زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 355

الأشراف من بني عمه ، فخلصوه من أيدي الجلاوزة وأخرجوه من باب المسجد ، وانطلقوا به إلى منزله .
فقال ابن زياد : إذهبوا إلى هذا الأعمى ـ أعمى الأزد ، أعمى الله قلبه كما أعمى عينه ـ فإيتوني به .
فانطلقوا إليه ، فلما بلغ ذلك الأزد إجتمعوا واجتمعت معهم قبائل اليمن ليمنعوا صاحبهم .
وبلغ ذلك ابن زياد ، فجمع قبائل مضر وضمهم إلى محمد بن الأشعث ، وأمرهم بقتال القوم .
قال الراوي : فاقتتلوا قتالاً شديداً ، حتى قتل بينهم جماعة من العرب .
ووصل أصحاب ابن زياد إلى دار عبد الله بن عفيف ، فكسروا الباب واقتحموا عليه .
فصاحت ابنته : أتاك القوم من حيث تحذر !
فقال : لا عليك ناوليني سيفي ، فناولته إياه ، فجعل يذب عن نفسه ويقول :
أنا ابن ذي الفضل عفيف الطاهر عفيـف شيخي وابن أم عامر
كـم دارع مـن جمعكم و حاسر وبـطـل جـدلتـه مغـاور

وجعلت ابنته تقول : يا أبت ليتني كنت رجلاً أخاصم بين يديك اليوم هؤلاء القوم الفجرة ، قاتلي العترة البررة .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 356


وجعل القوم يدورون عليه من كل جهة ، وهو يذب عن نفسه فلم يقدر عليه أحد ، وكلما جاؤوه من جهة قالت ابنته : يا أبت جاؤوك من جهة كذا ، حتى تكاثروا عليه وأحاطوا به .
فقالت أبنته : واذلاه يحاط بأبي وليس له ناصر يستعين به .
فجعل يدير سيفه ويقول :
أقسم لو يفسح لي عن بصري ضاق عليكم موردي ومصدري

فما زالوا به حتى أخذوه ، ثم حمل فأدخل على ابن زياد .
فلما رآه قال : الحمد لله الذي أخزاك .
فقال له عبد الله بن عفيف : يا عدو الله وبماذا أخزاني الله ؟ !
والله لو فرج لي عن بصري ضاق عليك موردي ومصدري

فقال له ابن زياد : ماذا تقول ـ يا عبد الله ـ في أمير المؤمنين عثمان بن عفان ؟
فقال : يا عبد بني علاج ، يابن مرجانة ، وشتمه ـ ما أنت وعثمان بن عفان أساء أم أحسن ، وأصلح أم أفسد ، والله تعالى ولي خلقه يقضي بينهم وبين عثمان بالعدل والحق ، ولكن سلني عنك وعن أبيك وعن يزيد وأبيه ؟
فقال ابن زياد : والله لا سألتك عن شيء أو تذوق الموت غصة بعد غصة .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 357


فقال عبد الله بن عفيف : الحمد لله رب العالمين ، أما أني قد كنت أسأل الله ربي أن يرزقني الشهادة من قبل أن تلدك أمك ، وسألت الله أن يجعل ذلك على يدي ألعن خلقه ، وأبغضهم إليه ، فلما كف بصري يئست من الشهادة ، والآن . . فالحمد لله الذي رزقنيها بعد اليأس منها ، وعرفني الإجابة بمنه في قديم دعائي .
فقال ابن زياد : إضربوا عنقه .
فضربت عنقه وصلب في السبخة . (1) (2)


(1) السبخة : إسم موضع في الكوفة .
(2) كتاب (الملهوف) للسيد ابن طاووس ص 203 ـ 207 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 358




زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 359


الفصل الخامس عشر

  • ترحيل آل رسول الله إلى الشام
  • السيدة زينب الكبرى في طريق الشام
  • السيدة زينب الكبرى في الشام
  • الدخول في مجلس الطاغية يزيد
  • ماذا حدث في مجلس يزيد ؟
  • رأس الإمام الحسين في مجلس الطاغية يزيد


  • زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 360




    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 361

    ترحيل آل رسول الله إلى الشام


    وقد جاء في كتب التاريخ : أن ابن زياد كتب إلى يزيد بن معاوية رسالة يخبره فيها بقتل الإمام الحسين وأسر نسائه وعياله ، وتفاصيل أخرى عن الفاجعة .
    فكتب يزيد في جواب رسالته : أن يبعث إليه برأس الحسين ورؤوس من قتل معه ، والنساء الأسارى .
    فاستدعى ابن زياد بـ«مفخر بن ثعلبة العائذي» و«شمر ابن ذي الجوشن» للإشراف على القافلة ومن معها من الحرس ، وسلم إليهم الرؤوس والأسرى ، وأمر بـ«علي بن الحسين» أن تغل يديه إلى عنقه بسلسلة من حديد !
    فساروا بهن إلى الشام كما يسار بسبايا الكفار ، يتصفح وجوههن أهل الأقطار ! (1)

    (1) كتاب «الملهوف» ص 208 ، و«الإرشاد» للشيخ المفيد ص 245 .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 362




    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 363

    السيدة زينب الكبرى في طريق الشام

    لا نعلم ـ بالضبط ـ كم طالت المدة التي تم فيها قطع المسافة بين الكوفة والشام ، ولكننا نعلم أنها كانت رحلة مليئة بالإزعاج والإرهاق وأنواع الصعوبات ، فقد كان الأفراد المرافقون للعائلة المكرمة قد تلقوا الأوامر بأن يعاملوا النساء والأطفال بمنتهى القساوة والفظاظة ، فلا يسمحوا لهم بالإستراحة اللازمة من أتعاب الطريق ومشاقه وصعوباته ، بل يواصلوا السير الحثيث ، للوصول إلى الشام وتقديم الرؤوس الطاهرة إلى الطاغية يزيد .
    ومن الثابت ـ تاريخياً ـ أنه كان للسيدة زينب (عليها السلام) الدور الكبير في : إدارة العائلة ، والمحافظة على حياة الإمام زين العابدين (عليه السلام) وحماية النساء والأطفال ، والتعامل معهم بكل عاطفة وحنان . . محاولة منها ملأ بعض ما كانوا يشعرون به من الفراغ العاطفي ،

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 364

    والحاجة إلى من يهون عليهم مصائب الأسر ومتاعب السفر .
    وروي عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) أنه قال :
    «إن عمتي زينب كانت تؤدي صلواتها : الفرائض والنوافل . . من قيام ، عند سير القوم بنا من الكوفة إلى الشام !
    وفي بعض المنازل كانت تصلي من جلوس ! فسألتها عن سبب ذلك ؟
    فقالت : أصلي النوافل من جلوس لشدة الجوع والضعف ، وذلك لأني منذ ثلاث ليال ، أوزع ما يعطونني من الطعام على الأطفال ، فالقوم لا يدفعون لكل منا إلا رغيفاً واحداً من الخبز في اليوم والليلة ! ! (1)
    أجل . .
    وقد كانت الحكمة والمصلحة تقتضي أن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يبقى بمعزل عن انتباه الأعداء والجواسيس المرافقين ، ولا يتكلم بأية جملة من شأنها جلب الإنتباه إليه . ولذلك فقد جاء في التاريخ : أن الإمام علي بن الحسين ما كان يكلم أحداً من القوم . . طوال الطريق

    (1) كتاب «زينب الكبرى» للشيخ جعفر النقدي ، ص 59 .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 365

    إلى أن وصلوا إلى باب قصر يزيد بدمشق ! (1)
    من هنا . . فقد كان الدور الأكبر ملقى على عاتق السيدة الكفوءة زينب العظيمة (عليها الصلاة والسلام) .
    ورغم قلة المعلومات التي وصلتنا عما جرى على السيدة زينب في طريق الشام من الحوادث ، إلا أننا نذكر هذه المقطوعات والعينات التاريخية التي تعبر للقارئ المتدبر الذكي عن أمور كثيرة ، وعن الدور العظيم والمسؤوليات الجسيمة التي قامت بها السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) طوال هذه الرحلة :
    ونقرأ في بعض كتب التاريخ : أن في طريقهم إلى الشام مروا على منطقة «قصر مقاتل» (2) وكان ذلك اليوم يوماً شديد الحر ، وقد نزفت القربة التي كانت معهم وأريق ماؤها (3) فاشتد بهم العطش ، وأمر عمر بن سعد جماعة من قومه أن يبحثوا عن الماء ، وأمر أن تضرب خيمة ليجلس

    (1) كتاب «الإرشاد» للشيخ المفيد ، ص 245 .
    (2) قصر مقاتل : قصر كان بين «عين التمر» والشام . منسوب إلى مقاتل بن حسان . وقيل : كان ذلك قرب القطقطانة . كما في «مراصد الإطلاع في أسماء الأمكنة والبقاع» للبغدادي .
    (3) نزفت القربة : نفد ماؤها وجفت .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 366

    فيها هو وأصحابه ، لكي تحميهم من حرارة الشمس ، وتركوا عائلة الإمام الحسين (عليه السلام) وجميع النساء والأطفال . . تصهرهم الشمس ، وأقبلت السيدة زينب (عليها السلام) إلى ظل جمل هناك ، وقد أمسكت بالإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) وهو في حالة خطيرة . . قد أشرف على الموت من شدة العطش ، وبيدها مروحة تروحه بها من الحر ، وهي تقول : «يعز علي أن أراك بهذا الحال يا بن أخي» !
    وذهبت السيدة سكينة بنت الإمام الحسين (عليه السلام) إلى ظل شجرة كانت هناك ، وعملت لنفسها وسادةً من التراب ونامت عليها ، فما مضت ساعة إلا وبدأ القوم يرحلون عن ذلك المكان مع السبايا ، وتركوا سكينة نائمة في مكانها .
    فقالت فاطمة الصغرى ـ وكانت عديلة سكينة (1) ـ للحادي (2) : «أين أختي سكينة ؟ ! والله لا أركب حتى تأتي بأختي» .
    فقال لها : وأين هي ؟

    (1) عديلة : العديل : الذي يعادلك في المحمل . كما في كتاب «العين» للخليل بن أحمد .
    (2) الحادي : السائق للإبل .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 367


    قالت : لا أدري أين ذهبت .
    فصاح السائق للقافلة بأعلى صوته : يا سكينة هلمي واركبي مع النساء ؟
    فلم تستيقظ سكينة من نومتها لشدة ما بها من التعب والإرهاق ، وبقيت نائمة .
    ولما أضر بها الحر والعطش إنتبهت من نومتها ، وجعلت تمشي خلف غبار القافلة وهي تصيح : «أخيه فاطمة ! ألست عديلتك في المحمل ! وأنت الآن على الجمل وأنا حافية ؟ !» .
    فعطفت عليها أختها ، وقالت للحادي : «والله لئن لم تأتني بأختي لأرمين نفسي من هذا الجمل ، وأطالبك بدمي عند جدي رسول الله يوم القيامة» !
    فقال لها : من تكون أختك ؟
    قالت : سكينة التي كان الحسين يحبها حباً شديداً ، فرق لها الحادي ، ورجع إلى الوراء حتى وجد أختها وأركبها معها . (1)

    (1) كتاب (الدمعة الساكبة للبهبهاني المتوفى عام 1285 هـ ، طبع لبنان ، ج 5 ، ص 75 . وقد نقلنا الحادثة مع تغيير يسير في بعض العبارات .
    المحقق
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 368


    وقد جاء في التاريخ ـ أيضاً ـ أن في ليلة من الليالي ، بينما القوم يسيرون في ظلام الليل ، بدأت السيدة سكينة بنت الإمام الحسين (عليهما السلام) بالبكاء ، لأنها تذكرت أيام أبيها ، وما كان لها من العز والإحترام ، ثم هي ـ الآن ـ أسيرة بعد أن كانت أيام أبيها عزيزة ، واشتد بكاؤها ، فقال لها الحادي : أسكتي يا جارية ! فقد آذيتيني ببكائك !
    فما سكتت ، بل غلب عليها الحزن والبكاء ، وأنت أنة موجعة ، وزفرت زفرةً كادت روحها أن تخرج ! !
    فزجرها الحادي وسبها ، فجعلت سكينة تقول ـ في بكائها ـ وا أسفاه عليك يا أبي ! قتلوك ظلماً وعدوانا !
    فغضب الحادي من قولها وأخذ بيدها وجذبها ورمى بها على الأرض ! !
    فلما سقطت غشي عليها ، فما أفاقت إلا والقافلة قد مشت ، فقامت وجعلت تمشي حافيةً في ظلام الليل ، وهي تقوم مرةً وتقعد مرة ! ! وتستغيث بالله وبأبيها ، وتنادي عمتها ، وتقول : يا أبتاه مضيت عني وخلفتني وحيدةً غريبةً ، فإلى من ألتجئ وبمن الوذ في ظلمة هذه الليلة في هذه البيداء ؟ ! !
    فركضت ساعة من الليل وهي في غاية الوحشة ! فلم تر أثراً من القافلة ، فسقطت مغشيةً عليها ! !

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 369


    فعند ذلك إقتلع الرمح ـ الذي كان عليه رأس الحسين ـ من يد حامله ، وانشقت الأرض ونزل الرمح إلى نصفه في الأرض ، وثبت كالمسمار الذي يثبت في الحائط ! !
    وكلما حاول حامل الرمح أن يخرجه من الأرض . . لم يتمكن ! واجتمعت جماعة من القوم وحاولوا إخراج الرمح فلم يستطيعوا ذلك .
    فأخبروا بذلك عمر بن سعد ، فقال : إسألوا علي بن الحسين عن سبب ذلك .
    فلما سألوا الإمام (عليه السلام) قال : قولوا لعمتي زينب تتفقد الأطفال ، فلربما قد ضاع منهم طفل .
    فلما قيل لزينب الكبرى ذلك ، جعلت تتفقد الأطفال وتنادي كل واحد منهم باسمه ، فلما نادت : بنيه سكينة لم تجبها ! فرمت السيدة زينب (عليها السلام) بنفسها من على ظهر الناقة ! وجعلت تنادي : واغربتاه ! واضيعتاه ! واحسيناه!
    بنيه سكينة : في أي أرض طرحوك !
    أم في أي واد ضيعوك ! ورجعت إلى وراء القافلة وهي تعدو في البراري حافية ، وأشواك الأرض تجرح رجليها ، وتصرخ وتنادي ! !

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 370


    وإذا بسواد قد ظهر فمشت نحوه وإذا هي سكينة ، فرجعتا معاً نحو القافلة . (1)
    وروي عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) أنه سأل أباه علي بن الحسين (عليهما السلام) عما جرى له في طريق الشام ؟
    فقال الإمام علي بن الحسين : حملت على بعير هزيل ، بغير وطاء ، ورأس الحسين (عليه السلام) على علم ، ونسوتنا خلفي ، على بغال ، والحرس خلفنا وحولنا بالرماح ، إن دمعت من أحدنا عين قرع رأسه بالرمح ! حتى دخلنا دمشق ، صاح صائح : يا أهل الشام : هؤلاء سبايا اهل البيت . (2)

    (1) كتاب «معالي السبطين» ج 2 ، الفصل الثالث عشر ، المجس الثالث عشر ، وهو ينقل ذلك عن كتاب «مصباح الحرمين» .
    (2) كتاب «الإقبال» للسيد ابن طاووس .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 371

    السيدة زينب الكبرى في الشام


    ووصل موكب الحزن والأسى إلى دمشق : عاصمة الأمويين ، ومركز قيادتهم ، وبؤرة الحقد والعداء ، ومسكن الأعداء الألداء .
    وقد إتخذ يزيد التدابير اللازمة لصرف الأفكار والأنظار عن الواقع والحقيقة ، محاولا بذلك تغطية الأمور وتمويه الحقائق ، فأمر بتزيين البلدة بأنواع الزينة ، ثم الإعلان في الناس عن وصول قافلة أسارى وسبايا ، خرج رجالهم من الدين فقضى عليهم يزيد وقتلهم وسبى نساءهم ليعتبر الناس بهم ، ويعرفوا مصير كل من يتمرد على حكم يزيد !
    ومن الواضح أن الدعاية والإعلام لها دورها في تمويه الحقائق ، وخاصة على السذج والعوام من الناس .

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 372


    إستمع إلى الصحابي : سهل بن سعد الساعدي قال : «خرجت إلى بيت المقدس ، حتى توسطت الشام ، فإذا أنا بمدينة مطردة الأنهار ، كثيرة الأشجار ، قد علقوا الستور والحجب والديباج ، وهم فرحون مستبشرون ، وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول .
    فقلت ـ في نفسي ـ : لا نرى لأهل الشام عيداً لا نعرفه نحن . فرأيت قوماً يتحدثون ، فقلت : يا قوم لكم بالشام عيد لا نعرفه نحن ؟ !
    قالوا : يا شيخ نراك أعرابياً غريباً !
    فقلت : أنا سهل بن سعد ، قد رأيت محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) .
    قالوا : يا سهل ، ما أعجبك السماء لا تمطر دماً ، والأرض لا تنخسف بأهلها !
    قلت : ولم ذاك ؟
    قالوا : هذا رأس الحسين عترة محمد يهدى من أرض العراق !
    فقلت : واعجباه . . يهدى رأس الحسين والناس يفرحون ؟ !
    ثم قلت : من أي باب يدخل ؟

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 373


    فأشاروا إلى باب يقال له : «باب الساعات» .
    فبينا أنا كذلك إذ رأيت الرايات يتلو بعضها بعضاً ، فإذا نحن بفارس بيده لواء منزوع السنان (1) عليه رأس من أشبه الناس وجهاً برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
    فإذا أنا من ورائه رأيت نسوةً على جمال بغير وطاء ، فدنوت من أولاهن ، فقلت : يا جارية : من أنت ؟
    فقالت : أنا سكينة بنت الحسين .
    فقلت لها : الك حاجة إلي ؟ فأنا سهل بن سعد ممن رأى جدك وسمعت حديثه .
    قالت : يا سهل : قل لصاحب هذا الرأس أن يقدم الرأس أمامنا ، حتى يشتغل الناس بالنظر إليه ولا ينظروا إلى حرم رسول الله .
    قال سهل : فدنوت من صاحب الرأس فقلت له : هل لك أن تقضي حاجتي وتأخذ مني أربعمائة ديناراً ؟
    قال : ما هي ؟
    قلت : تقدم الرأس أمام الحرم .

    (1) اللواء : العلم ، وهو دون الراية . كما في «المعجم الوسيط» . والسنان : الحديدة التي في رأس العلم أو رأس الرمح .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 374


    ففعل ذلك .
    فدفعت إليه ما وعدته . . . .» . (1)

    * * * *


    ولما أدخلوهن دمشق طافوا بهن في الشوارع المؤدية إلى قصر الطاغية يزيد ، ومعهن الرؤوس على الرماح ، ثم جاؤا بهن حتى أوقفوهن على دكة كبيرة كانت أمام باب المسجد الجامع ، حيث كانوا يوقفون سبايا الكفار على تلك الدكة (2) ، ويعرضونهم للبيع ، ليتفرج عليهم المصلون لدى دخولهم إلى المسجد وخروجهم منه ، وبذلك يختاروا من يريدونه للإستخدام ويشتروه .
    نعم ، إن الذين كانوا يعتبرون أنفسهم مسلمين ، ومن أمة محمد رسول الله . . أوقفوا آل الرسول على تلك الدكة .
    يا للأسف !
    يا للمأساة !
    يا للفاجعة !

    (1) بحار الأنوار للشيخ المجلسي ، ج 45 ص 127 باب 39 . وكتاب «تظلم الزهراء» ، ص 275 .
    (2) كتاب «معالي السبطين» ج 2 ، ص 140 الفصل الرابع عشر ، المجلس الرابع . وقد نقلنا مضمون ذلك .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 375


    يا للمصيبة !
    وجاء شيخ (1) ودنى من نساء الحسين (عليه السلام) وقال :
    «الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم ، وأراح البلاد من رجالكم ، وأمكن أمير المؤمنين منكم» .
    فقال له علي بن الحسين (عليه السلام) : «يا شيخ : هل قرأت القرآن» ؟
    قال : نعم .
    قال : فهل عرفت هذه الآية : «قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى» (2) ؟
    قال الشيخ : قد قرأت ذلك .
    فقال له الإمام : «نحن القربى يا شيخ ، فهل قـرأت : «وآت ذا القـربى حقـه» ؟ (3)
    فقال الشيخ : قد قرأت ذلك .
    فقال الإمام : «فنحن القربى يا شيخ ، فهل قرأت

    (1) شيخ : أي : رجل طاعن في السن .
    (2) سورة الشورى ، الآية 23 .
    (3) سورة الإسراء ، الآية 26 .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 376

    هذه الآية «واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسة وللرسول ولذي القربى»» ؟ (1)
    قال : نعم .
    فقال الإمام : «فنحن القربى يا شيخ ، وهل قرأت هذه الآية : «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً» » . (2)
    قال الشيخ : قد قرأت ذلك .
    فقال الإمام : «نحن أهل البيت الذين خصنا الله بآية الطهارة يا شيخ» .
    قال الراوي : بقي الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلم به ، وقال ـ متعجباً ـ : تالله إنكم هم ؟ !
    فقال علي بن الحسين : «تالله إنا لنحن هم . . من غير شك ، وحق جدنا رسول الله إنا لنحن هم» .
    فبكى الشيخ ورمى عمامته ، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم إني أبرأ إليك من عدو آل محمد ، من الجن والإنس .

    (1) سورة الأنفال ، الآية 41 .
    (2) سورة الأحزاب ، الآية 33 .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 377


    ثم قال : هل لي من توبة ؟
    فقال له الإمام : «نعم ، إن تبت تاب الله عليك ، وأنت معنا» .
    فقال الشيخ : أنا تائب .
    فبلغ يزيد بن معاوية حديث الشيخ ، فأمر به فقتل . (1)

    (1) كتاب «الملهوف على قتلى الطفوف» ص 211 . وكتاب «تظلم الزهراء» ، ص 278 .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 378




    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 379

    الدخول في مجلس الطاغية يزيد


    روي عن الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) أنه قال : «لما أرادوا الوفود بنا على يزيد بن معاوية أتونا بحبال وربطونا مثل الأغنام (1) وكان الحبل بعنقي وعنق أم كلثوم ، وبكتف زينب وسكينة والبنيات ، وساقونا وكلما قصرنا عن المشي ضربونا ، حتى أوقفونا بين يدي يزيد ، فتقدمت إليه ـ وهو على سرير مملكته ، وقلت له : ما ظنك برسول الله لو يرانا على هذه الصفة» ؟ !
    فأمر بالحبال فقطعت من أعناقنا واكتافنا . (2)
    وروي ـ أيضاً ـ أن الحريم لما أدخلن إلى يزيد بن

    (1) وفي نسخة : وربقونا .
    (2) كتاب «المنتخب» للطريحي ، ج 2 ص 473 ، المجلس العاشر . وكتاب «تظلم الزهراء» ص 278 .

    السابق السابق الفهرس التالي التالي