فقال اللهم ائتني باحب خلقك اليك ياكل معي من هذا الطائر فجاء علي بن ابي طالب ، وفيه وفي زوجته وابنيه نزلت «يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما واسيرا انما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا» الاية وذلك حين تصدقوا بزادهم وهم صائمون ، وفضائله كثيرة لا تحصى ومناقبه جليلة لا تستقصى .
قال فيه البليغ ما قال ذو العـ
ـي فـكل بفـضله منطيـق
كذلك الـعدو لـم يـعد ان قا
ل جميلا كما يقول الصديـق
وروى المفيد في الارشاد بسنده عن الاصبغ بن نباته قال اتى ابن ملجم امير المؤمنين عليه السلام فبايعه فيمن بايع ثم ادبر عنه فدعاه امير المؤمنين «ع» فتوثق منه وتوكد عليه ان لا يغدر ولا ينكث ففعل ثم ادبر عنه فدعاه امير المؤمنين «ع» ثانية فتوثق منه وتوكد عليه ان لايغدر ولا ينكث ففعل ثم ادبر عنه فدعاه امير المؤمنين «ع» الثالثة فتوثق منه وتوكد عليه ان لا يغدر ولا ينكث فقال ابن ملجم والله يا امير الامؤمنين ما اراك فعلت هذا باحد غيري فقال امير المؤمنين «ع» :
اريد حياته (حباءه خ ل ) ويريد قتلي
عذيرك من خليلك من مراد
امض يا ابن ملجم فوالله ما ارى ان تفي بما قلت . فلما كانت ليلة تسع عشرة من شهر رمضان ارتصده اللعين ابن ملجم
المجالس السنية ـ الجزء الخامس
188
في مسجد الكوفة وقد خرج يوقظ الناس لصلاة الصبح فلما مر به في المسجد وهو مستخف بامره مماكر باظهار النوم في جملة النيام قام اليه فضربه على ام راسه بالسيف وكان مسموما فمكث الى ليلة احدى وعشرين الى نحو ثلث الليل الاول ثم قضى نحبه شهيدا ولقي ربه مظلوما .
شهر الصيام بكت عين السمـاء دما
فيه و جـبريل ما بيـن السماء نـعى
هذا ابن ملجم قـد اردى ابـا حسن
اهل درى اليوم من اردى ومن صرعا
سيف اصيـب به راس الوصي لقد
اصـاب قـلب الهدى و العلم والورعا
المجلس الثامن (1)
في كل ناحية من نواحي النفوس البشرية ملتقى بسيرة علي بن ابي طالب .
لان هذه السيرة تخاطب الانسان حيثما اتجه اليه الخطاب
(1) من المجالس التي اضفناها على الطبعة السابقة .
المجالس السنية ـ الجزء الخامس
189
البليغ من سير الابطال والعظماء ، وتثير فيه اقوى ما يثيره التاريخ البشري من ضروب العطف ومواقع العبرة والتامل .
في سيرة علي ملتقى بالعاطفة المشبوبة والاحساس المتطلع الى الرحمة والاكبار . لانه الشهيد ابو الشهداء ، يجري تاريخه وتاريخ ابنائه في سلسلة طويلة من مصارع الجهاد والهزيمة ، ويتراءون للمتتبع من بعيد واحدا بعد واحد شيوخا جللهم وقار الشيب ثم جللهم السيف الذي لا يرحم ، او فتيانا عوجلوا وهم في نضرة العمر يحال بينهم وبين متاع الحياة ، بل يحال بينهم احيانا وبين الزاد والماء ، وهم على حياض المنية جياع ظماء .
وفي سيرة علي بن ابي طالب ملتقى بالخيال حيث تحلق الشاعرية الانسانية في الاجواء او تغوص في الاغوار . فهو الشجاع الذي نزعت به الشاعرية الانسانية منزع الحقيقة ومنزع النخيل ، واشترك في تعظيمه شهود العيان وعشاق الاعاجيب . وتلتقي سيرته بالفكر كما هي بالخيال والعاطفة ، لانه صاحب اراء في التصوف والشريعة والاخلاق سبقت جميع الاراء في الثقافة الاسلامية .
وللذوق الادبي ـ او الذوق الفني ـ ملتقى بسيرته كملتقى الفكر والخيال والعاطفة ، لانه كان اديبا بليغا له نهج من الاد ب والبلاغة يقتدي به المقتدون ، وقسط من الذوق مطبوع يحمده المتذوقون ، وان تطاولت بينه وبينهم السنون . فهو الحكيم
المجالس السنية ـ الجزء الخامس
190
الاديب ، والخطيب المبين ، والمنشئ الذي يتصل انشاؤه بالعربية ما اتصلت ايات الناثرين والناظمين . .
والنفس الانسانية نواحيها الكثيرة غير نواحي العطف والتخيل والتفكير وتذوق الحسن الجميل من التعبير .
فمن نواحيها الكثيرة التي لم تنقطع قط في زمن من الازمان ، هي ناحية الخلاف بين الطبائع والاذهان ، او ناحية الخصومة الناشئة ابدا على راي من الاراء ، او حق من الحقوق او وطن من الاوطان .
فقد يفتر العقل والذوق بعض حين ، وقد يفتر الخيال والعاطفة بعض حين ، ولكن الذي لم يفتر قط ولا نخاله يفتر في حين من الاحايين خصام العقول وجدل الالسنة واختلاف المخلفين وتشيع المتشيعين .
وان ها هنا للمجال الرغيب القريب في سيرة هذا الامام الاوحد التي لاتشبهها سيرة في هذه الخاصة بين شتى الخواص ، وهو قد قال في ذلك اوجز مقال حين قال :
(ليحبني اقوام حتى يدخلوا النار في حبي ، ويبغضني اقوام حتى يدخلوا النار في بغضي) او حين قال : (يهلك في رجلان محب مفرط بما ليس في ومبغض يحمله شاني على ان يبهتني) .
وصدق في غلو الطرفين من محبيه ومن مغضبيه ، فقد بلغ من
المجالس السنية ـ الجزء الخامس
191
حب بعضهم اياه ان رفعوه الى مرتبة الالهة المعبودين ، وبلغ من كراهة بعضهم اياه ان حكموا عليه بالمروق من الدين : هنا الغلاة يعبدونه وينهاهم عن عبادته فلا يطيعونه . ويستتيبهم فيصرون على ما هم فيه اي اصرار .
وهناك الخوارج يعلنون كفره ويطلبون منه التوبة الى الله عن عصيانه . . ويسبونه على المنابر كما سبه خصومه الامويون الذين خالفوهم في العقيدة ووافقوهم على السباب . .
ميدان من ميادين الملاحاة لم يتسع ميدان متسعه في تواريخ الابطال المعرضين للحب والبغضاء يقول اناس : هو الله . ويقول اناس كافر مطرود من رحمة الله .
وناحية اخرى من نواحي النفس الكثيرة تلاقيها سيرة علي في اكثر من طريق وتلك هي ناحية الشكوى والتمرد او ناحية التوق الى التجديد والاصلاح .
فلقد اصبح اسم علي علما يلتف به كل مغصوب ، وصيحة ينادي بها كل طالب انصاف ، وجعل الغاضبون على كل مجتمع باغ ، وكل حكومة جائرة يلوذون بالدعوة العلوية كانها الدعوة المرادفة لكلمة الاصلاح ، او كانها المتنفس الذي يستروح اليه كل مكظوم . . فمن نازع في راي ، ففي اسم علي شفاء لنوازع نفسه ومن ثار على ضيم ففي اسم علي حافز لثورته ومرضاة لغضبه ، ومن واجه التاريخ الاسلامي بالعقل او بالذوق او بالخيال او
المجالس السنية ـ الجزء الخامس
192
بالعاطفة فهناك ملتقى بينه وبين علي في وجه من وجوهه ، وعلى حالة من حالاته . وتلك هي الميزة التي انفرد بها تاريخ علي بين تواريخ غيره ، فاصبحت بينه وبين قلوب الناس وشائج تخلقها الطبيعة الادمية ان قصر في خلقها التاريخ والمؤرخون .
صفاته
كان علي اول هاشمي من ابوين هاشميين . . فاجتمعت له خلاصة الصفات التي اشتهرت بها هذه الاسرة الكريمة وتقاربت سماتها وملامحها في كثير من اعلامها المقدمين ، وهي في جملتها النبل والايد والشجاعة والمودة والمروءة والذكاء ، عدا الماثور في سماتها الجسدية التي تلاقت او تقاربت في عدة من اولئك الاعلام .
وربما صح من اوصاف علي في طفولته انه كان طفلا مبكر النماء سابقا لانداده في الفهم والقدرة ، فكانت له مزايا التبكير في النماء كما كانت له اعباؤه ومتاعبه التي تلازم اكثر المبكرين في شيخوخة الاباء . .
ونشأ رجلا مكين البنيان في الشباب والكهولة ، حافظا لتكوينه المكين حتى ناهز الستين .
وتدل اخباره ـ كما تدل صفاته ـ على قوة جسدية بالغة في المكانة والصلابة على العوارض والافات . فربما رفع الفارس بيده فجلد به الارض غير جاهد ولا حافل ويمسك بذراع الرجل
المجالس السنية ـ الجزء الخامس
193
فكانه امسك بنفسه فلا يستطيع ان يتنفس ، واشتهر عنه انه لم يصارع احد الا صرعه ، ولم يبارز احدا الا قتله ، وقد يزحزح الحجر الضخم لا يزحزحه الا رجال ، ويحمل الباب الكبير يعيى بقلبه الاشداء .
وكان الى قوته البالغة ، شجاعا لا ينهض له احد في ميدان مناجزة ، فكان لجرأته على الموت لايهاب قرنا من الاقران بالغا ما بلغ من الصولة ورهبة الصيت ، واجترأ وهو فتى ناشىء على عمرو بن عبد ود فارس الجزيرة العربية الذي كان يقوم بالف رجل عند اصحابه وعند اعدائه .
وقد ازدانت شجاعته باجمل الصفات التي تزين شجاعة الشجعان الاقوياء . . فلا يعرف الناس حلية للشجاعة اجمل من تلك الصفات التي طبع عليها بغير كلفة ولا مجاهدة رأي .
وهي التورع عن البغي ، والمروءة مع الخصم قويا او ضعيفا على السواء ، وسلامة الصدر من الصغن على العدو بعد الفراغ من القتال .
فمن تورع عن البغي ، مع قوته البالغة وشجاعته النادرة انه لم يبدأ احدا قط بقتال وله مندوحة عنه ، وكان يقول لابنه الحسن : (لا تدعون الى مبارزة . فان دعيت اليها فاجب .فان الداعي اليها باغ والباغي مصروع) .
المجالس السنية ـ الجزء الخامس
194
وعلم ان جنود الخوارج مفارقون عسكره ليحاربوه ، وقيل له انهم خارجون عليك فبادرهم قبل ان يبادروك ، فقال : «لا اقاتلهم حتى يقاتلوني . وسيفعلون» .
وكذلك فعل قبل وقعة الجمل ، وقبل وقعة صفين ، وقبل كل وقعة صغرت او كبرت ووضح فيها عداء العدو او غمض ، يدعوهم الى السلم وينهى رجاله عن المباداة بالشر ، فما رفع يده بالسيف قط الا وقد بسطها قبل ذلك للسلام .
كان يعظ قوما فبهرت عظته بعض الخوارج الذين يكفرونه فصاح معجبا اعجاب الكاره الذي لا يملك بغضه ولا اعجابه : «قاتله الله كافرا ما افقهه فوثب اتباعه فنهاهم عنه ، وهو يقول : انما هو سب بسب او عفو عن ذنب» .
وقد راينا انه كان يقول لعمرو بن عبد ود : اني لا اكره ان اهريق دمك . . ولكنه على هذا لم يرغب في اهراق دمه الا بعد ياس من اسلامه ومن تركه حرب المسلمين . . فعرض عليه ان يكف عن القتال فانف ، وقال : اذن تتحدق العرب بفراري ، وناشده : يا عمرو . انك كنت تعاهد قومك الا يدعوك رجل من قريش الى خلتين الا اخذت منه احداهما . قال اجل . قال : فاني ادعوك الى الاسلام او الى القتال : ولم ياابن اخي ؟ . . فوالله ما احب ان اقتلك . . فلم يكن له بعد ذلك من احدى اثنتين : ان يقتله او يقتل على يديه .
المجالس السنية ـ الجزء الخامس
195
وعلى ما كان بينه وبين معاوية وجنوده من اللدد في العداء لم يكن ينازلهم ولا ياخذ من ثاراته وثارات اصحابه عندهم الا بمقدار ما استحقوه في موقف الساعة : فاتفق في يوم صفين ان خرج من اصحاب معاوية رجل يسمى كريز بن الصباح الحميري فصاح بين الصفين : من يبارز ؟ فخرج اليه رجل من اصحاب علي فقتله كريز ووقف عليه ونادى : من يبارز ؟ فخرج اليه اخر فقتله والقاه على الاول ، ثم نادى من يبارز ؟ فخرج اليه ثالث فصنع به صنيعه بصاحبيه ، ثم نادى رابعة: من يبارز ؟ فاحجم الناس ورجع من كان في الصف الاول الى الصف الذي يليه ، وخشي علي ان يشيع الرعب بين صفوفه فخرج الى ذلك الرجل المدل بشجاعته وباسه فصرعه ثم نادى نداءه حتى اتم ثلاثة صنع بهم صنيعه باصحابه ، ثم رجع الى مكانه .
اما مروءته في هذا الباب فكانت اندر بين ذوي المروءة من شجاعته بين الشجعان . فابى على جنده وهم ناقمون ان يقتلوا مدبرا او يجهزوا على جريح او يكشفوا سترا او ياخذوا مالا . وظفر بعد معركة الجمل بعبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص وهم الد اعدائه المؤلبين عليه فعفا عنهم ولم يتعقبهم بسوء ، وظفر بعمرو بن العاص وهو اخطر عليه من جيش ذي عدة فاعرض عنه وتركه ينجو بحياته حين كشف عن سواته اتقاء لضربته . . وحال جند معاوية بينه وبين الماء في معركة صفين وهم يقولون له : ولا قطرة حتى تموت عطشا . فلما حمل عليهم
المجالس السنية ـ الجزء الخامس
196
واجلاهم عنه سوغ لهم ان يشربوا منه كما يشرب جنده ، وزار السيدة عائشة بعد وقعة الجمل فصاحت به صفية ام طلحة الطلحات : ايتم الله منك اولادك كما ايتمت اولادي . فلم يرد عليها . قال رجل اغضبه مقالها : يا امير المؤمنين ، اتسكت عن هذه المراة وهي تقول ما تسمع ؟ فانتهره وهو يقول : ويحك ، انا امرنا ان نكف عن النساء وهن مشركات افلا نكف عنهن وهن مسلمات ؟ . .
وانه لقي طريقه اذ اخبره بعض اتباعه عن رجلين ينالان من عائشة فامر بجلدهما مائة جلدة . ثم ودع السيدة عائشة اكرم وداع وسار في ركبها اميالا وارسل معها من يخدمها ويحف بها . قيل انه ارسل معها عشرين إمرأة من نساء عبد القيس عممهن بالعمائم ، وقلدهن السيوف . . فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز ان يذكر به وتأففت وقالت : هتك ستري برجاله وجنده الذين وكلهم بي فلما وصلت الى المدينة القى النساء عمائمهن وقلن لها : انما نحن نسوة .
وكانت هذه المروءة سنته مع خصومه ، من استحق منهم الكرامة ومن لم يستحقها ، ومن كان في حرمة عائشة ومن لم تكن له قط حرمة ، وهي اندر مروءة عرفت من مقاتل في وغر القتال .
وتعدلها في النيل والندارة وسلامة صدره من الضغن على اعدى
المجالس السنية ـ الجزء الخامس
197
الناس له واضرهم به واشهرهم بالضغن عليه . فنهى اهله واصحابه ان يمثلوا بقاتله وان يقتلوا احدا غيره ، ورثى طلحة الذي خلع بيعته وجمع الجموع لحربه رثاء محزون يفيض كلامه بالالم والمودة ، واوصى اتباعه الا يقاتلوا الخوارج الذين شقوا صفوفه وافسدوا عليه امره وكانوا شرا عليه من معاوية وجنده ، لانه رآهم مخلصين وان كانوا مخطئين وعلى خطئهم مصرين .
وتقترن بالشجاعة ـ ولا سيما شجاعة الفرسان المقاتلين بأيديهم ـ صفة لازمة لها متممة لعملها قلما تنفصل عنها وكأنها والشجاعة اشبه شيء بالنضح للماء ، او بالاشعاع للنور ، فلا تكون شجاعة الفروسية الا كانت معها تلك الصفة التي نشير اليها وهي صفة (الثقة) او الاعتزاز ، او الادراع بالهيبة والتهويل على الخصوم ولا سيما في مواقف النزال .
وقد يسميها بعض الناس زهوا وليست هي به ولا هي من معدنه وسمته ، وان شابهته في بعض الملامح والالوان .
فالزهو المذموم فضول لا لزوم له ولا خير فيه ، وهو لون خادع قد يوجد مع الضعف كما يوجد مع القوة ، وقد يبدو على الجبان كما يبدو على الشجاع .
اما هذا الأعتزاز الذي نشير اليه ، او هذه الثقة التي تظهر لنا في صورة الاعتزاز فهي جزء من شجاعة الفارس المقاتل لا يستغني عنه ولا يزال متصلا بعمله في مواجهة خصومه ، وهو عرض للقوة
المجالس السنية ـ الجزء الخامس
198
يساعد الفارس في ارهاب عدوه واضعاف عزيمة من يتصدى لحربه . . مثله هنا كمثل العروض الذي تعمد اليها الجيوش لاعلان باسها وتخويف الاعداء من الاستخفاف بها والهجوم عليها . فهو كالشجاعة اداة ضرورية من اداة القتال لا تنفصل عنها ، وليس كل ما فيها ضربا من الخيلاء يرضي به الشجاع غروره ويتيه به في غير حاجة الى التيه .
ولهذا تحمس الناس للفخر العسكري من قديم الزمان وتحدثوا به وتناقلوه ، فسمحوا للفارس ـ بل لعلهم اوجبوا عليه ـ ان يروغ من خصمه بالفخر المرعب اذ يتقدم لنزاله . وان يلاقيه وهو ينشد الاشعار في ذكر وقعاته والتهويل بضرباته والاشادة بغزواته ، وعلموا انهم ـ وقد احتاجوا الى شجاعته ـ محتاجون كذلك الى فخره وحماسته وايقاع الرعب في جنان قرنه فشاعت قصائد الفخر والحماسة كما شاعت قصائد الحب والمناجاة ، وهي احب القصائد الى القلوب .
هذه الصفة لازمة لفرسان الميدان ولا سيما فرسان العصور الاولى الذين يقفون للقتال وجها لوجه ، وينظر احدهم الى قرنه وهو يهجم عليه ، وكانت هذه الصفة من صفات علي يفهمها من يريد ان يفهم ولا يضيق صدرا بفضله ، وينكرها من ينفس عليه فيسميها الزهو او يسميها الجفوة والخيلاء .
مر الزيبر بن العوام مع رسول الله في بني غنم ، فرأى رسول
المجالس السنية ـ الجزء الخامس
199
الله عليا مقربة منه فضحك له رسول الله . فقال الزبير : لا يترك علي زهوه . فقال النبي : انه ليس به زهو ، ولتقاتلنه وانت له ظالم .
فليس هو بالزهو المكروه ، ولكنها الشجاعة التي يمتلئ بها الشجاع والثقة التي تتراءى مكشوفة في صراحتها واستقامتها ، لان صاحبها لم يتكلف مداراتها ولم يحس انه محتاج الى مداراتها ولانه هو لا يقصدها ولا يتعمد ابداءها .
وقد كان مدار الخلق في علي ثقة اصيلة فيه لم تفارقه منذ حبا ودرج . وقيل ان يبلغ مبلغ الرجال فما منعته الطفولة الباكرة يوما ان يعلم انه شيء في هذه الدنيا وانه قوة لها جوار يركن لها المستجير . ولقد كان في العاشرة ونحوها يوم احاط القوم القرشيون بالنبي صلى الله عليه واله وسلم ينذرونه وينكرونه وهو يقلب عينيه في وجوههم ويسأل عن النصير ولا نصير . . لو كان بعلي ان يرتاع في مقام نجدة او مقام هزيمة لارتاع يومئذ بين اولئك الشيوخ الذين رفعتهم الوجاهة ورفعتهم آداب القبيلة البدوية الى مقام الخشية والخشوع . ولكنه كان عليا في تلك السن الباكرة كما كان عليا وهو في الخمسين او الستين . فما تردد وهم صامتون مستهزئون ان يصيح صيحة الواثق الغضوب انا نصيرك . . فضحكوا منه ضحك الجهل والاستكبار ، وعلم القدر وحده في تلك اللحظة ان تاييد ذلك الغلام اعظم واقوم من حرب اولئك القوم .
المجالس السنية ـ الجزء الخامس
200
على هذا هو الذي نام في فراش النبي ليلة الهجرة ، وقد علم ما تاتمر به مكة كلها من قتل الراقد على ذلك الفراش .
وعلى هذا هو الذي تصدى لعمرو بن عبد ود مرة بعد مرة والنبي يجلسه ويحذره العاقبة التي حذرها فرسان العرب من غير تحذير ، يقول النبي : اجلس . انه عمرو . فيقول : واذا كان عمراً ؟! كأنه لا يعرف ان يخاف ولا يعرف كيف يخاف ولا يعرف الا الشجاعة التي هو ممتلئ بها واثق فيها في غير كلفة ولا اكتراث .
وتمكنت هذه الثقة فيه لطول مراس الفروسية التي هي كما اسلفنا جزء منها واداة من ادواتها .
وزادها تمكينا حسد الحاسدين ولجاجة المنكرين ، وكلاهما خليق ان يعتصم المرء منه بثقة لا تنخذل ، وانفة لا تلين . فمن شواهد هذه الثقة بنفسه انه حملها من ميدان الشجاعة الى ميدان العلم والراي حين كان يقول : «اسألوني قبل ان تفقدوني» .
ومن شواهدها انه كان يقول والخارجون عليه يرمونه بالمروق : «ما اعرف احدا من هذه الامة عبد الله بعد نبينا غيري ، عبدت الله قبل ان يعبده احد من هذه الامة تسع سنين» .
وزاده اتهام من حوله معتصما بالثقة بنفسه ، وابدى هذه الخليقة منه انه كان لايتكلف ولا يحتال على ان يتألف . بل كان يقول : «شر الاخوان من تكلف له» : «اذا احتشم
المجالس السنية ـ الجزء الخامس
201
المؤمن اخاه فقد فارقه » فكان الذين ينظرون منه الاصطناع والارتضاء يخطئون ما انتظروه ، ولا سيما اذا هم انتظروه من ارزاق رعاياه وحقوقهم التي اؤتمن عليها ، فيحسبون انها الجفوة البينة وانه الزهو المقصود وما هو بهذا ولا بتلك . انما هي شجاعة الفارس بلوازمها التي لا تنفصل منها ، وانما هو امتعاض المغموط المسيء ضنا بمن حوله يتراءى على سجيته في غير مدارات ولا رياء . فما كان يتكلف اظهار تلك الخلائق زهوا كما يسمونه او جفوة كما يحسبونها ، بل كان قصاراه ان لا يتكلف الاخفاء .
نعم كان ملاك الامر في اخلاق علي ، انه كان لا يتكلف اظهار شيء ولا يتكلف اخفاء شيء ولا يقبل للتكلف حتى من مادحيه ، فربما افرط الرجل في الثناء عليه وهو متهم عنده حتى يعلن له طويته ويقول له : «انا دون ما تقول وفوق ما في نفسك» .
وكانت قلة التكلف هذه توافق منه خليقته الكبرى من الشجاعة والبأس والامتلاء بالثقة والمنعة . وكانت تسلك معه مسلك الحقيقة والمجاز على السواء . كأنه يعني ما يصنع وهو لا يعنيه وانما يجيء منه على البديهة كما تجيء الاشياء من معادنها : كان مثلا يخرج الى مبارزيه حاسر الرأس ومبارزوه مقنعون بالحديد . افعجيب منه ان يخرج اليهم حاسر النفس وهم مقنعون بالحيلة والرياء ؟ وكان يغفل الخضاب احيانا ويرسل الشيب ناصعاً
المجالس السنية ـ الجزء الخامس
202
وهو لا يحرم خضابه في غير ذلك من الاحيان . افعجيب منه ، مع هذا ، ان يقل اكتراثه لكل خضاب ساترا ما ستر ، او كاشفا ما كشف من رأي وخليقة .
بل كانت قلة التكلف هذه توافق منه خليقة اخرى كالشجاعة في وقتها ورسوخها . وهي قريبة للشجاعة في نفس الفارس وقلما تفارقها ، ونعني بها خليقة الصدق الصراح الذي يجترئ الرجل به على الضر والبلاء كما يجترئ به على المنفعة والنعماء . فما استطاع احد قط ان يحصي عليه كلمة خالف فيها الحق الصراح في سلمه وحربه ، وبين صحبه او بين اعدائه ، ولعله كان احوج الى المصانعة بين النصراء مما كان بين الاعداء ، لانهم ارهقوه باللجاجة واعنتوه بالخلاف فما عدا معهم قول الصدق في شدة ولا رخاء وكان ابدا عند قوله : «علامة الايمان ان تؤثر الصدق حيث يضرك ، على الكذب حيث ينفعك» .
وصدق في تقواه وايمانه كما صدق في عمل يمينه ومقالة لسانه . فلم يعرف احد من الخلفاء ازهد منه في لذة الدنيا او سيب الدولة وكان وهو امير المؤمنين يأكل الشعير وتطحنه إمرأته يبديها ، قال عمر بن عبد العزيز وهو من اسرة امية التي تبغض عليا وتخلق له السيئات وتخفي ما توافر له من الحسنات : «ازهد الناس في الدنيا علي بن ابي طالب» . وقال سفيان «ان عليا لم يبن اجرة على آجرة ولا لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة» وقد ابى ان ينزل القصر الابيض بالكوفة ايثارا للخصائص التي يسكنها الفقراء .
المجالس السنية ـ الجزء الخامس
203
وعلى هذا الزهد كان علي ابعد الناس من كزازة طبع وضيق حظيرة وجفاء عشرة ، بل كانت فيه سماحة يتبسط فيها حتى يقال دعابة ، وروي عن عمر بن الخطاب انه قال له : لله ابوك لولا دعابة فيك» وانه قال لمت سألوه في الاستخلاف «وان ولي علي ففيه دعابة» .
واغرق عمرو بن العاص في وصف الدعابة فسماها « دعابة شديدة » وطفق يرددها بين اهل الشام ليقدح بها في صلاح علي للخلافة ، وانما نقول ان عمرو بن العاص اغرق في هذا الوصف ، وان الدعابة المعيبة لم تكن قط من صفات علي لان تاريخ علي واقواله ونوادره مع صحبه واعدائه محفوظة لدينا لا نرى فيها دليلاً على خلق الدعابة فضلا عن الدليل على الافراط فيه . فان كان لهذا الوصف اثر فربما كان مرجع ذلك ان عليا خلا من الشغل الشاغل سنين عدة ، فاعفاه الشغل الشاغل من صرامته واسلمه حينا الى سماحته واحاديث صحبه ومريديه فحسبت هذه الدعة من الدعابة البريئة ثم بالغ فيها المبالغون ، ولم يثبتوها بقصة واحدة او شاردة واحدة تجيز لهم ما تقولوه .
وقد كانت لعلي صفات ومزايا فكرية تناصي المشهور المتفق عليه من صفاته النفسية ومزاياه الخلقية ، فاتفق خصومه وانصاره على بلاغته واتفقوا على علنه وفطنته ، وتفرقوا فيها عدا ذلك من رأيه في علاج الامور ودهائه في سياسة الرجال .
المجالس السنية ـ الجزء الخامس
204
والحق الذي لا مراء فيه ان عليا كان صاحب الفطنة النافذة وانه اشار على عمر وعثمان احسن المشورة في مشكلات الحكم والقضاء ، وكان يفهم اخلاق الناس فيهم العالم المراقب لخفايا الصدور ويشرحها في عظاته وخطبه شرح الاريب اللبيب .
الى هنا متفق عليه لا يكثر فيه الخلاف ، ثم يفترق الناس في رأيه رأيين ، فيقول اناس انه كان على قسط وافر من الفهم والمشورة ، ولكنه عند العمل لايرى ما تقضي به الساعة الحازبة ولا ينتفع بما يراه . ويقول اناس بل هو الاضطرار والتحرج يقيدانه ولا يقيدان اعداءه وانهم لدونه في الفطنه والسداد . وهو قد اعتذر لنفسه بما شابه من هذا العذر حين قال : «والله ما معاوية بادهى مني ، ولكنه يغدر ويفجر ، ولولا كراهية الغدر لكنت من ادهى الناس» .
ولكننا نستطيع ان نجزم هنا بحقيقتين لا نحسبهما تتسعان لجدال طويل ، وهما ان احداً لم يثبت قط ان العمل بالاراء الاخرى كان اجدى وانجع في فض المشكلات من العمل برأي علي ، وان احداً لم يثبت قط ان خصوم علي كانوا يصرفون الامور خيراً من تصريفه ، لو وضعوا في موضعه واصطلحت عليهم المتاعب التي اصطلحت عليه .
هذه صفات تنتظم في نسق موصول : رجل شجاع لانه قوي . وصادق لانه شجاع ، وزاهد مستقيم لانه صادق ، ومثار
المجالس السنية ـ الجزء الخامس
205
للخلاف لان الصدق لا يدور بصاحبه مع الرضا والسخط والقبول والنفور ، واصدق الشهادات لهذا الرجل الصادق ان الناس قد اثبتوا له في حياته اجمل صفاته المثلى ، فلم يختلفوا على شيء منها الا الذي اصطدم بالمطامع وتفرقت حوله الشبهات ، وما من رجل تتعسف المطامع اسباب الطعن فيه ثم تنفذ منه الى صميم (1) .
المجلس التاسع(2)
مفتاح شخصيته
«اداب الفروسية» هي مفتاح هذه الشخصية النبيلة الذي يفضي منها كل مغلق ويفسر منها كل ما احتاج الى تفسير .
وآداب الفروسية هي تلك الآداب التي نلخصها في كلمة واحدة «النخوة»...
وقد كانت النخوة طبعا في علي فطر عليه ، وادبا من آداب الاسرة الهاشمية نشأ فيه ، وعادة من عادات الفروسية العملية التي يتعودها كل فارس شجاع متغلب على الاقران ، وان لم يطبع عليها وينشأ في حجرها لان الغلبة في الشجاع انفة تابى عليه ان يسف الى ما يخجله ويشينه ولا تزال به حتى تعلمه النخوة تعلما ،
(1) العقاد .
(2) من المجالس التي اضعناها على الطبعة السابقة .
المجالس السنية ـ الجزء الخامس
206
وتمنعه ان يعمل في السر ما يزرى به في العلانية . وهكذا كان علي في جميع احواله واعماله : بلغت به نخوته الفرسية غايتها المثلى ، ولا سيما في معامله الضعفاء من الرجال والنساء . فلم ينس الشرف قط ليغتنم الفرصة ، ولم يساوره الريب قط في الشرف والحق انهما قائمان دائمان كانهما مودعان في طبائع الاشياء . فاذا صنع ما وجب عليه ، فلينس من شاء ما وجب عليهم ، وان افادوا كثيرا وباء هو بالخسار .
اصاب المقتل من عدوه مرات فلم يهتبل الفرصة السانحة بين يديه ، لانه اراد ان يغلب عدوه غلبة الرجل الشجاع الشريف ، ولم يرد ان يغلبه او يقتنص منه كيفما كان سبيل الغلب والقصاص .
قال بعض من شهدوا معركة صفين : لما قدمنا على معاوية واهل الشام بصفين وجدناهم قد نزلوا منزلا اختاروه مستويا بساطا واسعا واخذوا الشريعة ـ اي مورد الماء ـ فهي في ايديهم ، وقد اجمعوا على ان يمنعونا الماء . ففزعنا الى امير المؤمنين فخبرناه بذلك فدعى صعصعة بن صوحان فقال له : ائت معاوية وقل له انا سرنا مسيرنا اليكم ونحن نكره قتالكم قبل الاعذار اليكم ، وانك قدمت الينا خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل ان نقاتلك ، ونحن من رأينا الكف عنك حتى ندعوك ونحتج عليك وهذه اخرى قد فعلتموها اذ حلتم بين الناس وبين الماء . والناس غير منتهين او يشربوا فابعث الى اصحابك فليخلوا بين الناس وبين الماء ويكفوا
المجالس السنية ـ الجزء الخامس
207
ثم ننظر فيما بيننا وبينكم وفيما قدمنا له وقدمتم له .
ثم قال راوي الخبر ما معناه ان معاوية سأل اصحابه فاشاروا عليه ان يحول بين علي وبين الورود غير حافل بدعوته الى السلم ولا بدعوته الى المفاوضة في امر الخلاف ، فارسل معاوية مددا الى حراس المورد يحمونه ويصدون من يقترب منه ، ثم كان بين العسكرين تراشق بالنبل فطعن بالرماح فضرب بالسيوف حتى اقتحم اصحاب علي طريق الماء وملكوه .
وهنا الفرصة الكبرى لو شاء علي ان يهتبلها ، وان يغلب اعداءه بالظمأ كما ارادوا ان يغلبوه قبل ساعة . . وقد جاء اصحابه يقولون : والله لا نسقيهم . فكانما كان هو سفير معاوية وجنده اليهم يتشفع لهم ويستلين قلوبهم من اجلهم . وصاح بهم :« خذوا من الماء حاجتكم وارجعوا الى عسكركم وخلوا عنهم ، فان الله عز وجل قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم » .
ولاحت له فرصة قبل هذه الفرصة في حرب اهل البصرة ، فأبى ان يهتبلها واغضب اعوانه انصافا لاعدائه ، لانه نهاهم ان يسلبوا المال ويستبيحوا السبي وهو في رايهم حلال . وقالوا اتراه يحل لنا دماءهم ويحرم علينا اموالهم ؟ فقال : « انما القوم امثالكم من صفح عنا فهو منا ونحن منه ، ومن لج حتى يصاب فقتاله مني على الصدر والنحر » . وسن لهم سنة الفروسية او سنة النخوة حين اوصاهم ان لا يقتلوا مدبرا ولا يجهزوا على جريح ولا يكشفوا سترا ولا يمدوا يدا الى مال .
المجالس السنية ـ الجزء الخامس
208
ومن الفرص التي ابت عليه النخوة ان يهتبلها فرصة عمرو بن العاص وهو ملقى على الارض مكشوف السوأة لا يبالي ان يدفع عنه الموت بما حضره من وقاء ، فصدف بوجهه عنه آنفاً ان يصرع رجلا يخاف الموت هذه المخافة التي لا يرضاها من منازله في مجال صراع . ولو غير علي اتيح له ان يقضي على عمرو لعلم انه قاض على جرثومة عداء ودهاء فلم يبال ان يصيبه حيث ظفر به .
لقد كان رضاه من الاداب في الحرب الوسلم رضا الفروسية العزيزة من جميع آدابها ومأثوراتها ، فكان يعرف العدو عدوا حيثما رفع السيف لقتاله . . ولكنه لا يعادي إمرأة ولا رجلا موليا ولا جريحا عاجزا عن نضال ولا ميتا ذهبت حياته ولو ذهبت في سبيل حربه . . بل لعله يذكر له ماضيه يومئذ فيقف على قبره ليبكيه ويرثيه ويصلي عليه . وهذه الفروسية هي التي بغضت اليه ان ينال اعداءه بالسباب وليس من دأب الفارس ان ينال اعداءه بغير الحسام .
فلما سمع قوما من اصحابه يسبون اهل الشام ايام حروبهم بصفين قال لهم : « اني اكره ان تكونوا سبابين ، ولكنكم لو وصفتم اعمالهم وذكرتم حالهم كان اصوب الى القول ، وابلغ في العذر ، وقلتم مكان سبكم اياهم : اللهم احقن دماءنا ودماءهم ، واصلح ذات بيننا وبينهم ، واهدهم من ضلالهم حتى يعرف الحق من جهله ، ويرعوي عن الغي والعدوان من لج به » .