المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 33

إنَّ اللذينِ تَسَارَعا يقيانِكَ الـ أرماحَ في صفّينَ بالهيجاءِ
فأخذتَ في عضديهما تَثْنِيهما عمَّا أَمَامَكَ من عظيمِ بَلاَءِ
ذَا قاذفٌ كبداً له قِطَعاً وذا في كربلاءَ مُقَطَّعُ الأعضاءِ
مُلْقَىً على حَرِّ الصعيدِ لوجهِهِ في فتية بيضِ الوُجُوهِ وِضَاءِ
تلك الوجوهُ المُشْرِقَاتُ كأنَّها الـ أقمارُ تَسْبَحُ في غديرِ دِمَاء
ومغسَّلينَ ولا مياه لَهُم سوى عَبَراتِ ثكلى حَرَّةِ الأحشاء(1)

المجلس الرابع ، من اليوم الأول

بكاء الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وحزنه على
أبيه الإمام الحسين ( عليه السلام )

جاء في بعض زيارات الأئمة ( عليهم السلام ) : يا مواليَّ  ، فلو عاينكم المصطفى وسهام الأمّة معرقة في أكبادكم  ، ورماحهم مشرعة في نحوركم  ، وسيوفها مولغة في دمائكم  ، يشفي أبناء العواهر غليل الفسق من ورعكم  ، وغيظ الكفر من إيمانكم  ، وأنتم بين صريع في محراب قد فلق السيف هامته  ، وشهيد فوق الجنازة قد شُكَّت بالسهام أكفانه  ، وقتيل بالعراء قد رفع فوق القناة رأسه  ، ومكبَّل في السجن رُضَّت بالحديد أعضاؤه  ، ومسموم قد قطِّعت بجرع السمّ أمعاؤه (2) فإنّا لله وإنّا إليه راجعون  ، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم.
روي عن بشر بن حذلم أن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) لما جاء من الأسر وأراد دخول المدينة وجَّهه إليهم فنعى الإمام الحسين ( عليه السلام )   ، قال : فلم يبق في المدينة

(1) رياض المدح والرثاء  ، القديحي : 161.
(2) المزار  ، المشهدي : 298.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 34

مخدَّرة ولا محجَّبة إلاَّ برزن من خدورهن وهن بين باكية ونائحة ولاطمة  ، فلم ير يوم أمرّ على أهل المدينة منه  ، وسألوه : من أنت ؟ قال : فقلت : أنا بشر بن حذلم  ، وجَّهني علي بن الحسين  ، وهو نازل في موضع كذا وكذا مع عيال أبي عبدالله ونسائه  ، قال : فتركوني مكاني وبادروني  ، فضربت فرسي حتى رجعت إليهم  ، فوجدت الناس قد أخذوا الطرق والمواضع  ، فنزلت عن فرسي وتخطَّيت رقاب الناس حتى قربت من باب الفسطاط  ، وكان علي بن الحسين داخلا فخرج وبيده خرقة يمسح بها دموعه  ، وخادم معه كرسي  ، فوضعه وجلس وهو مغلوب على لوعته  ، فعزَّاه الناس  ، فأومأ إليهم أن اسكتوا  ، فسكنت فورتهم فقال ( عليه السلام ) : الحمد لله ربّ العالمين  ، مالك يوم الدّين  ، بارىء الخلائق أجمعين  ، الذي بُعد فارتفع في السموات العلى  ، وقرُب فشهد النجوى  ، نحمده على عظائم الأمور  ، وفجائع الدهور  ، وجليل الرزء  ، وعظيم المصائب.
أيها القوم  ، إن الله ـ وله الحمد ـ ابتلانا بمصيبة جليلة  ، وثلمة في الإسلام عظيمة  ، قتل أبو عبدالله وعترته  ، وسبي نساؤه وصبيته  ، وداروا برأسه في البلدان  ، من فوق عالي السنان.
أيها الناس  ، فأيُّ رجالات منكم يُسرُّون بعد قتله ؟ أم أية عين منكم تحبس دمعها وتضنّ عن انهمالها ؟ فلقد بكت السبع الشداد لقتله  ، وبكت البحار والسموات والأرض والأشجار والحيتان والملائكة المقرّبون  ، وأهل السموات أجمعون.
أيها الناس  ، أيُّ قلب لا ينصدع لقتله ؟ أم أيُّ فؤاد لا يحنّ إليه ؟ أم أيُّ سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ؟
أيّها الناس أصبحنا مطرودين مشرَّدين مذودين شاسعين عن الأمصار  ، كأنّا أولاد ترك أو كابل  ، من غير جرم اجترمناه  ، ولا مكروه ارتكبناه  ، ما سمعنا

المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 35

بهذا في آبائنا الأولين  ، إن هذا إلاَّ اختلاق  ، والله لو أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) تقدَّم إليهم في قتالنا كما تقدَّم إليهم في الوصاة بنا لما زادوا على ما فعلوه  ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون (1).
أبادوهُمُ قتلا وسُماً ومُثلةً كأنَّ رسولَ الله ليس لهم أبُ
كأنَّ رسولَ اللهِ من حُكْمِ شَرْعِهِ على آلِهِ أن يُقتلوا أو يُصَلَّبُوا

وروى المحدِّثون أن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) بكى على أبيه الحسين ( عليه السلام ) عشرين سنة  ، وما وضع بين يديه طعام إلاَّ بكى  ، حتى قال له مولى له : يا ابن رسول الله  ، أما آن لحزنك أن ينقضي ؟ فقال له : ويحك ؟ إن يعقوب النبي ( عليه السلام ) كان له اثنا عشر ابناً  ، فغيَّب الله عنه واحداً منهم فابيضَّت عيناه من كثرة بكائه عليه  ، وشاب رأسه من الحزن  ، واحدودب ظهره من الغمّ  ، وكان ابنه حياً في الدنيا  ، وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي  ، فكيف ينقضي حزني ؟!. (2)
وروي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : بكى علي بن الحسين ( عليه السلام ) عشرين سنة  ، وما وضع بين يديه طعام إلاّ بكى  ، حتى قال له مولى له : جعلت فداك يا ابن رسول الله  ، إني أخاف أن تكون من الهالكين  ، قال : إنما أشكو بثّي وحزني إلى الله  ، وأعلم من الله ما لا تعلمون  ، إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاَّ خنقتني العبرة.
وقيل : إنه بكى حتى خيف على عينيه وكان ( عليه السلام ) إذا أخذ إناء يشرب ماء بكى حتى يملأها دمعاً  ، فقيل له في ذلك فقال : وكيف لا أبكي وقد مُنع أبي من الماء الذي كان مطلقاً للسباع والوحوش ؟ وقيل له : إنك لتبكي دهرك  ، فلو قتلت نفسك لما زدت على هذا  ، فقال : نفسي قتلتها وعليها أبكي (3).

(1) مثير الأحزان  ، ابن نما : 90 ـ 91.
(2) بحار الأنوار  ، العلامة المجلسي : 46/63.
(3) مناقب آل أبي طالب  ، ابن شهر آشوب : 3/303  ، عنه بحار الأنوار : 46/108 ح 1.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 36

وعن محمد بن سهل البحراني رفعه إلى أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : البكاؤن خمسة : آدم  ، ويعقوب  ، ويوسف  ، وفاطمة بنت محمد  ، وعلي بن الحسين ( عليهم السلام ) فأمّا آدم : فبكى على الجنَّة حتى صار في خدّيه أمثال الأودية  ، وأمّا يعقوب : فبكى على يوسف حتى ذهب بصره  ، وحتى قيل له : «تَاللهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ» (1)وأمَّا يوسف : فبكى على يعقوب حتى تأذَّى به أهل السجن فقالوا : إمّا أن تبكي بالنهار وتسكت بالليل  ، وإمّا أن تبكي بالليل وتسكت بالنهار  ، فصالحهم على واحد منهما  ، وأمَّا فاطمة بنت محمد ( صلى الله عليه وآله ) : فكبت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى تأذَّى بها أهل المدينة  ، وقالوا لها : قد آذيتنا بكثرة بكائك  ، فكانت تخرج إلى المقابر مقابر الشهداء فتبكي حتى تقضي حاجتها ثم تنصرف  ، وأمَّا علي بن الحسين ( عليهما السلام ) فبكى على الحسين عشرين سنة أو أربعين سنة  ، وما وضع بين يديه طعام إلاَّ بكى  ، حتى قال له مولى له : جعلت فداك يا ابن رسول الله  ، إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين  ، قال : إنما أشكو بثّي وحزني إلى الله  ، وأعلم من الله ما لا تعلمون  ، إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاَّ خنقتني لذلك عبرة (2).
وروى ابن قولويه عليه الرحمة عن إسماعيل بن منصور  ، عن بعض الأصحاب  ، قال : أشرف مولى لعلي بن الحسين ( عليهما السلام ) وهو في سقيفة له ساجد يبكي  ، فقال له : يا علي بن الحسين  ، أما آن لحزنك أن ينقضي ؟ فرفع رأسه إليه فقال : ويلك أو ثكلتك أمك  ، والله لقد شكا يعقوب إلى ربه في أقل مما رأيتُ حين قال : «يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ »، وإنه فقد ابناً واحداً  ، وأنا رأيت أبي وجماعة أهل بيتي يذبحون حولي.

(1) سورة يوسف  ، الآية : 85.
(2) الخصال  ، الصدوق : 272  ، الأمالي  ، الصدوق : 240  ، بحار الأنوار : 46/108 ح 2.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 37

قال : وكان علي بن الحسين ( عليه السلام ) يميل إلى ولد عقيل  ، فقيل له : ما بالك تميل إلى بني عمّك هؤلاء دون آل جعفر ؟ فقال : إني أذكر يومهم مع أبي عبدالله الحسين بن علي ( عليه السلام ) فأرقّ لهم (1).
قال السيّد ابن طاووس عليه الرحمة : روي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنه قال : إن زين العابدين ( عليه السلام ) بكى على أبيه أربعين سنة صائماً نهاره قائماً ليله  ، فإذا حضر الإفطار جاءه غلامه بطعامه وشرابه  ، فيضعه بين يديه فيقول : كل يا مولاي  ، فيقول : قتل ابن رسول الله جائعاً  ، قتل ابن رسول الله عطشاناً  ، فلا يزال يكرِّر ذلك ويبكي حتى يبلَّ طعامه من دموعه  ، ثمَّ يمزج شرابه بدموعه  ، فلم يزل كذلك حتى لحق بالله عز وجل (2).
ويروى عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) أنه
نحن بنو المصطفى ذوو غصص يَجْرَعُها في الأنامِ كاظمُنا
عظيمةٌ في الأنامِ محنتُنا أوَّلُنا مبتلى وآخِرُنا
يفرح هذا الورى بعيدِهِمُ ونحن أعيادُنا مآتمُنا
والناسُ في الأمن والسرورِ وما يأمنُ طولَ الزمانِ خائفُنا
وما خصصنا به من الشرفِ الـ طائلِ بينَ الأنامِ آفتُنا
يحكم فيما الحكم فيه لنا جاحدُنا حقَّنا وغاصبنا(3)

روي عن عبدالله بن دينار  ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : قال : يا عبدالله  ، ما من عيد للمسلمين أضحى ولا فطر إلاَّ وهو يجدِّد لآل محمد فيه حزناً  ، قلت : ولم ذاك ؟ قال : لأنهم يرون حقَّهم في يد غيرهم (4).

(1) كامل الزيارات  ، ابن قولويه : 213 ـ 214 عنه بحار الأنوار : 46/109 ح 4.
(2) بحار الأنوار  ، العلامة المجلسي : 45/149.
(3) بحار الأنوار  ، العلامة المجلسي : 46/92.
(4) الكافي  ، الكليني : 4/170 ح 2.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 38

واتفق الرواة أن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) كان من أكثر أهل البيت ( عليهم السلام ) بكاء وحزناً على الحسين ( عليه السلام )   ، لأنه رأى واقعة الطف بعينه وشاهد ما جرى على عمَّاته وأخواته من الضرب والسبي.
وقال بعضهم : وكان ( عليه السلام ) كلما اجتمع إليه جماعة  ، أو وفد من وفود الأقطار يردد عليهم تلك المأساة ويقص عليهم من أخبارها  ، ويخرج إلى السوق أحيانا  ، فإذا رأى جزاراً يُريد أن يذبح شاةً أو غيرها يدنو منه  ، ويقول : هل سقيتها الماء  ؟ فيقول له : نعم يا بن رسول الله إنا لا نذبح حيواناً حتى نسقيها ولو قليلاً من الماء فيبكي عند ذلك  ، ويقول ( عليه السلام ) : لقد ذُبح أبو عبدالله عطشانا (1).
ويقول الشاعر الحاج محمد علي آل كمونة عليه الرحمة في ذلك :
ويل الفرات أبادَ الله غامرَهُ ورد واردَه بالرغم لهفانا
لم يطفِ حرَ غليلِ السبطِ باردَه حتى قضى في سبيلِ اللهِ عطشانا
لم يُذبح الكبشُ حتى يُرو من ظمأ ويُذبحُ ابنُ رسولِ اللهِ ضمآنا
فياسماءُ لهذا الحادثِ انفطري فما القيامةُ أدهى للورى شَانا(2)

ويروى أن أبا حمزة الثمالي رضوان الله تعالى عليه دخل يوماً على الإمام زين العبادين ( عليه السلام ) فرآه حزيناً كئيباً فقال له : سيّدي  ، ما هذا البكاء والجزع ؟ ألم يقتل عمُّك حمزة ؟ ألم يقتل جدّك علي ( عليه السلام ) بالسيف ؟ إن القتل لكم عادة  ، وكرامتكم من الله الشهادة  ، فقال له الإمام : شكر الله سعيك يا أبا حمزة  ، كما ذكرت  ، القتل لنا عادة  ، وكرامتنا من الله الشهادة ولكن يا أبا حمزة  ، هل سمعت أذناك أم رأت عيناك أن امرأة منا أُسرت أو هُتكت قبل يوم عاشوراء ؟ والله يا أبا حمزة  ، ما نظرت إلى عمَّاتي وأخواتي إلاَّ وذكرت فرارهن في البيداء من خيمة إلى خيمة  ، ومن خباء إلى

(1) كتاب الأئمة الإثني عشر  ، السيد هاشم معروف الحسني : 2/115.
(2) رياض المدح والرثاء  ، الشيخ حسين القديحي : 649.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 39

خباء  ، والمنادي ينادي أحرقوا بيوت الظالمين (1).
ولله درّ السيد حيدر الحلي عليه الرحمة إذ يقول :
وحائرات أطار القومُ أعينَها رُعْباً غداةَ عليها خِدْرَها هجموا
كانت بحيثُ عليها قومُها ضَرَبَتْ سُرَادِقاً أرضُهُ من عزِّهم حَرَم
يكادُ من هيبة أَنْ لاَ يطوفَ به حتى الملائكُ لولا أنَّهم خَدَمُ
فغودرت بين أيدي القومِ حاسرة تُسبى وليس ترى من فيه تعتصم
نعم لوت جيدَها بالعتبِ هاتفةً بقومِها وحشاها مِلْؤُهُ ضَرَمُ
عَجَّت بهم مذ على أبرادِها اختلفت أيدي العدوِّ ولكن مَنْ لها بِهِمُ
نادت ويا بُعْدَهُم عنها مُعَاتِبةً لهم ويا ليتهم من عَتْبِهَا أمم
قومي الأولى عُقِدَت قِدْماً مآزِرُهُمْ على الحميَّةِ مَاضيموا وَلاَ اهتضموا(2)

ويروى أنه ( عليه السلام ) سمع ذات يوم رجلا ينادي في السوق : أيُّها الناس  ، ارحموني  ، أنا رجل غريب  ، فتوجَّه إليه الإمام ( عليه السلام ) وقال له : لو قدِّر لك أن تموت في هذه البلدة فهل تبقى بلا دفن ؟ فقال الرجل : الله أكبر! كيف أبقى بلا دفن وأنا رجل مسلم وبين ظهراني أمة مسلمة ؟! فبكى الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وقال : وا أسفاه عليك يا أبتاه  ، تبقى ثلاثة أيام بلا دفن وأنت ابن بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) (3).
ما إنْ بقيتَ من الهوانِ على الثرى ملقىً ثلاثاً في رُبَىً وَوِهَادِ
إلاَّ لكي تقضي عليك صلاتَها زُمَرُ الملائِك فوقَ سَبْعِ شِدَاد(4)

ولله درّ الشيخ عبد الحسين الأعسم عليه الرحمة إذ يقول :

(1) إرشاد الخطيب  ، السيد جاسم السيد حسن شبر : 33.
(2) رياض المدح والرثاء : 81.
(3) كتاب دموع وآلام في مجالس العزاء  ، السيد أحمد شكر الحسيني : 2/339  ، كتاب الأئمة الإثني عشر  ، السيد هاشم معروف الحسني : 2/115.
(4) رياض المدح والرثاء  ، الشيخ حسين القديحي : 658.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 40

كأنَّ كلَّ مكان كربلاءُ لدى عيني وكلَّ زمان يومُ عاشورا
لهفي لظام على شاطي الفراتِ قَضَى ظمآنَ يرنو لِعَذْبِ الماءِ مقرورا
وَجسمَهُ نسجت هُوجُ الرياحِ له ثوباً بقاني دمِ الأوداج مزرورا
إن يبقَ ملقىً بلا دفن فإن له قبراً بأحشاءِ مَنْ والاه محفورا
ياليتَ عَيْنَ رسولِ اللهِ ناظرةٌ رأسَ الحسينِ على على العسَّال مشهورا(1)

قال السيد ابن طاووس الحسني عليه الرحمة : رأيت في كتاب المصابيح بإسناده إلى جعفر بن محمد ( عليه السلام ) قال : قال لي أبي محمد بن علي : سألت أبي علي بن الحسين عن حمل يزيد له فقال : حملني على بعير يظلع بغير وطاء  ، ورأس الحسين ( عليه السلام ) على علم  ، ونسوتنا خلفي على بغال فأكف (2)، والفارطة خلفنا وحولنا بالرماح  ، إن دمعت من أحدنا عين قرع رأسه بالرمح  ، حتى إذا دخلنا دمشق صاح صائح : يا أهل الشام هؤلاء سبايا أهل البيت (3).
وفي رواية قال الباقر ( عليه السلام ) : سألت أبي علي بن الحسين ( عليه السلام ) عن كيفية دخولهم على يزيد لعنه الله  ، فقال : أوقفونا أولا على باب من أبواب القصر ثلاث ساعات في طلب الإذن من يزيد  ، ثم أدخلونا عليه ونحن مربَّطون بحبل واحد مثل الأغنام  ، وكان الحبل في عنقي وعنق عمتي زينب وأم كلثوم وباقي النساء والبُنيّات  ، وكلَّما قصرنا عن المشي ضربونا حتى أدخلونا على يزيد لعنه الله (4) ولله درّ ابن العرندس عليه الرحمة إذ يقول :
ولهفي لزينِ العابدين وقد سرى أسيراً عليلا لا يُفَكُّ له أَسْرُ


(1) الدر النضيد  ، السيد الأميني : 175.
(2) قال العلامة المجلسي عليه الرحمه في بحار الأنوار 45/154 : « قوله : فأكف أي أميل وأشرف على السقوط  ، والأظهر «  واكفة » أي كانت البغال بإكاف أي برذعة من غير سرج ».
(3) إقبال الأعمال. السيد ابن طاووس الحسني : 3/89.
(4) وفيات الأئمة ( عليهم السلام )  ، مجموعة من علماء البحرين والقطيف : 166.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 41

وآلُ رسولِ اللهِ تُسبى نساؤهم وَمِنْ حَوْلِهنَّ السترُ يُهْتَكُ والخدرُ
سبايا بأكوارِ المطايا حواسرا يلاحظُهنَّ العبدُ في الناسِ والحر
ورملةُ في ظلِّ القصورِ مصونة يُناطُ على أقراطِها الدرُّ والتبر(1)

وقال آخر :
فقل لسرايا شيبةِ الحمدِ مالكم قعدتم وقد ساروا بنسوتِكم حسرى
وأعظمُ ما يشجي الغيورَ دخولُها إلى مجلس ما بارح اللَّهْوَ والخمرا
أقيمت لديه آهِ وَاذلَّةَ الهدى وكلٌّ عن النُظَّارِ تنضمُّ بالأخرى

المجلس الخامس ، من اليوم الأول

دخول دعبل الخزاعي على الإمام علي بن
موسى الرضا ( عليه السلام ) في أيام عاشوراء

روي عن عبدالسلام بن صالح الهروي قال : دخل دعبل بن علي الخزاعي على علي بن موسى الرضا ( عليهما السلام ) بمرو فقال له : يا بن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إني قد قلت فيك قصيدة  ، وآليت على نفسي أن لا أنشدها أحداً قبلك  ، فقال ( عليه السلام ) : هاتها فأنشده :
مدارسُ آيات خلت من تلاوة ومنزلُ وحي مُقْفِرُ العرصاتِ

فلمَّا بلغ إلى قوله :
أرى فَيْئَهُمْ في غيرِهم متقسِّما وأيديَهُمْ من فَيْئِهِمْ صَفِرَاتِ

بكى أبو الحسن الرضا ( عليه السلام ) وقال له : صدقت يا خزاعي  ، فلمّا بلغ إلى قوله :
إذَا وُتِرُوا مَدُّوا إلى وَاتِرِيهِمُ أكّفاً عن الأوتارِ مُنْقَبِضَاتِ


(1) الغدير  ، الأميني : 7/16 ـ 17.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 42

جعل أبو الحسن ( عليه السلام ) يقلِّب كفيه ويقول : أجل والله منقبضات  ، فلمّا بلغ إلى قوله :
لقد خِفْتُ في الدنيا وأيَّامِ سَعْيِها وإني لأَرْجُوا الأَمْنَ بَعْدَ وَفَاتي

قال الرضا ( عليه السلام ) : آمنك الله يوم الفزع الأكبر  ، فلمَّا انتهى إلى قوله :
وقبرٌ ببغداد لنفس زكيَّة تضمَّنها الرحمنُ في الغُرُفَاتِ

قال له الرضا ( عليه السلام ) : أفلا ألحق لك بهذا الموضع بيتين بهما تمامُ قصيدتك ؟ فقال : بلى يابن رسول الله  ، فقال ( عليه السلام ) :
وقبرٌ بطوس يا لها من مصيبة تُوقِّدُ في الأحشاءِ بالحرِقاتِ
إلى الحشرِ حتى يبعثَ اللهُ قائماً يفرِّجُ عنّا الهمَّ والكُرُباتِ

فقال دعبل : يا ابن رسول الله  ، هذا القبر الذي بطوس قبر من هو ؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) : قبري  ، ولا تنقضي الأيام والليالي حتى تصير طوس مختلف شيعتي وزوّاري  ، ألا فمن زارني في غربتي بطوس كان معي في درجتي يوم القيامة مغفوراً له.
ثمَّ نهض الرضا ( عليه السلام ) بعد فراغ دعبل من إنشاد القصيدة  ، وأمره أن لا يبرح من موضعه  ، فدخل الدار فلمَّا كان بعد ساعة خرج الخادم إليه بمائة دينار رضوية فقال له : يقول لك مولاي : اجعلها في نفقتك  ، فقال دعبل : والله ما لهذا جئت  ، ولا قلت هذه القصيدة طمعاً في شيء يصل إليَّ  ، وردَّ الصرَّة وسأل ثوباً من ثياب الرضا ( عليه السلام ) ليتبرَّك ويتشرَّف به  ، فأنفذ إليه الرضا ( عليه السلام ) جبَّة خزّ مع الصرّة  ، وقال للخادم : قل له : خذ هذه الصرّة فإنك ستحتاج إليها  ، ولا تراجعني فيها  ، فأخذ دعبل الصرّة والجبّة وانصرف  ، وسار من مرو في قافلة  ، فلمَّا بلغ ميان قوهان وقع عليهم اللصوص  ، فأخذوا القافلة بأسرها وكتّفوا أهلها  ، وكان دعبل فيمن كتِّف  ، وملك اللصوص القافلة  ، وجعلوا يقسمونها بينهم  ، فقال رجل من القوم متمثِّلا

المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 43

بقول دعبل في قصيدته :
أرى فيئهم في غيرهم متقسما وأيديهم من فيئهم صَفراتِ

فسمعه دعبل فقال له : لمن هذا البيت ؟ فقال : لرجل من خزاعة يقال له : دعبل بن علي  ، قال : فأنا دعبل قائل هذه القصيدة التي منها هذا البيت  ، فوثب الرجل إلى رئيسهم وكان يصلّي على رأس تل  ، وكان من الشيعة  ، فأخبره فجاء بنفسه حتى وقف على دعبل  ، وقال له : أنت دعبل ؟ فقال : نعم  ، فقال له : أنشدني القصيدة  ، فأنشدها  ، فحلَّ كتافه وكتاف جميع أهل القافلة  ، وردَّ إليهم جميع ما أخذ منهم لكرامة دعبل  ، وسار دعبل حتى وصل إلى قم فسأله أهل قم أن ينشدهم القصيدة  ، فأمرهم أن يجتمعوا في المسجد الجامع  ، فلمّا اجتمعوا صعد المنبر فأنشدهم القصيدة  ، فوصله الناس من المال والخُلع بشيء كثير  ، واتّصل بهم خبر الجبّة فسألوه أن يبيعها بألف دينار  ، فامتنع من ذلك  ، فقالوا له : فبعنا شيئاً منها بألف دينار  ، فأبى عليهم وسار عن قم  ، فلمَّا خرج من رستاق البلد لحق به قوم من أحداث العرب وأخذوا الجبّة منه.
فرجع دعبل إلى قم وسألهم ردَّ الجبّة  ، فامتنع الأحداث من ذلك وعصوا المشايخ في أمرها  ، فقالوا لدعبل : لا سبيل لك إلى الجبَّة فخذ ثمنها ألف دينار  ، فأبى عليهم  ، فلمّا يئس من ردِّهم الجبَّة سألهم أن يدفعوا إليه شيئاً منها  ، فأجابوه إلى ذلك وأعطوه بعضها ودفعوا إليه ثمن باقيها ألف دينار.
وانصرف دعبل إلى وطنه فوجد اللصوص قد أخذوا جميع ما كان في منزله  ، فباع المائة الدينار التي كان الرضا ( عليه السلام ) وصله بها  ، فباع من الشيعة كل دينار بمائة درهم  ، فحصل في يده عشرة آلاف درهم  ، فذكر قول الرضا ( عليه السلام ) : إنك ستحتاج إلى الدنانير  ، وكانت له جارية لها من قلبه محل  ، فرمدت عينها رمداً عظيماً  ، فأدخل أهل الطب عليها  ، فنظروا إليها فقالوا : أمّا العين اليمنى فليس لنا فيها حيلة

المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 44

وقد ذهبت  ، وأمّا اليسرى فنحن نعالجها ونجتهد ونرجو أن تسلم.
فاغتمَّ لذلك دعبل غماً شديداً وجزع عليها جزعاً عظيماً  ، ثمَّ إنه ذكر ما كان معه من وصلة الجبّة  ، فمسحها على عيني الجارية وعصَّبها بعصابة منها أول الليل  ، فأصبحت وعيناها أصحّ مما كانتا قبل  ، ببركة أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) (1).
وفي رواية عن عبدالسلام بن صالح الهروي قال : سمعت دعبل بن علي الخزاعي يقول : لما أنشدت مولاي الرضا ( عليه السلام ) قصيدتي التي أولها :
مدارسُ آيات خلت من تلاوة ومنزلُ وحي مُقْفِرُ العَرَصَاتِ

فلمَّا انتهيت إلى قولي :
خروجُ إمام لا محالةَ خارجٌ يقومُ على اسمِ اللهِ والبركاتِ
يُميِّزُ فينا كلَّ حقٍّ وباطل ويجزي على النعماء والنَّقِمَاتِ

بكى الرضا ( عليه السلام ) بكاء شديداً  ، ثم رفع رأسه إليَّ فقال لي : يا خزاعي  ، نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين  ، فهل تدري من هذا الإمام ؟ ومتى يقوم ؟ فقلت : لا يا سيدي  ، إلاَّ إني سمعت بخروج إمام منكم يُطهِّر الأرض من الفساد ويملأها عدلا  ، فقال : يا دعبل  ، الإمام بعدي محمد ابني  ، وبعد محمد ابنه علي  ، وبعد علي ابنه الحسن  ، وبعد الحسن ابنه الحجّة القائم  ، المنتظر في غيبته  ، المطاع في ظهوره  ، لو لم يبق من الدنيا إلاَّ يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يخرج فيملأها عدلا كما ملئت جوراً وظلماً  ، وأما متى فإخبار عن الوقت  ، ولقد حدَّثني أبي  ، عن أبيه  ، عن آبائه  ، عن علي ( عليه السلام ) أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قيل له : يا رسول الله ( صلى الله عليه وآله )   ، متى يخرج القائم من ذريّتك ؟ فقال : مثله مثل الساعة « لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً»(2) .

(1)عيون أخبار الرضا ( عليه السلام )   ، الشيخ الصدوق : 1/294.
(2) عيون أخبار الرضا ( عليه السلام )   ، الشيخ الصدوق : 1/296.
المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 45

قال العلامة المجلسي عليه الرحمة : رأيت في بعض مؤلَّفات المتأخِّرين أنه قال : حكى دعبل الخزاعي  ، قال : دخلت على سيدي ومولاي علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) في مثل هذه الأيام  ، فرأيته جالساً جلسة الحزين الكئيب  ، وأصحابه من حوله  ، فلمّا رآني مقبلا قال لي : مرحباً بك يا دعبل  ، مرحباً بناصرنا بيده ولسانه  ، ثم إنه وسَّع لي في مجلسه  ، وأجلسني إلى جانبه  ، ثم قال لي : يا دعبل  ، أحبّ أن تنشدني شعراً  ، فإن هذه الأيام أيام حزن كانت علينا أهل البيت  ، وأيام سرور كانت على أعدائنا خصوصاً بني أمية  ، يا دعبل  ، من بكى وأبكى على مصابنا ولو واحداً كان أجره على الله  ، يا دعبل  ، من ذرفت عيناه على مصابنا  ، وبكى لما أصابنا من أعدائنا حشره الله معنا في زمرتنا  ، يا دعبل  ، من بكى على مصاب جدّي الحسين غفر الله له ذنوبه البتة  ، ثم إنه ( عليه السلام ) نهض وضرب ستراً بيننا وبين حرمه  ، وأجلس أهل بيته من وراء الستر ليبكوا على مصاب جدِّهم الحسين ( عليه السلام )   ، ثم التفت إليَّ وقال لي : يا دعبل  ، ارثِ الحسين فأنت ناصرنا ومادحنا ما دمت حياً  ، فلا تقصِّر عن نصرنا ما استطعت  ، قال دعبل : فاستعبرت وسالت عبرتي وأنشأت أقول :
أفاطمُ لو خلتِ الحسينَ مجدَّل وقد مات عَطشاناً بشطِّ فُرَات
إذاً للطمتِ الخدَّ فاطمُ عِنْدَه وأجريتِ دَمْعَ العينِ في الوَجَنَاتِ
أفَاطمُ قومي يا ابنةَ الخيرِ وانْدُبي نُجُومَ سماوات بأرضِ فَلاَة
قبورٌ بكوفان وأخرى بطيبة وأخرى بفخٍّ نالها صلواتي
قبورٌ ببطنِ النَّهْرِ من جَنْبِ كربلا مُعَرَّسُهم فيها بشطِّ فُرَاتِ
تُوفُّوا عطاشى بالعراءِ فليتني تُوُفِّيْتُ فيهم قَبْلَ حينِ وَفَاتي
إلى الله أشكو لوعةً عند ذِكْرِهِمْ سقتني بكأسِ الثَّكْلِ والفظعاتِ
إذا فَخَروا يوماً أتوا بمحمَّد وجبريلَ والقرآنِ والسوراتِ


المجالس العاشورية في ألمآتم الحسينية 46

وعدّوا عليّاً ذا المناقبِ والعُلاَ وفاطمةَ الزهراءَ خيرَ بناتِ
وحمزةَ والعباسَ ذاالدينِ والتقى وجعفَرها الطيَّارَ في الحجباتِ
أولئك مشؤمون هنداً وحزبَها سميَّةَ من نَوكَى ومن قَذِرَاتِ
هُمُ منعوا الآباءَ من أَخْذِ حقِّهم وهم تركوا الأبناءَ رَهْنَ شَتَاتِ
سأبكيهم ما حجَّ للهِ راكبٌ وما ناح قَمْريٌّ على الشجراتِ
فيا عينُ بكِّيهم وجودي بعبرة فقد آنَ للتَّسْكَابِ والهَمَلاتِ
وآلُ زياد في الحُصُونِ منيعةٌ وآلُ رسولِ اللهِ في الفَلَواتِ
ديارُ رسولِ اللهِ أصبحنَ بلقعاً وآلُ زياد تسكُنُ الحُجُراتِ
وآلُ رسولِ اللهِ نُحْفٌ جسومُهُمْ وآلُ زياد غُلَّظُ القصراتِ
وآلُ رسولِ اللهِ تُدمى نحورُهُم وآلُ زياد ربَّهُ الحجلاتِ
وآلُ رسولِ اللهِ تُسبى حريمُهُمْ وآلُ زياد آمِنُوا السَّرَبَاتِ
إذا وُتِروا مدّوا إلى واتريهِمُ أكفّاً عن الأوتارِ منقبضاتِ
سأبكيهم ما ذَرَّ في الأرضِ شارقٌ ونادى منادي الخيرِ للصلواتِ
وما طلعت شمسٌ وَحَانَ غُرُوبُها وبالليلِ أبكيهم وبالغَدَواتِ(1)

المجلس الأول ، من اليوم الثاني

ألإمام الحسين ( عليه السلام ) في مجلس الوليد

جاء في الزيارة الناحية الشريفة مخاطبا لسيد الشهداء ( عليه السلام ) : كُنتَ للرسولِ ( صلى الله عليه وآله ) ولداً ، وللقرآن مُنقِذاً ، وللأُمّةِ عَضُداً ، وفي الطاعةِ مجتهداً ، حافظاً للعهدِ والميثاقِ ، ناكباً عن سُبُل الفُسَّاقِ ، باذلاً للمجهودِ ، طويلَ الركوعِ والسجودِ ،

بحار الأنوار ، المجلسي : 45/257.

السابق السابق الفهرس التالي التالي