المجالس السنية ـ الجزء الثاني 285

شعبية ، واظفرهم برضاء عامة المسلمين وقواعدهم . وكان هناك أيضاً عبد الله ابن الزبير ، كما كان هناك سعد بن ابي وقاص ، كما كان هناك مروان بن الحكم قطب بني أمية الكبير ، كما كان هناك عبد الرحمن بن خالد بن الوليد . وغير هؤلاء كثيرون من نفس الطبقة أو أقل قليلا .
وكل من هؤلاء كان يتطلع إلى الخلافة وينظر إلى السياسة ويفكر فيها من هذه الزاوية . ووراءهم مباشرة يأتي الولاة الذين يستمدون سلطانهم في حكم أمصار ضخمة كالعراق ومصر وغيرهما من الانضمام الى هذا الفريق أو ذاك .
والنظام الفوقي للدولة يتكون عموماً من هذه الارستقراطية التي تصطرع فيما بينها على السلطة وتكون كل منها تجمعات حولها في مواقع مختلفة تستفيد منها في تدعيم نفوذها . وتتربص باللحظة المناسبة للوثوب إلى السلطة .
ولكن أقوى الاحزاب جميعاً ، هو الحزب الحاكم المنتصر ، حزب معاوية الذي لم يكن يملك النفوذ فقط ، بل يملك القوة الرسمية الضاربة أيضاً . وهي القوة الوحيدة المنظمة . واذا كانت الارستقراطية العربية المقيمة في المدينة تملك المال الوفير ، فان هذا المال لا يقاس ببيت المال الذي يتحكم فيه معاوية ، والذي يجبى اليه من جميع الامصار التي تخضع لحكم الدولة .
وفي هذا الصراع العنيف من أهل السلطة كثرت التجمعات ، وغلبت المصلحة على كل شيء ، ووصلت الاخلاق العامة الى أقصى درجة من الأنحدار .
ورأينا كيف يخرج الرجل من ولاء إلى ولاء في سهولة ويسر ، وهو في ولائه الثاني أكثر التزاماً من ولائه الأول ، ثم لا يلبث ان ينتقل إلى ولاء ثالث بنفس القوة . على تعارض كل جبهة من هذه الجبهات .
وكان القتل هو ابسط الوسائل التي يستعملها الحكام في هذا الصراع ، اذ كان التمثيل بالجثث والصلب على الاشجار ، وتقطيع الايدي والارجل ، والوان العقاب

المجالس السنية ـ الجزء الثاني 286

البدني المختلفة هي لغة الحديث اليومية . أما الوقيعة والدس والتزلف والخيانة والسرقة والنهب فهي السمة العامة لتلك المرحلة .
وفي سبيل السلطة لم يكن الرجل ذو النخوة يخجل من ان يثلم عرضه اذا كان في هذا منفعة .
وقصة زياد بن أبيه قصة غريبة تدعو للتأمل ، حيث نسبه معاوية إلى أبيه ابي سفيان ليكون أخاه . مدعياً ان ابا سفيان قد عاشر أمه سمية وهي زوجة رجل آخر فانجب زياداً منها .
وأغرب ما في هذه القصة ان ادعاء هذه الاخوة تم في مجلس علني رسمي حتى يتحقق الادعاء على رؤوس الأشهاد فلم يخجل منه زياد . موازنا بين مغانم هذه الاخوة وبين ازداراء الناس له . ففضل أخوة الخليفة على سلامة العرض . وزياد كان في أول أمره مع علي .
ثم على يدي زياد لاقى العلويون القتل والصلب والتقطيع ، بعد ان عمل لمعاوية ، وكان بينه وبين البشر ثأرا قديما .
وزياد هو صاحب قصة حجر المشهورة التي قتل فيها ستة من المسلمين لشرفاء لأنهم رفضوا ان يسبوا علياً أمام الناس فهذا الانتهازي الغريب الذي كان إلى جانب علي كان يدعو الناس فيأمرهم بأن يسبوا علياً حتى إذا امتنعوا أوقع بهم أبشع أنواع العذاب .
وقصة حجر واصحابه اخذت من كتب التاريخ الاسلامي صفحات كثيرة فكان يؤتى بالرجل منهم بعد ان يحفر قبره أمامه ليعدل عن موقفه فاذا أبى قتل ودفن في قبره المحفور .
والذي فعله زياد هذا يقصر عما فعله بعده ولده عبيد الله بن زياد .
على ان هناك حادثة أخرى تثير التأمل وتكشف عما يستطيع ان يفعله

المجالس السنية ـ الجزء الثاني 287

الطموح إلى السلطة بالانسان وكرامته كما تستطيع ان تكشف عن أخلاقيات معاوية ووجهة نظره إلى الحياة .
فهناك رجل اسمه عبد الله بن سلام كان والياً لمعاوية على العراق تزوج من امرأة هي أرينب بنت اسحاق ، وقيل انها كانت اجمل امرأة في عصرها وان يزيد بن معاوية رآها فأحبها حتى امرضه الحب . وعرف معاوية بهذه القصة ، وان المرأة امتنعت على ولده ففكر في ان يطلقها من زوجها ليزوجها من يزيد .
ارسل معاوية الى عبد الله بن سلام فاستدعاه . وعندما جاء قربه اليه ثم فاتحه في ان يزوجه من ابنته . فما كان من الرجل الا ان طار فرحاً . ولكن معاوية عاد فقال انه لا ينبغي ان يجمع إلى زواجه من ابنته زوجة اخرى ، ولم يفكر عبد الله بن سلام الا قليلاُ فطلق امرأته ارينب وبعد الطلاق فوجئ بان ابنة معاوية ترفض زواجه وان معاوية رجل متحضر يرفض ان يرغم ابنته على زواج تأباه .
اما ارينب فقد رفضت طلب رسول معاوية ، وانقاذاً للموقف سارع الحسين بزواجها حتى اذا رجع عبد الله بن سلام خائبا ردها الحسين دون ان يقربها .
مثل هذه القصة تكشف عن المدى الذي وصلت اليه اخلاق الناس ، وكيف استطاع الحكم ان يفسد هذه الأخلاق حتى يهبط بها إلى هذا المستوى .
وسنجد ان الاخ يخذل اخاه والابن يعق اباه ، وان الخوف والطمع هما المحركان الاساسيان في هذا المجتمع .
وفي هذا الجو المخيف من انهيار القيم فكر معاوية في ان يورث الخلافة في بيته ولم ينقض نصف قرن على الاسلام .
وتروي الكتب القديمة ان معاوية قد اوحي اليه بهذه الفكرة من احد الدهاة المتزلفين هو المغيرة بن شعبة وكان الخليفة قد غضب عليه في امر من الامور

المجالس السنية ـ الجزء الثاني 288

فاراد ان يشتري رضائه بهذه الزلفى ، وان يضيف اليها اسهامه في انتزاع البيعة من الولاية التي يحكمها .
ومثل هذه الرواية لا تستبعد في هذه الظروف ، والواقع يؤكدها ، فقد انتهى الامر فعلا الى خلافة يزيد بن معاوية . ولكن الغريب ان يزيد هذا كان سكيرا عربيدا متبطلا . وقصة غرامه بارينب بنت اسحق تكشف عن طبيعته المتبطلة المتفسخة . وانها لجرأة في النفاق من المغيرة بن شعبة هذا ، ان يقترحه على معاوية خليفة للمسلمين .
وبدأ معاوية يعمل لتنفيذ الفكرة ، غير عابئ برد الفعل الخطير الذي سيحدثة في الرأى العام للمسلمين ، فما من مسلم الا ويعلم سيرة يزيد ، وما من مسلم الا ويرفض ان يتحول الاسلام الى كسروية أو قيصرية .
ومع ذلك فقد فرض يزيد خليفة على المسلمين وبويع بالخلافة في عهد أبيه . ولسنا في حاجة إلى تقصي قصة هذه البيعة ولا ما قيل من روايات كثير عن الاسلوب الارهابي الذي اتبعه معاوية الا ان الواضح ان الشعب كان في واد والسلطة في واد آخر . وحين يحكم السيف ، تضيع الكرامة ويستسلم الناس ويستدعون من أنفسهم كل الكوامن الخبيثة ليعايشوا السلطة القاهرة باسلحة من طباعها .
المجلس الثامن والاربعون بعد المائة

في بعض فترات التاريخ يبدو الواقع حاداً شديد الحدة . فيخيل للانسان الذي يعايش هذا الواقع ان كل ما قرأه عن القيم الخيرة ، والنزوغ البشري إلى الخير ، ان هو الا أوهام كتاب حالمين لم يصطدموا بالواقع . فعند احتدام هذا الواقع لا يستطيع الانسان ان يميز بين الخطأ والصواب .

المجالس السنية ـ الجزء الثاني 289

وحين ينتصر الباطل في افضع صورة في موقعة اثر موقعة ، ويكتسح الحكم الارهابي أمامه كل العقبات ، يحدث ما يشبه الوباء العام . وتصبح غالبية الناس جبناء ونهازين وقتلة ومجرمين ، حتى يصعب تصديق ان الطبيعة الانسانية تحتوي على أي أساس يمت للخير بصلة .
ان نفوس الناس تنهار واحدة اثر الاخرى والعدوى تنتقل انتقال الوباء المستشرى وتفقد البشرية احساسها بالكرامة . وكأنها هي تحكم على نفسها بالانحطاط الى أبعد مدى ، تعاقب نفسها بما ترتكبه من آثام .
وليست بعد ذلك صراعاً بين قوى ظالمة وقوى مظلومة ، انما هي في الواقع صراع بين القيم الانسانية العليا والقيم السفلى . ومهما تلبس القوى المتحكمة تصرفاتها من أردية المنطق والعدالة والسياسة فانها في الواقع تنخر في صميم الكيان البشري ، وتوشك ان تودي بهذا الكيان الى الفناء .
وكل سلطة متحكمة ترى دائماً الى جانب السيف والمال مفكريها الذين يفلسفون التسلط ويبررونه ، ولقد كان معاوية يردد كثيراً ، «يؤتي الملك لمن يشاء» وكان ملكه قدر الهي ، وان هذا القدر قد اختاره ، وبناء على ذلك فكل سلوك له يستمد شرعيته من هذا الاختيار .
ولنا ان نعجب وندهش من تلك الآراء التي تعبر عن نفسها بوقار العلم والموضوعية وبمنطق حتمية التاريخ لتصور المرحلة على انها مرحلة بناء الدولة وان معاوية كان رجل دولة ، وفي سبيل هذا البناء التزم سياسة واقعية بارعة . في مقابل سياسات خيالية اتبعها خصومه من أصحاب الدعوة إلى العدل الاجتماعي والكرامه الانسانية .
وكثير من هؤلاء المؤرخين يرون ان منطق التطور من الوضع القبلي إلى الدولة

المجالس السنية ـ الجزء الثاني 290

المركزية ، هو الذي يبرر كل ما حدث من جرائم لانشاء هذه الدولة ومع ذلك فالدولة لم تعمر بعد ذلك الا ستين عاما ، ولم تلبث ان انهارت انهياراً كاملا .
كان صن بات صن الزعيم الروحي للصين الحديثة يقول عقب كل فشل لثورته الوطنية هذا هو فشلنا الرابع أو الخامس أو العاشر . إلى آخر سلسلة الفشل التي تعرضت لها الثورة الصينية قبل أن تنتصر .
والواقع ان تاريخ البشرية جميعاً هو سلسلة من الثورات الفاشلة حتى تتحق ثورة ناضجة لا تلبث هي الأخرى ان تتجمد أو تغتصب لتظهر ثورات أخرى تتابع في فشلها حتى يتحقق النصر الحاسم .
والثورة ليست سابقة لأونها أبدا فالشرارة الاولى هي دائماً الاعلان الحاسم بوجوب نقلة أخرى . وهذه النقلة قد تنتظر طويلا حتى تتحقق ، ولكن دون أن تظهر هذه الشرارة ، فان الثورة لا تولد ، بل تصبح في حكم العدم .
والثورة ليست مجرد تغيير تنشده وتعمل له مجموعة مقهورة ، لتلقي قهرها وتسترد حقوقها ، بل هي أعمق من هذا ، انها طريق في سلم التطور الأخلاقي للمجموعة البشرية وهذا السلم يبدأ من السلوك الفردي في ابسط صوره ، إلى السلوك الجماعي للأمة ، والانسانية بشكل عام .
وكان الصراع من أجل توزيع الثورة هو ذريعة قانون التطور للوصول إلى مستوى أخلاقي أعلى للمجموعة البشرية .
وآية ذلك ان قادة الثورات لا تحركهم الى الثورة ضغوط الحرمان أو القهر وحدها ، بل قيم انسانية أعلى من القيم السائدة ، بل ان هؤلاء القادة غالباً ما يكونون واقعين تحت ضغوط غير مادية . بل لعلهم في الأغلب لا يعانون من أي ضغط أو حرمان مادي . ان التركيبة النفسية لقادة الثورة تتناقض مع القيم الأخلاقية السائدة في مجتمعهم ، فهم يحسون بدوافع قوية للدفاع عن المثل التي أهدرت ويشعرون باختلال الطريق البشري الى الارتقاء الروحي وانهم ينذرون لاعادة

المجالس السنية ـ الجزء الثاني 291

الجماعة الانسانية الى الطريق السوي . وكثيراً ما يكون القائد الثوري محكوماً عليه بالاندفاع في طريق الثورة بحيث لا يملك التراجع حتى ولو أراد . ان طبيعته تدفعه الى الثورة حتى لحظات الخطر الماحق والعذاب الرهيب .
ولسنا ندري لماذا يختار البطل الثوري الجانب الخاسر في اللحظات الحاسمة حين يكون الاختيار بين أمرين : التراجع الآمن ، والعذاب المحقق .
وكما ينطبق هذا على الثائر القائد ينطبق على الثائر الجندي . وعلى المشانق والمقاصل والصلبان وفي حجرات التعذيب الحديثة والقديمة يظهر هذا الجنون المصمم المنتحر . وهو جنون يقابل جنونا من نوع آخر جنون السلطة الذي يجافي كل قيمة من القيم الانسانية . جنون وحشي مصمم يثير من الدهشة ما يثيره من ثبات الثائر واصراره .
واروع لحظات الاستشهاد لا تظهر الا في لحظات الانحدار الروحية الشديدة وكأن المجموعة البشرية تطلق كل امكانياتها في هذه اللحظات الشديدة الخطورة .
عندئذ يصبح الصراع الطبقي مجرد ذريعة لتتخطى البشرية هوة الانحدار الأخلاقي .
وأمامنا الكثير من قصص الغدر والخيانة والتوحش في تلك الفترة لتدلنا على مدى ما وصل اليه الانهيار الأخلاقي في تلك الفترة التي عزم فيها الحسين بن علي على التصدي للنظام ،
فلقد رأى الحسين كيف تخاذل الانصار عن أبيه ، ورأى ضعف الناس ازاء السلطة والاغراء ورأى غير ذلك من الحوادث الغريبة التي تشكك الرجل في نفسه .
ومع ذلك خرج الحسين ، وهو يحسب ان الناس ما زالوا يطلبون العدل الاجتماعي ، وانه من الطبيعي ان ترفض الكرامة البشرية ان يفرض عليها حاكم

المجالس السنية ـ الجزء الثاني 292

سكير عربيد في مجتمع يعتبر السكر والعربدة معصية تستوجب عقاب الله والمجتمع .
والحسين من اللحظة الاولى قد اختار دوره ، أو على الأصح قد اختاره دوره . فطبيعته ترفض كل ما يحدث ، وهي ترفضه لحد الازمة ، ان السيف والارهاب يطالبانه بالبيعة ليزيد فلا يبايع ويأوي الى مكة . وفي مكة يتقاطر حوله الناس يدعونه الى الخروج وطلب البيعة . ولو لم يطلب اليه الناس ذلك لكان قد خرج أيضاً أو لمات قهرا . فالى جانب الذين حضوه على الخروج كان هناك الذين يحضونه على ايثار السلامة . وكانوا من أخلص الناصحين له . ومع ذلك لم يقبل السلامة .
جاءته الكتب من العراق بأنه لو وفد عليهم لبايعوه ، فاتخذ هذه الكتب ذريعة ليلعب دوره المقدور عليه . ارسل ابن عمه مسلم بن عقيل الى أصحاب هذه الكتب يستطلع الامر ، واستقبل مسلم استقبالا حسنا ولم يملك الوالي هناك أن يتصدى له ، بل كل ما فعله هو النصح ، فما ان علم مستشارو الخلافة الدهاة بموقف الوالي حتى اقترحوا عزله وتعيين عبيد الله بن زياد بن ابيه مكانه فجاء عبيد الله هذا وهو النموذج المقابل لمسلم وللثوار . رجل السلطة الذي تحكمه طبيعته أيضاً ليوغل في الاثم الى الدرك الاسفل ، ونشبت المعركة سجالا بين الجبن والشجاعة وبين اللؤم والنبالة . فهو يفر من وجه الجماهير ويحتمي بالقصر ، ثم يظهر في صورة الجبار حين تتفرق الجماهير ، ويخلف العهد ، ويغرى بالمال ، ويغرى بالسلطة ، ويستعمل سلاح الارهاب والتخويف ، حتى يستطيع أخيرا الظفر بمسلم فيقتله قتلة شنعاء ويلقي بجثته من أعلى القصر .
وتأتي كتب مسلم الى الحسين بان عشرات الالوف ينتظرونه لمبايعته ويتحرك الحسين فيبلغه ما حدث لمسلم ، وبدلا من ان يتراجع مؤثرا السلامة يقرر المضي الى العراق محتجا لنفسه ولأهله ونفره القليل بانه حين يدخل العراق سيلتف الناس حوله . وكان يعني ان وجوده بينهم سيقضي على خوفهم وتخاذلهم ويردهم

المجالس السنية ـ الجزء الثاني 293

الى ادميتهم . وهو بذلك يحدد دوره ، انه بعث الروح من جديد ليس أكثر .
ويمضي الحسين وليس معه الا سبعون رجلا ونساؤه واطفاله .
وفي هذه اللحظة يكون الحسين قد أدرك الموقف كله فهو يعلم ان جيوش عبيد ابن زياد قد تعترضه ، بل هي تعترضه قطعاً ، وعندئذ تكون النهاية .
ولكن الحسين كان يعلم انه لا بد من فدية شخصية . فدية تتوهج بالدم وكان هو الوحيد الذي يملك ان يتقدم كفدية تهز الضمير شبه الميت في قلب الامة .

المجلس التاسع والاربعون بعد المائة

إن أمر الحسين ليس حنكة سياسية وليس غفلة سياسية ، ليس واقعية اورومانتيكية ، انه امر واضح تماماً . يرتفع عن مستوى الغفلة أو الخيال اذكى وأشرف رجل في عصره يقدم نفسه ليوغل فيه أعداء القيم العليا ما شاء لهم انحدارهم كآخر ما يستطيع أن يصل اليه الشر فتكون الصرخة التي توقظ ضميرا خربوه بكل الوسائل .
وهكذا مضى الحسين في طريقه الى العراق ، فتخاذل عنه من تخاذل ، واختفى حوله صغار الناس ، الذين ساروا في موكبه اول الطريق حين علموا بخروجه الى البيعة . لم يمض معه إلا هؤلاء الذين تمثلت فيهم الثورية بمعناها العميق ثورية التغيير الجذري للقيم ذاتها .
وتبلورت القوى الثورية هنا في هذه الجماعة الصغيرة التي تقطع الصحراء . متحدية ، مصممة ، ليس لها من أمل إلا في ان تعدى الناس بالثورة ، وان تعدى بالذات تلك الجيوش التي قد تقطع عليها طريقها الى العراق .
وهذا الأمل هو الذريعة التي يتذرع بها الحسين ليحقق هدفه ، وهو الشهادة في أكمل صورها .

المجالس السنية ـ الجزء الثاني 294

وفي الطريق يسأل مجمعاً بن عبيد العامري ويجيبه «أما اشراف الناس فقد اعظمت رشوتهم وملئت فرائرهم فهم الب واحد عليك ، وأما سائر الناس فان قلوبهم تهوي اليك ، وسيوفهم غدا مشهورة عليك» .
وفي هذه الجملة تلخيص ذكي للقوى القائمة . فكبراء الناس . هؤلاء الذين يملكون الثروة ، لم يعد يهمهم في شيء ان يخرج حفيد النبي بل لعل خروجه يهمهم من زاوية أخرى . وهو ان هذا الحفيد يريد ان يغير مراكز القوى . وان يعيد توزيع الثروة ، وان يمضي في نفس الطريق الذي مضى فيه أبوه ، فهو من هذه الناحية عدو الطبقي لا يهمل خروجه في طلب البيعة . انه الحسين بن علي بن فاطمة الزهراء ابنة رسول الله ، والسلطة قوية ولتفعل ما تشاء .
ولكن السلطة ليست بهذه البلاهة انها لا تلقي بدم الحسين على عاتقها وحدها فمن أراد أن يدافع عن ثروته ، وعن مركزه الاجتماعي فليشترك في دم الحسين .
وسنرى ان رجالا من هذه البقة اهيب بهم ان يشتركوا في قتل الحسين وكانوا بين خوف من غضب السلطة والشك في ولائهم للمصلحة الطبقية الواضحة وبين ان يأثموا بدم الحسين . على ان الأمر لم تكن له هذه الخطورة فمن قبل قتل علي نفسه ، ومن بعده قتل الحسن مسموماً ، كما قتل محمد بن ابي بكر . ان الاحساس بالاثم كان احساساً هيناً يمر بالخاطر مرا سريعاً ولولا ان الحسين بالذات تربى في حجر النبي ولو لا انه رجل يمثل الصورة المثلى للاسلام ، لما مر مثل هذا الخاطر بأحد .
ومن الناحية الاخرى فان سائر طبقات الشعب قد بلغ بها القهر والشك والخوف ما يجعلها تتردد الف مرة في الثورة . وفي العراق بالذات كان الرجل يؤخذ بمجرد الشبهة ، وسيرة زياد بن أبيه لم تنس بعد ، فقد خطب فيهم خطبة خطيرة ورد فيها انه سيأخذ البريء بالمسيء .
لاقى شعب العراق صنوفاً من الضغط لم يلقها شعب آخر جيلا وراء جيل ،

المجالس السنية ـ الجزء الثاني 295

فكيف كان يمكن لهذا الشعب المطعون ان يهب لمساندة الحسين . والخوف يقضي على كل كرامة وقد استطاع الحكم الاموي ان يزرع الخوف وان يجعله القوت اليومي للشعب العراقي .
وبهذه الصورة لم يكن لخروج الحسين الا معنى واحد هو الشهادة .
وأي سياسي آخر غير الحسين كان يستطيع تقدير الموقف ، وان يتراجع في الوقت المناسب ، أو يرى طريقاً آخر للكفاح . أما التراجع فقد كانت فرصته أمامه حين شارف أرض العراق وجاءته أنباء مقتل رسوله مسلم بن عقيل وانفضاض الناس من حوله .
ومع ذلك فقد استمع باهتمام إلى واحد من صحبه يقول : «ما أنت مثل مسلم بن عقيل ، ولو قدمت الكوفة لكان الناس اليك أسرع» .
واقتنع الحسين ، لم يفكر ولم يتدبر موقفه . . اكان ذلك عن سوء تدبير ؟
لا يستطيع أحد ان يحكم هنا بسوء تدبير الحسين ، فهو منذ تحرك من مكة كان يعلم ان الوضع قد بلغ الحد الذي يدفع إلى مواجهة إلى القتال الصريح مهما تكن القوة التي تجابهه .
وقد تأكد له الموقف بعد ذلك ، حين أرسل قيساً بن مسهر الصيداوي فقتل هو الآخر ، ثم عاد فأرسل عبد الله بن يقطر فالقي من شرفات القصر . أي شيء اذن كان يتوقعه ؟
انه يلح في الاتصال بالشعب ، فقد وضع أمله فيه ، وان لم يستطع الاتصال به عن طريق الكتب ، اذ كان رسله يقتلون واحدا بعد الآخر فليس هناك الا ان يتصل بهم بحدث يزلزل كيانهم .
أهذا كان تفكير الحسين ؟
ليس من الضروري أن تكون هذه الفكرة واضحة في الذهن ، يكفي ان

المجالس السنية ـ الجزء الثاني 296

تكون هي الموجه لكل تصرف ، وجميع تصرفات الحسين تؤكد ان مثل هذه الفكرة وراءها .
لم يكن أمامه الا أن يتراجع ، وكان له أكثر من مبرر للتراجع فهؤلاء الذين كتبوا اليه يستقدمونه انفضوا عن رسوله حتى قتل . وها هو ذا يرسل رسلا آخرين فلا يكون حظهم خيرا من حظه .
فلماذا لم يتراجع ؟ إلا انه كان عليه عندئذ ان يمنح البيعة ليزيد ، وكانت هذه في رأيه أكبر الكبائر ، أليعتكف في حرم الكعبة ، وهل كان ليزيد ان يتحرج عن قتله في قلب الحرم .
ليس أمامه الا ان يمضي في طريقه فهو يعلم تماماً ان ظهوره أمام الشعب سوف يجمعهم حوله . يعلم كيف يحدثهم وكيف ينزع الخوف من قلوبهم ولكن كيف يصل إلى مداخل العراق ، وعبيد الله بن زياد يرصد له الجيوش الآن . . ان الموقف لا يصعب تقديره على الرجل العادي .
ومن المؤكد ان الحسين كان محيطاً به من كل جوانبه . وربما خالجه ظن بأن أي جيش سيعترض طريقه لا يلبث ان يلين له حين يخاطبه فيزيل الغشاوة عن عينيه . هذا خاطر لازمه مع خاطر آخر لم يفارقه ، وهو انه مقتول بغير شك ، اذ كان يردد أن الموت كتب على ابن آدم . .
كان يضع موته في كفة وثقته في الناس في كفة . فهو لم يفقد الثقة في الجوهر الكامن في النفس الانسانية ذلك الجوهر النازع الى الارتقاء الروحي .
ومرة اخرى لم يتراجع الحسين بل مضى في طريقه .

المجلس الخمسون بعد المائة

لم يكد الحسين يمضي الا قليلا حتى التقى عند جبل ذي حسم بجيش من الف فارس يقوده الحر بن يزيد . وهو احد الاشراف الذين اشار اليهم مجمع بن عبيد

المجالس السنية ـ الجزء الثاني 297

العامري ، بل سنرى أيضاً ان اختيار الرجال الذين سيحاربون الحسين تم بدقة حتى تتبلبل أفكار الشعب ، فالقائد الذي قاتل الحسين في معركته الأخيرة كان عمر بن سعد بن أبي وقاص ، ابن صحابي كبير .
ماذا يقول الشعب عندئذ . . ابن علي بن أبي طالب ، يقاتله ابن سعد بن أبي وقاص . .
وانه لأمر مثير للدهشة ان يأتمر عمر بن سعد بن أبي وقاص ، باوامر عبيد الله بن زياد . ابن فاتح فارس وصحابي رسول الله ، يأتمر بامر ابن زياد مجهول الأب ، المشكوك في نسبه .
بل ان عمر لا يأتمر بامر عبيد الله فحسب ، بل يتملق ويدهن اليه . فحين جيء بمسلم بن عقيل بين يدي عبيد الله طلب مسلم ان يفضي بكلمة إلى عمر ، وتقدم اليه عمر فهمس مسلم في أذنه مناشداً قرابته ان ينفذ وصيته التي سيفضي بها اليه ، وهي ان يرد ديناً عليه قد اقترضه من رجل بالكوفة فيبيع سيفه ودرعه ويوفي دينه ، وان يرسل إلى الحسين من يمنعه من المجي مصححاً رسالة سابقة بان الناس معه .
ان عمر بن سعد بن أبي وقاص لم يكتم السر الأخير بل بادر فأفشاه لعبيد الله ابن زياد .
إلى هذا المدى فقد أعاظم الرجال كرامتهم . فإلى أي مدى فقد الشعب المقهور هذه الكرامة ؟
وتقدم الحر بن يزيد فقال للحسين انه امر بان يقدم به على عبيد الله بن زياد . لم يجبه الحسين بل أمر مؤذنه ان يؤذن لصلاة الظهر ثم خطب الجميع أصحابه وخصومه على السواء . أو خصومه بوجه خاص .
«أيها الناس . اني لم آتكم حتى أتتني كتبكم ورسلكم ان اقدم علينا فليس علينا إمام ، لعل الله يجمعنا بك على الهدى والحق . . فقد جئتكم . . فان تعطوني ما أطمئن اليه من عهودكم ومواثيقكم اقدم مصركم ، وان لم تفعلوا أو كنتم لقدومي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه» .

المجالس السنية ـ الجزء الثاني 298

وكانت لحظة صمت جماعية . لا يدري أحد ما جرى في اذهانهم ، ولعلهم كانوا جميعاً يودون لو يقاتلون من أجله . ولكن الخوف والمصلحة وكل عروض الدنيا كانت تقف دون ذلك .
عندئذ التفت الحسين وقال للمؤذن «اقم الصلاة» . ثم التفت للحر بن يزيد وسأله : هل يصلي كل فريق على حدة ؟ فقال الحر : بل نصلي بصلاتك .
وانتهت الصلاة خلف الحسين : وبدأ ركب الحسين يتجه وجهته . وبدأ الحر يتعقبه ، وكلما اتجه وجهة أخرى حاصره ورده الى طريق الكوفة . واخيرا وقف الحسين مرة أخرى يعظهم .
«أيها الناس . . ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله ، ناكثا لعهد الله ، مخالفاً لسنة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالأثم والعدوان ، فلم يغير ما عليه بعمل ولا قول كان حقا على الله ان يدخله مدخله . الا وان هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، واظهروا الفساد ، وعطلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلوا حرام الله ، وحرموا حلاله . وأنا أحق من غيري وقد اتتني كتبكم ورسلكم ببيعتكم وانكم لا تسلمونني ولا تخذلونني ، فان بقيتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم . وأنا الحسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، نفسي مع أنفسكم ، وأهلي مع أهلكم فلكم في أسوة . وان لم تفعلوا ونقضتم عهدي ، وخلعتم بيعتي ، فلعمري ما هي لكم بنكير والمغرور من اغتر بكم ، فحظكم أخطأتم ، ونصيبكم ضيعتم . ومن نكث فانما ينكث على نفسه ، وسيغنيني الله عنكم» .
ولكن الخطبة اعقبها صمت تام ، ثم تقدم الحر يحذره بانه اذا قاتل فيسقتل ، فصاح فيه الحسين «أبالموت تخوفني ؟ »
واصطبر الحسين ومضى والحر وراءه يمنعه كلما ابتعد عن طريق الكوفة ، والحسين يرفض ان يبدأ بالقتال .
واخيرا ظهرت طلائع جيش جديد من أربعة الآف رجل مع رأسهم عمر بن سعد بن أبي وقاص لا احد غيره ، وانتهى الامر بين الطرفين إلى ان حصر الحسين

المجالس السنية ـ الجزء الثاني 299

وصحبه في كربلاء . وبدا ان الحرب لا بد ان تقع . فبعد قليل وصل شمر بن ذي الجوشن ليكون رقيبا على عمر بن سعد بن أبي وقاص إذا تخاذل .
وهنا جمع الحسين أصحابه ، وقال لهم : «لقد بررتم وعاونتم والقوم لا يريدون غيري . ولو قتلوني لم يبتغوا غيري أحدا . . فاذا جنكم الليل فتفرقوا في سواده وانجوا بانفسكم» .
ولم يقبل واحد منهم ان يترك الحسين ويهرب بحياته . .
ويعود الحسين فيلح في هذا . فلا يخرج من معسكره رجل واحد . وكانوا سبعين رجلا بازاء خمسة آلاف رجل .
عرض عمر بن سعد التسليم فرفض الحسين ، بل الاحتكام الى الشعب .
وحصر الحسين وصحبه عند كربلاء بعيدا عن الماء حيث يحميه جيش عمر بن سعد واشتد الظمأ بالاطفال والنساء ، وحمل الحسين ولده عبد الله ليسقيه بنفسه ، ظانا ان وجوده ومعه الطفل قد يمنع محاصريه من ايذائه ، ولكنهم رشقوا الطفل بسهم فسقط صريعاً بين يدي أبيه . . وتمالك الحسين أمام هذا كله نفسه ، فإلى آخر لحظة كان يأمل في أن يبعث الروح في هذه الضمائر الميتة .
وتقدم الحسين يخطب الجيش وهو في رداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم . فاذا بالجيش يحدث من الضجيج والضوضاء ما يغطي على كلامه . ولم يتراجع الحسين ، بل ظل صامتا حتى هدأت ضجتهم ثم إنفجر قائلاً : أنسبوني من أنا .. هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي ؟ الست ابن بنت نبيكم ؟ أو لم يبلغكم ما قاله رسول الله لي ولأخي : «هذان سيدا شباب أهل الجنة» . . ويحكم . . اتطلبونني بقتيل لكم قتلته أو مال لكم استهلكته ؟
وقد احدثت هذه الكلمات اثرها كالسحر ، وبدأت الرجال من جيش عمر ابن سعد تنضم الى جانب الحسين ، وكان أولهم الحر بن يزيد .
وكان الموقف خطيرا فلو انتظر عمر قليلا لانفرط الجيش كله . كما انه خشي الرقباء ان يبلغوا يزيدا بما حدث ، فما كان الا ان تناول سهمه ورمى به جماعة الحسين ، وهو يصيح اشهدوا لي عند الأمير انني أول من رمى الحسين .

المجالس السنية ـ الجزء الثاني 300

وهكذا بدأ القتال في توتر وسرعة لا تتيح لكلمات الحسين ان تفعل أثرها .
وقاتل الحسين وصحبه قتالا مجيداً حتى سقطوا جميعا ، وسقط الحسين مثقلا بجراحه ، مصابا بمائة وعشرين طعنة . . ثم تقدم شمر بن ذي الجوشن فاحتز رأسه . . ثم وطأوا جسده الشريف بخيولهم حتى رضوا ضلوعه ومثلوا به أشنع تمثيل . . وحملوا الرؤوس ومضوا بها على أسنة الرماح إلى عبيد الله بن زياد . . ثم الى يزيد بن معاوية .
وبذلك انتهت أول جولة للعدل مع الظلم . انتهت باروع استشهاد واعظم بطولة . وكانت شهادة الحسين اعظم انتصار للثورة ، لانها تغلغلت في الضمير العربي والاسلامي ، واحيت الضمائر التي خنقها الارهاب ، لتسقط بعد ذلك بستين عاما فقط . . دولة بني أمية .
تم الجزء الثاني من كتاب المجالس السنية في مصائب العترة النبوة ويليه الجزء الثالث وكان الفراغ منه أولاً في أوائل سنة الف وثلثمائة وأربعين بمدينة دمشق الشام صانها الله من طوارق الحدثان ووافق الفراغ من اعادة النظر فيه ثانياً عند ارادة تمثيله للطبع هذه المرة وتغيير بعض ترتيبه والزيادة عليه والانقاص منه منتصف ليلة الأحد الحادية والعشرين من شهر شوال المبارك عام 1353 بقرية شقراء من جبل عامل حماه من الغوائل ونسأله تعالى ان ينفع به المؤمنين ويحشرنا في زمرة محمد وآله الطاهرين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين ، وكتب بيده الفانية مؤلفه الفقير الى عفو ربه الغنيّ محسن بن المرحوم السيد عبد الكريم الأمين الحسيني العاملي نزيل دمشق تجاوز الله عن سيئاته حامداً مصلياً مسلماً

السابق السابق الفهرس