المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 164

فعلوا سلَّط الله عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذَّل فِرَق الأمم.
ثمّ سار ( عليه السلام ) من بطن العقبة حتى نزل شراف (1) فلما كان السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء وأكثروا ، ثمَّ سار حتى انتصف النهار ، فبينما هو يسير إذ كبَّر رجل من أصحابه ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : الله أكبر ، لمِ كبَّرت ؟
فقال : رأيت النخل ، فقال له جماعة ممن صحبه : والله إن هذا المكان ما رأينا فيه نخلة قط ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : فما ترونه ؟ قالوا : والله نراه أسنّة الرماح وآذان الخيل ، فقال : وأنا والله أرى ذلك.
ثم قال ( عليه السلام ) : ما لنا ملجأ نلجأ إليه ونجعله في ظهورنا ونستقبل القوم بوجه واحد ؟ فقلنا له : بلى ، هذا ذو جشم (2) إلى جنبك ، فمل إليه عن يسارك ، فإن سبقت إليه فهو كما تريد ، فأخذ إليه ذات اليسار ، وملنا معه ، فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل ، فتبيَّنَّاها وعدلنا ، فلمّا رأونا عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا كأن أسنّتهم اليعاسيب ، وكأن راياتهم أجنحة الطير ، فاستبقنا إلى ذي جشم فسبقناهم إليه ، وأمر الحسين ( عليه السلام ) بأبنيته فضُربت ، وجاء القوم زهاء ألف فارس ، مع الحر بن يزيد التميمي حتى وقف هو وخيله مقابل الحسين ( عليه السلام ) في حرّ الظهيرة ، والحسين وأصحابه معتّمون متقلدون أسيافهم.
فقال الحسين ( عليه السلام ) لفتيانه : اسقوا القوم وارووهم من الماء ، ورشّفوا الخيل ترشيفاً ، ففعلوا وأقبلوا يملأون القصاع والطساس من الماء ، ثمَّ يدنونها من الفرس ، فإذا عبَّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عُزلت عنه ، وسُقي آخر ، حتى سقوها عن آخرها.
فقال علي بن الطعان المحاربي : كنت مع الحر يومئذ ، فجئت في آخر من جاء

(1) كقطام : موضع أو ماءة لبني أسد ، أو جبل عال.
(2) ذو خشب خ ل ، وفي المصدر : ذو حسم.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 165

من أصحابه ، فلمّا رأى الحسين ( عليه السلام ) ما بي وبفرسي من العطش قال : أنخ الراوية ـ والراوية عندي السقاء ـ ثمَّ قال : يا ابن الأخ ، أنخ الجمل ، فأنخته ، فقال : اشرب ، فجعلت كلَّما شربت سال الماء من السقاء ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : اخنث السقاء ـ أي اعطفه ـ فلم أدر كيف أفعل ، فقام فخنثه فشربت وسقيت فرسي.
وكان مجيء الحرّ بن يزيد من القادسية ، وكان عبيدالله بن زياد بعث الحصين ابن نمير وأمره أن ينزل القادسية ، وتقدَّم الحر بين يديه في ألف فارس يستقبل بهم الحسين ( عليه السلام ) فلم يزل الحرّ موافقاً للحسين ( عليه السلام ) حتى حضرت صلاة الظهر فأمر الحسين ( عليه السلام ) الحجاج بن مسروق أن يؤذّن.
فلمَّا حضرت الإقامة خرج الحسين ( عليه السلام ) في إزار ورداء ونعلين ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمَّ قال : أيها الناس ، إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم ، وقدمت عليَّ رسلكم أن : اقدم علينا فليس لنا إمام ، لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق ، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم ، فأعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم ومواثيقكم ، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم.
فسكتوا عنه ولم يتكلَّموا كلمة ، فقال للمؤذِّن : أقم ، فأقام الصلاة ، فقال للحر : أتريد أن تصلي بأصحابك ؟ فقال الحر : لا ، بل تصلّي أنت ونصلّي بصلاتك ، فصلّى بهم الحسين ( عليه السلام ) ، ثمَّ دخل فاجتمع عليه أصحابه ، وانصرف الحر إلى مكانه الذي كان فيه ، فدخل خيمة قد ضُربت له ، فاجتمع إليه جماعة من أصحابه ، وعاد الباقون إلى صفّهم الذي كانوا فيه ، ثمَّ أخذ كل رجل منهم بعنان فرسه وجلس في ظلّها.
فلمّا كان وقت العصر أمر الحسين ( عليه السلام ) أن يتهيأوا للرحيل ففعلوا ، ثمَّ أمر مناديه فنادى بالعصر وأقام ، فاستقدم الحسين ( عليه السلام ) وقام فصلَّى بالقوم ، ثمَّ سلَّم

المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 166

وانصرف إليهم بوجهه  ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : أمّا بعد أيها الناس  ، فإنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله عنكم  ، ونحن أهل بيت محمد ( صلى الله عليه وآله ) أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم  ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان  ، فإن أبيتم إلاَّ الكراهية لنا  ، والجهل بحقّنا  ، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم وقدمت عليَّ به رسلكم انصرفت عنكم.
فقال له الحر : أنا والله ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر ؟ فقال الحسين ( عليه السلام ) لبعض أصحابه : يا عقبة بن سمعان  ، أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إليَّ  ، فأخرج خرجين مملوءين صحفاً فنثرت بين يديه  ، فقال له الحر : لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك  ، وقد أُمرنا أنا إذا لقيناك لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيدالله بن زياد.
فقال له الحسين ( عليه السلام ) : الموت أدنى إليك من ذلك  ، ثمَّ قال لأصحابه : قوموا فاركبوا  ، فركبوا  ، وانتظر حتى ركبت نساؤه  ، فقال لأصحابه : انصرفوا  ، فلمَّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف  ، فقال الحسين ( عليه السلام ) للحر : ثكلتك أمّك  ، ما تريد ؟ فقال له الحر : أما لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أمه بالثكل كائناً من كان  ، ولكن والله مالي إلى ذكر أمك من سبيل إلاّ بأحسن ما نقدر عليه.
فقال له الحسين ( عليه السلام ) : فما تريد ؟ قال : أريد أن أنطلق بك إلى الأمير عبيدالله ابن زياد  ، فقال : إذاً والله لا أتّبعك  ، فقال : إذاً والله لا أدعك  ، فترادّا القول ثلاث مرّات  ، فلما كثر الكلام بينهما قال له الحر : إني لم أؤمر بقتالك  ، إنما أُمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة  ، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا يردّك إلى المدينة  ، يكون بيني وبينك نصفاً حتى أكتب إلى الأمير عبيدالله بن زياد  ، فلعلّ الله أن يرزقني العافية من أن أُبتلى بشيء من أمرك فخذ هاهنا.

المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 167

فتياسر عن طريق العذيب والقادسية  ، وسار الحسين ( عليه السلام ) وسار الحر في أصحابه يسايره  ، وهو يقول له : يا حسين  ، إني أذكّرك الله في نفسك  ، فإني أشهد لئن قاتلت لتُقتلنَ  ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : أفبالموت تخوِّفني ؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني ؟ وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمه وهو يريد نصرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فخوَّفه ابن عمه وقال : أين تذهب فإنك مقتول ؟ فقال :
سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى إذا مَا نَوَى حقّاً وجاهد مسلما
وآسى الرجالَ الصالحينَ بنفسِهِ وفارق مثبوراً وودّع مُجرما
فإنْ عشتُ لم أَنْدَمْ وإن متُّ لم أُلَمْ كفى بك ذلاًّ أن تعيشَ وتُرْغَما (1)

قال : ثم أقبل الحسين ( عليه السلام ) على أصحابه وقال : هل فيكم أحد يعرف الطريق على غير الجادة ؟ فقال الطرماح : نعم يا ابن رسول الله  ، أنا أخبر الطريق  ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : سر بين أيدينا  ، فسار الطرماح واتّبعه الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه  ، وجعل الطرماح يرتجز ويقول :
يَا نَاقتي لا تَذْعري من زجري وامضي بنا قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْر
بخيرِ فتيان وخيرِ سُفْرِ آلِ رَسُولِ اللهِ آلِ الفَخْرِ
السادةِ البِيْضِ الوُجُوهِ الزُّهْرِ الطَّاعنينَ بالرِّمَاحِ السُّمْرِ
الضاربينَ بالسُّيُوفِ البُتْرِ حتَّى تُحلِّي بكريمِ الفَخْرِ
عمَّره اللهُ بَقَاءِ الدَّهْرِ

يَا مَالِكَ النفعِ معاً والضرِ أَيِّد حسيناً سيّدي بالنصرِ
على الطُّغَاةِ من بقايا الكُفْرِ على اللعينينِ سليلي صَخْرِ
يزيدَ لا زالَ حَلِيفَ الخَمْرِ وابن زيادِ العهرِ وابن العهرِ

قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فلمَّا سمع الحر ذلك تنحَّى عنه  ، فكان يسير

(1) الإرشاد  ، المفيد : 2/76 ـ 81  ، بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/375 ـ 378.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 168

بأصحابه ناحية والحسين ( عليه السلام ) في ناحية  ، حتى انتهوا إلى عذيب الهجانات  ، ثم مضى الحسين ( عليه السلام ) حتى انتهى إلى قصر بني مقاتل فنزل به  ، وإذا هو بفسطاط مضروب  ، فقال : لمن هذا ؟ فقيل : لعبيدالله بن الحر الجعفي  ، قال : ادعوه إليَّ  ، فلمَّا أتاه الرسول قال له : هذا الحسين بن علي ( عليهما السلام ) يدعوك  ، فقال عبيدالله : إنّا لله وإنّا إليه راجعون  ، والله ما خرجت من الكوفة إلاّ كراهية أن يدخلها الحسين وأنا فيها  ، والله ما أريد أن أراه و لا يراني.
فأتاه الرسول فأخبره  ، فقام إليه الحسين ( عليه السلام ) فجاء حتى دخل عليه وسلَّم وجلس  ، ثم دعاه إلى الخروج معه  ، فأعاد عليه عبيدالله بن الحر تلك المقالة واستقاله مما دعاه إليه  ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : فإن لم تكن تنصرنا فاتق الله أن لا تكون ممن يقاتلنا  ، فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ثم لا ينصرنا إلاّ هلك  ، فقال له : أمّا هذا فلا يكون أبداً إن شاء الله.
ثم قام الحسين ( عليه السلام ) من عنده حتى دخل رحله  ، ولما كان في آخر الليل أمر فتيانه بالاستقاء من الماء  ، ثمَّ أمر بالرحيل فارتحل من قصر بني مقاتل (1).
وفي رواية الشيخ الصدوق عليه الرحمة في الأمالي أنه التقى معه في القطقطانية  ، قال عليه الرحمة : إن الحسين ( عليه السلام ) لما نزل القطقطانية حين مسيره إلى الكوفة دعا عبيدالله بن الحر الجعفي إلى نصرته  ، فامتنع عبيدالله عن الإجابة  ، وقدَّم للحسين ( عليه السلام ) فرسه  ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : لا حاجة لنا فيك ولا في فرسك  ، وما كنت متخذ المضلين عضداً (2).
ويروى أن عبيدالله بن الحر ندم بعد مقتل الحسين ( عليه السلام ) وأخذته الحسرة والأسف على تركه نصرة الحسين ( عليه السلام )   ، فقال :

(1) الإرشاد  ، المفيد : 2/81 ـ 82  ، بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/378 ـ 379.
(2) الأمالي  ، الصدوق : 219.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية

فيالكِ حسرةً مادمتُ حيّاً تَرَدَّدُ بين صدري والتراقي
حسينٌ حين يطلُبُ بَذْلَ نصري على أهلِ الضلالةِ والنفاقِ
غداةَ يقولُ لي بالقصرِ قولا أتترُكُنا وتُزْمِعُ بالفراقِ
ولو أنّي أُوَاسيه بنفسي لنلتُ كرامةً يومَ التَّلاَقِ
مع ابن المصطفى روحي فِداه تولَّى ثمَّ ودَّع بانطلاقِ
فلو فَلَقَ التلهُّفُ قَلْبَ حيٍّ لهمَّ اليومَ قلبي بانفلاقِ
فقد فاز الأولى نصروا حسيناً وخاب الآخرون ذوو النفاقِ (1)

قال عقبة بن سمعان : فسرنا معه ساعة  ، فخفق ( عليه السلام ) وهو على ظهر فرسه خفقة  ، ثم انتبه وهو يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون  ، والحمد لله رب العالمين  ، ففعل ذلك مرتين أو ثلاثاً  ، فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين ( عليه السلام ) فقال : ممَ حمدت الله واسترجعت ؟ قال : يا بني  ، إني خفقت خفقة فعنَّ لي فارس على فرس وهو يقول : القوم يسيرون  ، والمنايا تسير إليهم  ، فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا  ، فقال له : يا أبتِ  ، لا أراك الله سوءاً  ، ألسنا على الحقّ ؟ قال : بلى  ، والله الذي مرجع العباد إليه  ، فقال : فإنّنا إذاً ما نبالي  ، أن نموت محقين  ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : جزاك الله من ولد خير ما جزى ولداً عن والده.
فلمَّا أصبح نزل وصلَّى بهم الغداة  ، ثم عجَّل الركوب وأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفرِّقهم فيأتيه الحر بن يزيد فيردّه وأصحابه  ، فجعل إذا ردَّهم نحو الكوفة ردّاً شديدا امتنعوا عليه فارتفعوا  ، فلم يزالوا يتسايرون كذلك حتى انتهوا إلى نينوى ـ المكان الذي نزل به الحسين ( عليه السلام ) ـ فإذا راكب على نجيب له  ، عليه السلاح  ، متنكِّب قوساً مقبل من الكوفة  ، فوقفوا جميعاً ينتظرونه  ، فلمّا انتهى إليهم سلَّم على الحرّ وأصحابه  ، ولم يسلِّم على الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه  ، ودفع إلى الحر كتاباً من

(1) ذوب النضار  ، ابن نما الحلي : 72.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 170

عبيدالله بن زياد لعنه الله  ، فإذا فيه : أما بعد  ، فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي هذا ويقدم عليك رسولي  ، ولا تنزله إلاّ بالعراء في غير خضر وعلى غير ماء  ، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري  ، والسلام.
فلما قرأ الكتاب قال لهم الحر : هذا كتاب الأمير عبيدالله  ، يأمرني أن أجعجع بكم في المكان الذي يأتيني كتابه  ، وهذا رسوله وقد أمره أن لا يفارقني حتى أنفذ أمره فيكم  ، فنظر يزيد بن المهاجر الكندي ـ وكان مع الحسين ( عليه السلام ) ـ إلى رسول ابن زياد فعرفه فقال له : ثكلتك أمك  ، ماذا جئت فيه ؟ قال : أطعت إمامي ووفيت ببيعتي  ، فقال له ابن المهاجر : بل عصيت ربَّك  ، وأطعت إمامك في هلاك نفسك  ، وكسبت العار والنار  ، وبئس الإمام إمامك  ، قال الله عزَّ وجلّ : «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ» (1) فإمامك منهم  ، وأخذهم الحرّ بالنزول في ذلك المكان على غير ماء ولا في قرية  ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : دعنا ـ ويحك ـ ننزل هذه القرية أو هذه ـ يعني نينوى والغاضرية ـ أو هذه ـ يعني شفية ـ قال : لا والله ما أستطيع ذلك  ، هذا رجل قد بعث إليَّ عيناً عليَّ  ، فقال له زهير بن القين : إني والله لا أرى أن يكون بعد الذي ترون إلاّ أشد مما ترون  ، يا ابن رسول الله  ، إن قتال هؤلاء القوم الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم  ، فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به  ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : ما كنت لأبدأهم بالقتال  ، ثمَّ نزل  ، وذلك اليوم يوم الخميس  ، وهو اليوم الثاني من المحرم سنة إحدى وستين (2).
وقال السيد ابن طاووس رحمه الله : فقام الحسين ( عليه السلام ) خطيباً في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه  ، ثمَّ قال : إنه قد نزل من الأمر ما قد ترون  ، وإن الدنيا تغيَّرت وتنكَّرت وأدبر معروفها  ، ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء  ، وخسيس عيش

(1) سورة القصص  ، الآية : 41.
(2) الإرشاد  ، المفيد : 2/82 ـ 84  ، بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/379 ـ 381.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 171

كالمرعى الوبيل  ، ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به  ، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه  ، ليرغب المؤمن في لقاء ربه حقاً حقاً  ، فإني لا أرى الموت إلاّ سعادة  ، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً.
فقام زهير بن القين فقال : قد سمعنا ـ هداك الله يا ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ـ مقالتك  ، ولو كانت الدنيا لنا باقية  ، وكنا فيها مخلدين  ، لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها.
قال : ووثب هلال بن نافع البجلي فقال : والله ما كرهنا لقاء ربنا  ، وإنا على نيّاتنا وبصائرنا  ، نوالي من والاك  ، ونعادي من عاداك.
قال : وقام برير بن خضير فقال : والله يا ابن رسول الله  ، لقد منَّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك  ، فتُقطَّع فيك أعضاؤنا  ، ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة.
قال : ثم إن الحسين ( عليه السلام ) قام وركب وسار  ، وكلما أراد المسير يمنعونه تارة ويسايرونه أخرى حتى بلغ كربلاء  ، وكان ذلك في اليوم الثاني من المحرم (1).
وفي المناقب : فقال له زهير : فسر بنا حتى ننزل بكربلاء  ، فإنها على شاطىء الفرات  ، فنكون هنالك  ، فإن قاتلونا قاتلناهم  ، واستعنا الله عليهم  ، قال : فدمعت عينا الحسين ( عليه السلام ) ثم قال : اللهم إني أعوذ بك من الكرب والبلاء  ، ونزل الحسين ( عليه السلام ) في موضعه ذلك  ، ونزل الحر بن يزيد حذاءه في ألف فارس  ، ودعا الحسين ( عليه السلام ) بدواة وبيضاء  ، وكتب إلى أشراف الكوفة ممن كان يظنّ أنه على رأيه : بسم الله الرّحمن الرّحيم  ، من الحسين بن علي إلى سليمان بن صرد  ، والمسيب بن نجبة  ، ورفاعة بن شداد  ، وعبدالله بن وأل  ، وجماعة المؤمنين.
أمّا بعد  ، فقد علمتم أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد قال في حياته : من رأى سلطاناً جائراً مستحلا لحُرم الله  ، ناكثاً لعهد الله  ، مخالفاً لسنة رسول الله  ، يعمل في عباد الله

(1) اللهوف  ، السيد ابن طاووس : 48 ـ 49  ، بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/381.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 172

بالإثم والعدوان  ، ثمَّ لم يغيِّر بقول ولا فعل  ، كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله  ، وقد علمتم أن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان  ، وتولّوا عن طاعة الرحمن  ، وأظهروا الفساد  ، وعطَّلوا الحدود  ، واستأثروا بالفيء  ، وأحلّوا حرام الله  ، وحرَّموا حلاله  ، وإني أحقّ بهذا الأمر لقرابتي من رسول الله ( صلى الله عليه وآله )   ، وقد أتتني كتبكم  ، وقدمت عليَّ رسلكم ببيعتكم  ، أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني  ، فإن وفيتم لي ببيعتكم فقد أصبتم حظّكم ورشدكم  ، ونفسي مع أنفسكم  ، وأهلي وولدي مع أهاليكم وأولادكم  ، فلكم بي أسوة  ، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهودكم وخلعتم بيعتكم  ، فلعمري ما هي منكم بنكر  ، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي  ، والمغرور من اغترَّ بكم  ، فحظَّكم أخطأتم  ، ونصيبَكم ضيَّعتم  ، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه  ، وسيغني الله عنكم  ، والسلام.
ثم طوى الكتاب وختمه ودفعه إلى قيس بن مسهر الصيداوي ـ وساق الحديث كما مرَّ ـ ثم قال : ولما بلغ الحسين ( عليه السلام ) قتل قيس استعبر باكياً  ، ثمَّ قال : اللهم اجعل لنا ولشيعتنا عندك منزلا كريماً  ، واجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك  ، إنك على كل شيء قدير.
قال : فوثب إلى الحسين ( عليه السلام ) رجل من شيعته ـ يقال له هلال بن نافع البجلي ـ فقال : يا ابن رسول الله  ، أنت تعلم أن جدَّك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يقدر أن يُشرب الناس محبته  ، ولا أن يرجعوا إلى أمره ما أحبَّ  ، وقد كان منهم منافقون يعدون بالنصر  ، ويضمرون له الغدر  ، يلقونه بأحلى من العسل  ، ويخلفونه بأمرَّ من الحنظل  ، حتى قبضه الله إليه  ، وإن أباك علياً رحمة الله عليه قد كان في مثل ذلك  ، فقوم قد أجمعوا على نصره وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين  ، حتى أتاه أجلُه  ، فمضى إلى رحمة الله ورضوانه  ، وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة  ، فمن نكث عهده  ، وخلع بيعته  ، فلن يضرَّ إلاَّ نفسه  ، والله مغن عنه  ، فسر بنا راشداً

المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 173

معافىً  ، مشرِّقاً إن شئت  ، وإن شئت مغرِّباً  ، فوالله ما أشفقنا من قدر الله  ، ولا كرهنا لقاء ربِّنا  ، وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا  ، نوالي من والاك  ، ونعادي من عاداك.
ثم وثب إليه برير بن خضير الهمداني فقال : والله يا بن رسول الله  ، لقد منَّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك  ، تُقطَّع فيه أعضاؤنا  ، ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة بين أيدينا  ، لا أفلح قوم ضيَّعوا ابن بنت نبيِّهم  ، أفٍّ لهم غداً ماذا يلاقون ؟ ينادون بالويل والثبور في نار جهنم.
قال : فجمع الحسين ( عليه السلام ) ولده وإخوته وأهل بيته  ، ثمَّ نظر إليهم فبكى ساعة  ، ثمَّ قال : اللهم إنا عترة نبيك محمد  ، وقد أُخرجنا وطُردنا وأُزعجنا عن حرم جدنا  ، وتعدَّت بنو أمية علينا  ، اللهم فخذ لنا بحقنا  ، وانصرنا على القوم الظالمين.
قال : فرحل من موضعه حتى نزل في يوم الأربعاء أو يوم الخميس بكربلاء  ، وذلك في الثاني من المحرم سنة إحدى وستين.
ثم أقبل على أصحابه فقال ( عليه السلام ) : الناس عبيد الدنيا  ، والدين لعق على ألسنتهم  ، يحوطونه مادرَّت معايشهم  ، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الديانون  ، ثمَّ قال : أهذه كربلاء ؟ فقالوا : نعم يا ابن رسول الله  ، فقال : هذا موضع كرب وبلاء  ، ههنا مناخ ركابنا  ، ومحطّ رحالنا  ، ومقتل رجالنا  ، ومسفك دمائنا.
قال : فنزل القوم وأقبل الحر حتى نزل حذاء الحسين ( عليه السلام ) في ألف فارس  ، ثم كتب إلى ابن زياد يخبره بنزول الحسين بكربلا (1).
وفي رواية أخرى : قال الحسين ( عليه السلام ) : وما اسم هذا المكان ؟ قالوا له : كربلاء  ، قال : ذات كرب وبلاء  ، ولقد مرَّ أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفين وأنا معه  ، فوقف فسأل عنه  ، فأخبر باسمه  ، فقال : هاهنا محطّ ركابهم  ، وهاهنا مهراق

(1) بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/381 ـ 383.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 174

دمائهم  ، فسُئل عن ذلك فقال : ثقل لآل بيت محمد  ، ينزلون هاهنا (1).
وقبض قبضة منها فشمَّها وقال : هذه والله هي الأرض التي أخبر بها جبرئيل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنني أقتل فيها  ، أخبرتني أم سلمة (2).
وفي رواية عن أبي مخنف في مقتله بإسناده عن الكلبي أنه قال : وساروا جميعاً إلى أن أتوا إلى أرض كربلاء  ، وذلك في يوم الأربعاء  ، فوقف فرس الحسين ( عليه السلام ) من تحته  ، فنزل عنها وركب أخرى فلم ينبعث من تحته خطوة واحدة  ، ولم يزل يركب فرساً بعد فرس حتى ركب سبعة أفراس وهن على هذا الحال  ، فلما رأى الإمام ذلك الأمر الغريب قال ( عليه السلام ) : ما يقال لهذه الأرض ؟ قالوا : أرض الغاضرية  ، قال : فهل لها اسم غير هذا ؟ قالوا : تسمَّى نينوى  ، قال : هل لها اسم غير هذا ؟ قالوا : تسمَّى بشاطىء الفرات  ، قال : هل لها اسم غير هذا ؟ قالوا : تسمَّى كربلاء.
فتنفّس الصعداء وقال : أرض كرب وبلاء  ، ثم قال : قفوا ولا ترحلوا منها  ، فهاهنا والله مناخ ركابنا  ، وهاهنا والله سفك دمائنا  ، وهاهنا والله هتك حريمنا  ، وهاهنا والله قتل رجالنا  ، وهاهنا والله ذبح أطفالنا  ، وهاهنا والله تزال قبورنا  ، وبهذه التربة وعدني جدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولا خُلف لقوله (3).
ولله درّ الحجة الشيخ علي الجشي عليه الرحمة إذ يقول :
لم أنسَ إذْ وَقَفَ الجوادُ بكربلا بابنِ البتولةِ والعدى حَفَّتْ بِهِ
يَا مُهْرُ لِمْ لا سِرْتَ عن وادي البلا والكربِ خوفاً من بلاه وكربِهِ
أَوَهَلْ إليك اللهُ أَوْحَى أَنَّ في واديه مَصْرَعَهُ ومصرعَ صَحْبِهِ (4)


(1) الأخبار الطوال  ، الدينوري : 252 ـ 253.
(2) كلمات الإمام الحسين ( عليه السلام )   ، الشيخ الشريفي : 374.
(3) الدمعة الساكبة  ، البهبهاني : 4/256.
(4)الشواهد المنبرية  ، الشيخ علي الجشي : 45.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 175


ولله درّ المرحوم الشيخ الفرطوسي إذ يقول :
هذه كربلاءُ دارُ البلايا وهي كربٌ مشفوعةٌ ببلاءِ
هاهنا هاهنا تحطُّ رحالٌ للمنايا على صعيدِ الفَنَاءِ
هاهنا تُذْبَحُ الذراري فَتَرْوَى تُرْبَةُ الأرضِ من سُيُولِ الدِّمَاءِ
هاهنا تُقْتَلُ الرِّجَالُ وَتُسْبَى بَعْدَ قَتْلِ الرجالِ خيرُ نساءِ
هاهنا تُحْرَقُ الخيامُ فَتَأْوي من خِبَاء مذعورةً لخباءِ
هاهنا تُنْهَبُ الملاحفُ منها وتُعَرَّى من الحلي في العَرَاءِ
هاهنا يُلْهِبُ الظما كلَّ قلب يتلظَّى وَقْداً لبردِ الرواءِ
فتموتُ الأطفالُ وهي عُطاشى والأواني تَجُفُّ من كلِّ مَاءِ
ويُجَرُّ العليلُ من فوقِ نُطْع سحبوه بغلظة وجَفَاءِ
وتشالُ الرؤوسُ فوقَ عوال وتُعَافُ الأجسامُ في الرمضاءِ
وصفايا الزهراءِ تُحْمَلُ أسرى فوق نُوْق عُجْف بغيرِ وِطَاءِ
يومَ عاشورَ أنت يومٌ أريعوا بك آلُ الرسولِ في كربلاءِ (1)

المجلس الثالث ، من اليوم الخامس

مرور أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بكربلاء
وبكاؤه على الحسين (عليه السلام)

جاء في بعض زيارات أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) : يا مواليَّ  ، فلو عاينكم المصطفى  ، وسهام الأمة معرقة في أكبادكم  ، ورماحهم مشرعة في نحوركم  ، وسيوفها مولغة في دمائكم  ، يشفي أبناء العواهر غليل الفسق من ورعكم  ، وغيظ

(1) ملحمة أهل البيت ( عليهم السلام )   ، الفرطوسي : 3/274 ـ 275.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 176

الكفر من إيمانكم  ، وأنتم بين صريع في المحراب قد فلق السيف هامته  ، وشهيد فوق الجنازة قد شُكَّت بالسهام أكفانه  ، وقتيل بالعراء قد رفع فوق القناة رأسه  ، ومكبَّل في السجن رُضَّت بالحديد أعضاؤه  ، ومسموم قد قطِّعت بجرع السمِّ أمعاؤه  ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون  ، ولا حوله ولا قوّة إلاَّ بالله العليِّ العظيم  ، ولله درّ الشيخ عبدالحسين الحياوي إذ يقول :
يعزُّ على الطهرِ البتولِ بأن ترى عزيزاً لها ملقىً وأكفانُهُ العَفْرُ
يعزُّ عليها أَنْ تراه محرَّماً عليه فُرَاتُ الماءِ وهو لها مَهْرُ
يعزُّ على المختارِ أن سليلَهُ يُرَضُّ بعتب العادياتِ له صَدْرُ
فَلاَ صبرَ محمودٌ بقتلِ ابنِ فاطم وليس لمن لم يجرِ مَدْمَعُهُ عُذْرُ (1)

روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة عن ابن عباس قال : كنت مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في خرجته إلى صفين  ، فلمَّا نزل بنينوى وهو بشط الفرات قال بأعلى صوته : يا ابن عباس  ، أتعرف هذا الموضع ؟ قلت له : ما أعرفه يا أمير المؤمنين  ، فقال ( عليه السلام ) : لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتى تبكي كبكائي.
قال : فبكى طويلا حتى اخضلّت لحيته  ، وسالت الدموع على صدره  ، وبكينا معاً وهو يقول : أوه أوه  ، مالي ولآل أبي سفيان ؟ مالي ولآل حرب حزب الشيطان وأولياء الكفر ؟ صبراً يا أبا عبدالله  ، فقد لقي أبوك مثل الذي تلقى منهم.
ثمَّ دعا بماء فتوضَّأ وضوء الصلاة  ، فصلَّى ما شاء الله أن يصلي  ، ثمَّ ذكر نحو كلامه الأول إلاَّ أنه نعس عند انقضاء صلاته وكلامه ساعة  ، ثمَّ انتبه فقال : يا ابن عباس  ، فقلت : ها أنا ذا  ، فقال : ألا أحدِّثك بما رأيت في منامي آنفاً عند رقدتي ؟ فقلت : نامت عيناك ورأيت خيراً يا أمير المؤمنين.
قال : رأيت كأني برجال قد نزلوا من السماء  ، معهم أعلام بيض  ، قد تقلَّدوا

(1) مثير الأحزان  ، الجواهري : 146.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 177

سيوفهم وهي بيض تلمع  ، وقد خطّوا حول هذه الأرض خطّة  ، ثم رأيت كأن هذه النخيل قد ضربت بأغصانها الأرض تضطرب بدم عبيط  ، وكأني بالحسين سخلي وفرخي ومضغتي ومخي قد غرق فيه  ، يستغيث فيه فلا يغاث  ، وكأن الرجال البيض قد نزلوا من السماء  ، ينادونه ويقولون : صبراً آل الرسول  ، فإنكم تُقتلون على أيدي شرار الناس  ، وهذه الجنة ـ يا أبا عبدالله ـ إليك مشتاقة  ، ثم يُعزّونني ويقولون : يا أبا الحسن أبشر  ، فقد أقرَّ الله به عينك يوم يقوم الناس لربِّ العالمين.
ثمَّ انتبهت هكذا  ، والذي نفس عليٍّ بيده  ، لقد حدَّثني الصادق المصدَّق أبو القاسم ( صلى الله عليه وآله ) أني سأراها في خروجي إلى أهل البغي علينا  ، وهذه أرض كرب وبلاء  ، يُدفن فيها الحسين ( عليه السلام ) وسبعة عشر رجلا من ولدي وولد فاطمة ( عليها السلام )   ، وإنها لفي السماوات معروفة  ، تذكر أرض كرب وبلاء  ، كما تذكر بقعة الحرمين  ، وبقعة بيت المقدس.
ثمَّ قال لي : يا ابن عباس  ، اطلب في حولها بعر الظباء  ، فوالله ما كذبت ولا كُذبت  ، وهي مصفرَّة  ، لونها لون الزعفران  ، قال ابن عباس : فطلبتها فوجدتها مجتمعة  ، فناديته : يا أمير المؤمنين  ، قد أصبتها على الصفة التي وصفتها لي  ، فقال علي ( عليه السلام ) : صدق الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله ).
ثم قام ( عليه السلام ) يهرول إليها فحملها وشمَّها  ، وقال : هي هي بعينها  ، أتعلم يا ابن عباس ما هذه الأبعار ؟ هذه قد شمَّها عيسى بن مريم  ، وذلك أنه مرَّ بها ومعه الحواريون  ، فرأى ههنا الظباء مجتمعة وهي تبكي  ، فجلس عيسى وجلس الحواريون معه  ، فبكى وبكى الحواريون  ، وهم لا يدرون لم جلس ولم بكى. فقالوا : يا روح الله وكلمته  ، ما يبكيك ؟ قال : أتعلمون أيَّ أرض هذه ؟ قالوا : لا  ، قال : هذه أرض يُقتل فيها فرخ الرسول أحمد ( صلى الله عليه وآله )   ، وفرخ الحرَّة الطاهرة البتول شبيهة أمي  ، ويُلحد فيها  ، طينة أطيب من المسك لأنها طينة الفرخ المستشهد ،

المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 178

وهكذا يكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء ، فهذه الظباء تكلِّمني وتقول : إنها ترعى في هذه الأض شوقاً إلى تربة الفرخ المبارك ، وزعمت أنها آمنة في هذه الأرض ، ثمَّ ضرب بيده إلى هذه الصيران فشمَّها وقال : هذه بعر الظباء على هذه الطيب لمكان حشيشها ، اللهم فأبقها أبداً حتى يشمَّها أبوه فيكون له عزاء وسلوة.
قال : فبيقت إلى يوم الناس هذا ، وقد اصفرَّت لطول زمانها ، وهذه أرض كرب وبلاء ، ثم قال بأعلى صوته : يا ربّ عيسى بن مريم! لا تبارك في قتلته ، والمعين عليه ، والخاذل له.
ثمَّ بكى بكاء طويلا وبكينا معه حتى سقط لوجهه وغشي عليه طويلا ، ثم أفاق فأخذ البعر فصَّره في ردائه ، وأمرني أن أصرَّها كذلك ، ثم قال : يا ابن عباس ، إذا رأيتها تنفجر دماً عبيطاً ، ويسيل منها دم عبيط ، فاعلم أن أبا عبدالله قد قتل بها ، ودفن.
قال ابن عباس : فوالله لقد كنت أحفظها أشدَّ من حفظي لبعض ما افترض الله عزَّ وجلَّ عليَّ ، وأنا لا أحلّها من طرف كمّي ، فبينما أنا نائم في البيت إذ انتبهت فإذا هي تسيل دماً عبيطاً ، وكان كمي قد امتلأ دماً عبيطاً ، فجلست وأنا باك وقلت : قد قتل والله الحسين ، والله ما كذبني عليٌّ قط في حديث حدَّثني ، ولا أخبرني بشيء قط أنه يكون إلاَّ كان كذلك; لأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان يخبره بأشياء لا يخبر بها غيره ، ففزعت وخرجت وذلك عند الفجر ، فرأيت والله المدينة كأنها ضباب لا يستبين منها أثر عين ، ثمَّ طلعت الشمس ورأيت كأنها منكسفة ، ورأيت كأن حيطان المدينة عليها دم عبيط ، فجلست وأنا باك فقلت : قد قُتل والله الحسين ( عليه السلام ) ، وسمعت صوتاً من ناحية البيت وهو يقول :
اصبروا آل الرسول قُتل الفرخ النحول
نزل الروح الأمين ببكاء وعويل


السابق السابق الفهرس التالي التالي