مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 48

لماذا لم يفعل الحسن (ع) مثل ما فعل الحسين (ع) ؟

إن ثورة الحسين (ع) تثير التساؤل غالبا حول ما فعله أخوه الحسن(ع) من قبل مع طاغية زمانه معاوية بن أبي سفيان من الصلح والمهادنة والبيعة له مع العلم أن كلا منهما عليهما السلام إمام معصوم من الخطأ والمعصية فإذا كانت الحكمة والمصلحة فيما فعله الحسين فلماذا لم يفعل الحسن (ع) مثله ؟ وإذا كانت الحكمة والمصلحة فيما فعله الحسن (ع) فلماذا لم يفعل الحسين (ع) مثل فعله ..؟
والجواب : هو أن كلا الفعلين والسيرتين حكمة ومصلحة وحق وصواب ولكن المصلحة والحق والحكمة تختلف صورها ومواردها باختلاف الأحوال والظروف والأشخاص . وأهم تلك الفوارق بين الحالين هو أن فساد الحكم الأموي وتذمر الرأي العام منه في عصر الحسن (ع) كان بعد لم يبلغ من الاشتهار والشدة إلى المستوى الذي بلغ اليه في عصر الحسين (ع) وعليه فتضحية الحسن (ع) بنفسه وأهل بيته حينئذ ما كانت تفسر لدى الرأي العام بأنها ثورة ضد الفساد والظلم أو انها تضحية في سبيل الدين والمصلحة العامة كما فسرت تضحية الحسين (ع) بل كانت تضحية الحسن (ع) في ذلك الوقت تفسر غالبا بأنها صراع على السلطة وتنافس وتزاحم وتنازع حول الملك والخلافة . وكانت النتيجة حينئذ فشل قدسية الثورة وعقم تلك التضحية واستفادة العدو منها أكبر فائدة دعائية لنفسه وضد أهل البيت (ع) والنتيجة الأسوأ من ذلك هو فراغ الجو وخلو الميدان لمعاوية ولآل أبي سفيان فيطلقون ايديهم هدما وتحطيما لكل ما تبقى من اصول الاسلام واركانه تحت ستار

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 49

كثيف من الدجل والتضليل والخداع ... فهل ترى بعد كل هذا حكمة ومصلحة للإسلام والمسلمين في تلك التضحية لو قام بها الحسن عليه السلام ..؟
أجل : إن السنوات العشرين التي استولى فيها معاوية على مقاليد الملك والسلطة المطلقة بعد أمير المؤمنين (ع) وبعد صلح الحسن . نعم تلك السنوات هي التي ملأ فيها معاوية وبطانته وأقاربه ملأوا العالم الإسلامي بالظلم والفساد والدمار والخراب وهتك المقدسات وانتهاك الحرمات تماما كما تنبأ به من قبل رسول الله حيث قال في الحديث المشهور المتواتر عنه (ص) : رأيت بني أمية في المنام ينزون على منبري نزو القردة ويضربون وجوه الناس فيردونهم القهقري فأنزل الله فيهم «وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيراً» .
وعنه (ص) قال لكل شيء آفة وآفة هذا الدين بنو أمية . وروى مسلم في صحيحه عن رسول الله (ص) حديثاً حول بني أمية جاء فيه : هلاك أمتي على يد هذا الحي من بني أمية . وقال أيضاً (ص) : لو لم يبق من بني أمية إلا عجوز درداء لبغت دين الله عوجا ... رواه صاحب كتاب صلح الحسن «ص 45» .
وروى البخاري في صحيحه عن النبي (ص) أيضا انه قال هلاك أمتي على يد أغيلمة سفهاء ، فسرها ببني أمية . وذكر ابن حجر عن الحاكم قال كان أبغض الأحياء إلى رسول الله (ص) بنو أمية .
ومن المفيد أن نشير هنا إلى ما صرح به الكتاب المعاصرين والسابقين ومنهم الاستاذ عباس محمود العقاد في كتابه أبو الشهداء من أن بني أمية ليسوا من قريش بل ولا من العرب أصلا وذلك لأن أمية لم يكن ابنا صلبيا لعبد شمس بل كان غلاما روميا تبناه عبد شمس على سنة التبني في الجاهلية فعرف به وسمي أمية بن عبد شمس ، ونعود إلى أحاديث الرسول (ص) في تلك


مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 50

الأسرة المشئومة فنقرأ منها هذا الحديث المتواتر وهو قوله (ص) : إذا بلغ آل أبي العاص ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله دولا ودينه دغلا وعباده خولا .
ونكتفي بهذا القدر من الأحاديث النبوية وننتقل إلى أقوال الكتاب الناطق والإمام الصادق علي عليه السلام في نهج البلاغة حيث يقول في خطبة له في الملاحم :
ألا إن أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أمية فانها فتنة عمياء مظلمة عمت خطتها وخصت بليتها وأصاب البلاء من أبصر فيها وأخطأ البلاء من عمي عنها وأيم الله لتجدن بني أمية لكم أرباب سوء بعدي كالناب الضروس تعدم بفيها وتخبظ بيدها وتزين برجلها وتمنع درها ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشية وقطعا جاهلية ليس فيها منار هدى ولا علم يرى والله لا يزالون حتى لا يدعون لله محرما إلا استحلوه ولا عقداً إلا حلوه وحتى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا ودخله ظلمهم ونبا به سوء رعيهم وحتى يقوم الباكيان باك يبكي لدينه وباك يبكي لدنياه ... (ج4 شرح الحديدي) .
وذكر السيد المقرم رضي الله عنه في المقتل الكبير عن كتاب ضحى الإسلام لأحمد أمين المصري قوله في (ج1 ص 27) : الحق إن الحكم الأموي لم يكن حكماً إسلاميا يسوى فيه بين الناس في الحقوق والواجبات ويكافأ فيه المحسن أيا كان ويعاقب فيه المجرم ايا كان وإنما كان حكما شعاره التعصب الممقوت وتسوده النزعة الجاهلية ومظاهرها لا النزعة الإسلامية .
اقول : أن تلك الأعوام العشرين التي قبض فيها معاوية على مقاليد الحكم بدون رادع ولا مانع هي التي كشفت الحجاب عن مدى فساد السياسة الأموية الرعناء وأظهرت للناس عمق العداء والحقد الذي يحمله الأمويون ضد الإسلام ونبي الإسلام والمسلمين جميعا وفي خلال تلك السنوات تيقظ الرأي العام الإسلامي إلى عظيم أخطار البدع والانحرافات التي أحدثها الأمويون منذ أن تسللوا إلى مراكز السلطة والحكم أفراداً وجماعات ابتداء من عهد الخليفة الأول ابي بكر

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 51

فما بعد وفي أعقاب تلك الفترة المظلمة المشئومة فترة سلطان معاوية صار الفرد المسلم العادي يشعر في قرارة نفسه وأعماق شعوره نفورا شديداً وكرها مريرا تجاه الجهاز الأموي الحاكم خليفة وعمالا وولاة وبطانة . فكان الشعب المسلم ينظر اليهم كعصابة لصوص وقطاع طريق وجلادين لا هم لهم إلا نهب الأموال وسلب الحقوق واغتصاب الاعراض وسفك الدماء والتمادي في المتع الحقيرة وإشباع الشهوات . وغير ذلك مما لا يسع المقام وصفه حسب ما هو مسطور في كتب التاريخ والتراجم ، وليس أدل على نقمة المسلمين وتذمرهم من حكامهم الأمويين من هذه الابيات لشاعر عاش تلك الفترة القاسية وهو عبد الله بن همام السلولي حيث يقول :
فإن تأتـوا برملـة أو بهنـد نبايعهـا أميـرة مؤمنينـا
إذا ما مات كسرى قام كسرى نعـد ثلاثـة متنـاسقينـا
فيا لهفـا لـون لنـا الوفـا و لكن لا نعود كما بدينـا
إذاً لضربتموا حتى تعـودوا بمكة تلعقون بها السخينـا
حشينا الغيض حتى لو شربنا دماء بني أمية مـا روينا
لقد ضاعت رعيتكم و أنتـم تصيدون الارانب غافيلنـا

ففي البيت الأول منها يبين أنه قد ضاعت موازين الخلافة الإسلامية ومقاييسها بحيث لو جاءتنا رملة أو هند ابنتا معاوية المعروفتان بالمجون والفسوق لوجب علينا نحن المسلمين أن نبايعهن بالخلافة عن الرسول والإمرة على المؤمنين . لأننا إن رفضنا قتلنا .
وفي البيت الثاني يقول أن الخلافة الإسلامية تحولت إلى ملك وراثي تماما كالنظام الملكي عند الأكاسرة ملوك الفرس قبل الإسلام كلما مات كسرى الأب قام كسرى الابن مقامه . وهنا كذلك مات عثمان كسرى الأمويين الأول الذي جعل الدولة الإسلامية بما فيها من خيرات ملكاً خاصاً له ولأسرته

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 52

الأمويين ، قام كسرى الثاني مقامه وهو معاوية ثم مات فقام كسرى الثالث مقامه وهو يزيد . فالنظام نفس النظام مع الاختلاف في الأسماء والعناوين فقط ... وباقي الأبيات ظاهرة المعنى واضحة الدلالة على مدى النقمة التي كان يكنها المجتمع الإسلامي والكبت الذي كان يشعر به من رعونة الحكام واستهتارهم . فجاءت ثورة الحسين (ع) تعبيراً كاملا عن شعور ذلك الشعب المكبوت وتجسيداً حقيقياً لآمال ورغبات تلك الأمة المضطهدة . فكانت القلوب معها تؤيدها وتبارك خطاها ... وأعطيت صفة الثورة التحررية المثالية بين جميع الثورات في العالم ...
أما في عصر الحسين (ع) وبعد أبيه أمير المؤمنين حيث كان معاوية بعد لم يصل إلى الخلافة العامة والسلطة العامة ولم يظهر أمام الرأي العام على حقيقته الفاسدة وواقعه الخبيث فإن الأمر كان يختلف عنه في عصر الحسين (ع) ويزيد اختلافا كبيرا . ولذا يجزم الخبراء بأن صلح الحسن (ع) مهد الطريق لثورة الحسين (ع) وهيأ لها الجو والمناخ الملائم لتبرز إلى الوجود كأقدس ثورة إنسانية في العالم وأظهر مصداق لصراع الحق ضد الباطل وأعظم جولة في معركة الخير مع الشر في حياة البشرية من أولها إلى آخرها .
أجل : كل هذه الصور المثالية التي اكتسبتها ثورة الحسين (ع) تعود في جملة ما تعود اليه من عوامل وأسباب إلى صلح الحسن (ع) مع معاوية وبعد هذا كله يمكننا أن نقول بأن الحسن والحسين عليهما السلام كانا واجهتين لرسالة واحدة واجه التخطيط والتمهيد التي أبرزها الحسن (ع) بصلحه ومسالمته ثم واجه التطبيق والتنفيذ التي أبرزها الحسين (ع) بقيامه ونهضته . وتضحيات الحسن (ع) في سبيل اداء سهمه من الرسالة وحصته من المسؤولية لم تكن قليلة ولا بسيطة . بل كانت تضحيات شاقة وغالية كثيراً . إنها تضحيات أعصاب وعواطف ، تضحيات قلب وفكر وروح ، فصلوات الله وسلامه عليك

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 53

يا أبا محمد بما صبرت وأحتسبت وأثابك الله أجر الصابرين . ورحم الله شيخنا الأصفهاني حيث يقول :

زكـت ثمـار العلـم بالزكـي أكرم بهـذا الثمـر الجنـي
أعطـاه جـده نبـي الرحمـة سـؤدده وعـلمـه وحلـه
يهنيك يا أبـا الـولاة السـادة وقادة الخلـق إلى السعـادة
بمن تسامـى شرفـاً و مجـدا أخـا وأمـا وأبـا وجـدّاً
بشـراك يـا حقيقـة المثانـي بواحد الدهر بغيـر ثانـي
بـالحسـن المنطـق والبيـان و من حوى بدايع المعانـي
من رشحات بحر علمه الخضم جرت ينابيع العلوم و الحكم
وحلمـه لـه المقـام السامـي في حلمه ظلت أولو الأحلام
صبره العظيـم فـي الهزاهـز يكـاد أن يلحـق بالمعاجـز
من حلمه أصابـه مـن البـلا مالا تطيقه السماوات العـلا
رضاه فيـما كـان لله رضـا قضى على حقوقه بما قضى
وسلمه فـي موقـع التسليـم من رشحـات قلبـه السليـم

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 54

لماذا لم يقم بالسيف أحد من الائمة (ع) بعد الحسين (ع) ؟

من الأخطاء التي وقع ويقع فيها بعض الناس هو القياس في سلوك الأنبياء والأوصياء فإذا أحد منهم قام بعمل بارز وحساس بحيث يعجبهم ويتلائم مع رغباتهم وأفكارهم . فحينئذ يتوقعون من الآخرين أيضا أن يفعلوا نفس ذلك الفعل ويقوموا بمثل ما قام به فلان لأنه أعجبهم ووافق أهوائهم . وعلى هذا الأساس يقولون :
لماذا لم يقم أحد من الأئمة بثورة مسلحة بعد الحسين (ع) ومن ثم رفض بعض المسلمين إمامة أي إمام لم يقم بالسيف ضد أعداءه فالإمامة عندهم مشروطة بشرط الكفاح المسلح ولذا فهم يعترفون بأمة علي (ع) ثم الحسن (ع) ثم الحسين (ع) ثم زيد بن علي بن الحسين (ع) وابنه يحيى بن زيد وهكذا اما زين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق فليسوا عندهم من الائمة لأنهم لم يقوموا بالسيف . وهؤلاء الطائفة الزيدية الموجودون بكثرة في اليمن وغيرها .
والواقع أن هؤلاء وأمثالهم يظنون أن مصلحة الأمة دائما تدور مدار استعمال السيف والكفاح المسلح وجودا وعدما فالإمام الذي لا يقوم بهذا الكفاح لم يخدم مصلحة الأمة . غافلين عن أن استعمال السيف هو علاج اضطراري ومن باب آخر الدواء الكي . فهذا رسول الله (ص) مثلا لم يستعمل السيف إلا بعد مضي ثلاثة عشر سنة أو أكثر من بدء الدعوة وبعد ان اضطر لاستعماله دفاعا عن النفس وفي وجه أناس كان موقفه معهم موقف حياة أو موت . وبعده الإمام أمير المؤمنين (ع) أغمد سيفه خمساً وعشرين سنة وصار

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 55

يدعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلهم بالتي هي أحسن وأخيرا اضطر إلى استعمال السيف ضد أناس فشلت معهم جميع الوسائل السلمية . وبعده الإمام الحسن (ع) الذي جرد السيف في بدء الأمر ضد العدو ولكن لما ثبت لديه أن الكفاح السلمي والحرب الباردة في ذلك الظرف وفي تلك الأحوال أنجح وأنفع للمصلحة العامة والإسلام من السيف . ترك الحرب وجنح للسلم والمصالحة .
فالغرض أنه لا شك في أن مصلحة الحق والدين ليست منحصرة في الحرب بالسيف وفي الثورة الدموية دائماً . بل في بعض الأحيان والأحوال وفي حالات شاذة نادرة . فالحق لا يفرض بالسيف والعقيدة لا تركز بالقوة . ودين الله لا يقوم على الاكراه والإجبار وقد ذكرنا فيما سبق أن ظروف الحسين (ع) كانت ظروفا شاذة انعدمت فيها كل وسائل الدعوة السلمية ولم يجد الحسين (ع) معها بداً من أن يقوم بحركة غريبة ومدهشة لجلب الرأي العام والفات الأنظار وتحريك الضمير الانساني . وقد تحقق كل ما أراده بحركته وبقي استغلال ذلك النتاج وصيانة تلك الثمرة بالبيان والتوجيه ورعاية تلك المكاسب بالدعم الفكري والعلمي والعملي . وهذا هو بالذات كان دور الأئمة (ع) من أبنائه بعده وقد قاموا به على أحسن ما يرام وأتم ما يكون . فالحسين (ع) وجه بثورته الأفكار ولفت الأنظار إلى عدالة قضية أهل البيت (ع) وإنهم مع الحق والحق معهم وإن خصومهم مع الباطل . ولكن ياترى ماهي تفاصيل تلك القضية أي قضية أهل البيت وما هو مفصل هذا الحق الذي لهم ومعهم وما هو وجه الخلاف بينهم وبين غيرهم . فهذه التفاصيل والشروح والبيانات للناس قام بها أبناؤه (ع) بعده بشتى الوسائل الممكنة لديهم وبذلك ظهر الحق وانتشر على الصعيد الفكري عامة وعلى الصعيد العملي إلى حد كبير نسبة ، أما إذا قلت لماذا قعدوا عن استعادة حقهم المغتصب ولم يقوموا بثورة لاسترجاع الخلافة والأمرة والحكم . ؟

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 56

قلت : إن ذلك لم يكن مقدورا لهم جميعاً ولم تتوفر لأحدهم الإمكانيات لذلك الغرض . كما لم تتوفر للحسن (ع) ولا للحسين (ع) كما قدمنا سابقا وأعني بتلك الإمكانيات اللازمة لاسترجاع الخلافة من أيدي الغاصبين . الأعوان والأنصار بالقدر اللازم والعدد الكافي والنصاب الشرعي المعروف وهو النصف من عدد العدو وحسب نصوص الآية الكريمة سورة الأنفال آية 67 «الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين» .
وكان النصاب الموجب للقتال قبل هذا . هو العشر كما في صريح الآية الكريمة التي قبلها «ياأيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن مئة يغلبوا ألفا من الذين كفروا ...» .
فكان النصاب المبرر للقتال أولا هو العشر ثم نسخ وصار النصف من قوة العدو ولا شك في أن النصاب الشرعي بصورتيه الأولى والثانية لم يحصل لأحد الأئمة عليهم السلام بعد النبي (ص) سوى علي بن أبي طالب (ع) فإنه الوحيد من بينهم الذي حصل على النصاب المذكور وتمكن من القيام واستحصال حقه . وأما الباقون فلم يحصلوا على أعوان وأنصار حتى بمقدار النصاب الأول وهو العشر فضلاً عن النصف . فالحسن (ع) مثلا بقي بعد خيانة الجيش في أهل بيته وعدد قليل من الأصحاب والأنصار لا يتجاوزون المائة رجل وفي قباله معاوية ومعه ستون أو سبعون ألف مقاتل . فأي توازن وأي تقارب بين القوتين : لذلك سقط عنه تكليف الجهاد الشرعي ولم يبق أمامه إلا التضحية والشهادة أو الصلح والمهادنة . فاختار الصلح لأنه كان أصلح يومئذ وأنفع لمصلحة الإسلام العليا من التضحية حسب ما فصلناه سابقا . فراجع . وكذلك الأمر مع الحسين (ع) كما تعلم حيث بقي في نيف وسبعين رجل في مقابل سبعين ألف من الأعداء . ولكنه (ع) آثر الشهادة والقيام بعمله الفدائي الخاص نظراً لظروفه الخاصة حسبما فصلناه سابقاًً

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 57

وأما باقي الأئمة عليهم السلام فحالهم لم تختلف عن حال الحسن والحسين (ع) بل ربما كان أشد وأحرج . يلتفت ذلك الرجل إلى الإمام الصادق (ع) وهو يمشي معه في ضواحي المدينة فيقول له ياسيدي كيف يجوز لك السكوت والقعود عن حقك وأنت صاحب هذا الأمر وابن رسول الله (ص) . فسكت عنه الإمام الصادق (ع) حتى مر بهم راع يسوق قطيعا من الغنم فقال له الإمام (ع) يافلان كم تعد هذا القطيع فقال الرجل لا أدري فقال (ع) والله لو كان لي أنصار عدد هذا القطيع لنهضت بهم . فعطف الرجل على القطيع فعده فإذا هو سبعة عشر رأس .
ودخل سهل بن الحسن الخراساني عليه ذات يوم وقال : يا ابن رسول الله لا يجوز لك القعود عن حقك ولك في خراسان مائة ألف رجل يقاتلون بين يديك من شيعتك . فقال له الإمام الصادق (ع) وأنت منهم ياسهل فقال نعم جعلت فداك ياسيدي فقال له اجلس فجلس ثم أمر الإمام (ع) الجارية وقال يا جارية أسجري التنور فسجرته حتى صار اللهب يتصاعد من فم التنور فالتفت الصادق (ع) إلى سهل الخراساني وقال ياسهل أنت من هؤلاء الذين ذكرت انهم يطيعون أمري فقال نعم سيدي افديك بروحي . فقال (ع) قم وادخل في هذا التنور . فقال سهل أقلني أقالك الله يابن رسول الله فقال (ع) قد أقلتك فبينا هم كذلك إذ دخل أبو هارون المكي (ره) . فسلم فرد عليه السلام وقال له :
يا أبا هارون أدخل في التنور ، فقال له سمعا وطاعة ثم ألقى نعله وشمر عن ئيابه ودخل في التنور فقال الإمام (ع) ياجارية اجعلي عليه غطاءه فغطته ، ثم التفت الإمام عليه السلام إلى سهل بن الحسن وصار يحدثه فقال سهل إأذن لي ياسيدي أن أقوم وأنظر ما جرى على هذا الرجل ، فقال (ع) نعم . ثم قام ومعه سهل وكشف الغطاء عن التنور وإذا أبو هارون جالس على رماد بارد ، فقال له الإمام أخرج فخرج صحيحاً سالما لم يصبه اي أذى

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 58

فقال عليه السلام ياسهل كم تجد مثل هذا في خراسان ؟ فقال سهل ولا واحد يا ابن رسول الله .
وهذه العملية هي كرامة ولا شك أظهرها الإمام الصادق (ع) عبر بها عن أن أهل البيت إنما هم بحاجة إلى جيش عقائدي يطيع الأوامر الصادرة اليه من الإمام (ع) مهما كانت لا يعرف التردد والهزيمة ولا يفكر بغير الشهادة أو الغلبة لثقته التامة بالإمام (ع) واعتقاده الراسخ المتين بأن أوامره من أمر الله ورسوله وهو أعرف بالصالح والفاسد والحق والباطل من جميع الناس فهم بحاجة إلى هكذا جيش متوفر لديهم قدر النصاب الشرعي على الأقل وقبل القيام بالحركة أو الثورة . لكي لا تتكرر نكسة صفين أو مأساة كربلاء أو نكبة الحسن على يد جيشه يوم ساباط .
وخلاصة الكلام : هو أن نقول أما القيام لأجل أخذ حقهم في الخلافة وانتزاع السلطة من أيدي الظالمين فإنه كان مستحيلا عادة بالنسبة لهم لعدم توفر الشرائط واللوازم الضرورية لمثل هذا القيام لديهم وأهمها الأنصار والأعوان المخلصون . غير أنهم كانوا يدعمون معنوياً ومادياً وفكريا قدر استطاعتهم كل الثورات الحرة والحركات الاصلاحية التي كانت تقوم بين حين وآخر ضد الأمويين أو العباسيين مثل ثورة أهل المدينة على يزيد لعنه الله ، وثورة زيد ابن علي بن الحسين على عبد الملك بن مروان ، وثورة المختار الثقفي في الكوفة وثورة محمد ذو النفس الزكية على المنصور العباسي وبعدها ثورة أخيه إبراهيم أحمر العينين على المنصور أيضا وغيرها .
وأما القيام لأجل التضحية والشهادة مثل قيام الحسين (ع) فإنه لم يكن ضروريا في عصرهم لأن وسائل الاعلام والدعوة إلى الحق وطرق إتمام الحجة وتبيلغ الرسالة لم تنعدم كليا في عصر الأئمة (ع) كما انعدمت في عصر الحسين (ع) حتى اضطر إلى القيام بالابلاغ والاعلام عن طريق التضحية والشهادة . فالإمام الباقر (ع) والإمام الصادق (ع) مثلا قاما بأوسع حركة إعلامية مستطاعة في

مأساة الحسين (ع) بين السائل والمجيب 59

ذلك العصر عن طريق المدرسة والتدريس ونشر العلم واستقطاب العلماء وتربية ثلة من الشباب المؤمن بالتربية الإسلامية وبثهم في الأقطار والأمصار يبشرون ويرشدون ويعلّمون . فكان عصرهما عليهما السلام أحسن عصور الإسلام ازدهارا بالعلم والمعرفة وتقدم الثقافة وكثرة المدارس والمجالس العلمية . وبقي الحال على هذا الوصف بل وازداد تقدما وازدهارا إلى عصر الإمام الرضا (ع) والجواد (ع) ... وهما اللذان كوّنا بجهودهما وبمعونة المأمون العباسي وتعاون المجتمع معهما كونا من المسلمين أساتذة للعالم الغربي اليوم بكل علومه واكتشافاته المدهشة .
قال ابن الوشا دخلت إلى جامع الكوفة في أيام الرضا (ع) فرأيت تسعمائة شيخ يحدثون ويدرسون ويقولون حدثنا جعفر بن محمد (ع) .
وفي الختام نكرر القول بأن خدمة المصلحة العامة ونصرة الحق ومكافحة الباطل والظلم ليست في الحرب دائما . بل الأمر يختلف باختلاف الظروف والأحوال والحرب الدموية هي آخر وسيلة يفكر فيها المصلحون المخلصون لأمتهم وللصالح العام بعد اليأس من الوسائل السلمية وإلى هذا يشير حيث يقول الإمام علي (ع) في كلماته القصار : رأي الشيخ أحب إلي من جلد الغلام .
وإلى هذا يشير المتنبي الشاعر في أبياته المعروفة فيقول :
الرأي ثم شجاعة الشجعـان هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس حـرة بلغت من العلياء كل مكان
و لربما طعن الفتى أعـداءه بالرأي قبل تطاعن الأقران
لولا العقول لكان أدنى ضيغم أدنى إلى شرف من الإنسان

وقد جاء في الحديث الشريف قوله (ص) :
«مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء ..» .

السابق السابق الفهرس التالي التالي