مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 60

هل يمتاز الحسين (ع) على سائر الأئمة (ع) في الصفات التي اشتهر بها ؟

يعرف الحسين (ع) لدى الرأي العام بصفة الثورية والصلابة والشجاعة واباء الضيم فهل هذا يعني أن الحسين كان متفوقاً على سائر الأئمة عليهم السلام في هذه الصفات أو أن غيره من الأئمة عليهم السلام أو بعضهم على الأقل كان محروماً من هذه الصفات .؟ . الجواب : كلا ...
فالواقع هو أن الأئمة الأثنى عشر الذين أولهم علي بن أبي طالب (ع) وآخرهم المهدي المنتظر (ع) كلهم في مستوى واحد من حيث جميع الفضائل الكمالية والصفات الانسانية ومكارم الأخلاق . وهم بمجموعهم يفوقون كافة الناس في التحلي بالفضائل والكمالات . أي ليس في العالم مثلهم بعد الرسول (ص) ولا نظير لهم في أي فضيلة أو كمال نفسي . لأن ذلك شرط العصمة ولازمها . وقد ثبت بدليل العقل والنقل أنهم معصومون ولا يكفي في تحقق العصمة لشخص ما أن يكون مؤمناً صالح العمل والسيرة والأخلاق فحسب بل يجب أن يكون أيضاً فوق مستوى الناس في العلم والايمان والعمل الصالح ومكارم الأخلاق . ومن ثم يستحق منصب الإمامة على الناس . ومن شواهد ذلك قول الخليل بن أحمد العالم النحوي عندما سئل ما الدليل على إمامة علي (ع) بعد رسول الله (ص) دون سائر الصحابة فقال الدليل استغناؤه عن الكل واحتياج الكل اليه ... وهذا الدليل يجري بالنسبة إلى باقي الأئمة الأحد عشر من أبنائه أيضاً وهو أمر يفرضه العقل والمنطق والعدل . إذ أنه لو وجد شخص آخر في عصر الإمام المعين هو مثل الإمام ومساوي به في الفضل والكمال يكون

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 61

حينئذ تقديم أحدهما على الآخر للامامة والقيادة باطلا عقلا لأنه ترجيح بلا مرجح .
أما إذا وجد من هو أفضل من الإمام وأرفع مستوى في العلم والقدرة والعمل فتقديم الإمام عليه أقبح عقلا وأشد بطلانا لأنه من باب تقديم المفضول على الفاضل . أو تقديم الفاضل على الأفضل وهو فاسد . فالله تعالى إما اختار علياً (ع) وأبناءه الأحد عشر المعروفين للخلافة عن الرسول الأكرم (ص) ولقيادة الأمة بعده علماً منه تعالى بأن هؤلاء هم أكمل الناس وأفضلهم جميعاً إيماناً وعلماً وعملاً . وأشار تعالى في كتابه العزيز إلى أن ملاك الإمامة والامارة إنما هي في الأفضلية لا غير . فقال تعالى «هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون» وقال تعالى «أفمن يهدي الى الحق أحقّ أن يتّبع أم من لا يهدي إلا أن يهدي فما لكم كيف تحكون» . وقال تعالى «يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات» وقال تعالى «لا ينال عهدي الظالمين» .
وقد نص الإمام أمير المؤمنين (ع) على هذا الملاك للسيادة والإمامة والامرة في كلماته القصار فقال أحسن إلى من شئت تكن أميره . واحتج إلى من شئت تكن أسيره . واستغن عمن شئت تكن نظيره . وقد كشف رسول الله النقاب عن أن هذا الملاك متوفر ومتحقق وفي أهل بيته الطاهرين فقال في وصيته العامة قبيل وفاته (أيها الناس لا تتقدموهم فتهلكوا ولا تتأخروا عنهم فتضلوا ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم ...)
وفي بعض خطب الإمام أمير المؤمنين من نهج البلاغة قوله :
لا يقاس بآل محمد من هذه الامة أحد ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه ، أبداً هم أساس الدين وعماد اليقين بهم يلحق التالي واليهم يفيء الغالي ولهم خصائص حق الولاية وفيهم النبوة والوراثة ..
وقال عليه السلام في مقام آخر : نحن صنايع ربنا والخلق بعد صنايع لنا . أي أن كمالهم من كمال الله سبحانه وكل كمال وصلاح وفضل يوجد في الناس

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 62

فهو من طهرهم وفضلهم وصلاحهم (ع) وبعبارة أخرى إنهم تربية الله تعالى والصالحون من الناس تربيتهم هم صلوات الله عليهم .
فالغرض أن أهل البيت (ع) أفضل الخلق وأكملهم بعد جدهم رسول الله (ص) وأما هم وفيما بينهم فلا تفاضل ولا امتياز لأحدهم على الآخر في هذا الأصل أي أصل الكمال والعصمة . نعم قد يوجد تفاضل بينهم ولكن باعتبارات ثانوية كالأبوة والبنوة مثلاً .
ولعلك تقول :
إذا كان الأمر كذلك فلماذا عرف واشتهر بعضهم في بعض الصفات الكمالية دون الآخرين . كالإمام علي (ع) مثلاً الذي عرف بالبطولة والشجاعة والإمام الحسن (ع) الذي عرف بالحلم والصبر وكظم الغيظ والإمام الحسين (ع) الذي عرف بإباء الضيم والثورية والشدة مع العدو والإمام زين العابدين الذي عرف بالعبادة والإمامين الباقر والصادق (ع) اللذين عرفا بالعلم ... وهكذا . ؟
فنقول في الجواب :
إن السبب في اشتهار هؤلاء بتلك الصفات لا يعود إلى تفوق ذاتي وإلى أن هؤلاء توفرت فيهم هذه الصفات دون الآخرين أو أكثر من الآخرين . كلا . فالشجاعة التي كانت في الإمام علي (ع) مثلاً مثلها تماماً كان في الحسن والسجاد والباقر والصادق (ع) وغيرهم . وكذلك الحلم الذي كان في الحسن وإباء الضيم والثورية اللذان كانا في الحسين وهكذا وعلى هذا القياس .
وإنما السبب في ذلك أي في اشتهار بعضهم ببعض الصفات الكمالية دون البعض الآخر يعود بصورة رئيسية إلى الظروف الخاصة والمقتضيات الزمنية التي عاشها كل منهم . فالإمام علي (ع) عاش فترة خاصة وظروفاً معينة اقتضت منه أن يبرز شجاعته ويظهر بطولته بسبب الحروب التي خاضها دفاعاً عن الإسلام وصيانة له مع الرسول (ص) وبعد الرسول (ص) وأي واحد من

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 63

الأئمة (ع) لوكان في عصر الإمام علي وفي مثل ظروفه ومسؤولياته لأظهر من الشجاعة مثل ما أظهره الإمام علي (ع) .
وأما الحسن (ع) فبالعكس فانه عاش في ظرف كانت مصلحة الإسلام تقتضي منه المسالمة والمصالحة والصبر فلذلك عرف بالحلم .
لكن الحسين (ع) كانت ظروفه تفرض غير ذلك أي الاعتماد على الشدة والثورة ورفض أي مسالمة ومصالحة مع حكام عصره لذلك عرف بالإباء والثورية وصلابة العزيمة .
وأي إمام آخر لو كان بمكان الحسين وفي عصره وظروفه لما كان يعمل إلا ما عمله الحسين (ع) وما قام به من الثورة والتضحية حسب ما شرحنا ذلك في بعض الفصول السابقة .
أما عصر الإمام الباقر وابنه جعفر الصادق فانه كان يتطلب منهما الاعتماد على نشر العلم وبث الوعي العلمي وارسال البعثات العلمية وفتح المدارس والدورات الدراسية لمكافحة الدسائس الفكرية والتطرف العقائدي والفلسفات المادية التي تسربت إلى المسلمين بحكم اتصالهم بالأمم والشعوب الأخرى لذلك فلقد أسسا أكبر جامعة علمية في العالم الإسلامي حيث انتمى اليها أكثر من أربعة آلاف طالب . ومن هنا عرفا بالعلم وكثرة الأحاديث والأخبار التي رويت عنهما . حتى روى راو واحد عن الإمام الباقر ثلاثين ألف حديث وهو جابر الجعفي وهكذا . وكل من الأئمة (ع) لو كان بمكانهما لعرف بمثل ما عرفا به ونشر من العلم مثل ما نشر الباقر والصادق (ع) .
والخلاصة أن من الغلط الفاحش والخطأ الكبير ما يظنه البعض من أن اشتهار بعض الأئمة ببعض الصفات كانت بسبب ذاتي وملكات خاصة ومواهب فطرية معينة . كلا ليس كذلك ... فثورية الحسين وإبائه للضيم وشدته مع الأعداء مثلاً ليست ناشئة عن حرارة دموية ومزاج عصبي خاص به ولا من

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 64

كبت نفسي كما يزعم الكتاب الجاهلون بحقيقة الحسين (ع) ومقامه وحقيقة أهل البيت (ع) . وكذلك مسالمة الحسن (ع) وصفته السلمية وحلمه مع الأعداء لم تكن أثراً لبرودة دمه وهدوء أعصابه ومزاج خاص به حسبما يصوره لنا بعض المتطفلين على الكتابة عن أهل البيت (ع) .
هل الحقيقة هو أن كل ما قام به الحسن أوالحسين (ع) وغيرهما من أئمة أهل البيت (ع) إنما هو ناشئ ونابع عن إرادة الله وأمره وإيعاز من النبي (ص) من قبل خدمة لمصلحة الإسلام العليا وتمشياً مع متطلبات الظرف والأحوال ، إن أهواء النفس والعواطف والغرائز والحالات الفطرية العضوية لا تأثير لها مطلقاً على تصرفات أهل بيت العصمة عليهم السلام .
إن سيرة أهل البيت وسلوكهم في هذه الحياة كيفتها الحكمة والمصلحة لا الغرائز والأمزجة وعواطف النفس الحيوانية . وكل حركة أو سكون أو فعل أو ترك وكل وجه من أوجه النشاط قام به أحدهم كان بوحي من الله ورسوله مطابقاً للكتاب والسنة . هذا ماأثبتته الأحاديث الشريفة الصحيحة عن الرسول الأكرم (ص) وأكدته التجارب والنتائج الواقعية . فمن الأحاديث المؤكدة قوله (ص) : إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض . وقوله (ص) في حق علي بن أبي طالب (ع) علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار . وقال (ص) في دعائه له يوم الغدير : اللهم والي من والاه وعادي من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه حيثما دار . وقال (ص) في حق الحسن والحسين (ع) : هما إمامان قاما أو قعدا.
وأخيراً قوله (ص) : مثل اهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى .

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 65

وهناك أخبار صحيحة ومعتبرة مفادها أن رسول الله خلف لأوصيائه الاثنى عشر صلوات الله عليهم خلف لهم اثني عشر صحيفة لكل إمام منه صحيفته الخاصة وفيها تكاليفه المفروض عليه القيام بها في دور إمامته . وقد عمل كل منهم على ضوء ما في صحيفته من أوامر ونواهي وأحكام . وهذا ما أشار اليه الحسين (ع) في حديث مع الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري لما دخل عليه وهو في مكة المكرمة وقال له يابن رسول الله إني لا أرى لك إلا أن تسالم وتصالح يزيد كما صالح أخوك الحسن (ع) معاوية من قبل فإنه كان موقفاً رشيداً . فقال له الحسين (ع) يا جابر إن أخي فعل ما فعل بأمر من الله ورسوله وأنا أفعل ما أفعل بأمر من الله ورسوله ... الخبر ...
وعلى كل حال فلقد عرف الحسين (ع) أكثر ما عرف بصفة الثورية وإباء الضيم ، وبلغت شهرته في هذه الصفة حداً كبيراً حتى اعتبره الرأي العام قدوة الأحرار والمثل الأعلى للثوار في العالم وسيد أباة الضيم في التاريخ . فهذا مثلاً العلامة المعتزلي عقد فصلاً في كتابه شرح نهج البلاغة . ذكر فيه المعروفين بإباء الضيم من العرب في الجاهلية والإسلام . ثم يقول في الختام . وسيد أباة الضيم جميعاً والذي علم الناس كيف يختارون الموت مع العز وتحت ظلال السيوف على الحياة مع الذل هو أبو عبد الله الحسين (ع) .
هذا ولا تزال بعض كلمات الحسين مبدءا وشعاراً يعلنه ويرفعه كل الثوار في كل زمان ومكان . مثل قوله عليه السلام « ألا وإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما ... وقوله (ع) ألا وأن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منها الذلة ... وقوله عليه السلام لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر لكم اقرار العبيد» .
ومما يتحدث به المؤرخون بإعجاب من صفات الحسين (ع) هي شجاعته

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 66

المدهشة التي أبداها يوم كربلاء في ذلك الموقف الرهيب . فقد ورد عن لسان بعض مقاتليه من جيش عمر بن سعد قوله :
والله ما رأيت مكثوراً قط قد قتل ولده واخوته وأهل بيته أربط جأشاً ولا أقوى جناناً من الحسين (ع) فلقد كانت الرجال تشد عليه من كل جانب فكان يشد عليها فتهزم من بين يديه انهزام المعزى إذا حل فيها الأسد وكانوا ينكشفون عنه يميناًً وشمالاً كأنهم الجراد المنتشر وقد تكاملوا ثلاثين ألفاً وهو وحيد فإذا ابعدهم عن المخيم عاد إلى موقفه أمام البيوت وهو يكثر من قوله لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
وذكر أرباب المقاتل أن الحسين (ع) حمل على الجيش في ذلك اليوم عدة حملات قتل منهم في مجموعها ألفاً وتسعمائة وخمسين رجلاً . حتى صاح عمر بن الحجاج الزبيدي وهو أحد قادة الجيش صاح بالناس مستثيراً لهم عليه قائلاً ويلكم أتدرون لمن تقاتلون هذا ابن الأنزع البطين هذا ابن قتال العرب احملوا عليه حملة رجل واحد .
هذا كله بالإضافة إلى ما كان يكابده في تلك الحال من العطش الشديد والجهد والإرهاق قالوا كان العطش قد اثر في شفتيه حتى ذبلنا وأثر في لسانه حتى صار كالخشبة اليابسة وأثر في عينيه حتى صار يبصر ما بين السماء والأرض كالدخان وأما آلامه الجسدية والنفسية التي تراكمت عليه حينئذ فانها تهد الجبال فلقد كان (ع) يعاني أشد الآلام النفسية بسبب ثكل الأولاد وفقد الأخوة والأقارب والأصحاب والشعور بالوحدة والاغتراب ومشاهدة النساء والأطفال حيارى مدهوشين مذهولين من تراكم المصائب وألم الضما على أبواب الخيام وداخلها إلى جنب ابنه المريض المسجى على الأرض الفاقد الوعي من شدة السقام . هذا وأكثر من هذا مما يضيق البيان عن وصفه ويعجز اللسان عن ذكره وتفصيله ومع ذلك كله فلقد كان عليه السلام كما وصفة السيد الحلي (ره) :

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 67

ركين و للأرض تحت الكماة رجيف يزلزل ثهلانهـا
أقر على الأرض من ظهرها إذا ململ الرعب أقرانها
تزيد الطلاقـة فـي وجهـه إذا عيـرالخوف ألوانهـا
وأضرمهـا لعنـان السمـاء حمـراء تلفـح أعنانهـا
ولمـا قضـى للعـلا حقهـا وشيـد بالسيـف بنيانهـا
ترجل للمـوت عـن سابـق لـه أخلت الخيـل ميدانها
كـأن المنيـة كانـت لديـه فتاة تواصـل خلصانهـا
جلتها لـه البيض في موقف بـه أثكل السمر خرصانها
فبات بها تحت ليـل الكفـاح طروب النقيبـة جذلانهـا
وأصبـح مشتجـراً للرمـاح تحلـي الدمـامنة مرانهـا
فمـا أجلت الحرب عـن مثله صريعاً يجبـن شجعانهـا
* * *

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 68

لماذا يوصف الحسين (ع) بسيد الشهداء ؟

من المتداول على ألسنة الشيعة أن يصفوا الحسين (ع) بسيد الشهداء ... فهل هذا صحيح ومنطقي ؟
نقول . أجل : لأن كلمة (شهيد) مصطلح إسلامي خاص يعني ذلك المسلم الذي يقتل في ساحة حرب مع أعداء الإسلام دفاعاً عن الإسلام بشرط أن تكون تلك الحرب بأمر أو إذن من النبي (ص) أو الإمام أو نائبه الخاص أو العام ...
وحكم هكذا قتيل أن لا يغسل ولا يكفن بل يصلى عليه فقط ويدفن بثيابه التي قتل فيها . ويسمى حينئذ (شهيداً) لأنه يبعث يوم القيامة على هيئته التي دفن عليها وبدمائه وجراحاته فيشاهده الناس في المحشر ويعلمون أنه مقتول في سبيل الله تعالى . وقيل في تسميته بالشهيد وجوه أخرى وما ذكرناه أقرب إلى الصواب . وأجر الشهيد عظيم جداً عند الله سبحانه بحيث لا يوجد عمل بعد الإيمان بالله أفضل من الشهادة في سبيله . الشهادة كفارة لكل الذنوب . والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون .
ولكن ليسوا في الفضل سواء ولا في الأجر والمقام على مستوى واحد . بل يتفاوتون في الفضل والمقام والدرجات حسب تفاوت مواقفهم ونياتهم . فكلما كان موقف الشهيد أشد حراجة وأكثر تأثيراً وأصعب ظروفاً كان أجره أكثر ودرجته عند الله أرفع كما أنه كلما كان موقف الشهيد أكثر اخلاصاً وأبعد عن آمال النصر والغنيمة والربح المادي كان فضله أكثر . فشهداء معركة بدر

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 69

مثلاً أفضل من شهداء معركة أحد لهذا السبب بالذات ونحن إذا علمنا أن موقف شهداء كربلاء يوم العاشر من المحرم فاق مواقف جميع الشهداء في العالم حراجة وشدة ومن حيث النتائج والآثار لصالح الحق . إذ وقف بضع عشرات من الرجال والصبيان وهم عطاشا جياعاً محصورين أمام عشرات الآلاف من الجنود المدججين بالسلاح والمجهزين بكل وسائل القوة . هذا من حيث حراجة الموقف . وأما من حيث خلوص النية فنحن إذا تذكرنا أن شهداء الطف لم يكن عندهم أدنى أمل ولا أقل احتمال في الغلبة والنصر على العدو ولا في غنيمة أو جائزة أو أي نوع من الربح المادي من وراء ذلك الموقف . ثم إذا عرفنا أن موقفهم أحيا الدين وأبقاه وصانه من المحو وحفظه من خطر الزوال الكلي على يد أعداء الله بني أمية كما شرحنا ذلك مفصلاً فيما سبق
أقول : إذا عملنا بكل ذلك واعترفنا به فحينئذ لا نستغرب القول بأن شهداء كربلاء وعلى رأسهم سيدهم الحسين (ع) هم سادات الشهداء في العالم كله أي أفضلهم مقاماً وأكثرهم أجراً عند الله ورسوله . وإن لقب سيد الشهداء أليق وأجدر بالحسين (ع) من كل شهيد آخر الذي له فضله وأجره ومقامه العظيم عند الله تعالى أيضاً .
ولا بد من التنبيه إلى أنه قد تداول بين بعض الذين كتبوا عن الحسين (ع) في عصرنا الحاضر أن يعطوا الحسين (ع) لقب (أبو الشهداء) ولعلهم يظنون أن هذا اللقب أليق بمقام الحسين (ع) من لقب (سيد الشهداء) وهو ظن خاطئ لأنه لا تلازم بين كون الشخص أبا الشهداء وبين كونه شهيداً بذاته أيضاً وكثيراً ما يكون شخص أباً لشهداء ولكنه هو غير شهيد وغير حائز على مقام الشهادة الرفيع . فهذا عقيل بن أبي طالب (رض) مثلاً قدم تسعة من أبنائه وأحفاده شهداء بين يدي الحسين (ع) يوم عاشورا ولكنه هو لم يكن شهيداً بل مات في المدينة بعد مقتل الإمام أمير المؤمنين (ع) ببضع سنوات فهو أبو شهداء وليس بشهيد . ولذا نقول أن لقب أبو الشهداء لا يدل على شهادة الحسين (ع) فضلاً عن سيادته على الشهداء وبالتالي لا يشعر بهذا الشرف الرفيع

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 70

والمقام المنيع الذي فاز به الحسين (ع) بالإضافة إلى أنه (ع) محور للشهداء من كل الجوانب فهو الشهيد أبن الشهيد أخو الشهداء وأبو الشهداء والشهادة سمة أبنائه وآله وأحفاده فهم كما قيل فيهم : القتل لهم عادة وكرامتهم من الله تعالى الشهادة ، ألا هلم فاستمع وما عشت أراك الدهر عجبا .
من المضحكات المبكيات في عصرنا الحاضر هو التلاعب والتحريف بالمفاهيم الانسانية ومسخ الصفات الفاضلة . ومنه تحريف كلمة الشهيد والتلاعب بمفهوم الشهادة ومسخ صفتها الانسانية النبيلة . حتى صاروا يطلقون اسم الشهيد على مجرم يقتل بجرمه وهدام يصرع تحت انقاض هدمه وتخريبه وانتهازي وصولي يفقد حياته القذرة في طريق أطماعه وشهواته وعميل للعدو الكافر والمستعمر الظالم يلاقي جزاء خيانته ومتهور طائش يصيبه أثر طيشه وتهوره . وهكذا وإذا كل هؤلاء أو بعضهم يمنحون لقب الشهداء ووسام الشهادة على صفحات الصحف والمجلات وأبواق الدعاية ووسائل النشر .
وسلام الله تعالى على الإمام أبي الحسن علي أمير المؤمنين حيث تنبأ بظواهر هذا العصر فقال في خطبة له عليه السلام :
سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق ولا أظهر من الباطل ولا أكثر من الكذب ..
وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته ولا أنفق منه إذا حُرف عن مواضعه ولا في البلاد شيء أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر ...؛
ولأجل المزيد من الإيضاح نعود إلى أصل الموضوع فنقول أن للإسلام اصطلاحاً خاصاً ومفهوماً مبتكراً لكل من كلمة شهيد . وكلمة سيد . أما المفهوم الإسلامي الخاص لكلمة شهيد هو ما ذكرنا من أنه عبارة عن المسلم الذي يقتل في سبيل الدفاع عن الإسلام في ساحة القتال بأمر من الرسول أو الإمام أو نائبه الخاص أو العام .

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 71

وأما المفهوم الإسلامي الخاص بالنسبة إلى كلمة . سيد . فهو عبارة عن الأفضلية أو الأكملية في الشيء فسيد العلماء مثلاً هو أكثرهم علماً وأحسنهم عملاًً وسيد الأنبياء هو أكثرهم فضلاً وأكملهم صفات وسيد الأوصياء هو اكثرهم جهاداً وأشدهم عناءً وأحرصهم على حفظ الوصية وصيانة الرسالة . وسيدة النساء . هي أكثرهن تمسكاًَ بواجبات المرأة وأشدهن حرصاً على القيام بمسئوليات المرأة أمام الله تعالى والمجتمع ... وهكذا وعلى هذا القياس .
فملاك السيادة الإسلامية في أي شيء من الأشياء إنما هو في الأكملية والأتمية والأفضلية في ذلك الشيء . ولقد نص القرآن الكريم على تعيين هذا الملاك وهذه القاعدة للسيادة الإسلامية بقوله تعالى «أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون» وإلى هذه القاعدة يشير الحديث الشريف . اليد العليا فوق اليد السفلى . أي أن المستغني عن الناس بعلمه وعمله وجهده المفيض عليهم من ثمرات علمه ومواهبه ، هو سيد على من هو محتاج فقير إلى الآخرين لتكاسله واهماله . على حد القول المأثور لأمير المؤمنين (ع) : «أحسن إلى من شئت تكن أميره . واحتج الى من شئت تكن أسيره واستغن عمن شئت تكن نظيره» وبهذا الملاك استدل الخليل بن أحمد على سيادة الإمام أمير المؤمنين على كافة الناس بعد رسول الله (ص) لما سئل ما دليلك على إمامة علي بعد الرسول (ص) دون سائر الصحابة . فقال استغناؤه عن الكل واحتياج الكل اليه . والخلاصة هي أن السيادة في أي شيء إنما تدور مدار الكمال الذاتي في صفات ذلك الشيء . والشهداء أيضاً طبقة من الناس في العالم قاموا بعمل التضحية بالحياة في سبيل الله تعالى فنالوا صفة الشهادة . فالحسين (ع) هو الفرد الأكمل في القيام بهذه التضحية كما قدمنا لذلك استحق مقام السيادة بين كافة الشهداء وهو أمر طبيعي منطقي ليس فيه مبالغة ولا مغالاة .
هم أفضل الشهداء والقتلى الأولى مدحوا بوحي في الكتاب مبين

ٍوقال الآخر :
فماتوا وهم أزكى الأنامي نقيبة وأكرم من يبكى له في المحافل
ولم تفجع الأيام من قبل يومهم بأكـرم مقتـول لألثـم قاتـل

السابق السابق الفهرس التالي التالي