المجالس السنية ـ الجزء الخامس 209

ولد علي في داخل الكعبة ، وكرم الله وجهه عن السجود لاصنامها ، فكأنما كان ميلاده ثمة ايذانا بعهد جديد للكعبة وللعبادة فيها .
وكاد علي ان يولد مسلما . . بل لقد ولد مسلما على التحقيق اذا نحن نظرنا الى ميلاد العقيدة والروح ، لانه فتح عينيه على الاسلام ، ولم يعرف قط عبادة الاصنام ، فهو تربى في البيت الذي خرجت منه الدعوة الاسلامية وعرف العبادة من صلاة النبي وزوجته الطاهرة قبل ان يعرفها من صلاة ابيه وامه ، وجمعت بينه وبين صاحب الدعوة قرابة مضاعفة ومحبة أوثق من محبة القرابة ، فكان ابن عم محمد وربيبه الذي نشأ في بيته ونعم بعطفه وبره . . وقد رأينا الغرباء يحبون محمداً ويؤثرونه على آبائهم وذويهم فلا جرم يحبه هذا الحب من يجمعه به جد ويجمعه به بيت ويجمعه به جميل معروف : جميل ابي طالب يؤديه محمد وجميل محمد يحسه ابن ابي طالب وياوي اليه . .
وملا الدين قلبا لم ينازعه فيه منازع من عقيدة سابقة ولم يخالطه شوب يكدر صفاءه ويرجع به الى بقاياه . . فيحق ما يقال ان عليا كان المسلم الخالص على سجيته المثلى ، وان الدين الجديد لم يعرف قط اصدق اسلاما منه ولا اعمق نفاذاً فيه . كان المسلم حق المسلم في عبادته ، وفي علمه وعمله ، وفي قلبه

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 210

وعقله ، حتى ليصح ان يقال انه طبع على الاسلام فلم تزده المعرفة الا ما يزيده التعليم على الطباع .
كان عابدا يشتهي العبادة كانها رياضة تريحه وليست امرا مكتوبا عليه . .
وكان علي محجة في الاسلام لا يحيد عنها لبغية ولا لخشية . وآثر الخير كما يراه على الخير كما يراه الناس . .
وكان دينه له ولعدو دينه فما كان الحق عنده لمن يرضاه دون من يقلاه ، ولكنه كان الحق لكل من استحقه وان بهته وآذاه .
وجد درعه عند رجل نصراني فاقبل به الى شريح ـ قاضيه ـ يخاصمه مخاصمة رجل من عامة رعاياه ، وقال : انها درعي ولم ابع ولم اهب ، فسأل شريح النصراني : ما تقول فيما يقول امير المؤمنين قال النصراني : ما الدرع الا درعي وما امير المؤمنين عندي بكاذب فالتفت شريح الى علي يسأله يا امير المؤمنين هل من بينة ؟ . . فضحك علي وقال : اصاب شريح . ما لي بينة . فقضى بالدرع للنصراني فأخذها ومشى وامير المؤمنين ينظر اليه . . الا ان النصراني لم يخط خطوات حتى عاد يقول : اما انا فأشهد ان هذه احكام انبياء . . امير المؤمنين يدينني الى قاضيه فيقضي عليه . . اشهد ان لا اله الا الله وان محمداً رسول الله ، الدرع والله درعك يا امير المؤمنين . اتبعت الجيش وانت منطلق الى صفين فخرجت من بعيرك الاوراق . فقال : اما اذا اسلمت فهي لك . وشهد الناس

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 211

هذا الرجل بعد ذلك وهو من اصدق الجند بلاء في قتال الخوارج يوم النهروان .
واحسن الاسلام علما وفقها كما احسنه عبادة وعملا . فكانت فتاواه مرجعا للخلفاء والصحابة في عهود ابي بكر وعثمان وعمر وندرت مسألة من مسائل الشريعة لم يكن له رأي فيها يؤخذ به او تنهض له الحجة بين افضل الاراء .
الا ان المزية التي امتاز بها علي بين فقهاء الاسلام في عصره انه جعل الدين موضوعا من موضوعات التفكير والتأمل ولم يقصره على العبادة واجراء الاحكام ، فاذا عرف في عصره اناس تفقهوا في الدين ليصححوا عباداته ويستنبطوا منه اقضيته واحكامه فقد امتاز علي بالفقه الذي يراد به الفكر المحض والدراسة الخالصة ، وامعن فيه ليغوص في اعماقه على الحقيقة العلمية ، او الحقيقة الفلسفية كما نسميها هذه الايام . (1)

المجلس العاشر(2)

تسري في صفحات التاريخ احكام مرتجلة يتلقفها من فم الى فم ، ويتوارثها جيل عن جيل ويتخذها السامعون قضية مسلمة مفروغا

(1) العقاد .
(2) من المجالس التي اضفناها على الطبعة السابقة .
المجالس السنية ـ الجزء الخامس 212

من بحثها والاستدلال عليها ، وهي في الواقع لم تعرض قط على البحث والاستدلال . ولم تتجاوز ان تكون شبهة وافقت ظواهر الاحوال ، ثم صقلتها الالسنة فعز عليها بعد صقلها ان تردها الى الهجر والاهمال . من تلك الاحكام المرتجلة قولهم ان عليا بن ابي طالب رجل شجاع ، ولكن لا علم له بخدع الحرب والسياسة .
وقد يكون كذلك او لايكون فسنرى بعد البحث في ارائه وآراء المشيرين عليه اي هذين القولين ادنى الى الصواب .
ولكن هل خطر لاحد من ناقديه ، في عصره او بعد عصره ان يسأل نفسه : أكان في وسع علي ان يصنع غير ما صنع ؟
وهل خطر لاحد منهم ان يسأل بعد ذلك : هبه استطاع ان يصنع غير ما صنع فما هي العاقبة ؟ . . . وهل من المحقق انه كان يفضي بصنيعه الى عاقبة أسلم من العاقبة التي صار اليها . . ؟
لم نعرف احداً من ناقديه ، خطر له ان يسأل عن هذا او ذاك ان السؤال عن هذا او ذاك هو السبيل الوحيد الى تحقيق الصواب والخطأ في رأيه ورأي مخالفيه ، سواء كانوا من الدهاة او غير الدهاة . .
والذي يبدو لنا نحن من تقدير العواقب على وجوهها المختلفة ان العمل بغير الرأي الذي سيق اليه لم يكن مضمون النجاح ولا كان مأمون الخطر ، بل وربما كان الامل في نجاحه اضعف والخطر في اتباعه اعظم ، لو انه وضع في موضع العمل والانجاز وخرج

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 213

من حيز النصح والمشورة .
وهذه هي المسائل التي خالفه فيها الدهاة ، او خالفه فيها نقدة التاريخ الذين نظروا اليها من الشاطئ ، ولم ينظروا اليها نظرة الربان في غمرة العواطف والامواج .
فالمآخذ التي من هذا القبيل ، يمكن ان تنحصر في المسائل التالية وهي :
1ـ عزل معاوية .
2ـ معاملة طلحة والزبير .
3ـ عزل قيس بن سعد من ولاية مصر .
4ـ تسليم قتلة عثمان .
5ـ قبول التحكيم .
وهي كلها قابلة على الاقل للخلاف والاحتجاج من كلا الطرفين فان لم يكن خلاف وكان جزم قاطع . . فهو على ما نعتقد اقرب الى رأي علي وابعد من آراء مخالفيه وناقديه .
قيل في مسألة معاوية ان عليا خالف فيها رأي المغيرة وابن عباس وزياد بن حنظلة التميمي وهم جميعا من المشهورين بالحنكة وحسن التدبير .
تلك آراء المشيرين من ذوي الحنكة ، وذلك ما عمل به الامام وارتضاه ، فايهما على خطأ وايهما على صواب ؟ . .

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 214

سبيل العلم بذلك ان نعلم اولا : هل كان الامام مستطيعا ان يقر معاوية في عمله بالشام ؟
وان نعلم بعد هذا : هل كان اقراره ادنى الى السلامة والوفاق لو انه استطاع ؟ ..
وعندنا ان الامام لم يكن مستطيعا ان يقر معاوية في عمله لسببين : اولهما انه اشار على عثمان بعزله اكثر من مرة وكان اقراره واقرار امثاله من الولاة المستغلين اهم المآخذ على حكومة عثمان .
فاذا اقره وقد ولي الخلافة ، فكيف يقع هذا الاقرار عند اشياعه ؟ الا يقولون انه طالب حكم لا يعنيه اذا وصل الى بغيته ما كان يقول وما سيقوله الناس ؟
واذا هو اعرض عن رأيه الاول ، فهل في وسعه ان يعرض عن آراء الثائرين الذين بايعوه بالخلافة لتغيير الحال والخروج من حكم عثمان الى حكم جديد ؟
فكيف تراهم يهدأون ويطيعون اذا علموا ان الولايات باقية على حالها ، وان الاستغلال الذي شكوا منه وسخطوا عليه لا تبديل فيه ؟
وندع هذا ونزعم ان اقرار معاوية بحيلة من الحيل مستطاع . . فهل هو على هذا الزعم اسلم وادنى الى الوفاق ؟
كلا على الارجح ، بل على الرجحان ، الذي هو في حكم

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 215

التحقيق . لان معاوية لم يعمل في الشام عمل وال طوال حياته ، ويقنع بهذا النصيب ثم لا يتطاول الى ما وراءه ، لكنه عمل فيها عمل صاحب الدولة التي يؤسسها ويدعمها له ولابنائه من بعده . . فجمع الاقطاب من حوله ، واشترى الانصار بكل ثمن في يديه واحاط نفسه بالقوة والثروة ، واستعد للبقاء الطويل ، واغتنام الفرصة في حينها ، فأي فرصة هو واجدها خير من مقتل عثمان والمطالبة بثأره ؟
وانما كان مقتل عثمان فرصة لا يضيعها ، وإلا ضاع منه الملك وتعرض يوما من الايام لضياع الولاية . وما كان مثل معاوية بالذي يفوته الخطر من عزله بعد استقرار الامور ، ولو على احتمال بعيد فماذا تراه صانعا اذا هو عزل بعد عام من مبايعته لعلي وتبرئته اياه من دم عثمان .
انما كان مقتل عثمان فرصة لغرض لا يقبل التأخير .
واذا كان هذا موقف علي ومعاوية عند مقتل عثمان ، فماذا كان علي مستفيدا من اقراره في عمله وتعريض نفسه لغضب انصاره .
لقد كان معاوية احرى ان يستفيد بهذا من علي ، لانه كان يغنم به حسن الشهادة له وتزكية عمله في الولاية ، وكان يغنم ان يفسد الامر على علي بين انصاره ، فتعلو حجته من حيث تسقط حجة علي . واصدق ما يقال بعد عرض الموقف على هذا الوجه من ناحيتيه ان صواب علي في مسألة معاوية كان ارجح من صواب

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 216

مخالفيه . . فان لم تؤمن بها على التقدير والترجيح ، فاقل ما يقال ان الصواب عنده وعندهم سواء .
والتقدير في مسألة طلحة والزبير ايسر من التقدير في مسألة معاوية ، لان الرأي الذي عمل به علي معروف ، والاراء التي تخالفه لا تعدو واحدا من ثلاثة ، كلها اغمض عاقبة ، واقل سلامة واضعف ضمانا من رأيه الذي ارتضاه .
فالرأي الاول ان يوليهما العراق واليمن او البصرة والكوفة وكان عبد الله بن عباس على هذا الرأي فانكره الامام لان البصرة والكوفة بهما الرجال والاموال ومتى تملكا رقاب الناس يستميلان السفيه بالطمع ويضربان الضعيف بالبلاء ، ويقويان على القوي بالسلطان ، ثم ينقلبان عليه اقدى مما كانا بغير ولاية وقد استفادا من اقامة الامام لهما في الولاية تزكية يلزمانه بها الحجة ، ويثيران بها انصاره عليه .
والرأي الثاني ان يوقع بهما ليفترقا ولا يتفقا على عمل ، وهو لا ينجح في الوقيعة بينهما الا باعطاء احدهما وحرمان الاخر ، فمن اعطاه لا يضمن انقلابه مع الغرة السانحة ، ومن حرمه لا يأمن ان يهرب الى الاثرة كما هرب غيره ، فيذهب الى الشام ليساوم معاوية ، او يبقى في المدينة على ضغينة مستورة .
على انهما لم يكونا قط متفقين حتى في مسيرهما من مكة الى البصرة ، فوقع الخلاف في عسكرهما على من يصلي بالناس ، ولولا

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 217

سعي السيدة عائشة بالتوفيق بين المختلفين لإفترقا من الطريق خصمين متناقضين .
ولم تطل المحنة بهما متفقين او مختلفين ، فانهزما بعد ايام قليلة وخرج علي من حربهما اقوى وامنع مما كان قبل هذه الفتنة ، ولو بقيا على السلم المدخول لما انتفع بهما بعض انتفاعه بهذه الهزيمة العاجلة .
والرأي الثالث ان يعتقلهما اسيرين ، ولا يبيح لهما الخروج من المدينة الى مكة حين سألاه الاذن بالمسير اليها ، ثم خرجا منها الى البصرة ليشنا الغارة عليه .
والواقع ان عليا قد استراب بما نوياه حين سألاه الاذن بالسفر الى مكة . . فقال لهما ( ما العمرة تريدان ، وانما تريدان الغدرة ) .
ولكنه لم يحبسهما ، لان حبسهما لن يغنيه عن حبس غيرهما من المشكوك فيهم ، وقد تركه عبد الله بن عمر ولم يستأذنه في السفر ، وتسلل الى الشام اناس من مكة ومن المدينة ولا عائق لهم ان يتسللوا حيث شاءوا ، ولو انه حبسهم جميعا لما تسنى له ذلك بغير سلطان قاهر ، وهو في ابتداء حكمه لما يظفر بشيء من ذلك السلطان ، واغلب الظن ان سواء الناس كانوا يعطفون عليهم وينقمون حبسهم قبل ان تثبت له البينة بوزرهم. وما اكثر المتحرجين في معسكر الامام علي من حبس الابرياء بغير برهان ؟ . . لقد كان هؤلاء خلقاء ان ينصروهم عليه وقد كانوا

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 218

ينصرونه عليهم ، وخير له مع طلحة والزبير ان يعلنوا عصيانهم فيغلبهم من ان يكتموه فيغلبوه ويشككوا بعض انصاره في عدله وحسن مجاملته معهم . وعلى هذا كله ، حاسنوه ولم يصارحوه بعداء .
لم يكن الجيش الذي خرج من مكة الى البصرة بيائس من الخروج اليها اذا لم يصحبه طلحة والزبير فقد كانت «العثمانية» في مكة حزبا موفور العدد والمال . . فهي مسألة تلتبس فيها الطرائق ، ولا يسعنا ان نجزم بطريقة منها اسلم ولا اضمن عاقبة من الطريقة التي سلكها علي وخرج منها غالبا على الحجاز والعراق ، وما كان وشيكا ان يغلب عليهما لو بقي معه طلحة والزبير على فرض من جميع الفروض التي قدمناها .
اما عزل قيس بن سعد من ولاية مصر مع ان قيسا بن سعد كان اقدر اصحابه على ولاية مصر وحمايتها ، وكان كفؤا لمعاوية وعمرو بن العاص في الدهاء والمداورة ، فعزله علي لانه شك فيه ، وشك فيه لان معاوية اشاع مدحه بين اهل الشام ، وزعم انه من حزبه والمؤتمرين في السر بأمره .
وكان اصحاب علي يحرضونه على عزله ، وهو يستمهلهم ويراجع رأيه فيه حتى اجتمعت الشبهات لديه . فعزله وهو غير واثق من التهمة ولكنه كذلك غير واثق من البراءة .
وشبهاته مع ذلك لم تكن بالقليلة ولا بالضعيفة ، فان قيسا

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 219

ابن سعد لم يدخل مصر الا بعد ان مر بجماعة من حزب معاوية ، فأجازوه ولم يحاربوه وهو في سبعة رجال لا يحمونه من بطشهم ، فحسبوه حين اجازوه من العثمانية الهاربين الى مصر من دولة علي في الحجاز .
ولما بايع المصريون عليا على يديه ، بقي العثمانيون لا يبايعون ولا يثورون ، وقالوا له : «امهلنا حتى يتبين لنا الامر» فامهلهم وتركهم وادعين حيث طاب لهم المقام بجوار الاسكندرية .
ثم اغراه معاوية بمناصرته والخروج على علي ، فكتب اليه قيس كلاما لا الى الرفض ولا الى القبول ، ويصح لمن سمع بهذا الكلام ان يحسبه مراوغا لمعاوية او يحسبه مترقبا لساعة الفصل بين الخصمين اذ كان ختام كتابه الى معاوية : «اما متابعتك فانظر فيها ، وليس هذا مما يسرع اليه وانا كاف عنك فلا يأتيك شيء من قبلي تكرهه ، حتى نرى وترى» .
واراد علي ان يستيقن من الخصومة بين قيس ومعاوية . فأمر قيسا ان يحارب المتخلفين عن البيعة . . فلم يفعل وكتب اليه : «متى قاتلناهم ساعدوا عليك عدوك ، وهم الان معتزلون والرأي تركهم» .
فتعاظم شك علي واصحابه ، وكثر المشيرون عليه بعزل قيس واستقدامه الى المدينة . . فعزله واستقدمه ، وتبين بعد ذلك انه اشار بالرأي والصواب ، وان ترك المتخلفين عن البيعة

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 220

في عزلتهم خير من التعجيل بحربهم ، لانهم هزموا محمدا بن ابي بكر والى مصر الجديد ، وجرؤوا عليه من كان يصانعه ويواليه .
ولكننا نبالغ على كل حال ، اذا علقنا على هذا التصرف الجرائر التي اصابت عليا من بعدها .
ومن عجائب هذه القصة ان معاوية ندم على تقريب قيس من جوار علي ، وقال : «لو امددته بمائة الف لكانوا اهون علي من قيس» لانه قد ينفعه وهو قريب من في عامة اموره ولا ينحصر نفعه له في سياسة مصر وحدها .
ثم تاتي مسالة القصاص من قتلة عثمان التي كانت اطول المسائل جدلا بين علي وخصومه ، فاذا هي اقصرها جدلا مع براءة المقصد من الهوى وخلوص الرغبة في الحقيقة .
فقد طالبوه بالعقوبة ولم يبايعوه مع ان العقوبة لا تكون الا من ولي الامر المعترف له باقامة الحدود .
وطالبوه به ولم يعرفوا من القتلة ، ومن هو الذي يؤخذ بدم عثمان من القبائل او الافراد .
واعنتوه بهذا الطلب لانهم علموا انه لا يستطاع قبل ان تثوب السكينة الى عاصمة الدولة ، واعفوا انفسهم منه ـ وهم ولاة الدم كما يقولون ـ يوم قبضوا على عنان الحكم وثابت السكينة الى جميع الامصار .

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 221

وقد تحدث علي مرة في امر العقوبة من قتلة عثمان ، فاذا بجيش يبلغ عشرة الاف يشرعون الرماح ويجهرون بانهم « كلهم قتلة عثمان » فمن شاء العقوبة فليطبقها عليهم جميعا .
ولو ان المطالبين بدم عثمان التمسوا اقرب الطرق الى الثأر له ، والقصاص من العادين عليه ، لقد كان هذا اقرب الطرق الى ما ارادوا . . يؤيدون ولي الامر حتى يقوى على اقامه الحدود ، ثم يحاسبونه بحكم الشريعة حساب انصاف . .
اما الذين لاموه لقبوله التحكيم ، فيخيل الينا من عجلتهم الى اللوم انهم كانوا اول من يلومه ويفرط في لومه لو انه رفض التحكيم واصر على رفضه ، لانه لم يقبل التحكيم وله منوحة عنه ولكنه قبله بعد احجام جنوده عن الحرب ، ووشك القتال في عسكرهم خلافا بين من يقبلونه ويرفضونه .
وقبله بعد ان حجز الحفاظ والقراء نيفا وثمانين فزعة للقتال لشكهم في وجوب القتال وذهاب البعض الى تحريمة .
وبعد ان توعدوه بقتله كقتل عثمان ، واحاطوا به يلحون عليه في استدعاء الاشتر النخي الذي كان يلاحق اعدائه مستحصدا في ساحة الحرب على امل النصر القريب .
والمؤرخون الذين صوبوا رأيه في التحكيم وخطئوه في قبول ابي موسى الاشعري ، على علمه بضعفه وتردده ، ينسون ان ابا موسى كان مفروضا عليه ، كما فرض عليه التحكيم في لحظة

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 222

واحدة وينسون ما هو اهم من ذلك ، وهو ان العاقبة متشابهة سواء ناب عنه ابو موسى الاشعري او ناب عنه الاشتر او عبد الله بن عباس .. فان عمرو بن العاص لم يكن ليخلع معاوية ويقر عليا في الخلافة ، وقصارى ما هنالك ان الحكمين سيفترقان على تأييد كل منهما لصاحبه ورجعة الامور الى مثل ما رجعت اليه . وان توهم بعضهم ان الاشتر او ابن عباس كان قديرا على تحويل ابن العاص عن رأيه ، والجنوح به الى حزب علي ، بعد مساومته التي ساومها في حزب معاوية . . فليس ذلك على التحقيق بمقنع معاوية ان يستكين ويستسلم ، وحوله المؤيدون والمترقبون للمطامع يعز عليهم اخفاقهم كما يعز عليه اخفاقه.
فليس في ايدي المؤرخين الناقدين اذن حل اصوب من الحل الذي اذعن له علي على كره منه ، سواء اذعن له وهو عالم بخطئه او اذعن به وهو يسوي بينه وبين غيره في عقباه . (1)

المجلس الحادي عشر

كان السبب في قتل امير المؤمنين «ع» ان نفرا من الخوارج اجتمعوا بمكة فتذاكروا الامراء فعابوهم وعابوا اعمالهم وذكروا

(1) العقاد .
المجالس السنية ـ الجزء الخامس 223

اهل النهروان وترحموا عليهم وقال بعضهم لبعض لو انا شرينا انفسنا لله عز وجل فأتينا ائمة الضلال وطلبنا غرتهم فارحنا منهم العباد والبلاد وثأرنا باخواننا الشهداء بالنهروان فتعاهدوا على ذلك عند انقضاء الحج فقال عبد الرحمن بن ملجم المرادي انا اكفيكم عليا وقال البرك بن عبد الله التميمي انا اكفيكم معاوية وقال عمر بن بكر السهمي ان اكفيكم عمرو بن العاص وتعاقدوا على ذلك وتواثقوا على الوفاء واتعدوا لشهر رمضان في ليلة تسع عشرة منه ثم تفرقوا (فاما) صاحب معاوية فانه لما وقعت عينه عليه ضربه وقيل ضربه وهو راكع فوقعت ضربته على اليته وجاء الطبيب فقال ان السيف مسموم فاختر اما احمي لك حديدة واجعلها في الضربة فتبرأ واما ان اسقيك دواء فتبرأ وينقطع نسلك فقال اما النار فلا اطيقها واما النسل ففي يزيد وعبد الله ما يقر عيني فسقاه الدواء فعفي وعالج جرحه حتى التأم ولم يولد له بعد ذلك وقال له البرك ان لك عندي بشارة قال ما هي فاخبره خبر صاحبه وقال ان عليا يقتل في هذه الليلة فاحتبسني عندك فان قتل فلك في رأيك وان لم يقتل اعطيتك العهود والمواثيق ان امضي فاقتله ثم اعود اليك حتى تحكم في بما ترى فحبسه عنده فلما اتى الخبر بقتل علي خلى سبيله وقيل بل قتله من وقته وفي ذلك يقول معاوية يخاطب عمرو بن العاص :

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 224

نجوت وقد بل المرادي سيفه من ابن ابي شيخ الاباطح طالب (1)

وامر معاوية عند ذلك بالمقصورات (2) وحرس الليل وقيام الشرطة على رأسه اذا سجد وهو اول من عملها في الاسلام واما صاحب عمرو بن العاص فوافاه تلك الليلة وقد وجد علة وشرب دواء واستخلف صاحب شرطته خارجة بن ابي حبيبة من عامر ابن لؤي يصلي بالناس فضربه بسيفه وهو يظنه عمرا فاخذ واتي به عمرو فقتله ودخل من غد الى خارجة وهو يجود بنفسه فقال له اما والله يا ابا عبد الله ما اراه غيرك قال عمرو ولكن الله اراد خارجة وفي ذلك يقول ابن عبدون في رائيته المشهورة :

1ـ هذا البيت من جملة ابيات كتب بها معاوية الى عمرو بن العاص لما بلغه قتل خارجة وسلامته وهي :
وقتك واسبـاب المـنايـا كثيرة منية شـيخ مـن لؤي بن غالب
فيا عمرو مهلا انمـا انـت همه وصاحبه دون الرجـال الاقارب
نجوت وقد بـل المـرادي سيـفه من ابن ابي شيخ الابـاطح طالب
ويضربنـي بالسيـف آخـر مثله و كانت عليه تلك ضربـة لازب
و انـت تناغـي كـل يـوم وليلة بمصرك بيضا كالضباء السوارب
(2) المقصورة حجرة في المسجد يصلي فيها الامام من القصر وهو الحبس وهي التي ورد عن ائمة اهل البيت «ع» انه انما احدثها الجبارون وانه لا صلاة لمن يصلي خلفها وذلك لانها تمنع النظر الى الامام .
المجالس السنية ـ الجزء الخامس 225

وليتها اذ فدت عمرا بخارجة فدت عليا بمن شاءت من البشر

واما ابن ملجم فانه اقبل الى الكوفة فلقي بها اصحابه فكتمهم امره مخافة ان ينتشر ثم رأى رجلا من اصحابه من تيم الرباب فصادف عنده قطاما بنت الاخضر من تيم الرباب وكان امير المؤمنين «ع» قتل اباها واخاها بالنهروان وكانت من اجمل نساء اهل زمانها فلما رآها ابن ملجم لعنه الله شغف بها واشتد اعجابه فخطبها فقالت له ما الذي تسمي لي من الصداق فقال لها احتكمي ما بدا لك فقالت له انا محتكمة عليك ثلاثة آلاف درهم ووصيفا وخادما وقتل علي بن ابي طالب فقال لها لك جميع ما سألت واما قتل علي فأنى لي بذلك قالت تلتمس غرته فان انت قتلته شفيت نفسي وهناك العيش معي وان قتلت فما عند الله خير لك من الدنيا فقال لها اما والله ما اقدمني هذا المصر وقد كنت هاربا منه لا آمن مع اهله الا ما سألتني من قتل علي فلك ما سألت وفي ذلك يقول ابن ابي مياس الفزازي وقيل المرادي من الخوارج وقيل انها للفرزدق .
فلم ار مهرا ساقه ذو سماحة كمهر قطام من فصيح واعجم (1)


(1) من غني ومعدم خ ل .
ـ المؤلف ـ
المجالس السنية ـ الجزء الخامس 226

ثـلاثة الاف وعـبد وقـيـنة وضرب علي بالحسام المصمم (1)
فلامهر اغلى من علي وان غلا (2) ولا فتك الا دون فتك ابن ملجم

قالت فانا طالبة لك من يساعدك على ذلك ويقويك ثم بعثت الى وردان بن مجالد من تيم الرباب فخبرته الخبر وسألته معونة ابن ملجم فتحمل ذلك لها وخرج ابن ملجم فأتى رجلا من اشجع يرى رأي الخوارج يقال له شبيب بن بجرة فقال لك لفي شرف الدنيا والاخرة قال وما هو قال تساعدني على قتل علي قال هبلتك الهبول لقد جئت شيئا ادا وكيف نقدر على ذلك قال نكمن له في المسجد الاعظم فاذا خرج لصلاة الفجر فتكنا به فاذا نحن قتلناه شفينا انفسنا وادركنا ثأرنا فلم يزل به حتى اجابه فدخلا المسجد الاعظم على قطام وهي معتكفة فيه قد ضربت عليها قبة فقالا لها قد اجمع رأينا على قتل هذا الرجل قالت لهما اذا اردتما ذلك فالقياني في هذا الموضع فلبثا اياما ثم اتياها ليلة الاربعاء وقيل ليلة الجمعة لتسع عشرة وقيل لسبع عشرة خلت من شهر رمضان سنة اربعين من الهجرة ومعهما وردان فدعت لهم بحرير فعصبت بهم صدورهم وتقلدوا سيوفهم ومضوا فجلسوا مقابل السدة التي كان يخرج منها امير المؤمنين عليه السلام الى الصلاة وقد كانوا قبل ذلك القوا الى الاشعث بن قيس ما في نفوسهم من قتل امير المؤمنين عليه السلام ووطأهم على ذلك وحضر في تلك الليلة

(1) المسمم خ ل .
(2) علا خ ل
ـ المؤلف ـ
المجالس السنية ـ الجزء الخامس 227

الى المسجد لمعونتهم وكان حجر بن عدي رحمه الله بائتا تلك الليلة في المسجد فسمع الاشعث يقول لابن ملجم النجاء النجاء لحاجتك فقد فضحك (ضحك خ ل) الصبح فأحس حجر بما اراد الاشعث فقال له قتلته يا اعور وخرج مبادرا ليمضي الى امير المؤمنين «ع» فيخبره الخبر ويحذره من القوم فخالفه امير المؤمنين عليه السلام في الطريق فرجع والناس يقولون قتل امير المؤمنين (قال) بعض اهل الكوفة اني لاصلي في تلك الليلة في المسجد الاعظم مع رجال من اهل المصر كانوا يصلون في ذلك الشهر من اوله الى اخره اذ نظرت الى رجال يصلون قربيا من السدة وخرج امير المؤمنين «ع» لصلاة الفجر فأقبل ينادي الصلاة الصلاة فما ادري انادى ام رايت بريق السيوف فضربه شبيب بن بجرة وهو يقول الحكم لله يا علي لا لك ولا لاصحابك فأخطأه ووقعت ضربته في الطاق وضربه عبد الرحمن بن ملجم وهو يقول ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله وصاح لا حكم الا لله يا ابن ابي طالب فاثبت الضربة في وسط رأسه الشريف (وقيل) انه لما حصل في المحراب هجموا عليه (وفي رواية) ضربه ابن ملجم وهو ساجد فصاح علي «ع» لا يفوتنكم الرجل او لا يفوتنكم الكلب (وفي البحار عن بعض الكتب ) انه «ع» لما احس بالضربة لم يتأوه وصبر واحتسب ووقع على وجهه قائلا بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم هذا ما وعدنا الله رسوله وصدق الله ورسوله ثم صاح وقال قتلني ابن ملجم قتلني اللعين ابن اليهودية فزت ورب

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 228

الكعبة ايها الناس لا يفوتنكم ابن ملجم والدم يجري على وجهه ولحيته وقد خضبت بدمائه وهو يقول جاء امر الله وصدق رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وثار جميع من في المسجد وصاروا يدورون ولا يدرون اين يذهبون من شدة الصدمة والدهشة واحتمل امير المؤمنين «ع» فادخل داره وامر ابنه الحسن «ع» ان يصلي بالناس الغداة (وقيل) امر جعدة بن هبيرة المخزومي وهو ابن اخت امير المؤمنين «ع» ولما حمل امير المؤمنين «ع» الى داره ووضع على فراشه قعدت ابنته لبابة عند رأسه وجلست ام كلثوم عند رجليه فنظر اليهما فقال الرفيق الاعلى خير مستقرا واحسن مقيلا ثم اغمي عليه ثم افاق فقال رأيت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يأمرني بالرواح اليه عشاء ثلاث مرات (وكأني) بأمير المؤمنين « ع» وقد احدق به اهل بيته وابناؤه وبناته وهم يبكون وينتحبون بينهم الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية وزينب وام كلثوم ولبابة وسائر ابناء امير المؤمنين «ع» وبناته وكلما نظروا الى وجهه الشريف ولحيته الكريمة وهما مخضبان بالدماء وقد اصفر لونه وتزايد ولوج السم في بدنه اشتد بهم الحزن وسالت منهم العبرات وهم ينشجون نشيجا ولا يرفعون اصواتهم مخافة ان ينزعج امير المؤمنين «ع» (وفي البحار) عن بعض الكتب ان ام كلثوم لما بلغها الخبر صاحت وا ابتاه واعلياه وامحمداه واسيداه وان الحسن «ع» جعل ينادي وانقطاع ظهراه يعز علي والله ان اراك هكذا ففتح امير المؤمنين «ع» عينيه وقال يا بني لا جزع على ابيك بعد اليوم هذا

المجالس السنية ـ الجزء الخامس 229

جدك محمد المصطفى وجدتك خديجة الكبرى وامك فاطمة الزهراء محدقون منتظرون قدوم ابيك فطب نفسا وقر عينا وكف عن البكاء ، واقبل الناس من كل جانب حين سمعوا الخبر ومما قيل عن لسان زينب كأنها تخاطب اباها امير المؤمنين «ع».
يعـز الهـواشم يا فخرهـا و يا سورها العالي او ذخرها
يا فـارس حنيـن او بدرها وامـطيّع بسيـفك كـفرهـا
ثنيتـك اليتـواد جمـرهـا والـموت ما يجـسر يطرها
وهامتـك بالرهف طبرهـا وشيبك تخضب من حمرهـا

* * *

قل لابن ملجم والاقدار غالـبـة هدمـت ويلك للاسـلام اركانا
قتلت افضل من يمشي على قدم و اول الناس اسـلاما وايمـانا

هذا ما كان من امر امير المؤمنين «ع» واما ابن ملجم وصاحباه فانهم هربوا نحو ابواب المسجد وتبادر الناس لاخذهم (اما ابن ملجم) فلحقه رجل من همدان (وقيل) المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب فطرح عليه قطيفة كانت في يده ثم صرعه واخذ السيف من يده وجاء به الى امير المؤمنين «ع» (واما شبيب) فاخذه رجل فصرعه وجلس على صدره واخذ السيف من يده ليقتله بيده فرأى الناس يقصدون نحون فخشي ان يعجلوا عليه ولا يسمعوا منه فوثب عن صدره وخلاه وطرح السيف من يده ومضى شبيب هاربا حتى دخل على ابن عم له فرآه يحل الحرير عن

السابق السابق الفهرس التالي التالي