المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 423

قتلوه بعدَ علم منهمُ أنه خامسُ أصحابِ الكسا
ميتٌ تبكي له فاطمةٌ وأبوها وعليُ ذو العُلى (1)

المجلس الثاني ، من ليلة الحادية عشر

أحداث ووقائع ما بعد مقتل الحسين (عليه السلام )
سلب الحسين ( عليه السلام ) ورُض جسده الطاهر وحرق الخيام

قال الراوي فيما جرى بعد قتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) : ثم أقبلوا على سلب الحسين ( عليه السلام ) ، فأخذ قميصه إسحاق بن حوية الحضرمي ، فلبسه فصار أبرص ، وامتعط شعره ، وروي أنه وجد في قميصه مائة وبضع عشرة ما بين رمية وطعنة وضربة (2) ، وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : وجد بالحسين ( عليه السلام ) ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وأربعون ضربة (3).
وفي رواية عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : وجد الحسين ( عليه السلام ) نيف وسبعون طعنة ، ونيف وسبعون ضربة بالسيف (4).
وفي رواية عن الباقر ( عليه السلام ) أنه وجد به ثلاث مائة وبضعة وعشرون جراحة (5) وروي وقيل أزيد ، وقيل ألف وتسع مائة جراحة ، وكانت السهام في

(1) مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 3/267.
(2) مدينة المعاجز ، البحراني : 4/77.
(3) دلائل الإمامة ، الطبري : 178.
(4)الآمالي ، الطوسي : 677 ح 10 ، بحار الأنوار : 45/82 ح 8.
(5) مناقب آل أبي طالب : 3/258 ، لواعج الأشجان ، السيد محسن الأمين : 192.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 424

درعه كالشوك في جلد القنفذ (1).
ويقول الحاج هاشم الكعبي عليه الرحمة :
وَمُبدَّدُ الأوصالِ ألزم حُزْنُهُ شَمْلَ الكَمَالِ فَلاَزَمَ التَّبْديدَا
وَمُجَرَّحٌ مَا غَيَّرت منه القَنَا حَسَناً وَمَا أَخْلَقْن منه جَدِيدا

ويقول السيد حيدر الحلي عليه الرحمة :
عفيراً متى عَايَنَتْهُ الكُمَاةُ يَخْتَطِفُ الرُّعْبُ أَلْوَانَها
فَمَا أَجْلَت الحَرْبُ عَنْ مِثْلِهِ قتيلا يُجَبِّنُ شُجْعَانَها

قال الراوي : وأخذ سراويله أبجر بن كعب التيمي ، وروي أنه صار زَمِناً مُقعداً من رجليه ، وأخذ عمامته أخنس بن مرثد بن علقمة الحضرمي ، وقيل : جابر بن يزيد الأودي ، فاعتمَّ بها فصار معتوهاً ، وفي غير رواية السيّد : فصار مجذوماً ، وأخذ درعه مالك بن بشير الكندي فصار معتوهاً.
قال السيِّد ابن طاووس عليه الرحمة : وأخذ نعليه الأسود بن خالد ، وأخذ خاتمه بجدل بن سليم الكلبي ، فقطع إصبعه ( عليه السلام ) مع الخاتم.
لهفي عَلَى تلك الأَنَامِلِ قُطِّعَتْ ولو انَّها اتَّصَلَتْ لكانت أبحرا

وهذا ـ يعني بجدل ـ أخذه المختار فقطع يديه ورجليه ، وتركه يتشحَّط في دمه حتَّى هلك لعنه الله.
وروي أن رجلا بلا أيدِ ولا أرجل وهو أعمى ، يقول : ربِّ نجني من النار ، فقيل له : لم تبق لك عقوبة ، ومع ذلك تسأل النجاة من النار ؟ قال : كنت فيمن قتل الحسين ( عليه السلام ) بكربلا ، فلمَّا قتل رأيت عليه سراويل وتّكةً حسنةً بعدما سلبه الناس ، فأردت أن أنزع منه التكة ، فرفع يده اليمنى ووضعها على التكة ، فلم أقدر على دفعها ، فقطعت يمينه ، ثمَّ هممت أن آخذ التكة فرفع شماله فوضعها على تكته

(1) مناقب آل أبي طالب : 3/258.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 425

فقطعت يساره ، ثمَّ هممت بنزع التكة من السراويل ، فسمعت زلزلة ، فخفت وتركته ، فألقى الله عليَّ النوم ، فنمت بين القتلى فرأيت كأن محمداً ( صلى الله عليه وآله ) أقبل ومعه علي وفاطمة ، فأخذوا رأس الحسين فقبَّلته فاطمة ، ثمَّ قالت : يا ولدي ، قتلوك قتلهم الله ، من فعل هذا بك ؟ فكان يقول : قتلني شمر ، وقطع يداي هذا النائم ـ وأشار إليَّ ـ فقالت فاطمة لي : قطع الله يديك ورجليك ، وأعمى بصرك ، وأدخلك النار ، فانتبهت وأنا لا أبصر شيئاً ، وسقطت مني يداي ورجلاي ، ولم يبق من دعائها إلاّ النار (1).
قال السيد ابن طاووس عليه الرحمة : وأخذ قطيفة له ( عليه السلام ) كانت من خزّ قيس بن الأشعث ، وأخذ درعه البتراء عمر بن سعد ، فلمَّا قتل عمر بن سعد وهبها المختار لأبي عمرة قاتله ، وأخذ سيفه جميع بن الخلق الأزدي ، ويقال : رجل من بني تميم يقال له : الأسود بن حنظلة ، وفي رواية ابن سعد : أنه أخذ سيفه القلافس النهشلي ، وزاد محمد بن زكريا أنه وقع بعد ذلك إلى بنت حبيب بن بديل ، وهذا السيف المنهوب ليس بذي الفقار ، فإنَّ ذلك مذخوراً ومصوناً مع أمثاله من ذخائر النبوة والإمامة.
قال : وجاءت جارية من ناحية خيمة الحسين ( عليه السلام ) فقال لها رجل : يا أمة الله ، إن سيِّدك قُتل ، قالت الجارية : فأسرعت إلى سيدتي وأنا أصيح ، فقمن في وجهي وصحن ، قال : وتسابق القوم ، على نهب بيوت آل الرسول ، وقرَّة عين الزهراء البتول ، حتى جعلوا ينزعون ملحفة المرأة عن ظهرها ، وخرجن بنات الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وحرمه يتساعدن على البكاء ، ويندبن لفراق الحماة والأحباء.
ولله در الحاج حسن القيم ( رحمه الله ) اذ يقول :
وكريمة الحسبين بابن زعيمها هتفت عشية لا يُجيب زعيمُ


(1) بحار الأنوار ، المجلسي : 45/311 ـ 312 ، مقتل الحسين ( عليه السلام ) ، الخوارزمي : 2/102.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 426

هتكوا الحريم وأنت أمنع جانباً بحمية فيها تُصان حريمُ
ترتاع من فزع العدو يتيمة ويأنُّ من ألَم السياط يتيمُ

وروى حميد بن مسلم ، قال : رأيت امرأة من بكر بن وائل كانت مع زوجها في أصحاب عمر بن سعد ، فلمَّا رأت القوم قد اقتحموا على نساء الحسين ( عليه السلام ) فسطاطهن ، وهم يسلبونهن أخذت سيفاً وأقبلت نحو الفسطاط ، فقالت : يا آل بكر بن وائل ، أتُسلب بنات رسول الله ؟ لا حكم إلاّ لله ، يا لثارات رسول الله ، فأخذها زوجها وردَّها إلى رحله.
ولله درّ السيد محمد حسين القزويني عليه الرحمة : إذ يقول :
مِنْ ثَاكِل حَرَّى الفُؤَادِ مَرُوعة أضحت تُجَاذِبُها العِدَى حِبْرَاتِها
ويتيمة فَزِعَتْ لِجَسْمِ كفيلِها حَسْرَى القَنَاعَ تَعُجُّ في أَصْوَاتِها
أَهْوَتْ على جِسْمِ الحسينِ وقَلْبُها الـ مَصْدُوعُ كاد يذوبُ من حَسْرَاتِها
وَقَعَتْ عليه تَشمُّ مَوْضِعَ نَحْرِهِ وَعُيُونُها تَنْهَلُّ في عَبْرَاتِها
تَرْتَاعُ مِنْ ضَرْبِ السِّيَاطِ فتنثني تدعو سَرَايا قَوْمِها وَحُمَاتِها (1)

وجاء في بعض الأخبار عن أبي مخنف قال : ولما ارتفع صياح النساء صاح ابن سعد : ويلكم اكبسوا عليهنَّ الأخبية ، وأضرموهنَّ ناراً ، فأحرقوها ومن فيها ، فقال رجل منهم : ويلك يا بن سعد أماكفاك قتل الحسين ( عليه السلام ) وأهل بيته وأنصاره عن إحراق أطفاله ونسائه ، كأنك تريد أن يخسف الله بنا الأرض ، فتبادروا إلى نهب النساء الطاهرات (2).
قال السيد ابن طاووس عليه الرحمة : ثمَّ أخرجوا النساء من الخيمة ، وأشعلوا فيها النار ، فخرجن حواسرَ مسلَّبات حافيات باكيات ، يمشين سبايا في

(1) مثير الأحزان ، الجواهري : 113.
(2) ثمرات الأعواد ، الهاشمي : 280.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 427

أسر الذلّة ، وقلن : بحقّ الله إلاَّ ما مررتم بنا على مصرع الحسين ، فلما نظرت النسوة إلى القتلى صحن وضربن وجوههن ، قال : فوالله لا أنسى زينب بنت علي ( عليه السلام ) وهي تندب الحسين ، وتنادي بصوت حزين وقلب كئيب : وامحمداه ، صلَّى عليك مليكُ السماء ، هذا حسينٌ مرمَّلٌ بالدماء ، مقطَّعُ الأعضاء ، وبناتُك سبايا ، إلى الله المشتكى ، وإلى محمَّد المصطفى ، وإلى علي المرتضى ، وإلى حمزة سيد الشهداء ، وامحمداه ، هذا حسينٌ بالعراء ، يسفي عليه الصَّبَا ، قتيل أولاد البغايا ، يا حزناه ، يا كرباه ، اليوم مات جدّي رسول الله ، يا أصحاب محمداه ، هؤلاء ذرّيّة المصطفى يُساقون سوق السبايا.
قُمْ يَا عَليُّ فما هذا القُعُودُ وَمَا عَهْدي تَغُضُّ عَلَى الأقذاءِ أجفانا
وَانْهَضْ لعلَّكَ مِنْ أَسْر أَضَرَّ بِنَا تَفُكُّنا وَتَوَلَّى دَفْنَ قَتْلاَنا
هذا حُسَينٌ بِلاَ غُسْل وَلاَ كَفَن عَار تَجُولُ عليه الخيلُ مَيْدَانا

وجاء في بعض الروايات أنها قالت ( عليها السلام ) : يا محمّداه ، بناتك سبايا ، وذرّيّتك مقتَّلة ، تسفي عليهم ريح الصَّبا ، وهذا حسين مجزوز الرأس من القفا ، مسلوب العمامة والرداء ، بأبي من عسكره في يوم الاثنين نهبا ، بأبي من فسطاطه مقطع العُرى ، بأبي من لا هو غائب فيرتجى ، ولا جريح فيداوى ، بأبي من نفسي له الفداء ، بأبي المهموم حتى قضى ، بأبي العطشان حتى مضى ، بأبي من شيبته تقطر بالدماء ، بأبي من جدّه رسول إله السماء ، بأبي من هو سبط نبيِّ الهدى ، بأبي محمد المصطفى ، بأبي خديجة الكبرى ، بأبي علي المرتضى ، بأبي فاطمة الزهراء سيِّدة النساء ، بأبي من ردَّت عليه الشمس حتى صلَّى ، قال : فأبكت والله كلَّ عدوٍّ وصديق ، ولله درّ الشيخ صالح الكواز الحلي عليه الرحمة إذ يقول :
وَبَاكية حَرَّى الفُؤَادِ دُمُوعُها تَصَعَّدُ عن قَلْب مِنَ الوَجْدِ ذائبِ
تَصُكُّ يديها في الترائِبِ لَوْعَةً فَتُلْهِبُ ناراً مِنْ وَرَاءِ الترائبِ


المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 428

شَكَتْ وَارْعَوَتْ إذْ لَمْ تَجِدْ مَنْ يُجيبُها وَمَا في الحَشَى مَا في الحَشَى غيرُ لاَهِبِ
وَمَدَّتْ إلى نَحْوِ الغَرِيَّيْنِ طَرْفَها وَنَادَتْ أباها خَيْرَ مَاش وَرَاكِبِ
أَبَا حَسَن إِنَّ الذين نَمَاهُمُ أبو طَالِب في الطفِّ ثَارٌ لِطَالِبِ
تَعَاوَتْ عليهم مِنْ بني صَخْرِ عُصْبَةٌ لِثَاراتِ يَوْمِ الفَتْحِ حَرَّى الجَوَانِبِ
فَسَامُوهُمُ إمَّا الحَيَاةَ بِذِلَّة أوِ الموتَ فاختاروا أعَزَّ المَرَاتِبِ
فَهَاهُمْ عَلَى الرَّمْضَاءِ مَالَتْ رِقَابُهُمْ وَلمَّا تَمِلْ مِنْ ذِلَّة في الشَّوَاغِبِ
سُجُودٌ عَلَى حَرِّ الصَّعيدِ كأنَّما لَهَا بِمَحَاني الطفِّ بَعْضُ الَمحَارِبِ
وممّا عَلَيْكَ اليومَ هَوَّنَ مَا جَرَى ثَوَوا لاَ كَمَثْوَى خَائِفِ المَوْتِ نَاكِبِ
أُصِيبُوا ولكنْ مُقْبِلِيْنَ دِمَاؤُهُمْ تَسِيلُ عَلَى الأَقْدَامِ دُوْنَ العَرَاقِبِ (1)

قال السيد ابن طاووس عليه الرحمة : ثمَّ إن سكينة اعتنقت جسد الحسين ( عليه السلام ) ، فاجتمع عدّة من الأعراب حتى جرُّوها عنه ، قال : ثمَّ نادى عمر بن سعد في أصحابه : من ينتدب للحسين فيوطىء الخيل ظهره ؟ فانتدب منهم عشرة وهم : إسحاق بن حوية الذي سلب الحسين ( عليه السلام ) قميصه ، وأخنس بن مرثد ، وحكيم بن الطفيل السنبسي ، وعمرو بن صبيح الصيداوي ، ورجاء بن منقذ العبدي ، وسالم بن خيثمة الجعفي ، وواحظ بن ناعم ، وصالح بن وهب الجعفي ، وهانىء بن ثبيت الحضرمي ، وأسيد بن مالك ، فداسوا الحسين ( عليه السلام ) بحوافر خيلهم حتى رضّوا ظهره وصدره. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال الراوي : وجاء هولاء العشرة حتى وقفوا على ابن زياد ، فقال أسيد بن مالك أحد العشرة :
نحن رَضَضْنَا الصَّدْرَ بَعْدَ الظَّهْرِ بِكُلِّ يَعْبُوب شَدِيدِ الأَسْرِ

فقال ابن زياد : من أنتم ؟ فقالوا : نحن الذين وطأنا بخيولنا ظهر الحسين حتى

(1) رياض المدح والرثاء ، الشيخ حسين القديحي : 160.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 429

طحّنا جناجن صدره ، فأمر لهم بجائزة يسيرة.
قال أبو عمرو الزاهد : فنظرنا في هؤلاء العشرة فوجدناهم جميعاً أولاد زناء ، وهؤلاء أخذهم المختار فشدَّ أيديهم وأرجلهم بسكك الحديد ، وأوطأ الخيل ظهورهم حتى هلكوا (1).
ولله درّ الشفهيني عليه الرحمة إذ يقول :
وَلِصَدْرِهِ تَطَأُ الخُيُولُ وَطَالما بِسَرِيرِهِ جِبْريلُ كان مُوَكَّلا
عُقِرَتْ أَمَا عَلِمَتْ لأيِّ مُعَظَّم وَطَأَتْ وَصَدْر غَادَرَتْه مُفَصَّلا
وَلِثَغْرِه يَعْلُو القَضِيبُ وطالما شَرَفاً له كان النبيُّ مُقَبِّلا
وبنوه في أَسْرِ الطُّغَاةِ صَوَارِخٌ وَلْهَاءُ مُعْوِلَةٌ تُجَاوِبُ مُعْوِلا
وَنِسَاؤُهُ مِنْ حَوْلِهِ يَنْدُبْنَه بأبي النِّسَاءَ النَّادِبَاتِ الثُّكَّلا
يَنْدُبْنَ أَكْرَمَ سيِّد من سَادَة هَجَرُوا القُصُورَ وآنَسُوا وَحْشَ الفَلاَ
بأبي بُدُوراً في المدينةِ طُلَّعاً أَمْسَتْ بِأَرْضِ الغاضريَّةِ أُفَّلاَ (2)

المجلس الثالث ، من ليلة الحادية عشر

جواد الإمام الحسين ( عليه السلام ) وسلب النساء
ودخول القوم على الإمام زين العابدين (عليه السلام )

قال صاحب المناقب ومحمد بن أبي طالب : قُتل الحسين ( عليه السلام ) باتفاق الروايات يوم عاشوراء عاشر المحرَّم ، سنة إحدى وستين ، وهو ابن أربع وخمسين سنة وستة أشهر ونصف. قالا : وأقبل فرس الحسين ( عليه السلام ) وقد عدا من بين أيديهم

(1) اللهوف ، ابن طاووس : 76 ـ 80.
(2) الغدير ، الشيخ الأميني : 6/388 ـ 389.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 430

أن لا يؤخذ ، فوضع ناصيته في دم الحسين ( عليه السلام ) ثم أقبل يركض نحو خيمة النساء ، وهو يصهل ويضرب برأسه الأرض عند الخيمة حتى مات.
وقال بعض الرواة : وأقبل الفرس يدور حوله ( عليه السلام ) ويلطخ ناصيته بدمه فصاح ابن سعد دونكم الفرس فإنه من جياد خيل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأحاطت به الخيل فجعل يرمح برجليه حتى قتل أربعين رجلا وعشرة أفراس ، فقال ابن سعد دعوه لننظر ما يصنع فلما أمِن الطلب أقبل نحو الحسين ( عليه السلام ) يُمرغ ناصيته بدمه ويشمه ويصهل صهيلا عالياً ، قال أبو جعفر الباقر ( عليه السلام ) كان يقول : الظليمة ، الظليمة ، من أمة قتلت ابن بنت نبيها ، وتوجه نحو المخيم بذلك الصهيل ، فلما نظرن النساء إلى الجواد مخزيا والسرج عليه ملويا خرجن من الخدور ناشرات الشعور ، على الخدود لاطمات ، وللوجوه سافرات ، وبالعويل داعيات ، وبعد العز مذللات ، وإلى مصرع الحسين ( عليه السلام ) مبادرات.
فواحدة تحنو عليه تضمُّه وأُخرى عليه بالرداء تظلِّل
وأُخرى بفيض النحر تصبغ شعرها وأخرى تفدِّيه وأخرى تقبِّل
وأخرى على خوف تلوذ بجنبه وأخرى لما قد نالها ليس تعقل (1)

وفي رواية المناقب ومحمد بن أبي طالب قالا : فلمَّا نظر أخوات الحسين وبناته وأهله إلى الفرس ليس عليه أحد ، رفعن أصواتهن بالبكاء والعويل ، ووضعت أم كلثوم يدها على أم رأسها ونادت : وامحمّداه ، واجدّاه ، وانبيّاه ، واأبا القاسماه ، واعليّاه ، واجعفراه ، واحمزتاه ، واحسناه ، هذا حسين بالعراء ، صريع بكربلاء ، محزوز الرأس من القفا ، مسلوب العمامة والرداء ، ثمَّ غُشي عليها.
فأقبل أعداء الله لعنهم الله حتى أحدقوا بالخيمة ، ومعهم شمر ، فقال : ادخلوا فاسلبوا بزَّتهن ، فدخل القوم لعنهم الله فأخذوا ما كان في الخيمة حتى أفضوا إلى

(1) مقتل الحسين ( عليه السلام ) ، المقرم : 283 ـ 284.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 431

قرط كان في أذن أم كلثوم أخت الحسين ( عليه السلام ) ، فأخذوه وخرموا أذنها ، حتى كانت المرأة لتنازع ثوبها على ظهرها حتى تُغلب عليه ، وأخذ قيس ابن الأشعث لعنه الله قطيفة الحسين ( عليه السلام ) ، فكان يُسمَّى قيس القطيفة ، وأخذ نعليه رجل من بني أود ، يقال له الأسود ، ثم مال الناس على الورس والحُلي والحُلل والإبل فانتهبوها.
قال العلاّمة المجلسي عليه الرحمة : رأيت في بعض الكتب أن فاطمة الصغرى قالت : كنت واقفة بباب الخيمة ، وأنا أنظر إلى أبي وأصحابه مجزَّرين كالأضاحي على الرمال ، والخيول على أجسادهم تجول ، وأنا أفكِّر فيما يقع علينا بعد أبي من بني أمية ، أيقتلوننا أو يأسروننا ؟ فإذا برجل على ظهر جواده يسوق النساء بكعب رمحه ، وهنَّ يلذن بعضهن ببعض ، وقد أخذ ما عليهن من أخمرة وأسورة ، وهنَّ يصحن : واجدّاه ، واأبتاه ، واعليّاه ، واقلّة ناصراه ، واحسناه ، أما من مجير يجيرنا ؟ أما من ذائد يذود عنا ؟ قالت : فطار فؤادي وارتعدت فرائصي ، فجعلت أجيل بطرفي يمنياً وشمالا على عمتي أم كثلوم خشية منه أن يأتيني.
فبينا أنا على هذه الحالة وإذا به قد قصدني ، ففرت منهزمة ، وأنا أظنّ أني أسلم منه ، وإذا به قد تبعني ، فذهلت خشية منه ، وإذا بكعب الرمح بين كتفي ، فسقطت على وجهي ، فخرم أذني وأخذ قرطي ومقنعتي ، وترك الدماء تسيل على خدّي ، ورأسي تصهره الشمس ، وولَّى راجعاً إلى الخيم ، وأنا مغشيٌّ عليَّ ، وإذا أنا بعمّتي عندي تبكي ، وهي تقول : قومي نمضي ، ما أعلم ما جرى على البنات وأخيك العليل ، فقمت وقلت : يا عمَّتاه ، هل من خرقة أستر بها رأسي عن أعين النُظَّار ؟ فقالت : يا بنتاه ، وعمّتك مثلك ، فرأيت رأسها مكشوفة ، ومتنها قد اسودّ من الضرب ، فما رجعنا إلى الخيمة إلاَّ وهي قد نُهبت وما فيها ، وأخي علي بن الحسين مكبوب على وجهه ، لا يطيق الجلوس من كثرة الجوع والعطش والأسقام ، فجعلنا نبكي عليه ويبكي علينا.

المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 432

ولله درّ الحجّة الشيخ محمد آل نمر عليه الرحمة إذ يقول :
لَقَدْ هَجَمَتْ حَرْبٌ عليها خِبَاءَهَا فكم بُرْقُع عنها يُمَاطُ وَيُنْزَعُ
وكم حُرَّة كالشَّمْسِ تُدْمَى بِوَكْزِها وَكَمْ طِفْلَة كالبَدْرِ بالضَّرْبِ تُوْجَعُ
وكم ثَاكِل عَزَّت ثَكُولا وَرُضَّع لها انتحبت عن بَلَّةِ الثَّدْيِ أَدْمُعُ
وكم مِنْ خِبَاً أَمْسَى إلى النَّارِ مَوْقِداً بحيثُ غَدَتْ في وَجْهِ عِزِّكَ تَسْفَعُ
وكم مِنْ حَصان لَمْ تَرَ الشَّمْسَ قد غَدَتْ وَلاَ مَرْجِعٌ تَأْوي إليه وتَرْجِعُ
وَعَاطِشَة وَدَّتْ بأنَّ دُمُوعَها تَبُلُّ بها حَرَّ الغليلِ وَتنقعُ
وَمُزْعَجَة من هَجْمَةِ الخَيْلِ خِدْرَها تَضُمُّ الحَشَى بالرَّاحَتَيْنِ وَتَجْمَعُ
وَبَاكية تُخْفِي الَمخَافَةُ صَوْتَها وَيُظْهِرُهُ منها الشَّجَاءُ فَتْفَزَعُ
وَمُوْحَشَة بَاتَتْ عَلَى فَقْدِ قَوْمِهَا تَنُوحُ كَمَا نَاحَ الحَمَامُ وَتَسْجَعُ (1)

قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : قال حميد بن مسلم : فانتهينا إلى علي بن الحسين ( عليهما السلام ) وهو منبسط على فراش ، وهو شديد المرض ، ومع شمر جماعة من

(1) رياض المدح والرثاء ، الشيخ حسين القديحي : 292.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 433

الرجّالة ، فقالوا له : ألا نقتل هذا العليل ؟ فقلت : سبحان الله! أتقتل الصبيان ؟ إنما هذا صبي ، وإنه لما به ، فلم أزل حتَّى دفعتهم عنه.
وفي رواية الطبري في المنتخب قال : وشهد علي بن الحسين الأصغر مع أبيه كربلاء وهو ابن ثلاث وعشرين سنة ، وكان مريضاً نائماً على فراش ، فلمَّا قُتل الحسين ( عليه السلام ) قال شمر بن ذي الجوشن : اقتلوا هذا ، فقال له رجل من أصحابه : سبحان الله! أنقتل فتى حدثاً مريضاً لم يقاتل ، وجاء عمر بن سعد فقال : لا تعرضوا لهؤلاء النسوة ولا لهذا المريض (1).
ويقول السيِّد جعفر الحلي عليه الرحمة في ذلك :
وا لهفتاه لزينِ العابدينَ لُقَىً مِنْ طُوْلِ عِلَّتِهِ والسُّقْمِ قَدْ نُهِكَا
كانت عِيَادُتُه منهم سِيَاطَهُمُ وفي كُعُوبِ القَنَا قالوا البَقَاءُ لكا
جَرُّوه فانتهبوا النُّطْعَ المُعَدَّ لَهُ وأوطأوا جِسْمَهُ السَّعْدَانَ وَالْحَسَكَا (2)

وجاء عمر بن سعد فصاحت النساء في وجهه وبكين ، فقال لأصحابه : لا يدخل أحد منكم بيوت هؤلاء النساء ، ولا تعرضوا لهذا الغلام المريض ، فسألته النسوة أن يسترجع ما أُخذ منهن ليستترن به ، فقال : من أخذ من متاعهم شيئاً فليردَّه ، فوالله ما ردَّ أحد منهم شيئاً ، فوكَّل بالفسطاط وبيوت النساء وعلي بن الحسين ( عليه السلام ) جماعة ممن كان معه ، وقال : احفظوهم لئلا يخرج منهم أحد ولا يُساء إليهم (3).
عظَّم الله لكم الأجر أيها المؤمنون ، وأحسن الله لكم العزاء في مصاب الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، فما حال زينب وسائر نساء الحسين ( عليه السلام ) وأهل بيته في مثل هذه

(1) المنتخب من ذيل المذيل ، الطبري : 119.
(2) رياض المدح والرثاء ، الشيخ حسين القديحي : 232.
(3) الإرشاد ، المفيد : 2/112 ـ 113.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 434

الليلة ، فهي أعظم ليلة مرَّت على بنات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حيث رأين ـ بعد ذلك العزّ الشامخ ـ رجالهنّ صرعى على بوغاء كربلاء ، وهن مسلَّبات مضروبات باكيات نادبات ، ليس معهن حميٌّ ، وهن في أيدي العدى ، ولله درّ الشيخ صالح الكواز عليه الرحمة إذ يقول :
أُصْوَاتُها بُحَّت وهنَّ نَوائحٌ يَنْدُبْنَ قَتْلاَهُنَّ بالإيماءِ
أنَّى الْتَفَتْنَ رَأَيْنَ ما يُدْمي الحَشَى من نَهْبِ أبيات وَحَرْقِ خِبَاءِ
تَشْكُو الهَوَانَ لِنَدْبِهَا وكأنَّه مُغْض وَمَا فيه من الإغْضَاءِ
وتقولُ عَاتِبةً عليه وَمَا عَسَى يُجْدِي عِتَابُ مُوَزَّعِ الأَشْلاَءِ
قَدْ كُنْتَ لِلْبُعَدَاءِ أَقْرَبَ مُنْجِد واليومَ أَبْعَدَهُمْ عن القُرَبَاءِ
أُسْبَى وَمِثْلُكَ مَنْ يَحُوطُ سُرَادِقي هذا لَعَمْرُكَ أَعْظَمُ البُرَحَاءِ
قد كنتُ في الحَرَمِ المنيعِ خبيئةً واليومَ نَقْعُ الْيَعْمُلاَتِ خِبَائي
ماذا أقولُ إذا التقيتُ بشامت إنّي سُبِيْتُ وإِخوتي بِإزَائي
ما كنتُ أَحْسَبُ أَنْ يَهُونَ عليكُمُ ذُلِّي وتسييري إلى الطُّلَقَاءِ
حَكَمَ المَنُونُ عليكُمُ أَنْ تُعْرِضُوا عنّي وَإنْ طَرَقَ الْهَوَانُ فِنَائي
هذي يَتَامَاكُم تَلُوذُ ببعضِها ولكم نِسَاءٌ تلتجي بِنِسَاءِ (1)

المجلس الأول ، من اليوم الحادي عشر

خروج السبايا من كربلاء ومرورهم على القتلى

قال محمد بن أبي طالب رحمه الله تعالى : ثم إن عمر بن سعد سرَّح رأس الحسين ( عليه السلام ) يوم عاشورا مع خولي بن يزيد الأصبحي ، وحميد بن مسلم إلى ابن

(1) رياض المدح والرثاء ، الشيخ الحسين القديحي : 161 ـ 162.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 435

زياد ، ثمَّ أمر برؤوس الباقين من أهل بيته وأصحابه فقُطعت ، وسرَّح بها مع شمر بن ذي الجوشن إلى الكوفة ، وأقام ابن سعد يومه ذلك وغده إلى الزوال ، فجمع قتلاه فصلّى عليهم ودفنهم ، وترك الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه منبوذين بالعراء ، فلمَّا ارتحلوا إلى الكوفة عمد أهل الغاضرية من بني أسد فصلّوا عليهم ودفنوهم ، وقال ابن شهر آشوب : وكان يجدون لأكثرهم قبوراً ويرون طيوراً بيضاً (1).
قال السيد محسن الأمين عليه الرحمة في لواعج الأشجان : ثم نادى ( أي ابن سعد ) في الناس بالرحيل ، وتوجَّه إلى الكوفة ، وحمل معه نساء الحسين ( عليه السلام ) وبناته وأخواته ومن كان معه من الصبيان ، وفيهم علي بن الحسين ( عليهما السلام ) قد نهكته العلة ، والحسن بن الحسن المثنى... وتدلّ بعض الروايات على وجود الباقر ( عليه السلام ) معهم ، وساقوهم كما يساق سبي الترك والروم ، فقال النسوة : بحق الله إلاّ ما مررتم بنا على مصرع الحسين ( عليه السلام ) ، فمرّوا بهم على الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه وهم صرعى ، فلمَّا نظر النسوة إلى القتلى صحن وضربن وجوههن ، قال الراوي : فوالله لا أنسى زينب بنت علي وهي تندبُ الحسين ( عليه السلام ) ، وتنادي بصوت حزين وقلب كئيب : يا محمداه ، صلّى عليك مليكُ السماء ، هذا حسينك مرمَّل بالدماء ، مقطَّع الأعضاء ، وبناتك سبايا ، إلى الله المشتكى ، وإلى محمّد المصطفى ، وإلى علي المرتضى ، وإلى فاطمة الزهراء ، وإلى حمزة سيِّد الشهداء ، يا محمَّداه ، هذا حسين بالعرى ، تسفي عليه ريح الصَّبا ، قتيل أولاد البغايا ، واحزناه ، واكرباه عليك يا أبا عبدالله ، اليوم مات جدّي رسول الله ، يا أصحاب محمد! هؤلاء ذرّيّة المصطفى يساقون سوق السبايا.
وفي بعض الروايات أنها ( عليها السلام ) قالت : وامحمّداه ، بناتك سبايا وذرّيّتك مقتَّلة ، تسفي عليهم ريح الصَّبا ، وهذا حسين محزوز الرأس من القفا ، مسلوب العمامة والرداء ، بأبي من أضحى عسكره في يوم الإثنين نهباً ، بأبي من فسطاطه مقطَّع

(1) بحار الأنوار ، المجلسي : 45/62.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 436

العُرى  ، بأبي من لا غائب فيرتجى  ، ولا جريح فيداوى  ، بأبي من نفسي له الفدى  ، بأبي المهموم حتى قضى  ، بأبي العطشان حتى مضى  ، بأبي من شيبته تقطر بالدماء  ، بأبي من جدّه رسول إله السماء  ، بأبي من هو سبط نبيِّ الهدى  ، بأبي محمد المصطفى  ، بأبي خديجة الكبرى  ، بأبي علي المرتضى  ، بأبي فاطمة الزهراء  ، بأبي من ردَّت له الشمس حتى صلَّى  ، قال : فأبكت والله كل عدوّ وصديق.
ثم إن سكينة بنت الحسين ( عليه السلام ) اعتنقت جسد أبيها  ، فاجتمع عدَّة من الأعراب حتى جرّوها عنه (1) ولله درّ السيد رضا الهندي عليه الرحمة إذ يقول :
همَّت لِتَقْضِيَ من تَوْدِيعِهِ وَطَراً وقد أبى سَوْطُ شِمْر أَنْ تُوَدِّعَهُ
فَفَارَقَتْهُ ولكنْ رَأْسُهُ مَعَهَا وَغَابَ عَنْها ولكنْ قَلْبُهَا مَعَهُ (2)

ثم إنها ( عليها السلام ) سافرت هذا السفر المحزن وهي حزينة القلب  ، كسيرة الخاطر باكية العين  ، ناحلة الجسم  ، مرتعدة الأعضاء  ، قد فارقت أعزَّ الناس عليها وأحبَّهم إليها  ، تحفّ بها النساء الأرامل والأيامى الثواكل  ، وأطفال يستغيثون من الجوع والعطش  ، ويحيط بها القوم اللئام من قتلة أهل بيتها  ، وظالمي أهلها وناهبي رحلها  ، كشمر بن ذي الجوشن  ، وزجر بن قيس  ، وسنان بن أنس وخولي بن يزيد الأصبحي  ، وحرملة بن كاهل  ، وحجار بن أبجر  ، وأمثالهم ـ لعنهم الله ـ ممن لم يخلق الله في قلوبهم الرحمة فإذا دمعت عيناها أهوت عليها السياط  ، وإن بكت أخاها لطمتها الأيدي القاسية  ، وهكذا كان سفرها هذا (3).
ولله درّ من قال من الشعراء في وداعها للحسين ( عليه السلام ) ومسيرها من كربلاء :
أَحِجَابَ صَوْني في أَمَانِ اللهِ عَزَّ عليَّ مَسْرَانا وَجِسْمُكَ مُوْدَعُ


(1) لواعج الأشجان  ، السيد محسن الأمين : 197 ـ 198.
(2) مثير الأحزان  ، الجواهري : 137.
(3) وفيات الأئمة ( عليهم السلام )  ، مجموعة من علماء البحرين والقطيف : 452.

السابق السابق الفهرس التالي التالي