مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 101

هل كان الحسين (ع) يطلب الحكم بثورته ؟

من الشبهات القوية حول قيام الحسين (ع) بثورته المباركة هي شبهة أن قيامه بها هل كان طلباً للملك والسلطان وللإستيلاء على الحكم أم لا ؟ وقد تعرض الكثيرون ممن كتبوا عن الحسين (ع) لهذه الشبهة فنفوها نفياًً كلياً مؤكدين أن الحسين (ع) لم ينهض طلباً للحكم ولا كان من أهدافه انتزاع السلطة من الأمويين ولم يكن يفكر في ذلك أبداً .
فكأن هؤلاء يرون طعناً في كرامة الحسين (ع) ونقصاً في قدسية ثورته أن ينسبوا اليه الرغبة في الحكم والميل إلى تسلم السلطة والعمل من أجل انتزاع الخلافة من أيدي الأمويين . ويزعمون أن الحسين (ع) أجل وأرفع من أن يطلب الأمرة والحكم بتلك المحاولة . بل كان غرضه الأوحد القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن طريق التضحية والشهادة فقط وهؤلاء يشكرون على كل حال على نواياهم الطيبة تجاه الحسين (ع) . ولكن الحقيقة والواقع هو خلاف ما يرون ويزعمون ...
وذلك لأن طلب الحكم والسلطة والأمرة ليس قبيحاً دائماً ولا هو مذموم مطلقاً بل إذا كان طلب الحكم والسلطان صادراً من أهله الأكفاء ولغرض الاصلاح وإحقاق الحق ومكافحة الباطل فانه حينئذ يكون محبوباًَ عقلاً وقد يكون واجباً شرعياً يفرضه الله تعالى على الانسان الصالح اللائق للحكم والأمارة مثله تماماً كمثل طلب أي شيء آخر من وسائل الحياة الأخرى كطلب المال والجاه مثلاً . كما قال (ع) : اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك ...

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 102

وكيف يكون طلب الحكم نقصاً أو عيباً وقد طلبه من قبل ابوه أمير المؤمنين طيلة خمس وعشرين سنة بعد رسول الله (ص) إلى أن وصل اليه بعد مقتل عثمان ولكنه (ع) أوضح لنا غاياته من وراء ذلك الطلب فقال أما والله ان إمرتكم لأهون علي من هذا النعل إلا أن أقيم حقاً وأدفع باطلاً . وقال (ع) أيضا في خطبة له :
اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الاصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطلة من حدودك .
فإذاً لو كان طلب الحكم والسلطان لا لغرض المنافسة والتفاخر ولا للحصول على الشهوات واللذة الحقيرة ولا لخدمة مصلحة شخصية بل كان لغرض اعادة معالم الدين والاصلاح في البلاد ونشر العدل والأمن بين العباد وانصاف المظلوم من الظالم .. وأمثالها فالطلب حينئذ أمر حسن ومحبوب ومرغوب فيه شرعاً ومنطقاً ، فأي ضير على الحسين (ع) إذا كان يطلب السلطة والحكم بتلك الثورة المقدسة لنفس هذه الأهداف ؟
أو ليس الحكم والسلطان حقه الشرعي والعقلي بعد أبيه وأخيه ؟ أو ليس هو (ع) أحد أولي الأمر الذين فرض الله طاعتهم على عباده في محكم كتابه فقال «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم» . أو ليس هو (ع) أحد أئمة المسلمين الذين نص عليهم رسول الله جملة وتفصيلاً ؟ أو ليس هو (ع) أحد الإمامين اللذين نص الرسول على ثبوت الإمامة لهما سواء قاما أم قعدا كما في الحديث المتواتر : الحسن والحسين إمامان . ثم هل كان في عصر الحسين (ع) من هو أجدر بالأمرة والخلافة من سيد شباب أهل الجنة أبي عبد الله الحسين (ع) ؟
ومن الجهة الثانية نسأل يا ترى ما الذي كان يفعله الحسين (ع) لو استلم السلطة أو ليس كان يفعل ما فعله رسول الله (ص) وأمير المؤمنين وكل الأنبياء والمرسلين والأوصياء الحاكمين ؟ فإذا أي نقص يرد على ثورة الحسين (ع) لو كانت

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 103

بقصد الاستيلاء على الحكم وطلب السلطان ؟ ان الذين يهاجمون ثورة الحسين (ع) من طريق اتهامها بأنها كانت طلباً للملك وصراعاً على السلطة . هؤلاء لم يعرفوا شيئاً عن شخصية الحسين (ع) بل نظروا اليه كزعيم سياسي قام طلباًَ للسلطة لأجل السلطة ككل الزعماء السياسيين الدنيويين الماديين في العالم . أما لو كانوا قد عرفوا حقيقة الحسين (ع) وأهدافه البعيدة وغاياته الرئيسية من تلك الثورة وإن طلبه للسلطة كان لأجل التوصل بها إلى تلك الغايات الانسانية العليا . وإن الطريق الذي سلكه طلباً للسلطة هو طريق المثالية والشرف والنبل والشهامة والكرم وعدل عن الطريق التقليدي الذي يسلكه عادة الزعماء السياسيون وهو طريق الغاية تبرر الواسطة . وان الملك عقيم ...
أقول لو عرف أولئك المهاجمون هذه الأمور عن الحسين (ع) لعدلوا عن مسلك الاتهام . وهذا هو الأستاذ العقاد يرد عليهم في كتاب أبي الشهداء فيقول بالحرف ص 195 ...
«وايسر شيء على الضعفاء الهازلين أن يذكروا هنا طلب الملك ليغمروا به شهادة الحسين وذويه . فهؤلاء واهمون ضالون مغرقون في الوهم والظلال . لأن طلب الملك لا يمنع الشهادة وقد يطلب الرجل الملك شهيداً قديساً وقد يطلبه وهو مجرم بريء من القداسة . وإنما هو طلب وطلب وإنما هي غاية وغاية وإنما المعول في هذا الأمر على الطلب لا على المطلوب فمن طلب الملك بكل ثمن وتوسل له بكل وسيلة وسوى فيه بين الغصب والحق وبين الخداع والصدق وبين مصلحة الرعية ومفسدتها ففي سبيل الدنيا يعمل لا في سبيل الشهادة . ومن طلب الملك وأباه بالثمن المعيب وطلب الملك حقاً ولم يطلبه لأنه شهوة وكفى وطلب وهو يعلم انه سيموت دونه لا محالة وطلب الملك وهو يعتز بنصر الايمان ولا يعتز بنصر الجند والسلاح وطلب الملك رفعاً للمظلمة وجلباً للمصلحة كما وضحت له بنور ايمانه وتقواه . فليس ذلك بالعامل الذي يخدم نفسه بعمله ولكنه الشهيد الذي يلبي داعي المروءة والأريحية ويطيع وحي الايمان

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 104

والعقيدة ويضرب للناس مثلاً يتجاوز حياة الفرد الواحد وحياة الأجيال الكثيرة» . انتهت كلمة العقاد ... ويقول هو ايضاً في نفس الكتاب «ان الحسين (ع) طلب الخلافة بشروطها التي يرضاها ولم يطلبها غنيمة يحرص عليها مهما تكلفه من ثمن ومهما تطلب من وسيلة فكانت عنايته بالدعوة والاقناع أعظم جداً من عنايته بالتنظيم والإلزام» . أعود فأقول ما المانع من أن يطلب الحسين (ع) الملك والسلطة بعد أن طلبها نبي الله سليمان بن داود (ع) من ربه صراحة . فقال «رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي» وطلبها ابراهيم الخليل (ع) لذريته بعد أن حصل عليها هو لنفسه . قال «إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين» . وإلى غير ذلك من الشواهد والأمثال ونوجه الخطاب ثانياً إلى هؤلاء المدافعين عن الحسين بأنه لم ينهض طلباً للملك . فنقول لهم ها هو الحسين (ع) بالذات يصرح بأنه يطلب الأمرة والسلطان لأنه أولى بهما وأحق من يزيد بن معاوية وغيره . نعم أنظر إلى كلماته التي قالها في مجلس الوليد حاكم المدينة وبمحضر من مروان بن الحكم ... فقال (ع) «نحن أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي والتنزيل ويزيد رجل فاسق فاجر شارب للخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق والفجور ومثلي لا يبايع مثله ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أينا أولى بالخلافة والأمر» ... فالحسين (ع) يطلب الخلافة والأمر ولكن من طريق المنطق والموازين العادلة والتحكيم الحر والانتخاب الشعبي الصحيح . وعلمه بالشهادة والقتل دون الوصول اليها لا ينافي طلبه لها ولا يتعارض مع سعيه للحصول عليها لأن في الطلب والسعي إتمام للحجة على الناس وافراغ للذمة من المسئولية أمام الله والتاريخ حتى لا يقال أنه قصر أو تكاسل ولو رشح نفسه وسعى لها لحصل عليها . ومن قبله أخوه الحسن (ع) كان يعلم بكل ذلك المصير الذي وصل اليه علماً كاملاً . ومع ذلك لم يمنعه ذلك العلم

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 105

من التهيؤ وتجهيز الجيش والمسير نحو الحرب مع العدو واتخاذ كافة اللوازم المطلوبة . وهذا أبوهما أمير المؤمنين (ع) فانه طلب الخلافة والأمرة التي هي حقه الشرعي والطبيعي بعد رسول الله (ص) . طلبها بكل الوسائل ما عدا السيف . إذ رأى أن في استعمال السيف يومئذ خطراً على مصلحة الإسلام العليا . ولكن استعمل الوسائل السلمية حتى أنه صار يحمل زوجته فاطمة (ع) وأبنائه الحسن والحسين ويطوف بهم على زعماء المهاجرين والأنصار وكبار الصحابة مطالباً بحقه وحقوق هؤلاء مذكراً لهم بالنصوص النبوية الشريفة التي سمعوها من الرسول (ص) في حقه وحق هؤلاء واستمر على ذلك أربعين يوماً . وهو يعلم علم اليقين أنه لا يحصل على حقه من الخلافة ولا هؤلاء يحصلون على حقوقهم من الخمس ومن الميراث ومن فدك . ولكن ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة . كما أنه (ع) حضر مجلس الشورى مع الخمسة الآخرين الذين رشحهم عمر بن الخطاب للخلافة حضر معهم الإمام وطالب بالخلافة وحاجج القوم وبذل كل ما في وسعه من الجهد للوصول إلى الحكم . فلم يصل وكان يعلم علم اليقين أنه لا يصل . ولكن لاتمام الحجة وإبراء الذمة كما سبق وذكرنا في موضوع تعليل خروج الحسين (ع) إلى العراق أن الظواهر هي الحجة في العلائق والنظم الاجتماعية الاسلامية وواجب النبي والإمام أن يسير مع الناس حسب ظاهرهم ومقتضى الأسباب والعوامل الطبيعية العادية ولا يرتب الآثار عليهم حسب المعلومات الغيبية والتنبؤات التي ليس عليها دليل قائم أو أثر ملموس .
وبكلمة موجزة نقول أن لأهل البيت حقاً وأن عليهم لواجباً أما حقهم فالقيادة والأمرة وأما واجبهم فإظهار الحق وبيانه . وظلامتهم الكبرى في الحياة ان قاموا بواجبهم أحسن قيام ولكن حرموا من كافة حقوقهم . وان غصب حقهم عنهم لم يمنعهم من القيام بواجبهم . على أن ذلك الحق لو وصل اليهم كاملاً لاستطاعوا من اداء مسؤوليتهم على وجه أكمل وأنفع للأمة كما قال أمير المؤمنين (ع) :

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 106

والله لو ثنيت لي الوسادة وجلست عليها لأفتيت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الأنجيل بانجيلهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم حتى ينطقوا جميعاً ويقولوا صدق علي بما حكم ... وكما قال سلمان الفارسي (ره) في خطبة له بعد وفاة الرسول (ص) : «والله لو وليتموها علياً لأكلتم من فوق رؤوسكم ومن تحت أقدامكم ولو دعوتم الطير في السماء لأتتكم والحيتان في البحار لأجابتكم ولما طاش سهم من سهام الله ولا تعطل حكم من أحكام الله ولكن حظكم أخطأتم ونصبيكم ضيعتم» . وقالت فاطمة (ع) : والله لو مالوا عن الحجة اللائحة وزالوا عن قبول الحجة الواضحة لردهم اليها ولحملهم عليها ولسار بهم سيراً سجحاً لا يكلح خشاشه ولا يكل سائره ولا يمل راكبه ولأوردهم منهلاً نميراً صافياًَ تطفح ضفتاه ولا يترنق جانباه ولأصدرهم بطانا ونصح لهم سراً واعلانا ولم يكن يتحلى من الدنيا بطائل ... الخ» وفي ختام هذا الموضوع نستمع إلى مقطوعة شعرية رائعة من المرحوم الحاج هاشم الكعبي (ره) :
أو مـا علمـت الماجديـن غداة جـدوا بالرحيـل
عقدوا علـى البنين النكـاح وطلقوا سنـن القفـول
عشقـوا العـلا ففنـوا بهـا والغصن يرمى بالذبول
أو مـا سمعت بـن البتـولة لـو دريت بـن البتول
ازدقاهـا شعـث النواصـي عـاقـدات للـذيـول
متنكـب الـورد الـذميـم مجانـب المرعى الوبيل
طلاب مجد بالحسام العضب و الـرمـح الطـويـل
متطلبـاً أقصـى المطالـب خاطب الخطـب الجليل
ظلـت أميـة مـا تـريـد غداة مقتـرع النصـول
رامـت تسـوق المصعـب الهدا رمستـاق الذلـول
و يـروح طـوع يميـنهـا قود الجنيب أبـو الشيول
رامت لعمـر بن النبي الطهر ممـتنـع الـحـصـول

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 107

وغوا بهـا جهل بهـا والبغي من خلق الجهول
لفّ الرجال بمثلها ... وثنا الخيول على الخيول
و أباحها عضب الشبا لا بالكهـام و لا الكليـل
لسنـانـه ولسـانـه صدقان مـن طعن وقيل
ذات الفـقـار بكفـه و بكتفـه ذات الفظـول
وأبـو المنيـة سيفـه وكذا السحاب أبو السيول
يابن الذيـن توارثـوا العليـا قبيلاً عـن قبيـل
والسابقيـن بمجدهـم في كل جيـل كل جيـل
ان تمس منكسر اللوى ملقى على وجه الـرمول
فلقـد قتلـت مهذّبـاً عن كل عيب فـي القتيل

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 108

هل كان الحسين (ع) عالماً بمصيره المعروف ؟

يكثر التساؤل حول علم الحسين (ع) بما صار اليه عاقبة أمره حسب ما هو معروف هل كان من باب الاحتمال أو الظن الذي يحتمل العكس والخلاف فيكون حينئذ قد خدع بكتب أهل العراق وغرر به من قبلهم ؟
أم كان ذلك العلم من باب القطع والجزم واليقين الذي لا شك فيه . فيكون حينئذ قد أقدم على حركة انتحارية ؟ . نقول أجل كان عالماً بما جرى علماً يقينياً قاطعاً لا يشوبه شك وقد أعلن عنه في مكة قبيل الخروج بخطبته التي قال فيها (ع) : وكأني بأوصالي هذه تقطعها . الخ ...
ولكن مع ذلك لم يكن خروجه عملاً انتحارياًً بل كان قتله نتيجة طبيعية للظروف والأحداث العادية التي أوجدها الناس بجهلهم وسوء تصرفهم . من قبيل علم الطبيب مثلاً بموت هذا المريض في النهاية بسبب تطور المرض ومضاعفاته الطبيعية التي لا خيار للطبيب فيها وجوداً ولا عدماً . وإنما عليه أن يراقبها ويساير مراحلها بما عنده من مخففات ومسكنات فقط وهو بانتظار نتيجتها الطبيعية القصوى . كذلك علم الحسين (ع) بذلك المصير . فهو (ع) كان يعلم من البداية أن يزيد سيتولى على الخلافة ويطلب منه البيعة وهو يمتنع من البيعة فيأمر بقتله في المدينة فيخرج منها حفظاً لدمه ودفاعاً عن كرامته ويكتب اليه أهل العراق بالطاعة والبيعة له فتتم عليه الحجة الظاهرية بحسب القوانين الشرعية فإذا وصل اليهم يغدرون به ويحصرونه في وادي كربلاء وهكذا تتسلسل الحوادث حسب مجراها الطبيعي حتى تودي إلى العاقبة التي حصلت .

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 109

ولم يكن بوسع الحسين أن يغير أو يدفع شيئاً منها نعم حاول بكل ما استطاع أن يخفف من وطأتها ويؤخر من حدوثها فما استطاع لوجود الموانع والدوافع الشرعية والزمنية .
صحيح أنه لو كان قد بايع ليزيد لتغير وجه مصيره إلى حد كبير ولكن قد أثبتنا سابقاً أن ذلك كان حراماً على الحسين (ع) من الوجهة الشرعية والأخلاقية والعرفية وجريمة كبرى على شرفه ودينه وأمة جده (ص) وعلى هذا فقس باقي الحوادث المتتابعة بعدها التي ما كان باستطاعة الحسين (ع) دفعها إلا بالتنازل عن كرامته والتخلي عن مسؤوليته والخيانة لرسالته والأمانة الملقاة على عاتقه من قبل الله ورسوله والأمة .
والخلاصة : كان علم الحسين (ع) علماً بترتب الحوادث على عواملها الطبيعية والمعلولات على عللها اوالمسببات على أسبابها تلك الأسباب والعلل التي أوجدها الناس بسوء اختيارهم وضعف الوازع الديني في نفوسهم فهم محاسبون عليها ومعاقبون بها يوم تجزى فيه كل نفس ما كسبت وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
ومن هنا قيل أنه (ع) جمع بين التكليفين في آن واحد التكليف الباطني ، وهو تكليفه من الله بأن يفدي الدين بنفسه وانه شهيد هذه الأمة . والتكليف الظاهري وهو تكليفه العرفي الطبيعي أي مسايرة الأحداث والتطورات حسب متطلباتها العادية . وهذا من خصائصه (ع) ولعلك تقول : من أين علم الحسين (ع) بتلك القضايا الغيبية قبل وقوعها ؟ فأقول :
وصلت اليه من أبيه علي (ع) وجده محمد (ص) وبالتالي عن الله سبحانه وتعالى الذي هو وحده علام الغيوب وقد أوحى سبحانه إلى رسوله (ص) بكل ما يجري على الحسين (ع) .
فإن قلت : فلماذا لم يحفظ الله تعالى وليه الحسين (ع) ولم يدفع عنه القتل وهو العالم بكل شيء والقادر على كل شيء ؟

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 110

قلت في الجواب : لأن بقتله إحياء الدين وبدمه حفظ شريعة الإسلام فدار الأمر بين حياة الحسين (ع) أو حياة الدين لأن الجمع بينهما يؤدي إلى الجبر وسلب الحرية الانسانية وهو ممنوع في شريعة الله تعالى فكان الدين أولى بالحياة فالحسين (ع) فداء الدين وبهذا صرحت أخته العقيلة زينب (ع) لما جلست عند رأسه وهو صريع ورفعت طرفها نحو السماء وقالت اللهم تقبل منا هذا الفداء . وإلى هذا المعنى يرمز الحديث الشريف المشهور القائل (حسين مني وأنا من حسين) . فحسين مني واضح أي ابني وولدي ، ولكن قوله (ص) أنا من حسين يعني أن بقاء ذكري وشريعتي وديني بالحسين أي بتضحية الحسين وشهادته . ولقد قال بعض الخبراء وهو السيد جمال الدين الأفغاني (ره) أن الإسلام محمدي الوجود والحدوث . وحسيني البقاء والاستمرار . وقال المستشرق الألماني ماربين في الحسين (ع) كلمته المعروفة «واني أعتقد بأن بقاء القانون الإسلامي وظهور الديانة الإسلامية وترقي المسلمين هو مسبب ، عن قتل الحسين (ع) وحدوث تلك الفجايع المحزنة وكذلك ما نراه اليوم بين المسلمين من حس سياسي واباء الضيم ... وقال أيضاً لا يشك صاحب الوجدان إذا دقق النظر في أوضاع ذلك العصر ونجاح بني أمية في مقاصدهم . لا يشك أن الحسين (ع) قد أحيا بقتله دين جده وقوانين الإسلام ولو لم تقع تلك الواقعة لم يكن الإسلام على ما هو عليه الآن قطعاً بل كان من الممكن ضياع رسومه وقوانينه حيث كان يومئذ جديد عهد ...» انتهى محل الشاهد من كلام ماربين المستشرق الألماني . وأحسن تعبير عن هذا الواقع هو ما قاله ذلك الشاعر عن لسان الحسين (ع) يوم عاشوراء :
ان كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي يا سوف خذيني

وقال السيد جعفر الحلي :
بقتله فاح للإسلام طيب شذى وكلما ذكرته المسلمون ذكا

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 111

لماذا يأذن الحسين (ع) لاصحابه بالتفرق عنه ؟

أثبتنا في البحث السابق أن الأمرة والحكم كانا على رأس متطلبات الحسين (ع) من وراء ثورته الخالدة لأجل الوصول بهما إلى غايته الكبرى وهدفه الأعلى على أكمل وجه وهو اصلاح المجتمع وإعادة نظام الإسلام إلى المجتمع الإسلامي وطبعاً أن هذا الهدف لا يتم إلا من طريق السلطة ، فالسلطة إذاً كانت الطريق الأمثل أمام الحسين (ع) للوصول إلى اداء رسالته وتحقيقها كاملة . والحسين (ع) طلب السلطة وسعى اليها قطهاً وبلا شك . وهنا يبرز سؤال ويعترضنا استفهام حساس وهو لماذا إذا أجاز لأتباعه وأصحابه الذين خرجوا معه وانضموا اليه أن يتفرقوا عنه وهو في أمس حاجة إلى الاستكثار من الأعوان تحقيقاًَ لما طلب من الحكم والسلطان . وفعلاً تفرقوا عنه قبل لقاء العدوا حتى لم يبق معه منهم إلا القليل الذي لم يتجاوز النيف وسبعين رجلاً بعد أن كانوا معه حوالي الستة آلاف رجل تقريباً . فهل هذا سلوك ثائر يريد الاستيلاء على الحكم ؟
نقول أجل أن الحسين (ع) ثائر لأجل إحقاق الحق ونشر العدل والخير . والحق لا يتحقق من طريق الباطل والعدل لا ينشر بواسطة الظلم والخير لا يعطى على أيدي المبطلين وبكلمة واحدة الورد لا يجنى من العوسج والعسل لا ينال من الحنظل .
ومكلف الأيام ضد طباعها ـ متطلب في الماء جذوة نار ... إن الحسين (ع) أراد السلطة لاستخدامها في مصلحة المجتمع ولخدمة الدين والإسلام فلا يجوز

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 112

ٍٍأن يطلبها بطريق خداع الجماهير والتغرير بهم واغفالهم عن حقائق الأمور وواقع الحوادث ورفع الشعارات الكاذبة والدعايات المضللة . مثله مثل أبيه الإمام علي (ع) الذي رفض الخلافة يوم الشورى لما توقف حصولها على كلمة كذب واحدة حيث قيل له نبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وعلى سيرة الشيخين أبي بكر وعمر . فقال (ع) : كلا بل على كتاب الله وسنة رسوله فقط . وكان (ع) يسعه أن يقول نعم وينال الخلافة ثم يسير بعد ذلك حسب كتاب الله وسنة رسوله لا غير ولم يكن ملزماً بالشرط الأخير شرعاً لأن سيرة الشيخين إن كانت موافقة لكتاب الله وسنة رسوله فهي داخلة في الشرط حتماً وإن كانت مخالفة لهما فلا يجوز للمسلم أن يعمل بها ... ولكن الإمام (ع) مع ذلك كره أن يقول لشيء نعم وهو يعلم من نفسه أنه لا يلتزم به وبذلك فوت الخلافة على نفسه مدة اثني عشر سنة تقريباً وهي مدة خلافة عثمان بن عفان .
فسياسة الحسين هي بعينها سياسة أبيه علي (ع) وجده النبي (ص) وهي سياسة الإسلام والحق التي ترتكز على الصراحة والصدق والواقعية وتأبى الكذب والانتهازية واللف والدوران .
ثم أن الستة آلاف رجل الذين كانوا مع الحسين (ع) كان اكثرهم من الأعراب وأهل الأطماع والمرتزقة الذين يتبعون القادة طمعاً في الغنائم والمناصب والأرزاق خرجوا مع الحسين (ع) والتحقوا به في أثناء الطريق علماً منهم بأن الحسين (ع) قادم على بلد قد دان له أهلها بالطاعة والولاء وبايعه أهلها بالإجماع وسوف ينتصر بهم حتماً ويصلون بإتباعه إلى مغانم وأرباح . وكان الحسين (ع) يعرف ذلك في نفوسهم فلما تجلى غدر أهل العراق وظهر انقلابهم ولم يبق هناك أمل في انتصاره بهم على الأعداء بل أصبحوا هم من الأعداء والمحاربين له وذلك بقتلهم سفيره مسلم بن عقيل (ع) وقتل رسوليه عبد الله بن يقطر وقيس ابن مسهر الصيداوي رحمهما الله تعالى . عند ذلك تغير مجرى الثورة السابق وتحولت من حرب هجومية متكافئة وجهاد منظم مفروض حسب المقاييس

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 113

ٍٍٍالشرعية . إلى حرب فدائية استشهادية ليس فيها أمل في الانتصار العسكري وإنما المقصود منها التضحية والشهادة لغرض التوعية وتنبيه الرأي العام ولفت الأنظار إلى حقيقة الحكم القائم وواقع الزمرة الحاكمة وعزلهم عن الأمة المسلمة فيحبط بذلك مؤامراتهم العدوانية ضد الإسلام ومصلحة المسلمين . قال العقاد في ص 193 «وعلى هذا النحو تكون حركة الحسين (ع) قد سلكت طريقها الذي لا بد لها أن تسلكه وما كان لها قط من مسلك سواه ... حيث وصل الأمر إلى حدٍ لا يعالج بغير الاستشهاد» .
لذا فقد كره الحسين (ع) أن يترك أتباعه غافلين عن هذا التطور وجاهلين لهذا التحول المصيري الهام خوف أن يباغتوا بالمصير الذي لا يرغبون فيه فيسلموه عند الوثبة ، ويهزمون من الميدان عند اللقاء ويتفرقون عنه ساعة بدء المعركة . وفي ذلك وهن كبير يصيب معنوية القائد ويضعف مقاومة المخلصين من أصحابه . وإن تلك الاجازة لهم بالانصراف إذا شاءوا كانت من الحسين (ع) بالنسبة لهم أولاً للاختيار والامتحان . وثانياً بمثابة مخض وغربلة فاستخرج الزبدة منهم وهم نيف وسبعون رجلاً وقد بلغوا إلى ليلة عاشوراء إلى ما يقارب الثلاثمائة رجل كل منهم فدائي مخلص للحسين (ع) بايعوه على الموت واختاروا الشهادة على الحياة والقتل على البقاء في الدنيا ... ولقد اختبرهم مراراً فما وجد فيهم إلا الأشوس الأقعس يستأنسون بالمنية دونه استئناس الطفل بلبن أمه حسب شهادة الحسين (ع) في حقهم . قالوا له في بعض تلك الاختبارات : يا سيدنا لو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلدين لآثرنا النهوض معك على الاقامة فيها فقال لهم الحسين (ع) اعلموا أنكم كلكم تقتلون ولا يفلت منكم أحد . فقالوا الحمد لله الذي من علينا بشرف القتل معك ولا أرانا الله العيش بعدك أبداً وقال له مسلم بن عوسجة الأسدي (ره) : أنحن نتخلى عنك وبماذا نعتذر إلى الله في اداء حقك . أما والله لا افارقك حتى أطعن في صدورهم برمحي وأضرب بسيفي ما ثبت قائمة بيدي ولو لم يكن معي سلاح اقاتلهم به لقذفتهم

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 114

ٍٍبالحجارة حتى أموت معك . وقال له سعيد بن عبد الله الحنفي والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسوله فيك . أما والله علمت أني أقتل ثم احيا ثم أحرق حياً ثم أذرى يفعل بي ذلك سبعين مرة لما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك وكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً . وقال له زهير بن القين البجلي (ره) والله لوددت اني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل كذلك ألف مرة وأن الله عز وجل يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك . وهكذا تكلم الباقون من أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً فجزاهم الحسين (ع) خيراً .
أجل والله جزاهم الله خيراً لقد سجلوا بموقفهم هذا رقماً قياسياً خالداً وضربوا أروع مثال للتضحية في سبيل الكرامة وللعمل الفدائي الصحيح . ألا هكذا فليكن العمل الفدائي وإلا فلا . فهم قدوة كل عمل فدائي مثمر ومخلص ولا يمكن أن ينجح أي عمل فدائي ما لم يكن الحسين (ع) وأصحابه مثله الأعلى وقدوته المثلى . إخلاص للقضية واستصغار لكل غال وعزيز في سبيلها ودون تحقيقها . ولقد أجاد من وصفهم بقوله :
فسـامـوهـم إمـا الحيـاة بذلـة أو الموت فاختـاروا أعزالمراتب
بنفسي هم مـن مستميتين كسـروا جفون المواضي في رجوه الكائب
وصالوا على الأعداء أُسداً ضوارياً بعوج المواضي لا بعوج المخالب
أصيبـوا ولكـن مقبلين دماؤهـم تسيل على الأقدام دون العـراقب

وأخيراً نقول : أن الحسين (ع) حافظ على قدسية ثورته ونبل نهضته وشرف تضحيته بذلك العمل . اي بأن أبعد عنها الأوباش وأهل الأطماع والانتهازيين عملاً بمضمون الآية الكريمة : «وما كنت متخذ المضلين عضداً» وعملاً بالقاعدة المعروفة (فاقد الشيء لا يعطيه) . أجل إن شرف كل ثورة يتوقف إلى حد كبير على شرف الثائرين وحسن نواياهم واخلاص نياتهم . ثم أن الاصلاح لا يأتي على أيدي غير الصالحين . وهذا من أعظم الدروس نفعاً للأجيال في ثورة الحسين (ع) .

السابق السابق الفهرس التالي التالي