زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 331

فعدم تعجيل العقوبة لا يعني أن الأمور منفلتة من يد الله الغالب القاهر العلي القيدر ، فهو المهمين على العالم كله . لكنه قد يؤخر الجزاء لأسرار وحكم يعلمها سبحانه ، فهو لا يعجل العذاب للعاصين ـ أحياناً أو غالباً ـ ولكنه بالمرصاد ، فكما أن الجندي الذي يجلس وراء المتراس يراقب ساحة الحرب ، وينتظر الوقت المناسب للهجوم أو لإطلاق القذيفة ، كذلك العذاب الإلهي ينزل في التوقيت المناسب . . مع ملاحظة سائر أسرار الكون . ولا مناقشة في الأمثال .
قال تعالى : «ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون ، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ، مهطعين مقنعي رؤوسهم ، لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء» . (1)
وقد روي عن الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنه قال : «ولئن أمهل الله الظالم فلن يفوت أخذه ، وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه وبموضع الشاجا من مساغ ريقه» . (2)

(1) سورة إبراهيم ، الآية 42 و 43 .
(2) نهج البلاغة ، طبع لبنان ، المطبوع مع تعليقات صبحي الصالح ، ص 141 ، خطبة 97 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 332


«فإنه لا يحفزه البدار»
«يحفزه» يقال : تحفز في مشيه : أي جد وأسرع (1) فهو محتفز : أي : مستعجل (2) والحفز : الإعدال في الأمر للبطش وغيره .
«البدار» يقال : بدر إلى الشيء مبادرةً وبداراً : أسرع (3) وبدر فلاناً بالشيء : عاجله به . (4)
تقول السيدة زينب (عليها السلام) : إعلموا ـ يا أهل الكوفة ـ : أن عدم نزول العذاب الإلهي عليكم . . ليس سببه الإهمال ، فإن الله تعالى لا تدفعه العجلة إلى إنزال العذاب ، لأن الحكمة الإلهية تجعل إطاراً للمقدرات الكونية ، ومنها : إختيار التوقيت المناسب لنزول العذاب ، وإختيار نوعيته .
هذا أولاً . .
وثانياً . . لقد جاء في الحديث الشريف أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سأل ربه أن لا يعاجل أمته

(1) المعجم الوسيط .
(2) مجمع البحرين للطريحي .
(3) نفس المصدر .
(4) المعجم الوسيط .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 333

بالعذاب في الدنيا ، واستجاب الله تعالى لرسوله ذلك ، فجعل من القوانين الكونية عدم نزول العذاب الغيبي على الأمة الإسلامية ـ في الدنيا ـ كرامةً واحتراماً لرسول الله ، وهذه الكرامة لم تكن لغير نبي الإسلام ، من الأمم السالفة ، والأنبياء السابقين في الزمن .
فمعنى قول السيدة زينب (عليها السلام) : «فإنه لا يحفزه البدار» أي : لا يحث الله ـ سبحانه ـ شيء على تعجيل العقوبة والإنتقام ، لوجود أسباب وأسرار كونية ، ولعدم خوف إنفلات المجرم من قبضة العدالة الإلهية . ونقرأ في الدعاء : «ولا يمكن الفرار من حكومتك» .
«ولا يخاف فوت الثار ، وإن ربك لبالمرصاد»
فسوف يأتي الإمام المهدي المنتظر (عجل الله ظهوروه) وينتقم من قتلة الإمام الحسين . . في الدنيا ، أما في الآخرة . . فستكون أول دفعة ـ من البشر ـ يؤمر بهم إلى نار جهنم : هم قتلة الإمام الحسين (عليه السلام) .
المرصاد : المكمن ، وهو المكان الذي يختفى فيه عن أعين الأعداء ، بانتظار التوقيت المناسب للهجوم أو الدفاع

* * * *


زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 334


قال الراوي :
«فوالله لقد رأيت الناس ـ يومئذ ـ حيارى يبكون ، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم (1). ورأيت شيخاً واقفاً إلى جنبي يبكي حتى اخضلت لحيته ، وهو يقول : «بأبي أنتم وأمي ! ! كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشباب ، ونساؤكم خير النساء ، ونسلكم خير نسل لا يخزى ولا يبزى» .

* * * *

‎‎
إلى هنا إنتهى ما هو مذكور في الكتب حول نص الخطبة ، وللقارئ الكريم أن يتساءل : ماذا حدث بعد ذلك ؟
الجواب : هذا ما ستقرؤه في الصفحات القادمة إن شاء الله .

(1) لعل وضع أيديهم في أفواههم كان من أجل حبس أصوات بكائهم كي لا تغطي على صوت السيدة زينب (عليها السلام) وبذلك يستمروا في الإستماع إلى خطبتها ، أو كان ذلك لعض أصابعهم بسبب شدة الندم والتأثر للجريمة التي ارتكبوها ، أو المصيبة الكبرى التي نزلت بالإسلام والمسلمين .
المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 335

كيف ولماذا قطعوا على السيدة زينب خطابها ؟


كانت السيدة زينب (عليها السلام) الشجاعة المفجوعة تتكلم بصوت شجي ، وكل كلمة منها تلهب احاسيس الحزن والأسى والندم في الناس ، حتى ضج الناس بالبكاء والعويل ، وارتبكت قوات الأمن والشرطة ، وصار كل إحتمال للتمرد والإنتفاضة وارداً ، فكيف يتصرفون ؟ !
وماذا يصنعون حتى يقطعوا على السيدة زينب خطابها ، ويصرفوا أذهان الناس إلى شيء آخر ؟ !
هناك من يقول : أمروا بحركة القافلة ، وجاؤا بالرمح الذي عليه رأس الإمام الحسين (عليه السالم) وقربوه من محمل السيدة زينب ، وتعالت صرخات الناس : هذا رأس الحسين . . هذا رأس الحسين ! !
وكانت عينا الإمام مفتوحتين ، وهو ينظر نظرةً فريدة ، وصفها المؤرخون بقولهم : «شاخص ببصره

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 336

نحو الأفق» !
وهنا لم تستطع السيدة زينب أن تستمر في الخطبة رغم شجاعتها وانطلاقها بالكلام ، فهاج بها الحزن من ذلك المنظر الذي وتر أعصابها ، وأوشك أن يقضي عليها . . بسبب الألم الذي بدأ يعصر قلبها العطوف عصرةً يعلم الله درجتها .
فكان رد الفعل منها أنها نطحت جبينها بمقدم المحمل . . وبكل قوة ، حتى سال الدم من رأسها وجبهتها ، وأومأت (أي : أشارت) إليه بخرقة ـ حسب العادة ، العشائرية المتبعة يومذاك ، عند رؤية جنازة الفقيد الغالي ـ ، وشاهدت أن الناس يشيرون بأصابع أيديهم إلى رأس الإمام الحسين ، كما يشيرون إلى مكان وجود الهلال في أول ليلة من الشهر !
فنادت السيدة زينب (عليها السلام) :
يـا هلالاً لمـا استتم كمالا غالـه خسفه فأبدى غروبا
ما توهمت يا شقيق فؤادي كـان هذا مقـداراً مكتوبا

ويتصور أحد الشعراء ـ وهو الحاج هاشم الكعبي ـ ذلك

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 337

الموقف الحزين ويقول : كانت مع السيدة زينب (عليها السلام) في محملها بنت صغيرة للإمام الحسين (عليه السلام) فحينما رأت رأس أبيها بدأت تناديه : يا أبه . . يا أبه . . كلمني أين كنت ! ولما لم تسمع جواباً إنفجرت بالبكاء الشديد ، فنادت السيدة زينب مخاطبةً رأس أخيها العزيز :
أخي : فاطم الصغيرة كلمها فقـد كاد قلبهـا أن يذوبـا

* * * *

‎‎
الإحتمال الثاني : أن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) تقدم إلى عمته ـ ولعل ذلك كان بأمر من الشرطة ـ وقال : يا عمة ! اسكتي ، ففي الباقي من الماضي إعتبار ، وأنت بحمد الله عالمة غير معلمة ، وفهمة غير مفهمة ، إن البكاء والحنين لا يردان من قد أباده الدهر ، فسكتت . (1)

(1) الإحتجاج للشيخ الطبرسي ، طبع لبنان ، عام 1403 هـ ، ج 2 ص 305 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 338




زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 339

نص خطبة السيدة زينب برواية أخرى


وروى الشيخ الطبرسي في كتاب «الإحتجاج» نص الخطبة مع وجود بعض الفروق بين النسختين ، ونحن نذكر ذلك ، تتميماً للفائدة :
قال حذيم الأسدي : لم أر ـ والله ـ خفرةً قط انطق منها ، كأنها تنطق وتفرغ على لسان علي (عليه السلام) وقد أشارت إلى الناس بأن انصتوا ، فارتدت ، الأنفاس وسكنت الأجراس ، ثم قالت ـ بعد حمد الله تعالى والصلاة على رسوله ـ : «أما بعد ، يا أهل الكوفة ، يا أهل الختل والغدر والخذل . (1)

(1) الخذل : ترك النصرة والإعانة . مجمع البحرين للطريحي .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 340


ألا فلا رقأت العبرة ولا هدأت الزفرة .
إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ، هل فيكم إلا الصلف والعجب ، والشنف ، والكذب ، وملق الإماء وغمز الأعداء ، أو كمرعى على دمنة ، أو كفضة على ملحودة ، ألا بئس ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون .
أتبكون أخي ؟ !
أجل ـ والله ـ فابكوا فإنكم أحرى بالبكاء ، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً ، فقد أبليتم بعارها ، ومنيتم بشنارها ، ولن ترحضوها أبداً ، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ، ومعدن الرسالة ، وسيد شباب أهل الجنة ، وملاذ حربكم ، ومعاذ حزبكم ومقر سلمكم وآسي كلمكم ، ومفزع نازلتكم ، والمرجع إليه عند مقاتلتكم ، ومدرة حججكم ، ومنار محجتكم .
ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم ، وساء ما تزرون ليوم بعثكم ، فتعساً تعساً ! ! ونكساً نكساً ! ! لقد خاب السعي ، وتبت الأيدي ، وخسرت الصفقة ، وبؤتم بغضب من الله ، وضربت عليكم الذلة والمسكنة . .
أتدرون ـ ويلكم ـ أي كبد لمحمد (صلى الله عليه وآله

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 341

وسلم) فرثتم ؟ !
وأي عهد نكثتم ؟ !
وأي كريمة له أبرزتم ؟ !
وأي حرمة له هتكتم ؟ !
وأي دم له سفكتم ؟ !
لقد جئتم شيئاّ إداً ، تكاد السماوات يتفطرن منه ، وتنشق الأرض ، وتخر الجبال هداً ؟ !
لقد جئتم بها شوهاء ، صلعاء ، عنقاء ، سوداء ، فقماء ، خرقاء ، كطلاع الأرض ، أو ملء السماء .
أفعجبتم أن تمطر السماء دماً ، ولعذاب الآخرة أخزى ، وهم لا ينصرون .
فلا يستخفنكم المهل ، فإنه (عز وجل) لا يحفزه البدار ، ولا يخشى عليه فوت الثار ، كلا إن ربك لنا ، ولهم لبالمرصاد ، ثم أنشأت تقول (عليها السلام) :
مـاذا تقـول إذ قـال النبي لكم مـاذا صنعتـم وأنتم آخر الأمم
بأهـل بيتـي وأولادي وتكرمتي منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 342

ما كان ذاك جزائي إذ نصحت لكم أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي
إنـي لأخشى عليكم أن يحـل بكم مثـل العذاب الذي أودى على إرم

ثم ولت عنهم . . . .» إلى آخر الرواية . (1)

(1) كتاب «الإحتجاج» للشيخ الطبرسي ج 2 ص 304 ـ 305 ، طبع ايران ، عام 1404 هـ ، وذكرت هذه الخطبة في الكتب التالية :
1 ـ مجالس الشيخ المفيد .
2 ـ أمالي الشيخ الطوسي .
3 ـ بلاغات النساء ، لابن طيفور .
4 ـ مقتل الإمام الحسين ، للخوارزمي .
5 ـ البيان والتبيين ، للجاحظ .
6 ـ روضة الواعظين ، للفتال .
7 ـ مطالب السؤول ، لمحمد بن طلحة الشافعي .
8 ـ مناقب آل أبي طالب ، لإبن شهر آشوب .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 343


الفصل الرابع عشر

  • دار الإمارة
  • السيدة زينب في مجلس ابن زياد
  • ماذا جرى بعد ذلك ؟


  • زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 344




    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 345

    دار الإمارة


    كانت دار الإمارة في الكوفة ـ قبل حوالي عشرين سنة من فاجعة كربلاء ـ مقراً للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وكانت السيدة زينب تعيش في ذلك المكان في ظل والدها أمير المؤمنين ، وهي في أوج العزة والعظمة ، وفي جو مملوء بالعواطف والإحترام ، فيما بين إخوتها وذويها .
    والآن ! وبعد عشرين سنة أصبحت دار الإمارة مسكناً للدعي بن الدعي : عبيد الله بن زياد ، وتبدلت معنويات دار الإمارة مائة بالمائة ، فبعد أن كانت مسكن أولياء الله ، صارت مسكن الد أعداء الله ، وألأم خلق الله .
    واليوم دخلت السيدة زينب إلى دار الإمارة ، وهي في حالة تختلف عما مضى قبل ذلك .
    ذكر الشيخ المفيد في كتاب (الإرشاد) ما يلي :
    ثم إن ابن زياد جلس في قصر الإمارة ، وأذن للناس إذناً عاماً ، وأمر بإحضار رأس الإمام الحسين (عليه السلام) فأحضر

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 346

    ووضع بين يديه ، وجعل ينظر إليه ويتبسم ، وكان بيده قضيب فجعل يضرب به ثناياه ! !
    وكان إلى جانبه رجل من الصحابة يقال له : «زيد بن أرقم» وكان شيخاً كبيراً ، فلما رآه يفعل ذلك قال له : «إرفع قضيبك عن هاتين الشفتين ، فوالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت ثنايا رسول الله ترتشف ثناياه» (1) ثم انتحب وبكى !
    فقال ابن زياد : أتبكي ؟ أبكى الله عينيك ، والله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لأضربن عنقك ، فنهض من بين يديه وصار إلى منزله . (2)
    وجاء في التاريخ : أن إبن زياد أمر بالسبايا إلى السجن ، فحبسوا وضيق عليهم ، ثم أمر أن يأتوا بعلي بن الحسين (عليهما السلام) والنسوة إلى مجلسه . (3)

    (1) وفي نسخة : لقد رأيت شفتي رسول الله عليهما ما لا أحصيه كثرةً يقبلهما .
    (2) كتاب «الإرشاد» للشيخ المفيد ص 342 وكتاب «المنتخب» للطريحي ص 464 ـ المجلس العاشر .
    (3) كتاب «أمالي الصدوق» ، ص 140 ، وكتاب «روضة الواعظين» للفتال ، ج 1 ص 190 .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 347

    السيدة زينب في مجلس ابن زياد


    ذكر الشيخ المفيد في كتاب «الإرشاد» :
    «وأدخل عيال الحسين (عليه السلام) على ابن زياد ، فدخلت زينب أخت الحسين في جملتهم متنكرة وعليها أرذل ثيابها ، فمضت حتى جلست ناحيةً من القصر ، وحفت بها إماؤها .
    فقال ابن زياد ، من هذه التي انحازت ناحيةً ومعها نساؤها ؟ !
    فلم تجبه زينب .
    فأعاد القول ثانيةً وثالثةً يسأل عنها ؟
    فقالت له بعض إمائها : هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله .
    فأقبل عليها ابن زياد وقال لها : الحمد لله الذي فضحكم

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 348

    وقتلكم وأكذب أحدوثتكم . (1)
    فقالت زينب : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وطهرنا من الرجس تطهيرا ، وإنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر ، وهو غيرنا والحمد لله .
    فقال ابن زياد : كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك ؟ ! (2)
    فقالت : ما رأيت إلا جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل ، فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجون إليه وتختصمون عنده (3) فانظر لمن الفلج يومئذ ، ثكلتك أمك يابن مرجانة ! !
    فغضب ابن زياد واستشاط (4) ، فقال له عمرو بن حريث : أيها الأمير ، إنها امرأة والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها .
    فقال ابن زياد : لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين

    (1) قال الزبيدي في «تاج العروس» : الأحدوثة ـ بالضم ـ : ما يتحدث به . قال ابن بري : الأحدوثة : بمعنى الأعجوبة ، يقال : قد صار فلان أحدوثة . وقال الطريحي في «مجمع البحرين» : «الأحدوثة : ما يتحدث به الناس» .
    (2) وفي نسخة : «كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك» ؟
    (3) وفي نسخة : فتحاج وتخاصم .
    (4) وفي نسخة : «فغضب وكأنه هم بها» : أي : أراد ضربها أو قتلها .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 349

    والعصاة المردة من أهل بيتك .
    فرقت زينب وبكت وقالت له : لعمري لقد قتلت كهلي ، وقطعت فرعي ، واجتثثت أصلي ، فإن كان هذا شفاؤك فقد اشتفيت .
    فقال ابن زياد : هذه سجاعة ، ولعمري لقد كان أبوها سجاعاً شاعراً . (1)
    ثم التفت ابن زياد إلى علي بن الحسين وقال له : من أنت ؟ (2)
    فقال : أنا علي بن الحسين .
    فقال : أليس الله قد قتل علي بن الحسين ؟
    فقال علي : قد كان لي أخ يسمى علي بن الحسين ، قتله الناس .
    فقال ابن زياد : بل الله قتله .
    فقال علي بن الحسين : الله يتوفى الأنفس حين موتها .

    (1) وفي نسخة : هذه شجاعة ولعمري لقد كان أبوها شجاعاً . كما في نسخة «تاريخ الطبري» ج 5 ص 457 .
    (2) وفي نسخة : «من هذا» ؟
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 350


    فغضب ابن زياد وقال : ولك جرأة على جوابي (1) وفيك بقية للرد علي ؟ ! إذهبوا به فاضربوا عنقه .
    فتعلقت به زينب عمته ، وقالت : يا بن زياد ! حسبك من دمائنا . واعتنقته وقالت : والله لا أفارقه ، فإن قتلته فاقتلني معه .
    فنظر ابن زياد إليها وإليه ساعة ، ثم قال : عجباً للرحم ! والله إني لأظنها ودت أني قتلتها معه ، دعوه فإني أراه لما به . (2)
    ثم أمر ابن زياد بعلي بن الحسين وأهله فحملوا إلى دار جنب المسجد الأعظم ، فقالت زينب بنت علي : «لا يدخلن علينا عربية إلا أم ولد مملوكة ، فإنهن سبين وقد سبينا . (3) (4)

    * * * *

    ‎‎

    (1) وفي نسخة : وبك جرأة لجوابي .
    (2) الإرشاد للشيخ المفيد ص 243 ـ 244 ، وكتاب الملهوف ، لابن طاووس ، ص 201 ـ 202 ، وتاريخ الطبري ج 5 ص 457 .
    (3) سبين : أسرن .
    (4) بحار الأنوار ج 45 ص 118 ، والملهوف ص 202 .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 351


    في هذا الحوار القصير بين الخير والشر ، وبين الفضيلة والرذيلة ، وبين القداسة والرجس ، وبين ربيبة الوحي وعقيلة النبوة وبين الدعي ابن الدعي ! إنكشفت نفسيات كل من الفريقين .
    أرأيت كيف صرح ابن زياد بالحقد والعداء لأهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والشماتة وبذاءة السان ، وحقارة النفس ودناءة الروح ، وقذارة الأصل ؟
    فهو يحمد الله تعالى على قتل أولياء الله ، وتدفعه صلافة وجهه أن يقول : «وفضحكم» ، وليت شعري أية فضيحة يقصدها ؟ !
    وهل في حياة أولياء الله من فضيحة ؟ !
    أليس الله تعالى قد أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ؟ !
    أليس نسبهم أرفع نسب في تاريخ العظماء ؟ !
    أليست حياتهم متلألأة بالفضائل والمكارم ؟ !
    وهل ـ والعياذ بالله ـ توجد في حياتهم منقصة واحدة أو عيب واحد حتى يفتضحوا ؟
    ولكن ابن زياد يقول : «وفضحكم» .
    ويزداد ذلك الرجس عتواً ويقول : «وأكذب أحدوثتكم» الأحدوثة : ما يتحدث به الناس ، والثناء والكلام الجميل ،

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 352

    والقران الكريم هو الذي يثني على آل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهل اكذب الله تعالى القرآن الذي هو كلامه (عزوجل) ؟ !
    والرسول الأقدس ـ الذي ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ـ قد أثنى على أهل بيته بالحق والصدق ، فهل أكذب الله تعالى رسوله الأطهر ، الذي هو أصدق البرية لهجة ؟ !
    وقد فرضت الضرورة على حفيدة النبوة ، ووليدة الإمامة ، ورضيعة العصمة أن تتنازل وتجيب على تلك الكلمات الساقطة السافلة .


    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 353

    ماذا جرى بعد ذلك ؟


    قال الشيخ المفيد في (الإرشاد) : ولما أصبح عبيد الله بن زياد بعث برأس الحسين (عليه السلام) فدير به (أي : طيف به) في سكك الكوفة كلها وقبائلها .
    فروي عـن زيد بن أرقم أنه قال : مر بـه علي وهـو على رمـح وأنا في غرفة لي (1) فلما حاذاني سمعته يقرأ : «أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا» . (2)
    فوقف ـ والله ـ شعري وناديت : رأسك ـ والله ـ يابن رسول الله أعجب وأعجب . (3)

    (1) الغرفة : الحجرة المطلة على الطريق .
    (2) سورة الكهف ، الآية 9 .
    (3) الارشاد للشيخ المفيد ص 245 .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 354


    وذكر السيد ابن طاووس في كتاب (الملهوف) : قال الراوي : ثم إن ابن زياد صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، وقال ـ في بعض كلامه ـ : «الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله ، ونصر أمير المؤمنين يزيد وأشياعه ، وقتل الكذاب بن الكذاب ! !
    فما زاد على هذا الكلام شيئاً حتى قام إليه عبد الله بن عفيف الأزدي ـ وكان من خيار الشيعة وزهادها ، وكانت عينه اليسرى قد ذهبت يوم الجمل ، والأخرى يوم صفين ، وكان يلازم المسجد الأعظم فيصلي فيه إلى الليل ـ فقال : يابن مرجانة ! إن الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك ومن استعملك وأبوه ، يا عدو الله ! اتقتلون أولاد النبيين وتتكلمون بهذا الكلام على منابر المسلمين ؟ !
    فغضب ابن زياد وقال : من هذا المتكلم ؟
    فقال : أنا المتكلم يا عدو الله ! أتقتل الذرية الطاهرة التي قد أذهب الله عنها الرجس ، وتزعم أنك على دين الإسلام .
    واغوثاه ! أين أولاد المهاجرين والأنصار ، لينتقمون منك ومن طاغيتك ، اللعين بن اللعين على لسان محمد رسول رب العالمين .
    فازداد غضب ابن زياد حتى انتفخت أوداجه ، وقال : علي به ، فتبادرت الجلاوزة من كل ناحية ليأخذوه ، فقامت

    السابق السابق الفهرس التالي التالي