زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 310

قاما وإن قعدا» «حسين مني وأنا من حسين ، أحب الله من أحب حسيناً» (1).
وكانت هذه الأحاديث وأمثالها قد ملأت آذان صحابة الرسول وتابعيهم . . المنتشرين في كل البلاد . . وخاصة الكوفة .
فجريمة قتل الإمام الحسين لا يمكن أن تقاس بجريمة قتل غيره من الأبرياء ، لأن المقتول ـ هنا ـ عظيم فوق كل ما يتصور ، فيكون حجم جريمة قتله أكبر وأعظم من جريمة قتل أي بريء ، فلا يمكن لأهل الكوفة أن يغسلوا عن أنفسهم هذه الجريمة الكبرى .
ثم استمرت السيدة زينب بذكر سلسلة من جوانب العظمة المتجمعة في أخيها سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) لتبين ـ للناس ـ حجم الخسارة الفادحة ، ومضاعفات هذا الفراغ الذي حصل في كيان الأمة الإسلامية ، وهو قتل الإمام المنتخب من عند الله تعالى لهداية البشر ، فقالت (عليها السلام) :
«وملاذ خيرتكم»
الملاذ : الملجأ، والحصن الآمن الذي يحتمى به

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 311

ويلجأ إليه في الشدائد .
خيرتكم : المؤمنين الأبرار ، المتفوقين في درجة إيمانهم بالله تعالى ، وفي جوانبهم الأخلاقية والإيمانية ، كالتقوى ، والعقيدة الراسخة ، وحماية وحراسة الدين ، تقديم الدين على كل مصلحة . . مادية كانت أو غيرها ! !
«ومفزغ نازلتكم»
المفزع : من يفزع إليه ، ويلتجأ إليه .
النازلة : الشديدة من شدائد الدهر . . تنزل بالقوم (1) وقيل : النازلة : هي المصيبة الشديدة . (2)
«ومنار حجتكم»
المنار : محل إشعاع النور . والحجة : الدليل والبرهان للإستدلال على حقيقة شيء .
المنار : محل على سطح الدار ، كان الإنسان الكريم يشعل النار فيه ليلاً ليعلن للناس أن هنا محلاً للضيافة ، فيستدل بنور تلك النار التائهون عن الطريق ، أو المسافرون الذين وصلوا إلى البلد لتوهم ، وهم يبحثون عن مأوى

(1) كتاب «العين» للخليل بن أحمد .
(2) المعجم الوسيط .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 312

يلجأون إليه حتى يحين الصباح .
وتطلق هذه الكلمة ـ حالياً ـ على الأضواء الكشافة القوية في درجة الإضاءة التي توضع على أبراج المراقبة في مطارات العالم ، لإرشاد الطائرات إلى محل المطار ، وخاصةً في الليالي التي يخيم الضباب على سماء المدينة .
لقد جعل الله تعالى الإمام الحسين (عليه السلام) مصباح الهدى ، ينير الدرب لكل تائه أو متحير ، ولكن الناس تجمعوا عليه وكسروا المصباح ، وهم غير مبالين بما ينتج عن ذلك من مضاعفات ، ففي الظلام تقع حوادث السرقة والسطو على المنازل والبيوت ، وجرائم الإغتصاب والقتل ، والضياع عن الطريق ، والسقوط في الحفائر ، وغير ذلك .
أما مع وجود المصباح فلا تحدث هذه الجرائم والمآسي .
ولم يكن الإمام الحسين مناراً مادياً فقط . . بل كان مناراً لمن يبحث عن الحقيقة ، ويسأل عن الدين ، ويريد الحصول على رد الشبهات ، وما يتبادر إلى بعض الأذهان من تشكيكات . ولذلك فقد عبرت السيدة زينب عن الإمام الحسين بـ«منار حجتكم» .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 313


«ومدرة سنتكم»
السنة : العام القحط (1) ، وقيل : السنة المجدبة (2) وقيل : غلب إطلاق كلمة «السنة» على القحط ، مثل ما غلب إطلاق كلمة «الدابة» على الفرس (3).
هذا هو معنى السنة .
ولم أعثر ـ في المعاني التي ذكرت في كتب اللغة معنى لكلمة «مدرة» ـ يتناسب مع كلمة «سنتكم» ، ويحتمل أن يكون تصحيفاً لكلمة «ومدد» أي : من يزودكم بالمؤن المادية في سنوات القحط والجدب ، ويخلصكم من المجاعة والموت . أو يزودكم بالأدلة المعنوية حينما تحتارون في قضاياكم الدينية ، ومشاكلكم العائلية ، وتتلاعب بأفكاركم التشكيكات والأفكار المنحرفة أو المستحدثة ، فتعيشون في ضياع . . لا تفرقون بين السنة والبدعة ، وبين القول الحق والأقوال الباطلة المصبوغة بصبغة الدين !
ثم زادت السيدة زينب (عليها السلام) من درجة توبيخ

(1) كتاب «العين» للخليل بن أحمد .
(2) لسان العرب ، لإبن منظور .
(3) أقرب الموارد للشرتوني ، مع تصرف في بعض الألفاظ .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 314

الناس ، محاولة منها لإيقاظ تلك الضمائر ، ولتعلن لهم أنهم سوف لا يصلون إلى أي هدف تحركوا من أجله فقاموا بهذه الجريمة النكراء . فقالت :
«ألا ساء ما تزرون»
أي : بئس ما حملتم على ظهوركم من الذنوب والجرائم ، فهي من نوع لا يبقي أي مجال لشمول غفران الله وعفوه . . لكم .
«وبعداً لكم وسحقاً»
بعداً : أي : أبعدكم الله تعالى . . بعداً عن رحمته وغفرانه .
سحقاً : هلاكاً وبعداً ، يقال : سحق سحقاً : أي : بعد أشد البعد . (1)
«فلقد خاب السعي ، وتبت الأيدي»
خاب : لم ينل ما طلب ، أو إنقطع رجاؤه . (2)

(1) المعجم الوسيط . وقال الخليل في كتاب «العين» السحق : البعد . ولغة أهل الحجاز : بعد له وسحق ، يجعلونه إسماً ، والنصب على الدعاء عليه ، أي : أبعده الله وأسحقه .
(2) معجم لاروس .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 315


تبت الأيدي ، التب : الخسران والهلاك (1) وقيل : القطع والبتر .
«وخسرت الصفقة»
الصفقة : معاملة البيع أو أية معاملة أخرى . والمعنى أنكم ـ يا أهل الكوفة ـ خسرتم المعاملة ، معاملة بيع الدين والآخرة في قبال الدنيا ، فمن الجنون أن يبيع الإنسان ذلك في قبال عذاب مستمر مزيج بالإهانة والتحقير ، وبثمن قتل إبن رسول الله ، كل ذلك وهو يدعي أنه مسلم ! !
ولعل المعنى : أنكم بعتم الحياة في ظل حكومة الإمام الحسين (عليه السلام) بالحياة في ظل سلطة يزيد ، وذهبتم إلى حرب الإمام الحسين لتحافظوا على كرسي يزيد من الإهتزاز ، ولكن معاملتكم هذه . . خاسرة ، فسوف لا تتهنؤون في ظل حكومته ، فلا كرامة ولا أمان ولا مستقبل زاهر ! !
إن الدين والإنضواء تحت لواء من اختاره الله تعالى هو الذي يوفر للإنسان الحياة السعيدة والعزة والكرامة .
أما الإعراض عن ذلك فسوف يجر الويلات لكم ،

(1) كتاب «العين» للخليل ، ومجمع البحرين للطريحي .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 316

فتتوالى عليكم حكومات جائرة ، فتعيشون حياةً ممزوجة بالتعاسة والذل ، الشامل لجميع جوانب حياتكم الدينية والاقتصادية والسياسية والأمنية وغيرها .
وهنا أدمجت السيدة زينب (عليها السلام) كلامها بالقرآن الكريم واستلهمت منه ذلك فقالت :
«وبؤتم بغضب من الله ، وضربت عليكم الذلة والمسكنة»
قال تعالى : «وضـربت عليهم الذلـة والمسكنـة ، وبـاؤا بغضـب مـن الله . . .» . (1)
«وبؤتم بغضب من الله» أي رجعتم وقد احتملتم معكم غضباً من الله تعالى ، وسوف يسبب لكم هذا الغضب العقاب الأليم والبعد عن رحمة الله وغفرانه ، بكل تأكيد .
وإن الجريمة . . مهما كان حجمها أكبر فسوف يكون غضب الله أشد ، وبالتالي يكون العذاب أكثر إيلاماً وأشد إهانةً وتحقيراً ، ويكون بعد المجرم عن عفو الله وغفرانه أكثر مسافة !

(1) سورة البقرة ، الآية 61 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 317


«وضربت عليكم الذلة والمسكنة»
ضربت : أي كتبت : فلقد كتب الله تعالى لكم الذل ، وقدر لكم المسكنة ، بسبب كفرانكم بنعمة وجود الإمام الحسين (عليه السلام) والغدر به .
الذلة والذل : يعني الهوان ، وهو العذاب النفسي المستمر ، بسبب الشعور بالحقارة والنقص والخوف من إعتداء الآخرين !
المسكنة : الفقر الشديد والبؤس والتعاسة .
ثم بدأت السيدة زينب (عليها السلام) بوضع النقاط على الحروف ، وذلك بالتحدث عن الأبعاد الأخرى لحجم هذه الجريمة ـ أو الجرائم ـ النكراء فقالت :
«ويلكم يا أهل الكوفة ! أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم» .
الكبد : كناية عن الولد ، وقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال : «أولادنا أكبادنا . . .» . (1)
فريتم : الفري : تقطيع اللحم .
لقد شبهت السيدة زينب الإمام الحسين بكبد رسول الله ،

(1) كتاب «بحار الأنوار» ج 104 ، ص 97 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 318

وشبهت جريمة قتل الإمام بقطع كبد الرسول الكريم ، وكم يحمل هذا التشبيه في طياته من معان بلاغية ، وحقائق روحانية ، إذ من الثابت أن مكانة الكبد في الجسم لها غاية الأهمية .
فكم يبلغ الإنحراف بمن يدعي أنه مسلم أن يقتل إماماً هو بمنزلة الكبد من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟
«وأي كريمة له أبرزتم»؟
كريمة الرجل : إبنته ، فالسيدة زينب (عليها السلام) بنت السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهي ـ إذن ـ حفيدة الرسول الكريم ، والحفيدة تعتبر بنتاً للرجل ، وقد كان النبي الكريم يعبر عن السيدة زينب ـ منذ الأيام الأولى من ولادتها ـ بكلمة «بنتي» .
وكانت هذه البنت المكرمة المحترمة تعيش في دارها خلف ستار الحجاب والعفاف وتحافظ على حجابها اكثر من محافظتها على حياتها ، ولكن أهل الكوفة هجموا على خدرها وخيامها ، وسلبوا حجابها ، ثم أسروها وأبرزوها إلى الملأ العام ! وكانت هذه المصيبة أشد من جميع المصائب وقعاً على قلبها . . بعد مصيبة مقتل أخيها الإمام السحين (عليه السلام) .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 319


أيها القارئ الكريم . . توقف قليلاً لتفكر وتعرف عظم الفاجعة : إذا كان سلب الحجاب عن إمرأة مؤمنة عفيفة عادية أصعب عليها من ضربها بالسكاكين على جسمها . . فما بالك بسلب الحجاب عن سيدة المحجبات وفخر المخدرات : زينب الكبرى عليها السلام ؟ !
فهذه الجريمة ـ لوحدها ـ تعتبر من أعظم الجرائم التي ارتكبها أهل الكوفة تجاه بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ! !
فكل ضمير حر لا يمكن له أن ينسى هذه الجريمة ! !
ولم تقتصر هذه المصيبة على السيدة زينب (عليها السلام) بل شملت أخواتها الطاهرات من آل رسول الله ، والنسوة اللواتي كن معها في قيد الأسر .
«وأي دم له سفكتم»
أتعلمون ـ يا أهل الكوفة ـ أي دم لرسول الله سفكتم ! !
لقد اعتبرت السيدة زينب (عليها السلام) الدم الذي سفك من الإمام الحسين ـ يوم عاشوراء ـ هو دم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ من الثابت أن الدم الذي كان يجري في عروق الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن كدماء سائر الناس ، لأن الإمام الحسين لم يكن رجلاً عادياً كبقية البشر ،

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 320

فكل قطرة من دمه الطاهر كان جزءاً من دم رسول الله ، فالإمام الحسين : هو من «أهل البيت» ، وأهل البيت : كتلة واحدة ، وقد صرح النبي الكريم بهذا المعنى يوم قال : «اللهم : إن هؤلاء أهل بيتي وخاصتي وحامتي ، لحمهم لحمي ودمهم دمي ، يؤلمني ما يؤلمهم ويحزنني ما يحزنهم ، انا سلم لمن سالمهم ، وحرب لمن حاربهم . . . إنهم مني وأنا منهم . . .» (1)
فالذين أراقوا دم الإمام الحسين هم ـ في الواقع ـ قد أ راقوا دم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم يدعون أنهم مسلمون ! !
«وأي حرمة له هتكتم»
حرمة الرجل : ما لا يحل إنتهاكه ، وحرم الرجل أهله . (2)

(1) جاء ذلك في الحديث المشهور بـ«حديث الكساء» المروي في كتاب العوالم ، للمحدث الكبير الشيخ عبد الله البحراني ج 2 ص 930 ، والحديث مروي عن الشيخ الكليني بأسناده المعتبرة عن الصحابي جابر بن عبد الله ألانصاري ، عن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) .
(2) المعجم الوسيط .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 321


وهتك الحرمة : يعني إهانة كرامة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قتل إبنه الحسين وسبي كريماته وبناته ، والهجوم عليهن في خيامهن . . بكل وحشية !
وأي إهانة أكبر من هذه الإهانة ؟ !
لقد كانت المرأة تمتاز في الإسلام بصيانة معينة ، وكان كل من يهينها يستحق الذم واللوم من الجميع ، ولكن أهل الكوفة ـ وبأمر من يزيد الطاغية وابن زياد اللعين ـ قاموا بأبشع أنواع الجرائم في مجال إهانة رسول الله وإهدار كرامته ! !
ولذلك نقرأ في كتاب واحد من أبرز علماء أهل السنة هذا الكلام : «إذا دافعنا عن يزيد ، واعتذرنا له في قتله الإمام الحسين بأنه كان يرى منه منافساً له في الخلافة ، فبماذا وكيف نعتذر له في سبيه لبنات رسول الله وأسرهن بتلك الكيفية المؤلمة ، ثم الإنتقال بهن من بلد إلى بلد ؟» .
ثم استمرت السيدة زينب (عليها السلام) تصف فاجعة كربلاء الدامية وملحقاتها من سبي النساء الطاهرات . . بهذه الأوصاف المتتالية :
«أي بهذه الجريمة التي لا مثيل لها في»

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 322

تاريخ البشر .
«صلعاء» : وهي الداهية الشديدة (1) ، أو الأمر الشيدد . ولعل المراد : الجريمة المكشوفة التي لا يمكن تغطيتها بشيء .
«عنقاء» : الداهية (2) وقيل : عنق كل شيء بدايته . (3)
فلعل المعنى أن هذه الجريمة سوف تكون بداية لسلسلة من الأزمات والويلات لكم ، فلا تتوقعوا خيراً بعد عملكم الشنيع هذا .
«شوهاء» قبيحة (4) وفي نسخة : سوداء .
: العظيمة (5) أو الشديدة (6) هذا بعض ما ذكره اللغويون ، ولعل معنى «فقماء» أي معقدة بشكل لا يمكن

(1) ذكر ذلك «المحيط في اللغة» لابن عباد ، وكتاب «العين» للخليل بن أحمد .
(2) القاموس المحيط ، ولسان العرب .
(3) أقرب الموارد للشرتوني .
(4) المعجم الوسيط .
(5) المنجد في اللغة ، وأقرب الموارد للشرتوني .
(6) المعجم الوسيط .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 323

معرفة طريق إلى حلها أو التخلص من مضاعفاتها . (1)
« خرقاء ، كطلاع الارض »أي ملؤها . (2)
«وملء السماء» لعل المعنى أن حجم هذه الجريمة أكبر من أن تشبه أو توصف بمساحة أو حجم معين ، بل هي بحجم الأرض كلها ، والسماء والفضاء كليهما . أي : أن حجمها أكبر من أن يتصور .
فإن قتل الإمام الحسين (عليه السلام) وفقدان الأمة إياه يعني :
أولاً : إبتلاء كل حر في العالم ـ في جميع الأجيال القادمة ـ بالحزن والأسى حينما يقرأ تفاصيل فاجعة كربلاء ، فحتى لو لم يكن مسلماً يشعر بالحزن وتتسابق دموع عينيه بالهطول ، ويشعر بالإنزعاج والتذمر من الذين ارتكبوا هذه الجريمة النكراء .
ثانياً : لقد حرم البشر . . ـ بمختلف دياناتهم وطبقاتهم

(1) المحقق .
(2) المعجم الوسيط ، والقاموس المحيط ، وقال في «لسان العرب» طلاع الأرض : ما طلعت عليه الشمس ، طلاع الشيء ملؤه .
المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 324

وأعمارهم وأجيالهم وبالادهم ـ من بركات وجود الإمام الحسين (عليه السلام) والتي كانت تبقي آثاراً إيجابية مستمرةً ودائمةً إلى آخر عمر الدنيا !
ثالثاً : إن هذه الجريمة ـ بحجمها الواسع ـ فتحت الطريق أمام كل من يحمل نفساً خبيثة في أن يقوم بكل ما تسول له نفسه وتمليه عليه نفسيته في مجال الظلم والإعتداء على الآخرين ، وعدم التوقف عند أي حد من الحدود في مجال الطغيان وسحق كرامة الآخرين .
وقد صرح الإمام الحسين (عليه السلام) بهذا المعنى ـ حينما كان يقاتل أهل الكوفة بنفسه ـ فقال : «. . . . أما إنكم لن تقتلوا بعدي عبداً من عباد الله فتهابوا قتله ، بل يهون عليكم عند قتلكم إياي . . .» . (1)
«أفعجبتم أن مطرت السماء دما»
إن المصادر والوثائق التاريخية التي تصرح بأن السماء أمطرت دماً بعد قتل الإمام الحسين (عليه السلام) كثيرةً جداً .
وكان ذلك المطر أحمر يشبه الدم في لونه وغلظته . . وهذه الحقيقة الكونية مذكورة في كتب الشيعة

(1) كتاب معالي السبطين ، ج 2 ، الفصل العاشر ، المجس الثالث . وكتاب «تظلم الزهراء» ص 222 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 325

والسنة ، القديمة منها والحديثة . (1)



(1) إليك الآن بعض ما كتبه المؤرخون حول هذه الظاهرة الغريبة التي حدثت يوم عاشوراء عند مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) :
1 ـ ذكر الحافظ محب الدين الطبري الشافعي ـ المتوفى سنة 694 هـ ـ في كتابه : ذخائر العقبى ، طبع مصر ، عام 1356 هـ ، صفحة 145 قال : «وذكر أبو نعيم الحافظ في كتاب «دلائل النبوة» عن نضرة الأزدية أنها قالت : لما قتل الحسين بن علي أمطرت السماء دماً ، فأصبحنا وجبابنا (أي : آبارنا) وجرارنا (جمع : جرة) مملوءةً دماً» .
وعن مروان مولى هند بنت المهلب ، قال : حدثني بواب عبيد الله بن زياد أنه لما جيء برأس الحسين بين يديه رأيت حيطان دار الإمارة تسايل دماً . خرجه ابن بنت منيع . وعن جعفر بن سليمان قال : «حدثني خالتي أم سالم : قالت : لما قتل الحسين مطرنا مطراً كالدم على البيوت والجدر . قالت : وبلغني أنه كان بخراسان والشام والكوفة . خرجه ابن بنت منيع . وعن أم سلمة قالت : «لما قتل الحسين مطرناً دماً» . وعن ابن شهاب قال : «لما قتل الحسين ـ رضي الله عنه ـ لم يرفع أو لم يقلع حجر بالشام إلا عن دم» خرجهما ابن السري .
2 ـ ذكر العلامة الشيخ المحمودي في كتابه : عبرات المصطفين في مقتل الحسين عليه السلام ، طبع إيارن عام 1417 هـ ، ص 169 : «ذكر أبو بكر محمد بن أبي بكر التلمساني ـ المتوفى بعد عام 644 هـ في ترجمة الإمام الحسين ، في كتاب الجوهرة ج 2 ص 218 ، طبع الرياض ،

=

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 326




= قال : روى البخاري ـ في ترجمة سليم القاص تحت الرقم 2202 من القسم الثاني من المجلد الثاني من التاريخ الكبير ، ج 4 ص 129 قال : وعن سليم القاص : مطرنا يوم قتل الحسين دماً» .
3 ـ وروى ذلك ابن حجر الهيثمي في كتابه : الصواعق .
4 ـ وروى ذلك القندوزي الحنفي في كتابه : ينابيع المودة ج 2 ص 320 .
5 ـ وروى ذلك : سبط ابن الجوزي في كتاب (مرآة الزمان) ص 102 .
6 ـ وروى البلاذري في الحديث 52 في كتابه (أنساب الأشراف) طبع بيروت ج 3 ص 209 قال : حدثني عمر بن شبة ، عن موسى بن اسماعيل ، عن حماد بن سلمة ، عن سليم القاص قال : مطرنا أيام قتل الحسين دماً .
7 ـ وروى الشيخ المحمودي ـ أيضاً ـ عن ابن العديم ، عن هلال بن ذكوان قال : لما قتل الحسين مطرنا مطراً بقي أثره في ثيابنا مثل الدم .
وعن قرط بن عبد الله قال : مطرت ذات يوم بنصف نهار فأصاب ثوبي فإذا دم ، فذهبت الإبل إلى الوادي فإذا دم فلم تشرب ، وإذا هو يوم قتل الحسين .
8 ـ وذكر القرطبي ـ المتوفى سنة 671 هـ ، في تفسيره المسمى بـ«الجامع لأحكام القرآن» ج 16 ص 141 ، طبع بيروت عام 1405 هـ : «. . . قال سليمان القاضي : مطرنا دماً يوم قتل الحسين» .

=

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 327


وكان هذا المطر الأحمر كإعلان سماوي ـ على مستوى الكون ـ لفظاعة حادث قتل الإمام الحسين (عليه السلام) واستنكاراً لهذه الجريمة النكراء ، ولكن . . «ما أكثر العبر وأقل الإعتبار» .
وقد بقيت آثار تلك الدماء من ذلك المطر على جدران مدينة الكوفة وحيطانها وعلى ثياب أهلها مدة تقرب من سنة كاملة .
لقد كان ذلك المطر تنديداً بفظاعة الجريمة ، وإنذاراً للعاقبة السيئة لأهل الكوفة في يوم القيامة .
«ولعذاب الآخرة أخزى»
أي : إن العقاب الصارم لقتلة الإمام الحسين (عليه السلام) سوف لا يقتصر ولا ينحصر بالعذاب الدنيوي ، والصفعات الدنيوية المتتالية ، بل إن العذاب الإلهي ينتظرهم في الآخرة .
إن الدنيا سوف تنتهي ويخرج كل إنسان من قاعة

= 9 ـ وروى ذلك الحافظ إبن عساكر الشافعي ـ المتوفى عام 571 هـ ـ في كتابه : تاريخ مدينة دمشق قال : حدثتنا أم شرف العبدية ، قالت : حدثتني نضرة الأزدية قالت : لما قتل الحسين بن علي مطرت السماء دماً ، فأصبحت كل شيء لنا ملآن دماً .
«المحقق»
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 328

الإمتحان ، وعندها يكون المجرمون في قبضة محكمة العدالة الإلهية ، فمن يخلصهم ـ في ذلك اليوم ـ من رسول الله جد الحسين ؟ !
«وأنتم لا تنصرون»
أي : لا تجدون من ينصركم يوم القيامة ، ومن ينجيكم من العذاب الأليم ، لأن طرف النزاع : هو الإمام المظلوم البريئ المقتول : الإمام الحسين (عليه السلام) ذاك الرجل العظيم الذي زين الله تعالى العرش الأعلى باسمه «إن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة» ومن الواضح أنه سوف لا يتنازل عن حقه . . مهما كانت نفسيته المقدسة عالية وفوق كل تصور . لأن المجرمين ضربوا أرقاماً قياسية في اللؤم والخبث والغدر والجناية !
والمخاصم لأهل الكوفة : هو أشرف الخلق وأعز البشر عند الله تعالى : وهو سيدنا محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو أيضاً لا يتنازل عن دم إبنه الحبيب العزيز ، وعن سبي بناته الطاهرات !
والمحامي : هو جبرئيل سيد أهل السماء ، حيث يقف ظهراً لرسول الله في قضية ملف مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 329


ونوعية الجريمة وحجمها ومضاعفاتها . . تأبى شمول الغفران والعفو الإلهي لها ، لعدم وجود الفوضى في أجهزة القضاء الإلهية ، فاللازم إعطاء كل ذي حق حقه .
هذا أولاً . .
وثانياً : إن من آثار هذه الجريمة النكراء : هو أنها تمنع المجرم من التوفيق للتوبة والإنابة إلى الله ، كما صرح بذلك الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام .
ويجب علينا أن لا ننسى أن كبار قواد جيش الكوفة . . كانوا من الذين قد كتبوا إلى الإمام الحسين بأن يأتي إليهم في الكوفة ، ووعدوه بالنصر . . حتى لو آل الأمر إلى القتل والقتال ، وإلى التضحية ببذل دمائهم وأرواحهم ، وختموا رسائلهم بتوقيعاتهم وأسمائهم الصريحة .
إلى درجة أن البعض منهم أعطى لنفسه الجرأة في أن يكتب إلى الإمام الحسين (عليه السلام) هذه الكلمات : «إن لم تأتنا فسوف نخاصمك غداً ـ يوم القيامة ـ عند جدك رسول الله» ! !
فهم ـ إذن ـ كانوا يعرفون الإمام الحسين ، «وليس من يعرف كمن لا يعرف» والأحاديث الشريفة تقول : «إن الله تعالى يغفر للجاهل سبعين ذنباً . . قبل أن يغفر للعالم ذنباً واحداً» .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 330


«فلا يستخفنكم المهل»
المهل ـ بضم الميم ـ جمع المهلة : وهي بمعنى الإنظار والإمهال وعدم العجلة . (1)
أي : لا يصير الإمهال والتأخير في الإنتقام سبباً لخفة نفوسكم وانتعاشها من الطرب والفرح ، وبذلك تأخذكم سكرة الإنتصار والظفر . فالإنتصار الذي يتعقبه العذاب الأليم ـ مع فاصل زمني قصير ـ لا يعتبر إنتصاراً حقيقياً ، بل هو سراب مؤقت ، لا يعترف به العقلاء ، فـ«لا خير في لذة وراءها النار» !
إن الإمهال ليس دليلاً على الإهمال ، فإن الله تعالى قد يمهل ، ولكنه (سبحانه) لا يهمل .
وبناءً على هذا . . فلا يكون الإمهال سبباً لتصور خاطئ منكم بأن علة تأخير العقاب هي أن الجريمة قد تم التغاضي والتغافل عنها ، ولسوف تنسى بمرور الأيام ، لأنها شيء حدث وانتهى . . بلا مضاعفات لاحقة ، أو أن الإنتقام غير وارد حيث أن الأمور قد فلتت من اليد .
كلا . .ليس الأمر كذلك ، بل شاء الله تعالى أن يجعل الدنيا دار إمتحان لجميع الناس : الأخيار والأشرار ، وقرر أن يدفع كل من يخالف أوامر الله ضريبة مخالفته . . إن عاجلاً أو آجلاً .

(1) كما يستفاد ذلك من «مجمع البحرين» للطريحي .

السابق السابق الفهرس التالي التالي