ...
فلما راى السحرة ذلك خروا ساجدين لله تعالى وآمنوا برب العالمين ، رب موسى وهارون .
فغضب فرعون عند ذلك غضبا شديدا وقال : آمنتم له قبل ان آذن لكم انه لكبيركم الذي علمكم السحر ، فسوف اقطع ايديكم وارجلكم من خلاف ثم لاصلبنكم اجمعين .
فقالوا له لا مانع لنا من ذلك انا آمنا بالله وسوف نعود الى ربنا ونطمع ان يغفر لنا خطايانا لاننا اول من آمن برب العالمين ، افعل ما يحلو لك ... «لا ضير انا الى ربنا لمنقلبون ، انا نطمع ان يغفر لنا ربنا خطايانا ان كنا اول المؤمنون» (1) .

خروج موسى عليه السلام من السجن


فحبس فرعون من آمن بموسى في السجن حتى انزل الله تعالى على فرعون وقومه الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم فتالم فرعون وعلم ان هذا غضب الرب عليهم لانه سجن موسى عليه السلام واصحابه فاضطر الى اطلاق سراحهم .
بعدما خرج موسى وقومه من السجن اوصى الله اليه ان اخرج من هذه البلاد مع الذين آمنوا بي من عبادي ، واعلمهم انه سوف يتبعهم فرعون وجنوده .
فخرج موسى ومعه بني اسرائيل وبينما هم سائرون واذا اعترضهم في
1ـ الشعراء : 51.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 173

الطريق بحر عظيم لا يمكن عبوره ، وفي نفس الوقت خرج فرعون وجميع من معه من اصحابه وجنوده ، وركب هو في الف الف وخرج لقتال موسى عليه السلام واصحابه ، وتركوا المدينة وما فيها من كنوز واموال .
فلما قرب موسى من البحر وقرب فرعون من موسى ، خاف اصحاب موسى من فرعون وجنوده وقالوا لقد ادركنا فرعون ، فقال لهم موسى عليه السلام لا تخافوا ان الله معنا سوف ينجينا من الخطر .
في هذه اللحظة الحرجة انقذ الله موسى واصحابه واوحى الله الى موسى «ان اضرب بعصاك البحر» فضربه فانفلق البحر كالطود العظيم ، اي كالجبل العظيم ، وارتفع الماء وظهرت الارض يابسة وطلعت عليها الشمس فيبست ، وامره الله ان يدخل مع قومه وقال له : «لا تخاف دركا ولا تخشى» (1) ودخل موسى واصحابه البحر ، وكان معه اثني عشر سبطا ، فضرب الله لهم في البحر اثنى عشر طريقا ، فاخذ كل سبط في طريق ، وكان الماء قد ارتفع على رؤوسهم مثل الجبل ، وكان ينظر بعضهم الى بعض ويتحدثون .
فلما وصل فرعون الى البحر ورآها قد انفلق الى موسى ، «استغل هذه الفرصة» قال لاصحابه : الا تعلمون اني ربكم الاعلى وقد انفرج لي البحر ؟ ادخلوا ولا تخافوا ، فلم يجسر احد ان يدخل البحر وامتنعت الخيل منه لهول الماء ، فاقتحم فرعون البحر واقتحم اصحابه خلفه ، فلما دخلوا كلهم ، ودخل آخر من دخل من اصحابه وخرج آخر من خرج من اصحاب موسى عليه السلام ، امر الله تعالى الرياح فضربت البحر بعضه ببعض ، فاقبل الماء يقع عليهم مثل الجبال واغرقهم جميعا ، فلما راى فرعون الموت المحقق قال : «آمنت انه لا اله الا
1ـ طه : 77.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 174

الذي آمنت به بنو اسرائيل وانا من المسلمين»(1) فاخذ جبرئيل كفا من حمأة فدسها في فيه وقال : الآن وقد عصيت الله من قبل وكنت من المفسدين ، فهلك فرعون ومن معه ونجى موسى عليه السلام ومن معه ..

انحراف بني اسرائيل


لما خرج موسى واصحابه من البحر نزلوا في صحراء ، لا شجر فيها ولا ماء ، فاعترض بنو اسرائيل على موسى «وكان هذا اول اعتراض واول الانحراف عن الحق ...» وقالوا : يا موسى اهلكتنا وقتلتنا واخرجتنا من العمران الى مفازة «اي الى الصحراء» لا ظل ولا شجر ولا ماء ...
فدعى الله موسى عليه السلام فبعث الله لهم غمامة تظلهم من الشمس في النهار ، وينزل عليهم بالليل المن والسلوى فيقع على النبات والشجر فياكلونه كما انزل الله لهم مائدة من السماء ياكلون منها ...
فلما اكلوا وشبعوا ، اعترضوا مرة اخرى على موسى عليه السلام وطلبوا منه انواع متعددة من الطعام ... «واذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الارض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال اتستبدلون الذي هو ادنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فان لكم ما سالتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بانهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبييين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون» (2) .
1ـ يونس : 90.
2ـ البقرة : 61.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 175

استمر بنو اسرائيل على هذه الحالة يؤذون موسى عليه السلام ويعترضون عليه ويطالبونه بانواع الاطعمة والاشربة وهم يعصونه ويستكبرون على الله حتى غضب الله عليهم وتاهوا اربعين سنة في الصحراء حتى ماتوا وهلك اكثرهم .

نعم الله على بني اسرائيل


لقد انعم الله على بني اسرائيل نعم كثيرة منها :
فلق لهم البحر وانجاهم من فرعون وجنوده .
واهلك عدوهم واغرق جنوده واورثهم ديارهم واموالهم «اي ديار قوم فرعون واموالهم لما اغرقهم الله» .
وانزل عليهم التوراة فيها بيان كل شيء يحتاجون اليه .
وارسل الله عليهم غمامة تقيهم من الحر والشمس .
وجعل لهم عمود من نور يستضيئون به في الليل اذا لم يوجد القمر .
وايضا : انزل الله تعالى عليهم المن كالعسل ياكلونه ، وبعد ذلك انزل عليهم السلوى «وهو طائر جميل لذيذ اللحم» . وعندما اكلوا وعطشوا .
ارسل الله لهم عيون ماء باردة ولذيذة ، وذلك عندما اوحى الله الى موسى عليه السلام ان اضرب بعصاك الحجر فتفجرت لهم اثنا عشر عينا فشربوا وارتووا منها .
وطلبوا من موسى ثياب ، فجدد الله لهم ثيابهم التي كانت عليهم ، لا تخلق ولا تبلى .
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 176

بناء بيت المقدس


روي عن الثعلبي عن وهب بن منبه قال :
اوصى الله تعالى الى موسى عليه السلام ان يتخذ مسجدا لجماعتهم ، ويتخذ بيت المقدس للتوراة ولتابوت السكينة لتبليغ الرسالة ، كما امره ان يبني قبابا للقربان ، وان يجعل لذلك المسجد سرادقات «مثل الخيمة الكبيرة» ظاهرها وباطنها من الجلود الملبسة عليها ، وتلك الجلود من ذبائح القربان ، وحبالها من اصواف تلك الذبائح ، وان يكون عددها : اثنا عشر خيمة ، ويسكن فيها اسباط بني اسرائيل ، وان تزين بقضبان الذهب والفضة ... الخ .
ففعل موسى عليه السلام ما امره الله تعالى وكان عدد بني اسرائيل اكثر من ستمائة الف رجلا والاموال التي صرفها موسى كانت من اموال فرعون واصحابه التي تركوها بعد هلاكهم .
فدعى موسى عليه السلام اخاه هارون فقال : ان الله قد اصطفاني بنار نزلها من السماء لتاكل القرابين المقبولة ، وليسرح منها في بيت المقدس ، واوصاني بها ، واني قد اصطفيتك لها ، واوصيك بها ، فدعى هارون ابنيه وقال لهما : ان الله تعالى قد اصطفى موسى بامره واوصاه به ، وانه اصطفاني له واوصاني به ، واني قد اصطفيتكما له واوصيكما به .
وكان اولاد هارون هم الذين يلون سدانة بيت المقدس وامر النيران والقربان .
وكما ان سدانة بيت المقدس والنار التي نزلت من السماء ومعابد بني اسرائيل كانت لاولاد هارون عليه السلام ... (1)
1ـ البحار : ج13 ص192.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 177

فكذلك سدانة الكعبة وبيوت العلم والحكمة وانوار العلم والمعرفة ، التي نزلت من السماء ولم يكن فيها دخان الشك والشبه ، ومثل الله بها في آية النور ، هي لاولاد علي بن ابي طالب امير المؤمنين عليه السلام الذي هو من النبي صلى الله عليه واله وسلم كهارون من موسى ، سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ... فتامل .

عبادة العجل :


لما عاد بنو اسرائيل الى مصر بعد ان نجوا من البحر وبعد ان هلك فرعون وقومه ، وعدهم الله تعالى ان ينزل لهم التوراة والشرائع ليعملوا بها ليكونوا سعداء في دنياهم وآخرتهم .
استخلف موسى اخيه هارون على اصحابه وذهب الى ربه فمكث على الطور اربعين ليلة ، وانزل الله عليه التوراة في الالواح وبعد ذلك رجع موسى الى قومه رآهم قد ارتدوا وعبدوا العجل الذي صنعه لهم السامري من الذهب وجعل له خوار ... فغضب موسى واخذ براس اخيه يجره ويعاتبه ويلومه فاعتذر هارون وقال لاخيه ان القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ، بعد ذلك ندم القوم على فعلهم هذا بعد ما تبين لهم الحق من الخطا وتابوا الى الله تعالى وقتلوا انفسهم ، فعفى الله لهم ذنوبهم وتاب عليهم .
وروي ان موسى وهارون وقفا يدعوان الله ويتضرعان اليه ، وهم يقتل بعضهم بعضا ، حتى نزل الوصي برفع القتل وقبلت توبة من بقي .
وذكر ابن جريح : ان السبب في امرهم بقتل انفسهم ، ان الله علم ان ناسا منهم ممن لم يعبدوا العجل ، لم ينكروا عليهم ذلك مخافة القتل ، مع علمهم بان العجل باطل ، فلذلك ابتلاهم الله بان يقتل بعضهم بعضا .
حكم ومواعظ من حياة الانبياء - الجزء الاول 178

وقيل : غشيتهم ظلمة شديدة فجعل يقتل بعضهم بعضا ثم انجلت الظلمة عن سبعين الف قتيل .
كان هذا لابد منه من اجل اقلاع جذور هذه الظاهرة الخطيرة ، هي الانحراف عن مبدا التوحيد وعن الدين الالهي .. .
مرة اخرى عاد بنو اسرائيل الى غيهم وانحرافهم وطغيانهم باستكبارهم وطلبوا من موسى عليه السلام ان يروا الله قالوا : «... يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فاخذتكم الصاعقة وانتم تنظرون» (1) .
جعل بنو اسرائيل شرطا لايمانهم رؤية الله جهرا ، ويظهر من هذا روح العناد واللجاج والجهل عند بني اسرائيل ، عند ذلك لقنهم الله درسا لم يُنسى حيث انزل عليهم صاعقة وبرق شديد ورعد مهيب وزلزال مروع ، فتركهم على الارض صرعى من شدة الخوف .
اغتم موسى لما حدث وتالم بشدة ، لان هلاك سبعين نفر من كبار بني اسرائيل ، قد يوفر الفرصة لبني اسرائيل ان يثيروا ضجة وعناد مع نبيهم ، لذلك تضرع الى الله ان يعيدهم الى الحياة ، فقبل طلبه وعادوا الى الحياة مرة ثانية لعلهم يشكرون ويهتدون .
فتابوا وتاب الله عليهم ، وعادوا للعصيان فاعاد الله غضبه عليهم ، مرة اخرى عصوا الله لما رجع موسى الى بني اسرائيل ومعه التوراة لم يقبلوا منه ، فرفع الله جبل طور سيناء عليهم وقال لهم موسى : لئن لم تقبلوا ليقعن الجبل عليكم وليقتلنكم فنكسوا رؤوسهم وقالوا : نقبله .
سال طاوس اليماني الامام الباقر عليه السلام : عن طائر طار مرة لم يطر قبلها ولا
1ـ البقرة : 55.

السابق السابق الفهرس التالي التالي