المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 580

والناسُ في الأَمْنِ والسُّرُورِ ولا يَأْمَنُ طُوْلَ الحَيَاةِ خَائِفُنا (1)

وروى القندوزي الحنفي من مقتل أبي مخنف أن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) لمَّا وصل من الأسر إلى المدينة خطب في أهل المدينة ، وقال ( عليه السلام ) في خطبته :.. أيها الناس ، أصبحنا مشرَّدين مطرودين مذودين شاسعين عن الأوطان ، من غير جرم اجترمناه ، ولا مكروه ارتكبناه ، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها ، ولا فاحشة فعلناها ، فوالله لو أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أوصى إليهم في قتالنا لما زادوا على ما فعلوا بنا ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون (2).
وقال الناشي الصغير في قصيدة له وهي بضعة عشر بيتاً ، ذكر منها الحموي قوله :
عجب لكم تُفنون قتلا بِسَيْفِكُمُ ويسطو عليكم مَنْ لكم كان يَخْضَعُ
فما بقعةٌ في الأرض شرقاً ومغرباً وليس لكم فيها قتيلٌ ومَصْرَعُ
ظُلِمْتُم وَقُتِّلْتُم وَقُسِّمَ فَيْئُكُمْ وَضَاقَتْ بكم أرضٌ فلم يَحْمِ مَوْضِعُ
كأنَّ رسولَ اللهِ أوصى بقتِلكم وأجسامُكُمْ في كُلِّ أرض تُوَزَّعُ (3)

وقال السيِّد صالح النجفي القزويني عليه الرحمة المتوفى سنة 1306 هـ :
فطوسٌ لكم والكَرْخُ شَجْواً وكربلا وكوفانُ تبكي والبقيعُ وزمزمُ
وكم قد تعطَّفتم عليهم ترحُّماً فلم يعطفوا يوماً عليكم ويرحموا
فَلاَ رَبِحَتْ آلُ الطليقِ تِجَارةً ولا بَرِحَتْ هوناً تُسامُ وَتُرْغَمُ
فَمَا مِنْكُمُ قَدْ حرَّم اللهُ حَلَّلُوا وما لَكُمُ قد حلَّل اللهُ حَرَّمُوا
وَجَدُّهُمُ لو كان أوصى بقتلِهِمْ إليكم لَمَا زِدْتُم على ما فَعَلْتُمُ


(1) شجرة طوبى ، الحائري : 1/6 ، وأوردها الذهبي في سير أعلام النبلاء : 15/167 ونسبها لغير الإمام ( عليه السلام ).
(2) ينابيع المودة لذوي القربى ، القندوزي : 3/93.
(3) معجم الأدباء ، الحموي : 13/292 ـ 293 ، لسان الميزان ، ابن حجر 4/239 ـ 240.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 581

فصمتُمْ من الدينِ الحنيفيِّ حَبْلَهُ وعُرْوَتَهُ الوثقى التي ليس تُفْصَمُ (1)

وعن المنهال بن عمرو قال : دخلت على علي بن الحسين ( عليه السلام ) فقلت : كيف أصبحت أصلحك الله ؟ فقال ( عليه السلام ) : ما كنت أرى شيخاً من أهل المصر مثلك لا يدري كيف أصبحنا ، فأمَّا إذ لم تدر أو تعلم فسأخبرك : أصبحنا في قومنا بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون ، إذ كانوا يذبِّحون أبناءهم ، ويستحيون نساءهم ، وأصبح شيخنا وسيِّدنا يُتَقَرَّبُ إلى عدوِّنا بشتمه أو سبِّه على المنابر ، وأصبحت قريش تعدُّ أن لها الفضل على العرب لأن محمداً ( صلى الله عليه وآله ) منها ، لا يعدُّ لها فضل إلاَّ به وأصبحت العربُ مقرَّةً لهم بذلك ، وأصبحت العرب تعدُّ أن لها الفضل على العجم لأن محمداً ( صلى الله عليه وآله ) منها ، لا يُعدُّ لها فضل إلاَّ به ، وأصبحت العجمُ مقرَّةً لهم بذلك ، فلئن كانت العرب صدَّقت أن لها الفضل على العجم ، وصدَّقت قريش أن لها الفضل على العرب ، لأن محمد ( صلى الله عليه وآله ) ( منها ) إن لنا أهل البيت الفضل على قريش لأن محمداً ( صلى الله عليه وآله ) منا ، فأصبحوا يأخذون بحقّنا ، ولا يعرفون لنا حقاً ، فهكذا أصبحنا إذ لم تعلم كيف أصبحنا قال : فظننت أنه أراد أن يُسمع من في البيت (2).
وروي عن الإمام محمد الباقر ( عليه السلام ) أنه قال : لا رعى الله ( حقَّ ) هذه الأمة ، فإنها لم ترع حقَّ نبيِّها ( صلى الله عليه وآله ) في أهله ، أما والله لو تركوا الحقَّ لأهله لما اختلف في الله تعالى اثنان ، وأنشد ( عليه السلام ) يقول :
إنَّ اليهودَ لِحُبِّهم لنبيِّهم أَمِنُوا بَوَائِقَ حَادِثِ الأَزْمَانِ
وذوو الصليبِ بحبِّهم لصليبِهِمْ يمشون زهواً في قُرَى نَجْرَانِ
والمؤمنون بحُبِّ آلِ محمَّد يُرْمَونَ في الآفاق بالنيرانِ (3)


(1) الإمام محمد الجواد ( عليه السلام ) ، الحاج حسين الشاكري : 489.
(2) الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 5/219 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 396 ، تهذيب الكمال ، المزي : 20/399 ، المنتخب من ذيل المذيل ، الطبري : 119.
(3) كتاب الإلمام ، الإسكندراني : 5/301 ، ينابيع المودة ، القندوزي : 3/42 و 249.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 582

وروي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ) أنه قال : احفظوا فينا ما حفظ العبد الصالح في اليتيمين لأبيهما الصالح ، وكان الجدَّ السابع ، وقد ضيَّعت هذه الأمَّة حقَّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بقتل أولاده (1).
قال الفخر الرازي في تفسير سورة « إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ » : فانظركم قتل من أهل البيت ( عليهم السلام ) ، ثم العَالَم ممتلئ منهم ، ولم يبق من بني أمية أحدٌ يُعبأبه (2)
أقول : فهذه قبور آل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مشتتة في البلدان ، نائية عن الأوطان ، ورحم الله شاعر أهل البيت ( عليهم السلام ) دعبل الخزاعي إذ يقول في ذلك :
قبور بكوفان ، وأخرى بطيبة وأخرى بفخّ نالها صلواتِ
وأخرى بأرض الجوزجان محلُّها وقبر بباخمرى لدى الغرباتِ
وقبر ببغداد لنفس زكية تضمنها الرحمن في الغرفاتِ
وقبر بطوس يا لها من مصيبة ألحت على الأحشاء بالزفراتِ
قبور ببطن النهر من جنب كربلا معرسهم فيها بشط فراتِ
توفوا عطاشا بالفرات فليتني توفيت فيهم قبل حين وفاتي

المجلس السابع عشر

ظلامات أهل البيت ( عليهم السلام ) وشيعتهم

روي أنه وقف الإمام الصادق صلوات الله عليه مستتراً في خفية ، يشاهد
المحامل التي حمل عليها عبدالله بن الحسن وأهله في القيود والحديد من المدينة إلى العراق بأمر المنصور الدوانيقي ، فلمَّا مرّوا به بكى ، وقال ( عليه السلام ) : ما وفت الأنصار ولا

(1) مقتل الحسين ( عليه السلام ) ، الخوارزمي : 2/115 ح 47.
(2) تفسير الفخر الرازي : 32/124.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 583

أبناء الأنصار لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، بايعهم على أن يمنعوا محمداً وأبناءه وأهله وذرّيّته مما يمنعون منه أنفسهم وأبناءهم وأهلهم وذراريهم فلم يفوا ، اللهم اشدد وطأتك على الأنصار (1).
وقال منصور النمري رحمه الله تعالى في ظلامة أهل البيت ( عليهم السلام ) :
آلُ النبيِّ وَمَنْ يُحِبُّهُمُ يتطامنون مَخَافَةَ الْقَتْلِ
أَمِنَ النصارى واليهودُ وَهُمْ من أُمَّةِ التوحيدِ في أَزْلِ (2)

وقد أُنْشِدَ الرشيد هذين البيتين بعد موت منصور النمري رحمه الله تعالى ، فقال الرشيد ـ بعد أن أرسل إليه من يقتله ، فوجده قد مات ـ : لقد هممت أن أنبش عظامه فأحرقها.. (3).
وقال في طبقات الشعراء : إن الرشيد بعد سماعه لمدائح النمري في أهل البيت ( عليهم السلام ) ، أمر أبا عصمة بأن يخرج من ساعته إلى الرقّة ، ليسلَّ لسان منصور من قفاه ، ويقطع يده ورجله ، ثمَّ يضرب عنقه ، ويحمل إليه رأسه ، بعد أن يصلب بدنه ، فخرج أبو عصمة لذلك ، فلمَّا صار بباب الرقّة استقبلته جنازة النمري ، فرجع إلى الرشيد فأعلمه ، فقال له الرشيد : ويلي عليك يا بن الفاعلة ، فأَلاَّ إذ صادفته ميِّتاً فأحرقته بالنار! (4).
وروى ابن أبي الحديد المعتزلي أيضاً ، قال : لما ولي خالد بن عبدالله القسري مكة ـ وكان إذا خطب بها لعن علياً والحسن والحسين ( عليهم السلام ) ـ فقال عبيدالله بن كثير السهمي وقد أخذ بأستار الكعبة :
لعن اللهُ مَنْ يسبُّ عليّاً وحسيناً من سُوقَة وَإِمَامِ


(1)شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 6/44 ـ 45 ، مقاتل الطالبيين ، الإصبهاني : 149.
(2) زهر الآداب وثمر الألباب ، القيرواني : 2/650 ، طبقات الشعراء ، ابن المعتز العباسي : 225.
(3)زهر الآداب ، هامش المستطرف : 1/254 ، الشعر والشعراء : 547.
(4) طبقات الشعراء ، ابن المعتز العباسي : 223.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 584

أيُسَبُّ المطهَّرون جُدُوداً والكِرَامُ الآبَاءِ والأعمامِ
يَأْمَنُ الطيرُ والحمامُ وَلاَ يَأْ مَنُ آلُ الرسولِ عندَ المَقَامِ
طِبْتَ بيتاً وطاب أهلُكَ أَهْلا أهلُ بيتِ النبيِّ والإسلام
رحمةُ اللهِ و السلامُ عليهم كلَّما قام قائمٌ بسَلاَمِ (1)

وقال حين عابوه على محبَّته لأهل البيت صلوات الله عليهم :
إنَّ امرءاً أمستَ مَعَايِبُهُ حُبَّ النبيِّ لَغَيْرُ ذي ذَنْبِ
وبني أبي حسن وَوَالِدِهِمْ مَنْ طَابَ في الأَرْحَامِ والصُّلْبِ
أَيُعَدُّ ذنباً أَنْ أُحِبَّهُمُ بل حُبُّهم كَفَّارَةُ الذنبِ (2)

وروى الآبي في نثر الدر بإسناده عن عبدالرحمن بن المثنى ، قال : خطب عبد الملك بن مروان ، فلمَّا انتهى إلى العظة قام إليه رجل من آل صوحان ، فقال : مهلا مهلا ، تأمرون فلا تأتمرون ، وتنهون فلا تنتهون ، وتعظون ولا تتعظون ، أفنقتدي بسيرتكم في أنفسكم ؟ أم نطيع أمركم بألسنتكم ؟ فإن قلتم : اقتدوا بسيرتنا فأنَّى ؟ وكيف ؟ وما الحجَّة ؟ وما النصير من الله باقتداء سيرة الظلمة الفسقة ، الجورة الخونة ، الذين اتّخذوا مال الله دولا ، وعبيده خولا ، وإن قلتم : اقبلوا نصيحتنا ، وأطيعوا أمرنا ، فكيف ينصح لغيره من يغشُّ نفسه ؟ أم كيف تجب الطاعة لمن لم تثبت له عند الله عدالته ؟ وإن قلتم : خذوا الحكمة من حيث وجدتموها ، واقبلوا العظة ممن سمعتموها ، فعلامَ ولَّيناكم أمرنا ، وحكَّمناكم في دمائنا وأموالنا ؟
أمَا علمتم أن فينا مَنْ هو أنطق منكم باللغات ، وأفصح بالعظات ، فتحلحلوا عنها أولا ، فأطلقوا عقالها ، وخلّوا سبيلها ، يبتدر (3) إليها آل الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، الذين

(1) شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 15/256 ، العتب الجميل ، ابن عقيل : 147 ، كتاب الحيوان ، الجاحظ : 3/194.
(2) البيان والتبيين ، الجاحظ 3/359.
(3) في نهاية الإرب : ينتدب إليها.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 585

شرَّدتموهم في البلاد ، وفرَّقتموهم في كل واد ، بل تثبت في أيديكم لانقضاء المدّة ، وبلوغ المهلة ، وعظم المحنة ، إن لكل قائم قدراً لا يعدوه ، ويوماً لايخطوه ، وكتاباً بعده يتلوه « لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا » (1) « وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَىَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ » (2) قال : ثم أُجلس الرجل فطُلب فلم يوجد (3).
قال ابن الرومي :
أَلاَ أيُّها النَّاسُ طَالَ ضريرُكُمْ بآلِ رَسُولِ اللهِ فَاخْشَوا أو ارْتَجُوا
أكُلَّ أوان للنبيِّ محمَّد قتيلٌ زَكِيٌّ بالدِّمَاءِ مُضَرَّجُ
تبيعون فيه الدينَ شَرَّ أئِمَّة فللهِ دينُ اللهِ قَدْ كَادَ يمرجُ

إلى أن قال :
بني المصطفى كم يأكلُ الناسُ شِلْوَكم لِبَلْوَاكُمُ عمَّا قليل مفرجُ
أمَا فِيهِمُ راع لحقِّ نبيِّه وَلاَ خَائفٌ من رَبِّهِ يتحرَّجُ (4)

وأنشد موسى بن داود السلمي لأبيه يرثي الحسين صاحب فخ ومَن قُتل معه :
يَا عَينُ ابكي بِدَمْع منكِ مُنْهَمِرِ فَقَدْ رأيتِ الذي لاقى بنو حَسَنِ
صَرْعَى بِفَخ تجرُّ الريحُ فوقَهُمُ أذيالَها وغوادي الدُّلَّجِ المُزُنِ
حتَّى عَفَتْ أَعْظُمٌ لو كان شَاهَدَها مُحَمَّدٌ ذَبَّ عنها ثمَّ لم تَهُن
مَاذا يقولونَ والماضونَ قَبْلَهُمُ عَلَى الْعَدَاوَةِ والبغضاءِ والإِحَنِ
مَاذا يقولون إِنْ قال النبيُّ لَهُمْ مَاذَا صنعتم بنا في سَالِفِ الزَّمَنِ


(1) سورة الكهف ، الآية : 49.
(2) سورة الشعراء ، الآية : 227.
(3) نثر الدرّ الآبي : 5/203 ـ 204 ، نهاية الإرب ، النويري : 7/249 ، ورواها أيضاً الشيخ المفيد عليه الرحمة في كتابه الأمالي : 280.
(4) مقاتل الطالبيين ، الإصفهاني : 646.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 586

لاَ النَّاسُ من مُضَر حَامَوا وَلاَ غَضِبُوا ولا ربيعةُ والأحياءُ من يَمَنِ
يا ويحَهُمْ كيف لم يَرْعَوا لهم حُرَماً وقد رَعَى الفيلُ حقَّ البيتِ ذي الرُّكُنِ

وقيل : سُمع على مياه غطفان كلِّها  ، ليلة قتل الحسين صاحب فخ  ، هاتف يهتف ويقول :
أَلاَ يَا لَقَومي لِلسَّوَادِ المُصَبِّحِ وَمَقْتَلِ أولادِ النبيِّ بِبَلْدَحِ
ليبكِ حسيناً كلُّ كهل وأمرد من الجنِّ إِنْ لم يَبْكِكَ الإنسُ نُوَّحِ (1)

وكذلك أصبح محبُّ آل البيت ( عليهم السلام ) آنذاك لا يأمن على نفسه وولده من أعداء أهل البيت ( عليهم السلام ) وأعوانهم الظلمة  ، ولا يسلم أيضاً من عذل أولئك الذين ساروا في ركابهم  ، فقد اضطّر الكثير من محبّي أهل البيت ( عليهم السلام ) أن يخفي حبَّه وولاءَه حتى لا يتعرَّض للأذى والجور  ، فمن عُرف يومئذ بولائه لأهل البيت ( عليهم السلام ) لا ينجيه إلاَّ التستُّر  ، أو التنكِّر  ، أو الهرب إلى حيث لايتبعه الطلب. قال الكميت رحمه الله تعالى :
أَلَمْ تَرَني من حُبِّ آلِ محمَّد أروحُ وأغدوا خائفاً أترقَّبُ
كأنّيَ جَانٌ مُحْدِثٌ وكأنّني بهم أُتَّقَى من خَشْيَةِ الْعَارِ أَجْرَبُ
على أيِّ جُرْم أم بأَيَّةِ سيرة أُعَنَّفُ في تَقْرِيظِهِمْ وأُؤَنَّبُ (2)

وقال أبو القاسم الرسي بن إبراهيم بن طباطبا  ، إسماعيل الديباج  ، عندما هرب من المنصور إلى السند :
لَمْ يُرْوِهِ ما أراق البغيُ من دَمِنَا في كلِّ أرض فَلَمْ يَقْصُرْ من الطَّلَبِ
وليس يشفي غليلا في حَشَاه سوى أَنْ لا يُرَى فوقهَا ابنُ بِنْتِ نبي (3)


(1) مقاتل الطالبيين ، أبو الفرج الاصفهاني : 306 ـ 307.
(2) أدب الشيعة  ، الدكتور عبد الحسيب حميدة : 259.
(3) النزاع والتخاصم  ، المقريزي : 51.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 587


ويقول أبو حنيفة أو الطغرائي في جملة أبيات له :
ومتى تَوَلَّى آلَ أحمدَ مُسْلِمٌ قتلوه أَوْ وَصَمُوه بالإلحادِ

وقال أبو فراس الحمداني :
مَا نَالَ منهم بنو حَرْب وإن عَظُمَتْ تلك الجرائرُ إلاَّ دُونَ نيلِكُمُ (1)

ولله درّ شاعر أهل البيت ( عليهم السلام ) ابن حماد رحمه الله تعالى إذ يقول :
لاَ تَأمَنِ الدَّهْرَ إِنَّ الدَّهْرَ ذو غِيَر وذو لسانينِ في الدنيا وَوَجْهَينِ
أَخْنَى على عِتْرَةِ الهادي فَشَتَّتَهُمْ فَمَا ترى جَامعاً منهم بشَخْصَيْنِ
كأَنَّما الدَّهرُ آلَى أَنْ يُبَدِّدَهُمْ كَعَاتِب ذي عِنَاد أَو كَذِي دَيْنِ
بَعْضٌ بطيبةَ مدفونٌ وبعضُهُمُ بكربلاءَ وبعضٌ بالْغَرِيِّينِ
وأرضُ طُوس وسامَّرا وقد ضَمِنَتْ بَغْدَادُ بَدْرَينِ حلاَّ وَسْطَ قبرينِ
يَا سَادتي أَلِمَنْ أنعى أَسَىً وَلِمَنْ أبكي بجَفْنَينِ من عَيْنَي قريحينِ
أبكي على الحَسَنِ المسمومِ مُضْطَهداً أم الحسينِ لُقَىً بين الخميسينِ
أبكي عليه خَضِيبَ الشيبِ من دَمِهِ مُعَفَّرَ الخَدِّ محزوزَ الوريدينِ (2)

المجلس الثامن عشر

ما مني به آل البيت ( عليهم السلام )
وشيعتهم من الأذى والاضطهاد

جاء في بعض زيارات أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) : وأنتم بين صريع في المحراب قد فلق السيف هامته  ، وشهيد فوق الجنازة قد شُكَّت بالسهام أكفانُه  ، وقتيل بالعراء

(1) حياة الإمام الرضا ( عليه السلام )   ، السيد جعفر مرتضى العاملي : 97 ـ 98.
(2) الغدير  ، الشيخ الأميني : 4/162.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 588

قد رُفع فوق القناة رأسه  ، ومكبَّل في السجن رُضَّت بالحديد أعضاؤه  ، ومسموم قد قُطِّعت بجرع السمِّ أمعاؤه (1)   ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون  ، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العليِّ العظيم.
روى ابن شهر آشوب عليه الرحمة في المناقب  ، عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنه قال لأهل الكوفة : أما إنه سيظهر عليكم رجل رحب البلعوم  ، مندحق البطن  ، يأكل ما يجد  ، ويطلب ما لا يجد  ، فاقتلوه  ، ولن تقتلوه  ، ألا وإنّه سيأمركم بسبيّ والبراءة مني  ، فأمَّا السبُّ فسبّوني  ، وأمَّا البراءة منّي فلا تتبرَّؤوا منّي  ، فإنّي ولدت على الفطرة  ، وسبقت إلى الإسلام والهجرة (2).
وروي أن أبا جعفر محمد بن علي الباقر ( عليه السلام ) قال لبعض أصحابه : يا فلان! ما لقينا من ظلم قريش إيانا  ، وتظاهرهم علينا  ، وما لقي شيعتنا ومحبّونا من الناس  ، إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قُبض وقد أخبر أنّا أولى الناس بالناس  ، فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه  ، واحتجَّت على الأنصار بحقّنا وحجّتنا  ، ثمَّ تداولتها قريش واحد بعد واحد حتى رجعت إلينا  ، فنُكثت بيعتُنا  ، ونُصبت الحرب لنا.
ولم يزل صاحب الأمر في صعود كؤود حتى قُتل  ، فبويع الحسن ابنه وعُوهد  ، ثمَّ غُدر به  ، وأُسلم  ، ووثب عليه أهل العراق حتى طُعن بخنجر في جنبه  ، ونُهبت عسكره  ، وعُولجت خلاخيل أمهات أولاده  ، فوادع معاوية  ، وحقن دمه ودماء أهل بيته  ، وهم قليل حق قليل  ، ثمَّ بايع الحسين ( عليه السلام ) من أهل العراق عشرون ألفاً  ، ثمَّ غدروا به  ، وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم  ، وقتلوه.
ثمَّ لم نزل ـ أهل البيت ـ نُستذلّ ونُستضام  ، ونُقصى ونُمتهن  ، ونُحرم ونُقتل  ، ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا  ، ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم

(1) المزار  ، المشهدي : 298.
(2) مناقب آل أبي طالب  ، ابن شهر آشوب : 2/107.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 589

وجحودهم موضعاً يتقرَّبون به إلى أوليائهم  ، وقضاة السوء  ، وعمال السوء في كل بلدة  ، فحدَّثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة  ، ورووا عنَّا ما لم نقله وما لم نفعله  ، ليُبغَّضونا إلى الناس  ، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن ( عليه السلام )   ، فقُتلت شيعتُنا بكل بلدة  ، وقُطعت الأيدي والأرجل على الظنّة  ، وكان من يُذكر بحبِّنا والانقطاع إلينا سُجن  ، أو نُهب ماله  ، أو هُدمت داره.
ثمَّ لم يزل البلاء يشتدُّ ويزداد إلى زمان عبيدالله بن زياد قاتل الحسين ( عليه السلام )   ، ثمَّ جاء الحجاج فقتلهم كلَّ قتلة  ، وأخذهم بكل ظنّة وتهمة  ، حتى إن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحبُّ إليه من أن يقال شيعة علي ( عليه السلام )   ، وحتى صار الرجل الذي يُذكر بالخير ـ ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً ـ يحدِّث بأحاديث عظيمة عجيبة  ، من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة  ، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها  ، ولا كانت ولا وقعت  ، وهو يحسب أنها حقٌّ لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب  ، ولا بقلّة ورع (1).
وروى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدايني في كتاب ( الأحداث )   ، قال : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عُمّاله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمّة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته  ، فقامت الخطباء في كلّ كورة وعلى كل منبر  ، يلعنون علياً  ، ويبرؤون منه  ، ويقعون فيه وفي أهل بيته  ، وكان أشدّ الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة; لكثرة من بها من شيعة علي ( عليه السلام )   ، فاستعمل عليهم زياد ابن سمية  ، وضمَّ إليه البصرة  ، فكان يتتبَّع الشيعة وهو بهم عارف; لأنه كان منهم أيام علي ( عليه السلام )   ، فقتلهم تحت كل حجر ومدر  ، وأخافهم  ، وقطع الأيدي والأرجل  ، وسمل العيون  ، وصلبهم على جذوع النخل  ، وطردهم وشرَّدهم عن العراق  ، فلم يبق بها معروف منهم.

(1) شرح نهج البلاغة  ، ابن أبي الحديد : 11/43  ، كتاب سليم بن قيس :  186 ـ 189.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 590

وكتب معاوية إلى عمَّاله في جميع الآفاق : ألا يجيزوا لأحد من شعية علي وأهل بيته ( عليهم السلام ) شهادة  ، وكتب إليهم : أن انظروا مَنْ قبلَكم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه  ، فأدنوا مجالسهم  ، وقرِّبوهم  ، وأكرموهم  ، واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم  ، واسمه واسم ابيه وعشيرته.
ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه; لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلاة والكساء والحباء والقطائع  ، ويفيضه في العرب منهم والموالي  ، فكثُر ذلك في كل مصر  ، وتنافسوا في المنازل والدنيا  ، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملا من عمَّال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلاَّ كتب اسمه  ، وقرَّبه وشفَّعه  ، فلبثوا بذلك حيناً.
ثمَّ كتب إلى عماله إن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر  ، وفي كل وجه وناحية  ، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين  ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاَّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة  ، فإن هذا أحبُّ إليَّ  ، وأقرُّ لعيني  ، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته  ، وأشدُّ عليهم من مناقب عثمان وفضله.
فقرئت كتبه على الناس  ، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها  ، وجدَّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر  ، وأُلقي إلى معلِّمي الكتاتيب فعلَّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع  ، حتى رووه وتعلَّموه كما يتعلَّمون القرآن  ، وحتى علَّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم  ، فلبثوا بذلك ما شاء الله.
ثم كتب إلى عُمَّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان : انظروا من قامت عليه البيِّنة أنه يحبُّ علياً وأهل بيته ( عليهم السلام ) فامحوه من الديوان  ، وأسقطوا عطاءه ورزقه  ، وشفَّع ذلك بنسخة أخرى : من اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكِّلوا به  ، واهدموا

المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 591

داره  ، فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق ولا سيِّما بالكوفة  ، حتى إن الرجل من شيعة علي ( عليه السلام ) ليأتيه من يثق به فيدخل بيته  ، فيُلقي إليه سرَّه  ، ويخاف من خادمه ومملوكه  ، ولا يحدِّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمنَّ عليه  ، فظهر حديث كثير موضوع  ، وبهتان منتشر  ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة  ، وكان أعظم الناس في ذلك بليَّة القرَّاء المراؤون  ، والمستضعفون الذين يُظهرون الخشوع والنسك  ، فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم  ، ويقرِّبوا مجالسهم  ، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل  ، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديَّانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان  ، فقبلوها ورووها وهم يظنون أنَّها حقّ  ، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تدينَّوا بها.
فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي ( عليه السلام )   ، فازداد البلاء والفتنة  ، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلاَّ وهو خائف على دمه  ، أو طريد في الأرض.
ثمَّ تفاقم الأمر بعد قتل الحسين ( عليه السلام )   ، وولي عبدالملك بن مروان  ، فاشتدَّ على الشيعة  ، وولَّى عليهم الحجاج بن يوسف  ، فتقرَّب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي وموالاة أعدائه  ، وموالاة من يدعي قوم من الناس أنهم أيضاً أعداؤه  ، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم  ، وأكثروا من الغضّ من علي ( عليه السلام ) وعيبه والطعن فيه والشنآن له  ، حتى إن إنساناً وقف للحجاج ـ ويقال إنه جدُّ الأصمعي عبد الملك بن قريب ـ فصاح به : أيُّها الأمير! إن أهلي عقّوني فسمَّوني علياً  ، وإني فقير بائس  ، وأنا إلى صلة الأمير محتاج  ، فتضاحك له الحجاج وقال : للطف ما توسَّلت به  ، وقد ولَّيتك موضع كذا.
وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه ـ وهو من أكابر المحدِّثين وأعلامهم ـ في تأريخه ما يناسب هذا الخبر  ، وقال : إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتُعلت في أيام بني أميّة  ، تقرباً إليهم بما يظنّون أنهم يُرغمون به أنوف بني

المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 592

هاشم (1).
وعن كتاب المنتظم : إن زياداً لمَّا حصبه أهل الكوفة وهو يخطب على المنبر قطع أيدي ثمانين منهم  ، وهمَّ أن يخرب دورهم  ، ويجمِّر نخلهم  ، فجمعهم حتى ملأ بهم المسجد والرحبة ليعرضهم على البراءة من علي ( عليه السلام )   ، وعلم أنهم سيمتنعون  ، فيحتجّ بذلك على استئصالهم وإخراب بلدهم.
وفي رواية عن عبدالله بن السائب وكثير بن الصلت قالا : جمع زياد بن أبيه أشراف الكوفة في مسجد الرحبة ليحملهم على سبِّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) والبراءة منه  ، فمن أبى ذلك عرضه على السيف (2) والناس من ذلك في كرب عظيم  ، فأغفيت فإذا أنا بشخص طويل العنق  ، أهدل أهدب  ، قد سدَّ ما بين السماء والأرض  ، فقلت له : من أنت ؟ قال : أنا النقاد ذو الرقبة  ، طاعون  ، بُعثت إلى زياد  ، فانتبهت فزعاً  ، فسمعنا الواعية عليه  ، وإذا غلام لزياد قد خرج إلى الناس فقال : انصرفوا  ، فإن الأمير عنكم مشغول  ، وسمعنا الصياح من داخل القصر  ، فما برحنا أن خرج الإذن فقال : انصرفوا فإن الأمير قد شُغل  ، وإذا الفالج قد ضربه  ، فقلت في ذلك وأنشأت :
قَدْ جَشَّم الناسَ أمراً ضاق ذَرْعُهُمُ بحَمْلِهِ حين ناداهُم إلى الرحبه
يدعو على نَاصِرِ الإسلامِ حين يرى لَهُ عَلَى المشركين الطولَ والغَلَبه
ما كان منتهياً عمَّا أَرَادَ بِهِ حتَّى تَنَاوَلَهُ النقَّادُ ذو الرَّقَبَه
فَأَسْقَطَ الشِّقَّ منه ضَرْبةٌعجباً (3) كَمَا تَنَاوَلَ ظُلْمَاً صَاحِبَ الرحبه (4)


(1) شرح نهج البلاغة  ، ابن أبي الحديد : 11/44 ـ 46.
(2) مروج الذهب  ، المسعودي : 2/69.
(3) في كنز الفوائد : فأسقط الشق منه حربة ثبتت.
(4) راجع : مناقب آل أبي طالب  ، ابن شهر آشوب : 2/169  ، الأمالي  ، الشيخ الطوسي : 233 ح 5  ، المحاسن والمساوي  ، البيهقي : 1/39  ، الفائق في غريب الحديث  ، جار الله الزمخشري : 3/414  ، شرح نهج البلاغة  ، ابن أبي الحديد : 3/199  ، البداية والنهاية  ، ابن كثير : 8/68.

السابق السابق الفهرس التالي التالي