المجالس السنية ـ الجزء الخامس 471

بعد أبيه كما فسره بذلك الصادق «ع» فان كل امام هو القائم بعد الامام الذي كان قبله (وجاء) في عدة روايات ان الباقر قال لما أقبل ابنه جعفر عليهما السلام هذا خير البرية بعدي (وأوصى) اليه أبوه الباقر «ع» وأشهد على وصيته واستودعه ما كان محفوظاً عنده من الكتب والسلاح وميراث الأنبياء وقد كان هو «ع» ظاهر الفضل في العلم والزهد والعمل على كافة اخوته وبني عمه وسائر الناس من أهل عصره .
قال فيه البليغ ما قال ذو العي فـكـل بفـضـله منطيـق
وكـذاك العـدو لم يعد ان قا ل جميلا كما يقـول الصديق

(أمثل) هذا الامام العظيم في علومه ودلائل امامته الواضحة يجحد حقه ويزال عن مقامه وتجترئ بنو العباس عليه وتحول بينه وبين حقه الى ان قضى صابراً محتسباً مجاهداً في نشر شريعة جده صلى الله عليه وآله وسلم بكل طاقته وجهده .
ماذا جنـت آل الطليق ومـا الذي جرت على الاسلام من فعل ردي
كـم أنزلـت مـر البـلاء بجعفر نجم الهدى مـأمون شـرعة أحمد


المجالس السنية ـ الجزء الخامس 472

المجلس الرابع (1)

في مناقب ابن شهر اشوب : نقل عن الصادق عليه السلام من العلوم ما لم ينقل عن احد ، وقال ايضا : قال نوح بن دراج لابن ابي ليلى : اكنت تاركا قولا قلته او قضاء قضيته لقول احد قال لا ، الا رجل واحدا قال من هو ؟ قال : جعفر بن محمد . وقال المفيد في الارشاد : لم ينقل العلماء عن احد من اهل بيته ما نقل عنه ولا لقي احد منهم من اهل الآثار ، ونقلة الاخبار ولا نقلوا عنه ما نقلوا عن ابي عبد الله عليه السلام فان اصحاب الحديث قد جمعوا اسماء الرواة عنه من الثقاة على اختلافهم في الاراء والمقالات فكانوا اربعة الاف رجل . وقال المحقق في المعتبر : انتشر عن جعفر بن محمد من العلوم الجمة ما بهر به العقول .
ان التراث العلمي الذي خلفه الامام الصادق للاجيال المتعاقبة تراث عميق عظيم غني بالابتكار والجدة وبعد الغور ووسع المعرفة من كل جهاتها ، وجلا عن عدد من العلوم خفاياها وغوامضها ، فاثرى به الفكر الانساني ثراء كبيرا ، وانفتحت بها امام العقل افاق لم يدركها من قبل ، ولم يسبق له التعمق فيها

(1) من المجالس التي اصفناها الى الطبعة السابقة .
المجالس السنية ـ الجزء الخامس 473

والاطلاع على ما تضمه من كنوز العلم والعرفان ولعل الميزة الكبرى والسمة البارزة لذلك التراث الخالد انه لم يقتصر على تفسير القران واحكام الفقه وشؤون الدين ، بل شمل جوانب متعددة من علوم مختلفة ، واوضح خفايا كثيرة من الحقائق الكونية الغامضة ، مما يدل على ان قصد الصادق كان متجها نحو قيام حضارة اسلامية متميزة تقوم على العلم والفكر فيما تقوم عليه من دعائم وما تتجه نحوه من اهداف ان الفترة الحافلة التي عاشها الامام الصادق وبخاصة تلك الفترة التي ضعف فيها سلطان الامويين بفعل ضربات الدعاة العباسيين ، ثم انهيار الحكم الاموي . ثم فترة انشغال الحكم العباسي المنتصر بوضع التخطيط الجديد للدولة وترسيخ قواعدها في المجتمع . ان هذه الظروف التي خف فيها ضغط الحكام على الامام وعلى من يتصل به وياخذ عنه ، قد ساعده كثيرا على املاء العلوم ، وتوضيح الغوامض ، وتربية العلماء القادرين على حمل هذه الافكار بامانة وتطويرها بعمق ومن ثم جعلها المنطق نحو بناء الحضارة الاسلامية المنشودة .
وبفضل هذه الكثرة من الروايات والامالي والاحاديث عن الامام الصادق انتشر لدى كل الناس وفي التاريخ اصطلاح المذهب الجعفري والفقه الجعفري ، في حين ان المتحري للحقيقة يعلم ان الفقه فقه اهل البيت باجمعهم ، حيث يرويه كل واحد منهم عن جدهم الاعلى محمد صلى الله عليه واله وسلم ولكن كثرة الرواة وكثرة الرواة عن الصادق بالخصوص كانت السبب في هذه النسبة .

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 474

وتتجلى عظمة الامام الصادق لنا بوضوح حينما نتصور الالوف من المسلمين وهم يفخرون بسماع علمه وحديثه حتى لقد جمع الحافظ بن عقدة في كتابه اسماء اربعة الاف رجل من الثقاة رووا عن الصادق كما مر .
وكما قال ابن حجر في كتابه الصواعق : «نقل الناس عن جعفر بن محمد من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر في جميع البلدان » .
ويقول النعمان ابو حنيفة النعمان بن ثابت : لولا السنتان لهلك النعمان . ويقول الاستاذ دونالدسن : «ان طريقة الامام الصادق في التدريس كانت سقراطية فهو ياخذ المتتلمذين بالحوار والمحادثة ويتدرج عن الموضوعات الساذجة الى المسائل المركبة والمطالب المعقدة والاسرار الغامضة» :
وان اول جانب من جوانب المعرفة عني به الامام الصادق كل العناية هو تفسير القرآن ، وان نظرة واحدة عجلى يلقى بها على كتب التفسير لدى المسلمين ترشدنا بوضوح الى دور اهل البيت في تفسير القران ، حيث لا يستغني المفسر عن نقل ما اثر عنهم في توضيح غوامض القرآن وكشف الغطاء عن حقائقه ، وبخاصة ما أثر عنه ، بالذات من ، اجابات على اسئلة المستفسرين عن معاني القرآن ومراميه .
ثم كان الجانب الثاني الذي اوضحه الامام وبينه للناس علم الفقه والتشريع وهو جانب كثير التحدث عنه حتى اصبح اجلى جوانب

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 475

الامام الصادق ، وحسبنا في الحديث عن هذا الجانب ما يقرره الشيخ الازهري محمد ابو زهرة في كتابه «الامام الصادق» ص 66 اذ يقول :
«ما اجمع علماء الاسلام على اختلاف طوائفهم في امر ، كما اجمعوا على فضل الامام الصادق وعلمه ، فائمة السنة الذين عاصروه تلقوا عنه واخذوا ، اخذ عنه مالك رضي الله عنه واخذ عنه طبقة مالك ، كسفيان بن عيينة وسفيان الثوري وغيرهم كثير واخذ عنه ابو حنيفة مع تقاربهما في السن واعتبره اعلم الناس لانه اعلم الناس باختلاف الناس وقد تلقى عليه رواية الحديث طائفة كبيرة من التابعين منهم يحيى بن سعيد الانصاري وايوب السختياني وابان بن تغلب وابو عمرو بن العلاء وغيرهم من ائمة التابعين في الفقه والحديث وذلك فوق الذين رووا عنه من تابعي التابعين ومن جاء بعدهم من الائمة والمجتهدين» .
ثم كان جانب الفلسفة ثالث الجوانب التي اولاها الامام الصادق اهتمامه ، بالنظر الى ما توارد على العقل العربي من شبه وشكوك فلسفية نتيجة حركة الترجمة والاختلاط بالامم الجديدة الداخلة في الاسلام .
وهنا نجد الصادق قائما بتفنيد الاباطيل وازالة الشبه وكشف القناع عن الحقائق وتوضيح الامر للجاهل والمظلل وتوجيه عدد كبير من طلابه نحو التفرغ للعناية بهذا الجانب ، الفكري المهم وقد سجل عدد من كتب الحديث والتاريخ نماذج من تلك

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 476

المناقشات التي كان يشرف عليها الامام الصادق ويقوم بها بنفسه .
وهناك جانب اخر من جوانب المعرفة الانسانية اولاه الصادق كثيرا من عنايته الا وهو الكيمياء .
ويقول الدكتور محمد يحيى الهاشمي في كتابه «الامام الصادق ملهم الكيمياء ص 28» اذا اردنا ان نبحث عن المنابع الحقيقية للكيمياء العربية نجد بذلك صعوبة لانه لايزال ذلك في طي الكتمان نعم نحن نعلم ان للاسكندرية دورا هاما في هذا الشأن ولكن المنبع الاصلي لهذه المدرسة لايزال مجهولا فمنهم من يعزو ذلك الى اشور وبابل ومنهم من يعزو ذلك الى الهند ومنهم الى الصين والى غيرها من الممالك ومما لا شك فيه ان شواطيء الرافدين ـ دجلة والفرات ـ كانت مركزا هاما لمدنيات لعبت دورها في التاريخ وقد عرف هناك عمل الزجاج وتحضير الكلس . . واستحضار المعادن من فلزاتها كذلك عرف الاشوريون معدنا يسمونه الكبالتو وهو نفس معدن الكوبالت المعروف اليوم والذي كانوا يستعملونه قديما في صبغ الخزف والزجاج .
ويقول ايضا : «ان هذا العلم السحري يرتبط مع رجال الدين والكهنة ارتباطا وثيقا وبرز في الاسكندرية على يد رجال شديدي العلاقة بالافلاطونية الحديثة التي هي بثوب يوناني وبروح شرقية وقد حافظ هذا العلم على شكله الصوفي مدة طويلة من الزمن وظهر لنا بعد ذلك في ارض الرافدين متعلقا بالائمة المجتهدين والمتصوفة

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 477

علاقة شديدة كما سوف نجد ذلك في العلاقة الروحية الشديدة بين جابر بن حيان والامام جعفر الصادق» .
ثم يقول بعد ذلك : «ان اول شبح من اشباح التاريخ الذي يظهر امامنا في حقل الكيمياء هو جابر بن حيان ويمكننا ان نعد رسالته اول مظهر من مظاهر الكيمياء في المدينة الاسلامية ويغلب على الظن ان عددا عظيما من رسائله كان كل نصيبها الفناء» .
ان جابر بن حيان الذي تكرر ذكره في النصوص السابقة عربي من الازد سافر الى طوس والده لنشر الدعوة للعباسيين وهنا ولد له جابر .
ثم ظفر الامويون بحيان فاعدموه الحياة ولما انتصر العباسيون وقامت دولتهم رحل جابر الى الكوفة وتمكن بعد ذلك من الاتصال بالامام الصادق وتلقى علم الكيمياء في مدرسته واصبح هذا الرجل بفضل تلمذته الواعية كيمياوي العرب الاول ثم اعتبر على مر القرون قمة شامخة في تطوير هذا العلم حتى قال عنه الاستاذ برتلو في كتابه الذي نشره بباريس عن الكيمياء عند العرب قال ما نصه : «ان اسم جابر ينزل في تاريخ الكيمياء منزلة اسم ارسطو في تاريخ المنطق» . ولم يكن لجابر هذا استاذ غير الامام الصادق «ع» وقد كرر جابر ذكر اسم استاذه في اكثر كتبه وبتعابير مختلفة ويقول الاستاذ هولميارد في بحثه عن جابر بن حيان :

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 478

«ان جابر هو تلميذ جعفر الصادق وصديقه وقد وجد في امامه الفذ سندا ومعينا وراشدا امينا وموجها لا يستغنى عنه وقد سعى جابر لان يحرر الكيمياء بارشاد استاذه من اساطير الاولين التي علقت بها من الاسكندرية فنجح في هذا السبيل الى حد بعيد» ويقول الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه جابر بن حيان ص 17 :
«واما جعفر الذي كثيرا ما يرد بقوله : سيدي فهناك من يزعم انه جعفر بن يحيى البرمكي لكن الشيعة تقول ـ وهو القول الراجح الصدق ـ انه انما عني به جعفر الصادق ونقول انه مرجح الصدق لان جابر شيعي فلا غرابة ان يعترف بالسيادة لامام شيعي هذا الى وفرة المصادر التي لا تتردد في ان جعفر المشار اليه في حياة جابر ونشأته هو جعفر الصادق» .
وعلى الرغم من كل هذا فان الدكتور زكي نجيب محمود يحاول ان استاذا آخر لجابر بن حيان هو الامير الاموي خالد بن يزيد بن معاوية باعتبار انه اول من حاول دراسة الكيمياء ثم يحاول ان يؤكد هذا القول بنقل عن احد الباحثين الغربيين يصرح فيه ان جابر تلميذ خالد ويترك ذلك بلا تعليق ليفتح باب الشك على مصراعيه في حين انه الدكتور زكي قد صرح بكتابه بان خالدا الاموي قد مات سنة 704 ميلادية وان جابر بن حيان قد ولد حوالي سنة 750 ميلادية فكيف تمت هذه التلمذة ولماذا لم يشر اليها جابر في مؤلفاته ولم يذكرها .

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 479

واذا كان اسلوب الشك لدى المتأخرين قد حمل هذا الطابع فان القدماء قد حاولوا اثارة الشكوك باسلوب آخر هو ان تلك المؤلفات المنسوبة الى جابر قد كتبها غيره ونحلها له وقد ذكر ابن النعيم هذا الشك في فهرسته واجاب عليه بقوله : «ان رجلا فاضلا يجلس ويتعب فيصنف كتابا يتعب قريحته وفكره باخراجه ويتعب يده وجسمه بنسخه . . . ثم ينحله لغيره ، ـ اما موجودا او معدوما ـ ضرب من الجهل وان ذلك لايدخل تحته من تحلى ساعة واحدة بالعلم واي فائدة في هذا واي عائد» .
وللإطلاع على مدى الكفائة العلمية لجابر ثم الاطلاع على مدى معرفة الامام بهذا العلم ننقل مقتطفات مما كتبه الدكتور محمد محمد فياض في كتابه «جابر بن حيان وخلفاؤه» ص 151 اذ يقول :
كان جابرا خبيرا بالعمليات الكيميائية الشائعة كالاذابة والتقطير والتكليس والاختزال وغير ذلك وكثيرا ما كان يصنفها ويبين الغرض منها والتغيرات التي تحدث فيها ويشرح افضل الطرق لاجارئها وفقا لنتائج تجاربه» .
ويقول ايضا :
«وتمكن جابر من تحضير طائفة كبيرة من المواد الكيميائية واتبع في ذلك عمليات سهلة وشرحها في كتبه بطريقة مبسطة

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 480

خالية من التعقيد والغموض بحيث يتيسر لمن يقرأها ان يتتبعها ويجربها بنفسه ان اراد» .
ثم يضيف الدكتور فياض :
«ولجابر بحوث اخرى في الكيمياء يعجز عنها الحصر نذكر فيما ياتي طائفة قليلة منها للتدليل على مبلغ جهوده في هذا العلم :
1ـ كشفه ان مركبات النحاس تكسب اللهب لونا اورق .
2ـ استنباطه طرقا صالحة لتحضير الفولاذ وتنقية المعادن وصبغ الجلود والشعر .
3ـ توصله الى تحضير مداد مضيء من المرقشيشا الذهبية .
4ـ تحضيره نوعا من الطلاء الذي يقي الثياب البلل ويمنع الحديد الصدأ .
5ـ توصله الى معرفة ان الشب يساعد على تثبيت الالوان في الصباغة .
6ـ بحثه في المواد المعدنية والنباتية والحيوانية الشائعة ومعرفته لفوائدها في مداواة الامراض .
7ـ تمكنه من صنع ورق غير قابل للاحتراق دعاه الى ذلك ان الامام جعفر الصادق وضع كتابا في الحكمة وكان عزيزا لديه

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 481

واراد ان ينسخه في ورق لا يتأثر بالنار وطلب من جابر ان يحاول تدبير هذا الامر فنجح فيه» .
ويقول الدكتور محمد يحيى الهاشمي في كتابه «الامام الصادق ملهم الكيمياء» ص 166 في اثناء حديث له ما نصه :
«ان شخصية جعفر الصادق لا تزال غامضة تحتاج الى من يكشف كنهها من المؤرخين لا لأهميتها في تاريخ الفكر الاسلامي وتاريخ تطور الفكر البشري فحسب بل لان تاريخ العلوم يتطلب من يجلو كنهها لوجودها على مفترق الطرق لمعاصرتها لعبقريات فذة كل منها اوجدت مدرسة خاصة في الاسلام . . . عدا عن منهج العلوم الكونية المستمدة في توجيهها من الروح الاسلامية والفلسفة اليونانية وما دام يكتنف مثل هذه الشخصية الفذة الظلام ، فكثير من الحقائق ستظل في طي الخفاء وستظل في جهل مدقع في فهم كثير من قيمة تراثنا الفكري لأن التعصب الذميم هو الذي طمس المعالم ووضع امامنا سدا حائلا دون تفهم كنه الاساسات العميقة في بناء الحضارة العالمي» .

* * *


المجالس السنية ـ الجزء الخامس 482

المجلس الخامس (1)

ان مدرسة الصادق عليه السلام كانت امتداد لمدرسة ابيه وجده .
هذه المدرسة كانت من الاحداث الخطيرة فهي لم تكن باي حال من الاحوال مدرسة خاصة يلقى فيها لون خاص من المعارف والعلوم وانما كانت تبني عقولا وتنشئ اجيالا وتؤسس صروحا من الثقافة ودنيا من التوجيه وتضع دستورا شاملا لاصلاح الحياة وتطويرها وتقدمها في جميع الميادين .
ونقدم الى القراء عرضا موجزا لبعض شؤون تلك المدرسة التي عملت على نمو الحركة التي هي فكرية .
1ـ سبب انشائها : اطل الامام الصادق على العالم الاسلامي وهو يموج بالاضطراب والفتن والنزاعات الخاصة التي لا يلمس فيها اي اثر محمود فقد تحلل المجتمع وتفككت الروابط فيه الى ابعد حد ويعود السبب في ذلك الى ان نار الحرب قد اشتعلت في كل حواضره ونواحيه وذلك لانهيار الامبراطورية الاموية التي كان ابعد ما تكون عن النظر في امور الشعب والتحسس

(1) من المجالس التي اضفناها الى الطبعة السابقة .
المجالس السنية ـ الجزء الخامس 483

باحساسه واشاعت ضروبا من الفساد والتحلل في جميع انحاء البلاد وقد قام للقضاء على تلك الدولة طائفة من المصلحين كان هدفهم اعادة الحياة الاسلامية الى مجراها الصحيح وكانت هتافات الثوار هو الرضا من ال محمد ولكن الثورة اغتصبها العباسيون فراى الامام الصادق ان لا وسيلة له لاستردادها فاعرض وطوى عنها كشحا واقبل على تاسيس مدرسته وقد اغتنم الامام تلك الفرصة التي تطلب فيها الكل رضاءه وتركه المسؤولون ينشر اهدافه وتوجيهاته لانشغالهم بتركيز اسس دولتهم وكيانهم .
لقد وجد الامام الصادق عليه السلام في تلك الفترة المجال واسعا لاداء رسالته والقيام بكل من نشر الثقافة الاسلامية وافهام المجتمع نظم الاسلام الصحيحة .
2ـ مركزها :
واختار الامام يثرب دار الهجرة ومهبط الوحي فجعل فيها معهده الكبير ومدرسته العظمى اما محل التدريس والقاء المحاضرات فكان هو الجامع النبوي ففيه كانت تزدحم حملة الحديث ورواد العلم لاستماع دروس الامام وتسجيل ابحاثه وربما كان في بعض الاحيان يلقي محاضراته في بهو بيته وقد ازدهرت يثرب بهذه الحوزة العلمية واستعادت نشاطها في توجيه الركب الاسلامي نحو الخير والسعادة .

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 484

3ـ عدد طلابها
ولما فتح الامام مدرسته لجميع المسلمين التحق بها جمع غفير من رواد العلوم على اختلاف نزعاتهم وميولهم فكان عددهم من اضخم ما ضمته المدارس العلمية في ذلك العهد فقد ذكر الرواة انهم كانوا اربعة الاف شخص وفيهم من كبار العلماء والمحدثين الذين اصبحوا ائمة ورؤساء لبعض المذاهب الاسلامية
4ـ البعثات العلمية
واسرع الى الانتماء لمدرسة الصادق جميع عشاق الفضيلة والعلم من شتى الاقطار الاسلامية عربا وغير عرب ويحدثنا الاستاذ عبد العزيز سيد الاهل عن مدى ذلك النشاط في الالتحاق بمدرسة الامام بقوله :
وارسلت الكوفة والبصرة وواسط والحجاز الى جعفر بن محمد فلاذ اكبادها من كل قبيلة من بني اسد ومن غني ومخارق وطي وسليم وغطفان وغفار والازد وبني ضبة ومن قريش ولا سيما بني الحارث بن عبد المطلب وبني الحسن بن علي .
5ـ تدوين العلم
واقبل اصحاب الامام عليه السلام على تدوين العلوم التي تلقوها واخذوها من الامام فالفوا في جميع الفنون والمعارف فقد الف ابان بن تغلب (معاني القرآن) وكتاب (القرآن) والف المفضل

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 485

ابن عمر كتاب (التوحيد) والف جابر بن حيان (كتابا في علم الكيمياء) .
هكذا الف جمع كثير من تلاميذه في مختلف الفنون كزرارة وابي بصير ومحمد بن مسلم واسماعيل بن ابي خالد وغيرهم من الاعلام حتى بلغ عدد المؤلفات اربعمائة كتاب لاربعمائة مؤلف ودون الشيخ اغا بزرك الطهراني اكثر من مؤلف في علم الحديث فقط لاصحاب الامام
6ـ علومها وادابها :
وتناولت محاضرات الصادق ودروسه جميع الفنون العلمية التي لها الاثر التام في التقدم الاجتماعي ومن ابرز العلوم التي تناولها الصادق بالبسط والتحليل الفقة الاسلامي بجميع انواعه من العبادات والمعاملات .
ولم يقتصر الامام في ابحاثه على الناحية العلمية فقد توسع في محاضراته الى بيان كل اصول الادب والقيم الاجتماعية من مكارم الاخلاق والاصلاح الشامل في جميع المجالات .
7ـ طابعها الخاص :
ومدرسة الصادق لها طابع خاص انفردت به عن بقية المدارس والمؤسسات العلمية فقد كان طابعها هو الاستقلال وعدم خضوعها للدولة فلم يكن لولاة الامور باي حال مجال للتدخل فيها فهي

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 486

منفصلة عن الهيئة الحاكمة لان الامتزاج بها معناه تدخل السلطة في شؤونها وهذا ما عليه جامعة النجف الاشرف حتى اليوم فانها منذ تاسيسها لم ترتبط بالدولة وعلى هذا المنهاج تسير جامعة (قم) في ايران .
8ـ فروعها :
وفتحت في كثير من الاقاليم الاسلامية فروع لمدرسة الصادق اقامها كل من تخرج من تلك المدرسة ورجع الى بلاده واعظم الفروع التي اسست هو المعهد الكبير الذي اقيم في (جامع الكوفة) فقد التحق به من كبار تلاميذ الامام تسعمائة عالما كما حدثنا بذلك الحسن بن علي فقد قال : «ادركت في هذا المنزل المسجد (يعني مسجد الكوفة) تسعمائة شيخ كل يقول حدثني جعفر بن محمد» .
وبذلك اتسعت الحركة العلمية اتساعا هائلا حتى شملت جميع المناطق الاسلامية وقال البحاثة الهندي الشهير السيد امير علي :
« ولا مشاحة ان انتشار العلم في ذلك الحين قد ساعد على فك الفكر من عقاله فاصبحت المناقشات الفلسفية عامة في كل حاضرة من حواضر العالم الاسلامي ولا يفوتنا ان نشير الى ان الذي تزعم تلك الحركة هو حفيد علي بن ابي طالب المسمى بالامام جعفر والملقب بالصادق وهو رجل رحب افق التفكير بعيد اغوار العقل ملم كل الالمام بعلوم عصره ويعتبر في الواقع اول من اسس المدارس الفلسفية المشهورة في الاسلام ولم يكن يحضر حلقته

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 487

العلمية اولائك الذين اصبحوا مؤسسي المدارس والمذاهب فحسب بل كان يحضرها كل طلاب الفسلفة والمتفلسفون من الانحاء القاصية » .
9ـ اعتزاز وافتخار :
لقد اعتز تلاميذ الامام بالحضور في مدرسته وافتخروا بذلك كثيرا فقد اهلتهم تلك الدراسة الى المراكز العليا في الاسلام فهذا الامام ابو حنيفة قد اعلن فخره واعتزازه بذلك بقوله المشهور (لولا السنتان لهلك النعمان) لقد فخر ابو حنيفة بالسنتين اللتين حضرهما عند الامام وجعلهما من افضل ادوار حياته العلمية التي سببت شهرته .
10ـ اسباب نجاح هذه المدرسة :
وترجع الاسباب التي ادت الى امتداد ظلال هذه المدرسة في العالم الاسلامي ونفوذها بين طبقات المسلمين الى امور ثلاثة :
1ـ شخصية الصادق .
2ـ المحتوى الفكري للمدرسة .
3ـ جذور المدرسة الفكرية .
وهذه الجهات الثلاث هي كلما يعني الباحث في البحث عن المدارس الفكرية .

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 488

وقد قدر لهذه المدرسة ان تضم الى اصالة الفكر الصادق الفذة
واتيحت لها ان تجمع بين هذه الجوانب الثلاثة على ندرة ما يتفق ذلك لمذهب من المذاهب .
ولا اجدني بحاجة الى ان اشير الى تاثير شخصية الداعية في نجاح الثورة وتوسعها كما لا اجدني بحاجة الى ان المح الى شخصية الصادق الفذة بين معاصريه فقد كان العلماء يقبلون على مجلسه من اقطار بعيدة ويتلقون عنه الفقه والحديث والتفسير وكانوا يلقون عليه ما يصعب عليهم من مسائل الفقه والتفسير ثم يخرجوا ليشيعوا ذلك عنه بين الناس حتى كثر الحديث عنه .
اما فيما يختص المحتوى الفكري للمدرسة الجعفرية فان المحتوى الفكري لهذه المدرسة يمتاز بالتماسك الفكري الوثيق والترابط فيما بين افكارها واتجاهاتها .
ومثل هذه التماسك يشد اتجاهات المدرسة بعضها الى بعض ويؤدي الالتزام باي جزء منه الى الالتزام بالجزء الاخر فالمدرسة الجعفرية مثلا فتحت باب الاجتهاد للعلماء وقد كان لهذا العامل تاثير كبير على نمو المدرسة فيما بعد عصر الصادق واقبال الناس عليها لمسايرتها للاوضاع الاجتماعية المتجددة .
فعندما يغلق باب الاجتهاد على مذهب فكري ايا كان المذهب الفكري فان ذلك يؤدي الى جمود المذهب عن التطور والنمو ومسايرة

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 489

الاحوال والاوضاع المتجددة ولذلك فان هذه الميزة في المذهب الجعفري تعتبر ضمانا من الداخل لحياة المذهب وبقائه .
وقد سبقت الشيعة المذاهب الاسلامية الاخرى الى وضع اصول الاجتهاد والاستنباط في الفقه وتحرير مباحثه والامام الباقر هو واضع علم الاصول وفاتح بابه واول من صنف فيه هو هشام بن الحكم وصنف كتاب الالفاظ ومباحثها وهو اهم مباحث علم الاصول ثم من بعده يونس بن عبد الرحمن مولى ال يقطين صنف كتاب اختلاف الحديث ومسائله وهو مبحث تعارض الحديثين ومسائل التعادل والتراجيح ثم اخذت حركة التاليف في الاصول من بعدهما بالتوسعة واشتهر منهم ائمة ثلاث اعلام منهم ابو سهل النوبختي والحسن بن موسى النوبختي ويقول العالم المصري ابو زهرة :
«تنمو المذاهب بثلاث عوامل : اولها ان يكون باب الاجتهاد مفتوحا فان ذلك الباب يفتح باب الدراسة لكل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والنفسية وعلاجها من الشريعة بما يناسبها من غير تجاوز لحدود النصوص وخروج عن الماثر .
واننا نعتقد ان المذهب الجعفري من الناحية الفقهية قد فتح فيه هذا الباب من اجل الدراسة وهو بهذا صالح للنمو المستمر الذي لا يتخلف ما دام المجتهدون فيه ملتزمين الجادة والطريق المستقيم» .
وعراقة المذهب هي الاخرى من اهم الاسباب التي ادت الى نمو المدرسة

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 490

وغرس فيها الصادق بذرتها الاولى نقلا عن ابائه ليتعهدها برعايته .
المجلس السادس (1)

ان شخصية جعفر الصادق برزت بشكل جلي في مجالين :
اولهما : هذه القيادة الفكرية التي نصبته علما للبشر والفكر والعلم فباشرها على نطاق واسع مكشوف مبينا الحقائق العلمية الاسلامية والاصلاحات الشرعية والمفاهيم والاحكام الدينية وهو بهذا يجدد ويبعث الشريعة بعد فترة من الركود الفكري تحمل وزرها الاكبر الحكام والامراء والملوك وقد خرج الامام من معركة الاصطلاحات والمفاهيم بنصر وظفر حيث هيأ للمسلمين الاطلاع على الحقائق التشريعية .
ثانيهما : اعتزال النشاط السياسي العلني للمستلزمات الظرفية التي عاصرت عهده في الوقت الذي لم ينفك فيه عن تعضيد الحركات السياسية التي قادها الثوار العلويون محاولة منه لاسماع الامة العربية صوته واظهار سخطه على الحكام ثم كشف حقيقتهم وانحرافهم عن القواعد الاسلامية في الحكم والسياسة والتشريع .
لقد استفاد الصادق من ضعف القوى السياسية التي كانت من

(1) من المجالس التي اضفناها الى الطبعة السابقة
المجالس السنية ـ الجزء الخامس 491

قبل تضيق عليه وعلى الائمة من آبائه بالنظر لان عصره شهد ضعف وانهيار الكيان السياسي الاموي ثم نشاط الحزب العباسي وتاسيس الدولة العباسية وسط خضم من المنازعات والفتن فانشغل الحكام بامورهم هذه عنه مما مكنه من فتح ابوابه لطلاب العلم والحقيقة وجعله على اتصال مباشر مع الامة يشحنها بمقومات الفكر والاصلاح والهداية .
نشأ الصادق عليه السلام في عهد دولة بني امية ذلك العهد الذي فاضت جوانبه في مطاردة الاحرار لا سيما شيعة علي بن ابي طالب واضطهاد ال الرسول والاستهتار بكل القيم الانسانية حتى جاء عهد عمر بن عبد العزيز الملك الانساني الذي رفع الظلم عن الشعب ولكن عهده لم يطل فعادت الامور الى السيء والاسوأ فكثرت الفوضى وتقلص الامن وانتشر الخوف عندما ولي الحكم يزيد بن عبد الملك وهشام والوليد بن يزيد ويزيد بن الوليد الذي انمحى في خلافته ظل بني امية حيث وقع الصراع بين الامويين والعباسيين على طلب الخليفة .
وهنا قد لازم الصادق عليه السلام الصمت وعدم الانحياز الى احدى الفئتين غير انه دعا الناس الى طلب العلم والمعرفة .
وفي هذه الفترة كثر الطامعون في استعباد الامة فخضع الضعيف ملبيا اصوات الجبابرة الطامعين وانقسم ذوو الاطماع

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 492

والغايات من داع الى حكم الامويين ومن داع الى حكم بني العباس حنقا على بني امية لانهم ضلوا سواء السبيل .
وفي تلك الساعة طولب الامام الصادق ان يبايع الى بعض ابناء عمه فابى فاتهم بالحقد والحسد فاعتزل واتخذ مسجد النبي في المدينة مدرسة له ينشر منها العلم الى جميع الافاق .
واعلنت الثورة العباسية وكان شعارها الاصلاح فسالت الدماء وطاخت الرؤوس والصادق لم يتحول عن رايه غير انه تحول عن رايه الى جامع ابيه في الكوفة حيث وجد مجموعة خيرة من المتعلمين فاندفع الى نشر المعارف والعلوم فوزع طلابه بعد ان درس نفسياتهم واتضح اتجاهاتهم وقابلياتهم فصرف قوما الى الفلسفة وآخرين الى المناظرة والمحاجبة وقوما الى الفقه واخرين الى الكيمياء وهذا الى الطب وذاك الى رغبته من طلب العلم والى ما يهوى .
فقد ارتأى الصادق ان السلاح في ذلك الوقت لا يحل مشكلة اجتماعية ولا يرفع ظلامة مظلوم ولا يتقلص ظل الزمرة الكامنة في الحكم الجائرة بالسيف .
فقد كان يرى ان لا ثورة مع الجهل ولا خنوع من العلم انه يرتأي ان تتثقف الامة فتطالب بحقوقها حيث لا يقضي على المتنفذين الظالمين الا العلم لذا وجه الناس توجيها علميا .

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 493

بهذا اراد الصادق عليه السلام محاربة طغيان بني امية وبني العباس حتى كان بين يديه اربعة الاف طالب كل يقول درست على جعفر بن محمد الصادق .
وبهؤلاء عزم الصادق على ان يقضي على المتزعمين المخربين ويدك عهدهم ويقوض سلطانهم ليعيد الحق الى نصابه والانسان الى حقوقه يتمتع بها كيف يشاء وانى شاء .
لقد كانت الفترة التي عاشها الصادق فترة مضطربة تتميز بالغليان من ناحية سياسية واجتماعية فالى جنب الحركات السياسية المتضاربة المذاهب العقائدية المختلفة التي تولدت داخل الامة من اثر الواقع الذي تعيشه آنذاك والذي كانت السلطة في انحرافها وفي ما تبنته من سياسة التجهيل مع الامة سببا مباشرا فيه .
فقد كثرت النظريات الفاسدة المنحرفة واندس بين المسلمين اناس كل هدفهم ان يفسدوا على المسلمين عقيدتهم وتكاثر الوضاعون من جهة والغلاة والملحدين من جهة اخرى وساهموا جميعا في ابعاد الامة عن الواقع الاسلامي وكادت العقيدة الاسلامية والتشريع الاسلامي ان يضيعا وسط هذه التيارات المتباينة هذا الى جانب انحراف السلطة وطغيانها وبعدها عن الاسلام .
وقد كان على الامام الصادق ان يواجه كل ذلك ان يواجه

السابق السابق الفهرس التالي التالي