المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 75

رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ووصيّته به وبأهل بيته ، فأمسى مجفَّواً في حفرته ، صريعاً بين قرابته وشيعته ، بين أطباق التراب ، قد أوحش قربه في الوحدة والبعد عن جدّه ، والمنزل الذي لا يأتيه إلاَّ من امتحن الله قلبه للإيمان وعرَّفه حقَّنا ، إلى أن قال ( عليه السلام ) : ولقد حدَّثني أبي أنه لم يخلُ مكانه منذ قُتل من مصلٍّ يصلّي عليه من الملائكة ، أو من الجن ، أو من الإنس ، أو من الوحش ، وما من شيء إلاَّ وهو يغبط زائره ويتمسَّح به ، ويرجو في النظر إليه الخير لنظره إلى قبره.
ثمَّ قال : بلغني أن قوماً يأتونه من نواحي الكوفة وناساً من غيرهم ، ونساء يندبنه ، وذلك في النصف من شعبان ، فمن بين قارىء يقرأ ، وقاص يقصّ ، ونادب يندب ، وقائل يقول المراثي ، فقلت له : نعم جعلت فداك ، قد شهدت بعض ما تصف ، فقال : الحمد لله الذي جعل في الناس من يفد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا ، وجعل عدوَّنا من يطعن عليهم من قرابتنا وغيرهم ، يهدرونهم ويقبِّحون ما يصنعون (1).
وعن إبراهيم بن أبي محمود قال : قال الرضا ( عليه السلام ) : إن المحرَّم شهر كان أهل الجاهلية يحرِّمون فيه القتال ، فاستحلّت فيه دماؤنا ، وهتكت فيه حرمتنا ، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا ، وأضرمت النيران في مضاربنا ، وانتهب ما فيها من ثقلنا ، ولم ترع لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حرمة في أمرنا ، إن يوم الحسين أقرح جفوننا ، وأسبل دموعنا ، وأذلَّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء ، أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء ، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون ، فإن البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام ، ثم قال ( عليه السلام ) : كان أبي إذا دخل شهر المحرَّم لا يرى ضاحكاً ، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام ، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته

(1) كامل الزيارات ، ابن قولويه : 537 ـ 539 ح 1.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 76

وحزنه وبكائه  ، ويقول : هو اليوم الذي قتل فيه الحسين صلَّى الله عليه (1) .
وفي زيارة الناحية يقول الحجّة عجَّل الله تعالى فرجه الشريف : فلئن أخَّرتني الدهور  ، وعاقني عن نصرك المقدور  ، ولم أكن لمن حاربك محارباً  ، ولمن نصب لك العداوة مناصباً  ، فلأندبنّك صباحاً ومساء  ، ولأبكينَّ عليك بدل الدموع دماً  ، حسرةً عليك  ، وتأسُّفاً على ما دهاك وتلهفاً  ، حتى أموت بلوعة المصاب وغصّة الاكتئاب.. (2) .
ولله درّ السيد حيدر الحلي عليه الرحمة إذ يقول في استنهاض الإمام الحجّة عجَّل الله تعالى فرجه الشريف :
مَنْ حاملٌ لوليِّ الأمرِ مألكةً تطوى على نفثات كلُّها ضَرَمُ
يا ابنَ الأُلى يُقْعِدُون الموتَ إن نهضت بهم لدى الروعِ في وَجْهِ الظبا الهِمَمُ
الخيلُ عندَكَ ملَّتها مَرَابِطُها والبيضُ منها عرا أغمادَها السأمُ
لا تَطْهُرُ الأرضُ من رِجْسِ العدى أبدا ما لم يَسِلْ فوقها سَيْلُ الدمِ العرمُ
أُعيذُ سيفَك أَنْ تصدى حديدتُهُ ولم تكن فيه تُجْلَى هذه الغممُ
نَهْضاً فَمَنْ بظباكم هامُهُ فُلِقَتْ ضرباً على الدينِ فيه اليومَ يحتكمُ


(1) الأمالي  ، الصدوق : 190 ـ 191 ح 2  ، بحار الأنوار  ، المجلسي 44/283.
(2) المزار  ، المشهدي : 501.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 77

وتلك أنفالُكُم في الغاصبين لكم مقسومةٌ وبعينِ اللهِ تُقْتَسَمُ
وإنَّ أعجبَ شيء أَنْ أَبُثَّكها كأنَّ قَلْبَكَ خال وهو محتدِمُ
ما خِلْتُ تقعُدُ حتى تستثارَ لهم وأنت أنت وهم فيما جنوه هُمُ
لم تُبْقِ أسيافُهُم منكم على ابنِ تقىً فكيف تبقي عليهم لا أباً لَهُمُ
فلا وصفحِكَ إن القومَ ما صفحوا ولا وحلمِك إن القومَ ما حَلِمُوا
فَحَمْلَ أمِّك قِدْماً أسقطوا حَنَقاً وطفلَ جدِّك في سَهْم الرِدى فطموا
لا صبَر أو تَضَعَ الهيجاءُ ما حَمَلَتْ بطلقة معها مَاءُ المخاض دَمُ
هذا المحرَّمُ قد وافتك صارخةً مما استحلّوا به أيامُهُ الحُرُمُ
يملأن سَمْعَكَ من أصواتِ ناعية في مَسْمَعِ الدهر من إعوالِها صَمَمُ
تنعى إليك دِمَاءً غاب نَاصِرُها حتى أريقت ولم يُرْفَعْ لكم عَلَمُ


المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 78

المجلس الخامس ، من اليوم الثاني

دخول الشعراء على الأئمة ( عليهم السلام ) وبكاؤهم
على الإمام الحسين ( عليه السلام ) وتشييدهم المأتم

روي عن أبي حمزة محمد بن يعقوب  ، عن جعفر بن محمد ( عليه السلام )   ، قال : سئل علي بن الحسين ( عليه السلام ) عن كثرة بكائه فقال : لا تلوموني  ، فإن يعقوب ( عليه السلام ) فقد سبطاً من ولده فبكى حتى ابيضَّت عيناه من الحزن ولم يعلم أنه مات  ، وقد نظرت إلى أربعة عشر رجلا من أهل بيتي يذبحون في غداة واحدة  ، فترون حزنهم يذهب من قلبي أبداً (1) ؟.
وقد عرف عنه ( عليه السلام ) أنه ما فتر عن البكاء على قتلى الطف  ، وقد أخذ البكاء منه مأخذه  ، فما كان يتهنَّى بطعام أو شراب لتذكّره عطش الإمام الحسين ( عليه السلام ) وغربته.
وقال اليعقوبي في تاريخه : وروى بعضهم أن علي بن الحسين ( عليه السلام ) لم ير ضاحكاً قط منذ قتل أبوه ( عليه السلام )   ، إلاَّ في ذلك اليوم ـ أي اليوم الذي جيء فيه برأس الشقيّ عبيدالله بن زياد لعنه الله ـ وأنه كان له إبل تحمل الفاكهة من الشام  ، فلمَّا أتي برأس عبيدالله بن زياد أمر بتلك الفاكهة ففرِّقت بين أهل المدينة  ، وامتشطت نساء آل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) واختضبن  ، وما امتشطت امرأة ولا اختضبت منذ قتل الحسين بن علي ( عليهما السلام ) (2) .
قال المسعودي : قدم الكميت رحمه الله تعالى المدينة فأتى أبا جعفر محمد بن

(1) تاريخ مدينة دمشق  ، ابن عساكر : 41/386  ، تهذيب الكمال  ، المزي : 13/247.
(2) تاريخ اليعقوبي : 2/259.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 79

علي بن الحسين بن علي ( عليهم السلام ) فأذن له ليلا وأنشده  ، فلمَّا بلغ الميمية قوله :
وقتيلٌ بالطفِّ غودر منهم بين غوغاءِ أُمَّة وَطَغَامِ

بكى أبو جعفر ( عليه السلام )   ، ثم قال : يا كميت  ، لو كان عندنا مال لأعطيناك  ، ولكن لك ما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لحسَّان بن ثابت : لا زلت مؤيَّداً بروح القدس ما ذببت عنا أهل البيت (1) .
وروى أبو الفرج  ، عن علي بن إسماعيل التميمي  ، عن أبيه  ، قال : كنت عند أبي عبدالله جعفر بن محمد ( عليه السلام ) إذ استأذن آذنه للسيّد فأمره بإيصاله  ، وأقعد حرمه خلف ستر  ، ودخل فسلَّم وجلس  ، فاستنشده فأنشد قوله :
امْرُرْ على جَدَثِ الحسينِ فَقُلْ لأعظمِه الزكيَّه
يا أعظماً لا زلت مِنْ وطفاءَ ساكبة رويَّه
فإذا مررتَ بقبرِهِ فأَطِلْ به وَقْفَ المطيَّه
وابكِ المطهَّر للمطهَّر والمطهَّرةِ النقيَّه
كبُكاءِ معولة أتت يوماً لواحدِهَا المنيَّه

قال : فرأيت دموع جعفر بن محمد تتحدَّر على خديه  ، وارتفع الصراخ والبكاء من داره  ، حتى أمره بالإمساك فأمسك (2) .
وروي عن فضيل الرسَّان قال : دخلت على جعفر بن محمد ( عليه السلام ) أُعزّيه عن عمِّه زيد  ، ثمَّ قلت : ألا أنشدك شعر السيِّد ؟ فقال : أنشد  ، فأنشدته قصيدة يقول فيها :
فالناسُ يومَ البعثِ رياتُهم خمسٌ فمنها هالكٌ أربعُ
قائدُها العِجْلُ وفرعونُهم وسامريُّ الأُمَّةِ المفظعُ


(1) مروج الذهب  ، المسعودي : 3/229.
(2) الأغاني  ، الأصفهاني : 7/240  ، الجوهرة في نسب الإمام علي وآله ( عليهم السلام )  ، البري : 48.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 80

ومارقٌ من دينِهِ مخرجٌ أسودُ عبدٌ لكَّعٌ أوكعُ
ورايةٌ قائدُها وجهُهُ كأنه الشمسُ إذا تطلعُ

فسمعت نحيباً من وراء الستور  ، فقال : من قائل هذا الشعر ؟ فقلت : السيد  ، فقال : رحمه الله (1) .
وروى الحافظ المرزباني في ( أخبار السيِّد الحميري ) عن فضيل قال : دخلت على أبي عبدالله ( عليه السلام ) بعد قتل زيد  ، فجعل يبكي ويقول : رحم الله زيداً  ، إنه للعالم الصدوق  ، ولو ملك أمراً لعرف أين يضعه  ، فقلت : أنشدك شعر السيد ؟ فقال : أمهل قليلا  ، وأمر بستور فسدُلت  ، وفتحت أبواب غير الأولى  ، ثم قال : هات ما عندك  ، فأنشدته : لأم عمرو باللوى مربع  ، وذكر ثلاثة عشر بيتاً  ، قال : فسمعت نحيباً من وراء الستور ونساء تبكين  ، فجعل يقول : شكراً لك يا إسماعيل قولك (2) .
وروى أبو الفرج  ، عن زيد بن موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) أنه قال : رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في النوم  ، وقدَّامه رجل جالس  ، عليه ثياب بيض  ، فنظرت إليه فلم أعرفه  ، إذ التفت إليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا سيد  ، أنشدني قولك : لأم عمرو باللوى مربع... فأنشده إياها كلها ما غادر منها بيتاً واحداً  ، فحفظتها عنه كلها في النوم.
قال أبو إسماعيل : وكان زيد بن موسى لحَّانة رديء الإنشاد  ، فكان إذا أنشد هذه القصيدة لم يتتعتع فيها ولم يُلحن  ، وهذا الحديث رواه الحافظ المرزباني في أخبار السيد (3) .
وروى أبو الفرج الإصفهاني  ، عن أبي داود المسترق  ، عن السيد أنه رأى

(1) الأغاني  ، الإصفهاني : 7/241 و 272.
(2)أخبار السيِّد الحميري  ، المرزباني : 159.
(3) الأغاني  ، الإصفهاني : 7/251.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 81

النبي ( صلى الله عليه وآله ) في النوم فاستنشده فأنشد قوله :
لأمِّ عمرو باللوى مَرْبَعُ طامسةٌ أعلامُها بَلْقَعُ

حتى انتهى إلى قوله :
قالوا له : لو شئتَ أعلمتَنا إلى مَنِ الغايةُ والمفزعُ

فقال : حسبك. ثم نفض يده وقال : قد والله أعلمتهم (1) .
وروى أبو الفرج عن محمد بن سهل صاحب الكميت قال : دخلت مع الكميت على أبي عبدالله الصادق جعفر بن محمد ( عليه السلام )   ، فقال له : جعلت فداك  ، ألا أنشدك ؟ قال : إنها أيام عظام قال : إنها فيكم  ، قال : هات  ، وبعث أبو عبدالله ( عليه السلام ) إلى بعض أهله فقرب  ، فأنشده فكثر البكاء حتى أتى على هذا البيت :
يصيبُ به الرامون عن قَوْسِ غيرِهم فيا آخراً أسدى له الغيَّ أوَّلُ

فرفع أبو عبدالله ( عليه السلام ) يديه فقال : اللهم اغفر للكميت ما قدَّم وما أخَّر  ، وما أسرَّ وما أعلن  ، وأعطه حتى يرضى (2) .
ورواه البغدادي أيضاً  ، قال : وحدَّث محمد بن سهل قال : دخلت مع الكميت على أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ) في أيام التشريق  ، فقال : جعلت فداك  ، ألا أنشدك ؟ قال : إنها أيام عظام  ، قال : إنها فيكم  ، قال ( عليه السلام ) : هات  ، فأنشده قصيدته التي أولها :
ألا هل عَم في رَأْيه متأمِّلُ وهل مُدْبِرٌ بعد الإساءةِ مُقْبِلُ
وهل أمَّةٌ مستيقظون لدينِهم فيكشفُ عنه النعسةَ المتزمِّلُ
فقد طال هذا النومُ واستخرج الكرى مَساوِيَهُمْ لو أن ذا الميلَ يعدلُ
وعطِّلت الأحكامُ حتى كأننا على ملَّة غيرِ التي نتنحَّلُ


(1) الأغاني  ، الإصفهاني : 7/279.
(2) الأغاني  ، الإصفهاني : 17/26 و33  ، معاهد التنصيص العباسي : 3/96  ، رقم 148.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 82

كلامُ النبيِّينَ الهداةِ كلامُنا وأفعالَ أهلِ الجاهليَّةِ نفعلُ
رضينا بدنياً لا نريدُ فراقَها على أنَّنا فيها نموتُ ونُقْتَلُ
ونحن بها المستمسكونَ كأنَّها لنا جنَّةٌ مما نخافُ ومَعْقِلُ

فكثر البكاء  ، وارتفعت الأصوات  ، فلمَّا مرَّ على قوله في الحسين ( عليه السلام ) :
كأن حسيناً والبهاليلُ حولَه لأسيافِهِمْ ما يختلي المتبقِّلُ
يَخُضْنَ بهم من آلِ أحمدَ في الوغى دماً ظل منهم كالبهيمِ المحجَّلُ
فلم أر مخذولا أجلَّ مصيبة وأوجبَ منه نصرةً حين يُخْذَلُ
يصيبُ به الرامون عن قوسِ غيرِهم فيا آخراً أسدى له الغيَّ أوَّلُ

رفع أبو عبدالله ( عليه السلام ) يديه وقال : اللهم اغفر للكميت ما قدَّم وأخَّر  ، وما أسَّر وأعلن  ، وأعطه حتى يرضى  ، ثم أعطاه ألف دينار وكسوة  ، فقال له الكميت : والله ما أحببتكم للدنيا  ، ولو أردتها لأتيت من هو في يديه  ، ولكنني أحببتكم للآخرة  ، فأمَّا الثياب التي أصابت أجسادكم فإني أقبلها لبركتها  ، وأما المال فلا أقبله (1) .
وروي أن فضيلا أقام مأتماً للحسين ( عليه السلام ) ولم يخبر به إمامنا الصادق ( عليه السلام ) فلما كان اليوم الثاني أقبل إلى الإمام روحي فداه  ، فقال له : يا فضيل  ، أين كنت البارحة ؟ قال : سيدي شغل عاقني  ، فقال : يا فضيل  ، لا تُخفي عليَّ  ، أما صنعت مأتماً  ، وأقمت بدارك عزاء في مصاب جدي الحسين ( عليه السلام ) ؟ فقال : بلى سيدي  ، فقال ( عليه السلام ) : وأنا كنت حاضراً  ، قال : سيدي  ، ما رأيتك  ، أين كنت جالساً ؟ فقال ( عليه السلام ) : لما أردت الخروج من البيت أما عثرت بثوب أبيض ؟ قال : بلى سيدي  ، قال ( عليه السلام ) : أنا كنت جالساً هناك  ، فقال له : سيدي  ، لم جلست بباب البيت ولم لا تصدَّرت في المجلس ؟ فقال الصادق ( عليه السلام ) : كانت جدتي فاطمة ( عليها السلام ) بصدر المجلس

(1) خزانة الأدب  ، البغدادي : 1/145.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 83

جالسة  ، لذا ما تصدَّرت إجلالا لها (1)   ، ولله درّ الحجة الشيخ فرج العمران عليه الرحمة إذ يقول :
هلَّ المحرَّمُ فالسرورُ محرَّمُ ونُعي حسينٌ حين هلَّ محرَّمُ
هلَّ المحرَّمُ والنبيُّ المصطفى أمسى كئيباً والوصيُّ الأعظمُ
هلَّ المحرَّمُ والبتولةُ أصبحت ثكلى تنوحُ على الحسينِ وتلطمُ
هلَّ المحرَّمُ والزكيُّ المجتبى يبكي الحسينَ وقلبُهُ متألِّمُ
هلَّ المحرَّمُ ليته لا هلَّ إذ فيه لسبطِ محمَّد سُفِكَ الدَّمُ
مولىً بكاه آدمٌ وبكت له حوَّا ونوحٌ والكليمُ مُكَلَّمُ
وبكى الخليلُ عليه حزناً وابنُهُ وله أسىً ناح المسيح ومريمُ
وبكته كلُّ الأنبيا وله جميـ ـعُ الأوصيا ناحت ومدمعُها دَمُ
وبكت له الأملاكُ في أفلاكِها وبكى له قَمَرُ السما والأنجمُ
وبكت عليه الحورُ في جَنَّاتِها وله أقيم بكلِّ أرض مأتمُ
وبكى له البيتُ الحرامُ وحجر إسـ ـماعيلُ حُزْناً والمقامُ وزمزمُ (2)

المجلس الأول ، من اليوم الثالث

خروج الإمام الحسين ( عليه السلام ) من مكة المكرمة

فعلى الأطائب من أهل بيت محمَّد وعلي صلى الله عليهما وآلهما  ، فليبك الباكون  ، وإيَّاهم فليندب النادبون  ، ولمثلهم فلتذرف الدموع  ، وليصرخ الصارخون  ، ويضجَّ الضجون  ، ويعجَّ العاجون  ، أين الحسن وأين الحسين  ، أين

(1) ثمرات الأعواد  ، السيد علي الهاشمي : 31 ـ 32.
(2) شعراء القطيف  ، الشيخ علي المرهون : 2/31.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 84

أبناء الحسين  ، صالح بعد صالح  ، وصادق بعد صادق  ، أين السبيل بعد السبيل  ، أين الخيرة بعد الخيرة  ، أين الشموس الطالعة  ، أين الأقمار المنيرة  ، أين الأنجم الزاهرة  ، أين أعلام الدين وقواعد العلم (1) .
روى ابن شهر آشوب عليه الرحمة في كتاب المناقب عن كتاب الإبانة  ، قال بشر بن عاصم : سمعت ابن الزبير يقول : قلت للحسين بن علي ( عليهما السلام ) : إنك تذهب إلى قوم قتلوا أباك وخذلوا أخاك  ، فقال : لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحبُّ إلي من أن يستحلَّ بي مكة  ، عرَّض به ( عليه السلام ).
وعن كتاب التخريج  ، عن العامري  ، بالإسناد عن هبيرة بن مريم  ، عن ابن عباس قال : رأيت الحسين ( عليه السلام ) قبل أن يتوجَّه إلى العراق على باب الكعبة وكفّ جبرئيل في كفّه  ، وجبرئيل ينادي : هلمّوا إلى بيعة الله عزّ وجلَّ.
وعُنِّف ابن عباس على تركه الحسين ( عليه السلام ) فقال : إن أصحاب الحسين لم ينقصوا رجلا ولم يزيدوا رجلا  ، نعرفهم بأسمائهم من قبل شهودهم.
وقال محمد بن الحنفية : وإن أصحابه عندنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم (2) .
قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فسار الحسين ( عليه السلام ) إلى مكة وهو يقرأ : «فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» (3) ولزم الطريق الأعظم  ، فقال له أهل بيته ( عليهم السلام ) : لو تنكَّبت عن الطريق كما فعل ابن الزبير كيلا يلحقك الطلب  ، فقال : لا والله لا أفارقه حتى يقضي الله ما هو قاض  ، ولمَّا دخل الحسين ( عليه السلام ) مكة  ، كان دخوله إياها يوم الجمعة  ، لثلاث مضين من شعبان دخلها

(1) المزار  ، محمد بن المشهدي : 578.
(2) مناقب آل أبي طالب  ، ابن شهر آشوب : 3/211  ، بحار الأنوار : 44/185 ح 12.
(3) سورة القصص  ، الآية : 18.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 85

وهو يقرأ : « وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ» (1) .
ثمَّ نزلها وأقبل أهلها يختلفون إليه  ، ومن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق  ، وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة وهو قائم يصلّي عندها ويطوف  ، ويأتي الحسين ( عليه السلام ) فيمن يأتيه  ، فيأتيه اليومين المتواليين  ، ويأتيه بين كل يومين مرة وهو ( عليه السلام ) أثقل خلق الله على ابن الزبير  ، لأنه قد عرف أن أهل الحجاز لا يبايعونه مادام الحسين ( عليه السلام ) في البلد  ، وأن الحسين أطوع في الناس منه وأجلّ (2) .
قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : وكان خروج مسلم بن عقيل ـ رحمه الله ـ بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة سنة ستين  ، وقتْلَه ـ رحمه الله ـ يوم الأربعاء لتسع خلون منه يوم عرفة  ، وكان توجُّه الحسين ( عليه السلام ) من مكة إلى العراق في يوم خروج مسلم بالكوفة وهو يوم التروية  ، بعد مقامه بمكة بقية شعبان وشهر رمضان وشوالا وذا القعدة وثمان ليال خلون من ذي الحجة سنة ستين  ، وكان قد اجتمع إلى الحسين ( عليه السلام ) مدّة مقامه بمكة نفر من أهل الحجاز  ، ونفر من أهل البصرة انضافوا إلى أهل بيته ومواليه.
ولما أراد الحسين ( عليه السلام ) التوجُّه إلى العراق طاف بالبيت  ، وسعى بين الصفا والمروة وأحلَّ من إحرامه وجعلها عمرة  ، لأنه لم يتمكَّن من تمام الحج مخافة أن يُقبض عليه بمكة فَيُنفذ إلى يزيد بن معاوية  ، فخرج ( عليه السلام ) مبادراً بأهله وولده ومن انضمَّ إليه من شيعته  ، ولم يكن خبر مسلم بلغه بخروجه يوم خروجه على ما ذكرناه (3) .
وقال السيّد ابن طاووس عليه الرحمة : روى أبو جعفر الطبري  ، عن

(1) سورة القصص  ، الآية : 22.
(2) الإرشاد  ، المفيد : 2/35 ـ 36  ، بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/332.
(3) الإرشاد  ، المفيد : 2/66 ـ 67 بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/363.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 86

الواقدي وزرارة بن صالح  ، قالا : لقينا الحسين بن علي ( عليهما السلام ) قبل خروجه إلى العراق بثلاثة أيام فأخبرناه بهوى الناس بالكوفة  ، وأن قلوبهم معه  ، وسيوفهم عليه  ، فأومأ بيده نحو السماء ففتحت أبواب السماء  ، ونزلت الملائكة عدداً لا يحصيهم إلاّ الله تعالى  ، فقال ( عليه السلام ) : لولا تقارب الأشياء  ، وحبوط الأجر لقاتلتهم بهؤلاء  ، ولكن أعلم يقيناً أن هناك مصرعي ومصرع أصحابي  ، ولا ينجو منهم إلاّ ولدي علي ( عليه السلام ) (1) .
وعن أحمد بن داود القمي  ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : جاء محمد بن الحنفية إلى الحسين ( عليه السلام ) في الليلة التي أراد الحسين الخروج في صبيحتها عن مكة فقال له : يا أخي  ، إن أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك  ، وقد خفت أن يكون حالك كحال من مضى  ، فإن رأيت أن تقيم فإنك أعزّ من بالحرم وأمنعه  ، فقال : يا أخي  ، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم  ، فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت  ، فقال له ابن الحنفية : فإن خفت ذلك فصر إلى اليمن  ، أو بعض نواحي البر  ، فإنك أمنع الناس به  ، ولا يقدر عليك أحد  ، فقال : أنظر فيما قلت.
فلمّا كان السحر ارتحل الحسين ( عليه السلام )   ، فبلغ ذلك ابن الحنفية فأتاه فأخذ بزمام ناقته ـ وقد ركبها ـ فقال : يا أخي  ، ألم تعدني النظر فيما سألتك ؟ قال : بلى  ، قال : فما حداك على الخروج عاجلا ؟ قال : أتاني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بعد ما فارقتك فقال : يا حسين  ، اخرج فإن الله قد شاء أن يراك قتيلا  ، فقال محمد بن الحنفية : إنّا لله وإنّا إليه راجعون  ، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذا الحال ؟ قال : فقال لي ( صلى الله عليه وآله ) : إن الله قد شاء أن يراهن سبايا  ، فسلَّم عليه ومضى (2) .
فما حال بنات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوم سبين وصرن في أيدي الأعداء  ، وكيف

(1) اللهوف في قتلى الطفوف  ، ابن طاووس : 38 ـ 39  ، عن دلائل الإمامة  ، الطبري : 182 ح 3.
(2) اللهوف  ، ابن طاووس : 39 ـ 40  ، بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/364.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 87

صار حالهن بعد ذلك العزّ في ظلال أبي عبدالله وأبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين ( عليهما السلام ) فأصبحن في يدي زجر وشمر.
ولله درّ الحاج الفاضل عبدالله الذهبة البحراني الخطي عليه الرحمة إذ يقول :
عَزَّ على الأملاكِ والرُّسْلِ أن تمسي لأبناءِ الغوى منهبا
تودُّ لو أنَّ الدجى سرمدٌ لِمَا عن الرائي لها غيَّبا
وإن بدا الصُّبْحُ دَعَتْ من حَيَاً يا صبحُ لا أهلا ولا مرحبا
أبديتَ يا صُبْحُ لنا أوجهاً لها جَلاَلُ اللهِ قد حجَّبا
تُرَاكَ قد هانت عليك التي عن شأنِها القرآنُ قد أعربا
فما جنى يا شمسُ جان كما جنيتِ في حُرَّاتِ آلِ العَبَا (1)

روى السيد ابن طاووس عليه الرحمة عن بعض الرواة قال : وجاءه عبدالله بن العباس وعبدالله بن الزبير  ، فأشارا عليه بالإمساك  ، فقال لهما : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد أمرني بأمر وأنا ماض فيه  ، قال : فخرج ابن العباس وهو يقول : واحسيناه.
ولله درّ الحجة الشيخ علي الجشي عليه الرحمة إذ يقول :
ولستُ أنسى ابنَ عباس غداةَ دَعَا دَعِ الودائعَ في أوطانِ أهليها
إنّي لأخشى عليها الهَتْكَ بعد بني عَمْروِ العُلاَ حيث لا حام فيحميها
فقال هنَّ معي ما عشتُ أكفُلُها وقد قضى اللهُ ما قد خِفْتَهُ فيها

وقال أيضاً عليه الرحمة :
ولستُ أنسى ابنَ عباس غداةَ دعا دَعِ الحرائرَ أخشى مَا تلاقيه
ومذ وَعَت زينبٌ ذاك الخطابَ بكت خَلْفَ الحجابِ ونادت لا نخلّيه
دعنا نموتُ ونحيى والحسينُ وهل أبقى الزمانُ إلينا من نرَجّيه


(1) رياض المدح والرثاء  ، الشيخ حسين القديحي : 564.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 88

لم تستطع زينبٌ حيّاً تفارقُهُ كيف استطاعت لُقىً مَيْتاً تخلّيه
لو خيَّروها أقامت عند مصرعِهِ ولو لها أكلت آسادُ واديه
فيا لها ساعةً سار الركابُ بها تقسَّمَ القلبُ لمّا صاح حاديه
فالجسمُ في كربلا قد خلَّفته لُقَىً والرأسُ يقدمُ ظعناً سيِّرت فيه (1)

قال الراوي : ثم جاء عبدالله بن عمر فأشار عليه بصلح أهل الضلال  ، وحذَّره من القتل والقتال  ، فقال : يا أبا عبد الرحمان  ، أما علمت أن من هوان الدنيا على الله تعالى أن رأس يحيى بن زكريا أهدي إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل  ، أما تعلم أن بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبياً  ، ثم يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأن لم يصنعوا شيئاً  ، فلم يعجِّل الله عليهم  ، بل أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز ذي انتقام  ، اتق الله يا أبا عبد الرحمن  ، ولا تدع نصرتي (2) .
وروي أنه صلوات الله عليه لما عزم على الخروج إلى العراق قام خطيباً فقال : الحمد لله  ، وما شاء الله  ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله وصلّى الله على رسوله ( وآله ) وسلَّم  ، خطَّ الموت على ولد آدم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة  ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف  ، وخير لي مصرع أنا لاقيه  ، كأني بأوصالي يتقطَّعها عسلان الفلوات  ، بين النواويس وكربلاء  ، فيملأن مني أكراشاً جوفاً وأجربة سغباً  ، لا محيص عن يوم خطّ بالقلم  ، رضى الله رضانا أهل البيت  ، نصبر على بلائه  ، ويوفّينا أجور الصابرين  ، لن تشذَّ عن رسول الله لحمته  ، وهي مجموعة له في حظيرة القدس تقرُّ بهم عينه  ، وتنجز لهم وعده  ، من كان فينا باذلا مهجته،

(1) الشواهد المنبرية  ، الشيخ علي الجشي : 42 ـ 43.
(2) اللهوف  ، ابن طاووس : 21 ـ 22  ، بحار الأنوار  ، المجلسي 44/364.

السابق السابق الفهرس التالي التالي