المجالس السنية ـ الجزء الثاني 267

ثم حمل «ع» فغاص في عسكر الجمل حتى طحن العسكر ثم رجع وقد انحنى سيفه فأقامه بركبته فقال له اصحابه وبنوه والأشتر وعمار نحن نكفيك يا أمير المؤمنين فلم يجب احدا منهم ولا رد اليهم بصره وظل ينحط ويزأر زئير الأسد ثم دفع الراية إلى محمد ثم حمل حملة ثانية وحده فدخل وسطهم فضربهم بالسيف قدماً قدماً والرجال تفر من بين يديه وتنحاز عنه يمنة ويسرى حتى خضب الأرض بدماء القتلى ثم رجع وقد انحنى سيفه فأقامه بركبته فاجتمع عليه أصحابه وناشدوه الله في نفسه وفي الاسلام فقال والله ما أريد بما ترون الا وجه الله والدار الآخرة ثم قال لمحمد هكذا تصنع يا ابن الحنفية فقال الناس من الذي يستطيع ما تستطيعه يا أمير المؤمنين وكان علي «ع» يقذف محمداً في مهالك الحرب ويكف حسنا وحسينا وقال (ع) يوم صفين املكوا عني هذين الفتيين يعني الحسن والحسين فاني أخاف ان ينقطع بهما نسل رسول الله (ص) .
وقال محمد لأبيه أمير المؤمنين (ع) في تقديمه في الحرب وكف أخويه الحسن والحسين فقال أنت ابني وهذان ولدا رسول الله (ص) فأنا افديهما بولدي (فليتك) يا امير المؤمنين لا غبت عن ولديك وقرتي عينك الحسن والحسين اللذين كنت تكفهما عن الحرب خوفاً عليهما وتفديهما بولدك محمد لتنظر ما جرى عليهما من بعدك أما ولدك الحسن فقد جرعوه الغصص ونازعوه حقه حتى دسوا اليه السم وقتلوه مسموماً ومنعوا من دفنه عند جده وأما ولدك الحسين فغصبوه حقه وقتلوه عطشان غريباً مظلوماً وهو يستغيث فلا يغاث ويستجير فلا يجار ويطلب شربة من الماء فلا يجاب :
يا أيها النبأ العظيم اليك في ابناك مني اعظـم الأنباء
ان الذين تسرعا يقيانك الـ أرماح في صفين بالهيجاء
فأخذت في عضديهما تثيهما عما أمامك من عظيم بلاء


المجالس السنية ـ الجزء الثاني 268

ذا قـاذف كبـدا له قطعا وذا في كربلاء مقطع الأعضـاء
ملقى على وجه الصعيد مجردا في فتية بيض الوجوه وضاء

المجلس الواحد والأربعون بعد المائة

لما كان يوم الجمل لم يكن يأخذ أحد بخطام الجمل إلا سالت نفسه أو قطعت يده وأخذ بخطامه سبعون من قريش فقتلوا كلهم ولما رأى أمير المؤمنين (ع) ان الموت عند الجمل وانه ما دام قائماً لا تطفأ الحرب وضع سيفه على عاتقه وعطف نحو الجمل وأمر أصحابه بذلك ووصل «ع» في جماعة من النخع وهمدان إلى الجمل فقال لرجل يسمى بحيرا دونك الجمل فضرب عجز الجمل بسيفه فوقع لجنبه وضرب بجرانه الأرض وعج عجيباً لم يسمع بأشد منه فلما صرع الجمل فرت الرجال كما يطير الجراد في الريح الشديدة وأمر علي «ع» ان يحرق الجمل ثم يذرى في الريح وقال لعنه الله من دابة فما أشبهه بعجل بني اسرائيل ثم قرأ (وانظر إلى الهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا) وأمر علي «ع» بعائشة فحملت في هودجها إلى دار عبد الله بن خلف وقال لأخيها محمد بن ابي بكر دونك اختك لايتولاها غيرك وقالت عائشة لأخيها محمد أقسمت عليك ان تطلب عبد الله بن الزبير قتيلا او جريحاً فذهب محمد فأتاها به فصاحت وبكت ثم قالت يا اخي استأمن له من علي فاستأمن له فقال علي «ع» آمنته وآمنت جميع الناس وما أحسن ما قال القائل :
ملكنا فكان العفو منا سجية فلما ملكتم سال بالدم ابطح


المجالس السنية ـ الجزء الثاني 269

وحللتم قتل الأسارى وطالما غدونا عن الأسرى نعف ونصفح
وحسبكم هذا التفـاوت بيننا وكل إناء بالـذي فيـه ينضـح

ثم انه «ع» جهز عائشة وأرسلها إلى الحجاز وأرسل معها أربعين امرأة من عبد القيس وهكذا كانت عادة أمير المؤمنين (ع) في الصفح والعفو عن عدوه إذا ظفر به فقد سمعت عفوه عن ابن الزبير مع شدة انحرافه عنه وعداوته له حتى قال علي (ع) ما زال الزبير منا أهل البيت حتى نشأ ابنه عبد الله وانظر كيف عفا عن عائشة لما ظفر بها وأمر أن تحمل في هودجها إلى أعظم دار في البصرة وأرسل معها أربعين امرأة وهذا من أعظم الصفح وأكبر الحلم (ألا) لعن الله ابن زياد فما كان ابعده من الحلم والصفح وأقربه من اللؤم والخبث والانتقام فانه لما نزل الحسين (ع) بكربلا كتب ابن زياد الى عمر بن سعد انظر فان نزل الحسين وأصحابه على حكمي واستسلموا فابعث بهم إلي سلما وان ابوا فازحف اليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم فانهم لذلك مستحقون فان قتلت حسيناً فأوطئ الخيل صدره وظهره فانه عاق شاق قاطع ظلوم ولست أرى ان هذا يضر بعد الموت شيئاً ولكن على قول قد قلته لو قد قتلته لفعلت هذا به .
تطأ الصواهل جسمه وعلى القنا من رأسه المرفوع بدر سماء

المجلس الثاني والأربعون بعد المائة

لما كان يوم الجمل دفع أمير المؤمنين (ع) الراية إلى ابنه محمد بن الحنفية وقال له تزول الجبال ولا تزل عض على ناجذك اعر الله جمجمتك تدفي الأرض قدمك

المجالس السنية ـ الجزء الثاني 270

إرم ببصرك اقصى القوم وغض بصرك واعلم ان النصر من عند الله سبحانه ثم قال له احمل فتوقف قليلا فقال له احمل فقال يا أمير المؤمنين أما ترى السهام كأنها شئابيب المطر فدفع في صدره وقال أدركك عرق من أمك ثم اخذ الراية منه فحمل بها ثم دفعها اليه وقال امح الاولى بالأخرى وهذه الأنصار معك وضم اليه خزيمة ذا الشهادتين في جمع من الانصار كثير منهم من أهل بدر فحمل حملات كثيرة أزال بها القوم عن مواقفهم وأبلى بلاء حسناً فقال خزيمة لعلي (ع) اما انه لو كان غير محمد اليوم لافتضح ولئن كنت خفت عليه الجبن وهو بينك وبين حمزة وجعفر لما خفناه عليه وان كنت اردت ان تعلمه الطعان فطالما علمته الرجال وقالت الأنصار يا أمير المؤمنين لولا ما جعل الله للحسن والحسين لما قدمنا على محمد احد من العرب فقال علي (ع) اين النجم من الشمس والقمر وقال خزيمة يمدح محمد بن الحنفية :
محمد ما في عودك اليوم وصمة ولا كنت في الحرب الضروس معردا
ابـوك الذي لم يركب الخيل مثله عـلـي وسـمـاك النبـي محمـدا
وانت بحمد الله أطـول غـالـب لسانـا وانـداها بمـا ملكـت يـدا
واطعنهم صـدر الكمـى برمحه واكسـاهـم للهـام غضبـاً مهنـدا
سوى اخويك السيديـن كـلاهما إمام الورى والداعيـان الـى الهدى

وقيل لمحمد بن الحنفية لم يغرر بك ابوك في الحرب ولا يغرر بالحسن والحسين فقال انهما عيناه وانا يمينه فهو يدفع عن عينيه بيمينه وما زال اولاد امير المؤمنين (ع) يعرفون فضل الحسنين عليهما السلام ويرعون حقهما ويفدونهما بأنفسهم ولما كان يوم كربلاء كان مع الحسين (ع) تسعة من اخوته اولاد علي (ع) لصلبه فقاتلوا دونه قتال الأبطال وفدوه بأنفسهم ومهجهم حتى قتلوا عن آخرهم منهم اخوه وصاحب رايته ابو الفضل العباس وثلاثة اخوة للعباس من امه وابيه وكان

المجالس السنية ـ الجزء الثاني 271

آخر من قتل منهم العباس بن أمير المؤمنين فلما قتل بكى الحسين (ع) لقتله بكاء شديدا وحق له ذلك فان موت الأخ يقصم الظهر ولا سيما اذا كان مثل أبي الفضل العباس ولنعم ما قال القائل :
أحق الناس ان يبكى عليه فتى ابكى الحسيـن بكربلاء
اخوه وابـن والـده علي ابو الفضل المضرج بالدماء
ومن واساه لا يثنيه شيء وجاد له على عطـش بماء

المجلس الثالث والأربعون بعد المائة

كان مالك بن الحارث الأشتر من خواص اصحاب أمير المؤمنين (ع) ومن ثناء أمير المؤمنين عليه ما كتبه يوم صفين إلى اميرين من امراء جيشه من جملة كتاب يقول فيه وقد امرت عليكما وعلى من في حيزكما مالك بن الحارث الأشتر فاسمعا له واطيعا واجعلاه درعاً ومجناً (1) فانه ممن لا يخاف وهنه (2) ولا سقطته (3) ولا بطؤه عما الاسراع اليه احزم ولا اسـرعه إلى ما البطء عنه امثل (4) ولقد بلغ ثناء امير المؤمنين على مالك الأشتر في هذه الكلمات مع اختصارها ما لا يبلغ بالكلام الطويل ولقد جمع «ع» اصنافاً كثيرة من الثناء والمدح بكلمة واحدة من هذا الكلام وهي قوله لا يخاف بطؤه عما الاسراع اليه احزم ولا اسرعه إلى ما البطء عنه امثل ولقد كان الاشتر رحمه الله اهلا لذلك كان شديد البأس جواداً رئيساً حليما فصيحاً شاعراً ومن شعره قوله :

(1) المجن الترس .
(2) ضعفه .
(3) غلطه وخطأه .
(4) افضل .
المجالس السنية ـ الجزء الثاني 272

بقيت وفري وانحرفت عن العلى ولقيت اضيافي بوجـه عبوس
ان لم اشـن على ابن هند غارة لم تخل يوماً من ذهـاب نفوس
خيلا كأمثال السعـالى شـزبا تعدو ببيض في الكريهة شوس
حمي الحديـد عليهـم فكأنـه ومضان برق أو شعاع شموس

وكان يجمع بين اللين والعنف فيسطو في موضع السطوة ويرفق في موضع الرفق وكان فارساً شجاعاً من أكابر الشيعة وعظمائها شديد التحقق لولاء امير المؤمنين (ع) ونصره (ولما) قنت امير المؤمنين (ع) على خمسة معاوية وعمرو بن العاص وابو الاعور السلمي وحبيب بن مسلمة وبسر بن ارطاة قنت معاوية على خمسة علي والحسن والحسين عليهم السلام وعبد الله بن العباس ومالك الأشتر رحمهما الله (ولما) برز عبد الله بن الزبير يوم الجمل ودعا الى المبارزة برز اليه الاشتر فقالت عائشة من برز الى عبد الله قالوا الاشتر فقالت واثكل اسماء (وهي ام عبد الله بن الزبير اخت عائشة) فضرب كل منهما صاحبه فجرحه ثم اعتنقا فصرع الاشتر عبد الله وقعد على صدره واختلط الفريقان هؤلاء لينقذوا عبد الله وهؤلاء ليعينوا الاشتر وكان الاشتر طاوياً ثلاثة ايام لم يأكل وكانت هذه عادته في الحرب وكان أيضاً شيخاً كبير السن فجعل عبد الله ينادي من تحته اقتلوني ومالكاً واقتلوا مالكا معي فلم يدر الناس من مالك وإنما كان يعرف بالاشتر فلو قال اقتلوني والاشتر لقتلوهما فأفلت ابن الزبير من تحته ولم يكد فقال الاشتر في ذلك :
اعائش لولا انني كنت طاويا ثلاثاً لألقيـت ابـن اختـك هالكا
غداة ينادي والرجال تحوزه بأضعف صـوت اقتلـوني ومالكا
فلم يعرفوه إذ دعاهم وغمه خدب(1) عليـه في العجاجة باركا
فنجاه منـي اكله وشبـابه وأني شيـخ لم اكـن متمـاسكـا


(1) شيخ او عظيم .
المجالس السنية ـ الجزء الثاني 273

ودخل الأشتر على عائشة بعد انقضاء حرب الجمل فقالت أنت الذي صنعت بابن اختي (اي عبد الله بن الزبير) ما صنعت قال نعم ولولا اني كنت طاوياً ثلاثة أيام لأرحت أمة محمد منه قالت أما علمت ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لا يحل دم مسلم إلا بأحد امور ثلاثة كفر بعد ايمان او زنى بعد احصان او قتل نفس بغير حق فقال على بعض هذه الثلاثة قاتلناه يا ام المؤمنين والله ما خابني سيفي قبلها ولقد اقسمت ان لا يصحبني بعدها وفي ذلك يقول الأشتر من جملة هذا الشعر .
وقالت على اي الخصال صرعته بقتـل اتـى ام ردة لا ابالكـا
ام المحسن الزاني الذي حـل قتله فقلت لها لا بد من بعض ذلكا

ومات الأشتر رحمه الله شهيدا دس اليه معاوية السم في شربة من عسل فلما بلغه موته قال ان لله جنوداً من عسل ولما بلغ موته إلى أمير المؤمنين «ع» حزن عليه حزناً شديدا وقال مالك وما ادراك ما مالك وهل تلد النساء مثل مالك لو كان حجراً لكان صلدا ولو كان جبلا لكان فندا (1) رحم الله مالكا فقد كان لي كما كنت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويشبه مالك في نصحه لأمير المؤمنين «ع» وحزن أمير المؤمنين عليه ؛ حبيب بن مظاهر وزهير بن القين في نصحهما لولده الحسين وحزنه عليهما اما حبيب فانه لما قتل هد مقتله الحسين «ع» وقال عند الله احتسب نفسي وحماة اصحابي واما زهير فلما صرع قال الحسين «ع» زهير لا يبعدك الله يا زهير ولعن قاتلك لعن الذين مسخوا قردة وخنازبر ، وشد كثير بن عبد الله الشعبي ومهاجر بن اوس على زهير فقتلاه بعد ما قتل مقتلة عظيمة .
نصروا ابن بنت نبيهم طوبى لهم نالوا بنصرته مراتب سامية


(1) الفند بالكسر الجبل العظيم
المجالس السنية ـ الجزء الثاني 274

المجلس الرابع والاربعون بعد المائة

لما كان يوم الجمل برز عمرو بن يثري الضبي وكان فارس أهل الجمل وشجاعهم فخرج اليه علباء الهيثم من اصحاب أمير المؤمنين «ع» فقتله عمرو ثم دعا الى البراز فخرج اليه هند الجملي فقتله عمرو ثم دعا إلى البراز فقال زيد بن صوحان العبدي لعلي «ع» يا أمير المؤمنين اني رأيت يداً اشرفت علي من السماء وهي تقول هلم الينا وانا خارج الى ابن يثري فاذا قتلني فادفني بدمي ولا تغسلني فاني مخاصم عند ربي ثم خرج فقتله عمرو ثم طلب المبارزة (فقيل) برز اليه عمار بن ياسر والناس يسترجعون لأنه كان اضعف من برز اليه فضربه عمرو فنشب سيفه في درقة عمار وضربه عمار فصرعه ثم جره برجله حتى اتى به علياً (ع) فقال يا أمير المؤمنين استبقني اجاهد بين يديك فقال ابعد زيد وهند وعلياء استبقيك لا ها الله قال فادن مني اسارك فاعرض عنه امير المؤمنين فقال اما والله لو وصلت اليك لعضضت انفك عضة ابنته منك فأمر امير المؤمنين (ع) فضربت عنقه (وقيل) لما برز قال للأرد اني قد وترت القوم وهم قاتلي ولست اخشى ان اقتل حتى اصرع فان صرعت فاستنقذوني فقالوا له ما نخاف عليك الا الأشتر قال فاياه اخاف فخرج لأشتر وهو يقول :
إني اذا ما الحرب ابدت نابها وغلقت يوم الوغى ابوابها
ومزقـت من حنـق اثوابها كنا قدامهـا ولا اذنـابها
ليس العدو دوننـا اصحابها من هبها اليوم فلن اهابها
لا طعنها اخشى ولا ضرابها


المجالس السنية ـ الجزء الثاني 275

ثم حمل عليه الأشتر فطعنه فصرعه وحامت عنه الأزد فاستنقذوه فوثب وهو مشرف على الموت فلم يستطع ان يدفع عن نفسه فطعنه رجل فصرعه ثانية وسحبه آخر برجله حتى اتى به علياً فناشده الله وقال يا أمير المؤمنين اعف عني فان العرب لم تزل قائلة عنك انك لم تجهز على جريح قط فعفا عنه واطلقه فجاء إلى اصحابه وحضره الموت فقيل له دمك عند اي الناس فقال ضربني فلان وفلان وصاحبي الأشتر فقالت ابنته ترثيه :
يا ضـب انك قد فجعت بفارس حامي الحقيقـة قاتل الاقران
عمرو بن يثري الذي فجعت به كل القبائل من بنـي عـدنان
لو غيـر الاشتـر نالـه لندبته وبكيته ما دام هضـب ابـان (1)
لكنـه من لا يعـاب بقتـلـه اسـد الأسود وفارس الفرسان

وكانت العرب اذا قتل منها قتيل وكان قاتله رجلا جليلا تسلت عنه ولم تحزن عليه واذا كان قاتله من الأنذال عظم ذلك عليها وزاد في حزنها ولذلك لما قتل علي (ع) عمرو بن عبد ود وسألت اخته عن قاتل اخيها فقيل لها علي بن ابي طالب قالت قتلة شريفة بيد شريف والله لا ابكي على اخي وانشأت تقول :
لو كان قاتل عمرو غير قاتله لكنت ابكـي عليـه آخر الابد
لكن قاتلـه مـن لا يعاب به من كان يدعى ابوه بيضة البلد

ولهذا ايضا عظم حزن زينب بنت أمير المؤمنين (ع) على اخيها الحسين (ع) لما علمت ان قاتله النذل الرذل شمر بن ذي الجوشن وكان مما ندبت به اخاها الحسين (ع) ان قالت مخاطبة لجدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا محمداه هذا حسين بالعرا تسفي عليه ريح الصبا قتيل اولاد البغايا واحزناه واكرباه عليك يا ابا عبد الله .
امثـل شمـر اذل الله جبهتـه يلقى حسيناً بذاك الملتقى الخشن
يا حسرة الدين والدنيا على قمر يشكو الخسوف من العسالة اللدن


(1) هضب بفتح الهاء وسكون الضاد جمع هضبة وأبان جبل .
المجالس السنية ـ الجزء الثاني 276

المجلس الخامس والأربعون بعد المائة(1)

كرم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم الانسانية كلها فالغى الاضطهاد العنصري الغاء عملياً حين اختار لاقدس مهمة زنجياً أسود اللون ، وجعل منه مؤذنه الذي ينادي المؤمنين للصلوات في أوقاتها الخمس .
هذا الأسود هو بلال الحبشي الذي كان عبدا من عبيد قريش فلم تكد تبلغه الدعوة الاسلامية حتى كان أول الملبين لها وتعلم به قريش ، ويعلم به سيده (أمية بن خلف) فينصحونه بالعدول عن الطريق الذي مشى فيه فلا يقبل النصيحة ويستمر مسلما مخلصا فيأخذون في تعذيبه العذاب الاليم ، ولكنه لا يزداد الا ايمانا ، ثم يفر بنفسه الى المدينة مع من هاجر اليها ، وهناك صار مؤذن الرسول . ولقد كانت في صوته لكنة فلا يستطيع ان يلفظ الشين لفظا صحيحاً ، بل تخرج من فمه وكأنها سين ، فيقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ان سينه عند الله شين .
وعلى صوت بلال الحبشي كان يهرع شيوخ المسلمين وشبانهم الى المسجد ملبين نداء الله يبعثه هذا الانسان الأسود اللون . ولم يكن تكريم لعنصر بلال اعظم من هذا التكريم الذي خصه به رسول الله ، ولذلك فانه لما مات النبي انقطع الى اهل البيت مخلصا لهم ، وفيا لذكرى ابيهم الرسول .
وتدور الايام ويلقى اهل البيت محنا وارزاء ، ويبرز الاوفياء ملتفين حول الأسرة النبوية عازمين على الموت دونها اخلاصاً لمحمد ورسالته . ويقف الحسين في كربلاء في أقل من مائة من الرجال كانوا يمثلون في تلك الساعة أنبل ما في الكون من سجايا ، وهل في الكون أنبل من ان يبذل الانسان دمه طواعية وفاء لرجل وثباتا على مبدأ واخلاصا لعقيدة .

(1) من المجالس التي اضفناها على الطبعة السابقة .
المجالس السنية ـ الجزء الثاني 277

وتبارى الرجال في التضحية ومضوا يسقطون واحداً بعد الآخر . وكان في الركب الحسيني رجل بسيط ، لا يحسب اذا حسبت البطولات ، ولا يذكر اذا ذكرت التضحيات ، لا يؤبه لرأيه ولا يعد لمهمة من مهمات الأمور .
كان يؤمر فيلبي الأمر ، ويستخدم فيخدم مسرعاً ، كان أقصى ما يعرفه الرفاق عنه انه خادم امين وتابع مخلص . وما فوق ذلك فليس مما يرد اسمه على البال .
كان رقيقاً من اولئك الارقاء السود الذين امتلأت بهم قصور العتاة وبيوت الطغاة ، وكانت اية حشرة تلقى عناية اكثر مما يلقاه أي واحد منهم . وكان نصيبه ان وصل الى يد ابي ذر الغفاري صاحب محمد المخلص ، وسمع ابو ذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوصي بالارقاء خيرا ويحض الناس على تحريرهم ، ومن أولى من ابي ذر بتنفيذ وصايا النبي فاعتق ابو ذر العبد (جون) وارسله حرا .
واصابت المحنة ابا ذر وطورد واضطهد ومات منفياً في الربذة ، وظل جون فقيرا معدما، فتلقاه أهل البيت بالحنان والعطف ، فقد كانت فيه ذكريات من صاحب جدهم رأوها جديرة بالوفاء فاحتضنوه والحقوه بشؤونهم يقوم على رعاية بيتهم والعناية باطفالهم وقضاء حاجات رجالهم .
ومشى الحسين الى كربلاء ، وهذه حال جون ، لا شأن له أكثر من هذا الشأن ولا من يفكر بان يكون لجون دور فوق هذا الدور . وكان في حسبان الجميع انه سيغتنم اول فرصة للسلامة فينجو وينشد الخدمة من جديد في بيت جديد .
ولكن جون بقي في ركب الحسين لم يفارقه مع المفارقين ، وثبت مع الرجال المائة الذين ثبتوا حتى وصلوا الى كربلاء وظن الناس ان (جون) سينتظر الساعة الحاسمة ، ثم ينطلق بعدها في طريق النجاة . ولكن الأيام مضت وجون في مكانه لم يبرحه ، وجاء اليوم التاسع من المحرم وجون قائم على خدمة الحسين ، فها هو

المجالس السنية ـ الجزء الثاني 278

يصلح له سيفه ، والحسين يردد تلك الأبيات الشهيرة التي لم تستطع معها اخته زينب الا ان تذرف دموعها .
أما جون فلم يذكر احد انه انفعل او تأثر أو بكى ، اتراه لم يفهم ما كانت تعنيه تلك الأبيات ؟ اتراه صلب العاطفة متحجر القلب الى حد لا يهزه صوت الحسين ينعي نفسه ؟ اتراه في تلك الساعة في شاغل عن كل شيء الا عن نفسه يفكر كيف يدبر وسيلة الخلاص عصر اليوم أو صباح الغد ؟
الحقيقة كانت فوق كل تصور . . ولم يبك جون ولم ينفل ولم يتأثر ، لأن ما كان فيه كان فوق البكاء والانفعال والتأثر . كان جون وهو يصلح سيف الحسين والحسين ينشد أبياته ، كان جون يستعرض في ذهنه كل ذلك الماضي الحافل ، كان يتذكر النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وهو يرفع الانسان الأسود الى أعلى مراتب الكرامة حين عهد الى واحد منهم بوظيفة مؤذن النبي الخاص وكان يتذكر تلك الألوف من السود التي انطلقت حرة تنفيذا لوصايا محمد ، وكان كل ذلك يجول في ذهن (جون) مولى أبي ذر الغفاري .
وها هو سيف الحسين الان في يده لآخر مرة يصلحه له ليقف به الحسين غداً على أعلى قمة في التاريخ فيهز الدنيا كلها لتشهد كيف تكون حماية الهدى والحق والخير ، وكيف تكون البطولات التي لا تبغي الا الاستشهاد ذوداً عما تؤمن به وتعتنقه ، وكيف يرفض الاباة الحياة إذا لم تكن كما يريدون حياة الحرية والسعادة للامة ، وحياة الكرامة والحق لهم .
غداً سيلمع هذا السيف الحديدي في كف الحسين ثم ينثلم إلى الأبد ، ولكن سيف الحق الذي جرده الحسين سيلمع الى الأبد دون أن ينثلم ، وغداً سيعلوا صوت الحسين بنداء الحرية ثم يصمت الى الأبد ، ولكن صوت الحرية الذي انطلق من فم الحسين سيظل مدويا الى الأبد .
كان جون يلجأ الى صمت رهيب ، وظل صامتاً حتى دنا الليل ، وأصغى

المجالس السنية ـ الجزء الثاني 279

بكل جوارحه الى الحوار البطولي الخارق الذي جرى بين الحسين وانصاره ، وهو يحرضهم على تركه وحده والانطلاق في سواد الليل ، وهم يردون عليه واحداً بعد واحد رافضين لأول مرة في حياتهم أوامره ، ويصرون على أو يلقوا المصير نفسه الذي سيلاقيه هو .
كان جون في تلك الساعة يجلس في زاوية دون ان يأبه له أحد ، وكان يود من كل قلبه لو كان لصوت الزنوج صوت بين هذه الأصوات ، ولكنه فضل الصمت المطبق .
وفي الصباح عندما تبارى الأبطال المائة متسابقين الى الموت ، ومسى كل منهم يستأذن الحسين ويودعه ماضياً الى مصيره ، تقدم (جون) وهو في كل خطوه من خطواته لا ينفك مصغياً الى صوت زميله بلال الحبشي متعالياً فوق كل أصوات البيض تكريماً من محمد واعزازاً . وربما خطر له في تلك اللحظات منظر بلال وهو واقف على أشرف مكان وأقدس بقعة ، على ظهر الكعبة حين أمره محمد ساعة فتح مكة ان يصعد فينادي بالأذان . الأسود الذي كان عبداً ذليلاً قبل رسالة محمد يصعد على الكعبة ، وهو في نظر الناس أعز انسان .
دنت ساعة الوفاء لمحمد ، دنت الساعة التي يرد فيها هذا الزنجي (جون) بعض الجميل لمحمد ، وهل أعظم في الوفاء لمحمد من أن يموت ذودا عن أبنائه ونسائه وتعاليمه ، وتقدم جون من الحسين وقد انقلب بطلاً مغواراً ، وقد تجمعت فيه كل فضائل بني جنسه ، تقدم يستأذن الحسين في أن يكون كغيره من رفاق الحسين .
والتفت الحسين اليه وقد أخذته الرقة له والحنان عليه ، ولم يشأ أن يورطه فيما لا شأن له به ، فقال له : أنت إنما تبعتنا للعافية فلا تبتل بطريقتنا .
ولكن جون البطل أجاب الحسين : أنا في الرخاء على قصاعكم وفي الشدة أخذلكم ؟ ثم أردف هذا الجواب بكلمات لم يقصد بها الحسين ، بل أراد أن

المجالس السنية ـ الجزء الثاني 280

يوجهها للاجيال الماضية والأجيال الحاضرة والأجيال الآتية ، تلك الأجيال التي لم تر للزنوج الكرامة التي لهم ، فقال : ان ريحي لنتن ، وان حسبي للئيم ، وان لوني لأسود ، افتنفس علي بالجنة فيطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيض وجهي ؟ لا والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود بدمائكم .
لقد كان جون يعلم انه أكرم على الحسين من الوف البيض ، وان الحسين أكرم من ان يراه لئيم الحسب نتن الريح . لم يكن جون في الواقع يخاطب الحسين سبط محمد مكرم الزنوج ، بل كان يقف على ذروة من ذروات التاريخ ليقول للادعياء المفاخرين بألوانهم وأطيابهم ، اليكم هذا الذي ترونه في نظركم لئيم الحسب نتن الريح ، اليكم به اليوم يطاولكم شرفاً وحمية وشجاعة ووفاء فلا تصلون الى أخمص قدميه . منكم يزيد الأبيض اللون ، المتحدر من عبد مناف ، المضمخ بالاطياب ، ومنكم عبيد الله بن زياد ومنكم شمر بن ذي الجوشن وحجار ابن ابجر وقيس بن الاشعث وعمرو بن الحجاج ، منكم قبل هؤلاء وبعد هؤلاء كثيرون ، وكلهم يشع بياضاً ويعبق طيباً ، وكلهم يجر وراءه حلقات آباء وأجداد .
أولئك غدروا بمحمد الذي أخرجهم من الظلمات فداسوا تعاليمه وحشدوا على بنيه ، اولئك يتهيئون الآن ليرفعوا رؤوس أبناء محمد على رماحهم . وهذا الزنجي وفا لمحمد الذي حرره وأكرم جنسه ، فتقدم ليذودكم عن بنيه وبناته وتعاليمه ، وهو يتهيأ الآن ليسفك دمه دون ذلك ، فأيكم اللئيم الحسب ، النتن الريح ، الأسود الوجه ؟ أأنتم أم هو ؟
وحقق الحسين رجاء جون فأذن له ، ومشى (جون) مزهواً ببطولته معتزاً بوفائه يود لو ان عيني بلال الحبشي تراه في خطواته هذه ، وان زنوج الدنيا يطلون عليه ليروا كيف مثلهم في موكب البطولات وتكلم باسمهم على منبر التضحيات ، وكيف شرفهم ساعة لا شرف الا للنفوس العظيمة .

المجالس السنية ـ الجزء الثاني 281

لقد ضارب جون الحر اولئك العبيد باعمالهم ، السود بقلوبهم ، وكان له ما أزاد ، فامتزج دمه الاسود مع أشرف دم : مع دم الحسين سبط محمد ومع دماء أهل بيته .
ووفى الزنوج لمحمد الذي رفع من شأنهم وأعلى أمرهم ، وتحقق ما أراده جون . فلم ينفس عليه الحسين بالجنة ، ولم يبخل عليه بان يثبت بانه كريم الحسب طيب الريح .

المجلس السادس والأربعون بعد المائة(1)

منذ ولدت هذه المأساة ، وهي تمون الفكر العالمي بارفع ما وصلت اليه البطولة وأقصى ما بلغه الاستشهاد ثم تمون العاطفة باشجى ما وصل اليه الحزن النبيل . وبرغم القرون المتتابعة على ولادتها بقيت معانيها تتجدد في كل لحظة ، وبقيت مصدراً عجيباً من مصادر الوحي الغني للاقلام السائرة في دروب الحياة الى منتهى القمم الشوامخ .
من ذلك الزمن الذي وقعت فيه الى هذا اليوم الذي تنفصل بينه وبين يومها الأول أربعة عشر قرناً ، وهي تبدو وكأنها على موعد مع التجديد الرائع في سمو المعاني وسمو الأقلام التي يسيل في لعابها نشيد الخلود .
عظمة هذه المأساة لم تكن في اختيار الموت على الحياة أو مواجهة العدد القليل للعدد الهائل الكبير أو في الصبر المذهل أمام وحوش الغابات ، وان كانت

(1) من مجالس التي أضفناها على الطبعة السابقة وهو بقلم الاستاذ محمد شرارة .
المجالس السنية ـ الجزء الثاني 282

هذه المعاني فصولاً خالدة من فصولها الكثيرة ، وإنما كانت في شيء آخر . . . كانت في ذلك التحدي المخيف للطغيان الاحمق والظلم البليد والجبروت الغبي . . . نعم كانت في هذا المعنى الذي ينتصب في تاريخ الشعوب كما ينتصب المارد الجبار ، ويلوح كما يلوح العملاق أمام الزرازير الجبانة .
وفي عقيدتي ان طغاة الحكم الأموي كانوا أجهل الناس بالأخلاق العربية العامة . كما كانوا أغبى الناس في معرفة النفس العربية البسيطة ووعي أسرارها . وقد ظن أولئك الأغبياء الحمقى ان المال وحده كاف في اماتة كل نبل وابادة كل شرف وان شراء عدد من زعماء العرب في ذلك الوقت كان في القضاء على الجوهر النبيل الذي يشع في قلوب البسطاء من الجماهير الكبيرة الواسعة . وبالتالي كاف في القضاء على الحسين ومدرسته القائمة على تحدي الطغيان والوقوف في وجهه مهما ارتفع عبابه . وفي ظلمة هذه الغباوة اشتروا عمر بن سعد الطامع بامارة (الري) . وأماثله من الزعماء الأذلاء الذين تهاووا على بريق الذهب كما يتهاوى الفراش على لهيب النار . وبالتالي استطاعوا ان يقتلوا الحسين وأصحابه بذلك الشكل الذي اخرج كل ما في نفوس الطغاه من نذالة وحقد وجبن واسفاف وازدراء بالقيم . ولكن هل استطاعوا ان يقضوا على تلك المدرسة النبيلة التي أنشأها الحسين وخلق لها بتضحية وتضحية أصحابه وأهله المثل العملية العليا ؟
الجواب معروف عند كل ملم بالتاريخ وحركته . لقد ووجه الحكم الأموي بكثير من الغضب وكثير من الصفعات ، كما ووجه في كثير من الاحيان بكثير من الاحتقار . وفي ذلك الحوار المذهل الذي دار بين يزيد وزينب بنت علي ما أشعر يزيد ، ان كان عنده شعور بان الدنيا مقبلة على عاصفة وان قتل الحسين لم يكن سوى نذير يكاد يزعزع الارض تحته .
لقد شمت الطاغية الاحمق بقتل الحسين أمام أخته ، وظن ان زينب امرأة ذليلة هانت عليها الكرامة بعد قتل من قتل من أهلها وذويها ، فراح يتحداها

المجالس السنية ـ الجزء الثاني 283

ويتحدى الكرامة الشامخة في تلك النفس العظيمة التي يجب ان تكون مثلا لكل امرأة كريمة .
فماذا كان موقف زينب ؟ وكيف كان ردها على شماتة الشامت الخسيس ؟
«وان جرت علي الدواهي مخاطبتك فاني لاستصغر قدرك واستعظم تقريعك واستكبر توبيخك» .
بهذه الكلمات القليلة أجابت زينب ، ولكن اية كلمات هذه الكلمات ؟ واي عوالم من التحدي تحمل في كل حرف من حروفها ؟ لو عض يزيد الحديد في تلك اللحظة لكان ذلك أهون عليه من أن يسمع حرفاً واحداً منها ان كان عنده احساس .
مهما يكن شعوره فقد أدرك بالتأكيد ان مدرسة الحسين باقية وانها ستبقى . وان السعادة التي تخيلها حاتمة عليه أو ستحوم عليه بقتل الحسين وأصحابه لن تكون سوى نعش له ولدولته .
وقبل زينب وقف رجل في الكوفة (1) أمام عبيد الله بن زياد موقفاً لا يقل عن موقف زينب ودفع حياته ثمناً لموقفه . ثم تتابع الزمن وتتابعت المواقف الخالدة .
ومعنى ذلك ان يزيد فشل ، وان الدرس الذي القاه الحسين على الأجيال بقي ينتقل من جيل الى جيل ، وسيبقى على تنقله ما دام للكرامة قيما وللاخلاق مثل عليا .

* * *



(1) هو عبد الله بن عفيف الازدي .
المجالس السنية ـ الجزء الثاني 284

المجلس السابع والأربعون بعد المائة(1)

خلا الجو لمعاوية بعد مقتل الحسن بالسم ، أما زياد بن ابيه فقد تكفل بالقضاء على كل العناصر القيادية في العراق ، مستعملا في ذلك أبشع الوسائل .
وفي المدينة عاشت الارستقراطية العربية في بحبوحة من العيش عاشت في قصور ناعمة يجلب اليها من كل الأقطار وسائل الترفيه ويعيش في غرفاتها القيان والعبيد ويجلس الأمير في حاشية من صحبه وخدمه والمتزلفين اليه .
وكانت ارستقراطية المدينة تتكون أساساً من الولاة السابقين الذين فروا بمال بيت المال . أو أغدق عليهم معاوية ما شاءت له سياسته ليتقاعدوا ويكفوا يدهم عن السياسة .
ومن كبار المحاربين ذي الأعطيات الضخمة وأصحاب الثروات الطائلة ومن أبناء هؤلاء جميعاً وأتباعهم . وستصبح المدينة بعد ذلك مكانا شاعريا يظهر فيها الغناء والشعر والموسيقى والرقص كأزهى ما كانت عليه مدينة في عصور الازدهار القديمة .
ومن الممكن تصور كيف كانت تفكر هذه الارستقراطية ، كانت أحاديث السياسة هي الغالبة ، وكان البحث عن مواقع القرى ومراكز التجمع والانصار وشغلهم الشاغل في المدينة كذلك كان الحسين ظاهراً كأكثر الرجال

(1) من المجالس التي أضفناها إلى الطبعة السابقة . وهذا المجلس مع مجالس الثلاثة التي تليه ، بقلم الاستاذ أحمد عباس صالح .

السابق السابق الفهرس التالي التالي