كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 312


الجيش أسيرا ، فمشت إليه زوجته حتى جلست عند رأسه تمسح عنه التراب ، وتقول له : هنيئا لك الجنة ، فقال شمر بن ذي الجوشن لغلام له يقال له رستم : إضرب رأسها بالعمود فضرب رأسها فشدقه فماتت في مكانها ،(1)فكانت أول إمرأة قتلت من أصحاب الحسين .
. . «وبعد أن قتلوا إمرأة الكلبي جاءوا إلى زوجها الجريح ويمناه مقطوعة وساقه مبتورة ، فذبحوه ، وقطعوا رأسه ورموه إلى جهة معسكر ألإمام الحسين فأخذت أمه الرأس ، ومسحت الدم عنه ، ثم أخذت عمود خيمة وبرزت للأعداء فردها ألإمام الحسين ، وقال لها : إرجعي فقد وضع عنك ، فرجعت وهي تقول : أللهم لا تقطع رجائي ، فقال لها ألإمام : لا يقطع الله رجاك».(2)
وحمل الشمر حتى طعن فسطاط الحسين بالرمح ، وقال : علي بالنار لأحرقه على اهله ، فتصايحت النساء ، وخرجن من الفسطاط وناداه الحسين : يا ابن ذي الجوشن أنت تدعو بالنار لتحرق بيتي على أهلي ، أحرقك الله بالنار (3)وقال له شبث بن ربعي : أمرعبا للنساء صرت ، ما رأيت مقالا أسوأ من مقالك ، وموقفا أقبح من موقفك ، فاستحى التافه وانصرف ، وحمل على جماعته زهير بن القين في عشرة من أصحاب ألإمام حتى كشفوهم عن البيوت.(4)

أبو الشعثاء أعظم الرماة :

كان يزيد بن زياد المعروف بأبي الشعثاء مع ابن سعد ، فلما ردّوا على ألإمام شروطه ، إنضم له ، وجثا على ركبتيه بين يدي ألإمام ، ورمى بمائة سهم والحسين يقول : اللهم سدد رميته ، واجعل ثوابه الجنة ، فلما نفذت سهامه قام وهو يقول : لقد تبين لي إني قتلت منهم خمسة ،(5)

(1) تاريخ الطبري ج6 ص251 .
(2) تظلم الزهراء ص103 ومقتل الحسين للمقرم.
(3) تاريخ الطبري ج3 ص324 والكامل لابن ألأثير ج2 ص565 ووقعة الطف ص223 .
(4) تاريخ الطبري ج6 ص251 .
(5) الريخ الطبري ج6 ص225 ، ومقتل الحسين للخوارزمي ج2 ص25 والكامل لابن ألأثير ج2 ص569 ووقعة الطف 237 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 313


ثم حمل على القوم فقتل منهم تسعة وقتل .(1)

مقتل الحر بن يزيد الرياحي :

لما لحق الحر بن يزيد بالإمام الحسين قال يزيد بن سفيان من بني شفرة وهم من بني الحارث أحد بطون تميم : «أما والله لو أني رأيت الحر بن يزيد حين خرج لأتبعنه السنان ، وبينما الناس يتجاولون ويقتتلون والحر يحمل على القوم متمثلا بقول عنترة :
ما زلت أرميهم بثغرة نحره ولبانه حتى تسربل بالدم

فقال الحصين بن تميم ، وكان على شرطة عبيدالله ليزيد بن سفيان : هذا الحر بن يزيد الذي كنت تتمنى ، فخرج إليه وقال له : هل لك يا حر بن يزيد في المبارزة ؟ قال : نعم قد شئت ، فبرز له ، وبعد قليل قتله الحر ، ورموا سهما فعقروا فرس الحر فوثب عنه وجعل يقاتل راجلا حتى قتل نيفا واربعين ، ثم شدت عليه الرجالة فقتلته ، وحمله اصحاب الحسين ووضعوه أمام الفسطاط الذي يقاتلون دونه (2)ووضعوه بين يدي الحسين وبه رمق ، فجعل الحسين يمسح وجهه ويقول : «أنت الحر كما سمتك أمك ، وأنت الحر في الدنيا وأنت الحر في ألآخرة .(3)

أربعة من أصحاب ألإمام قتلوا معا :

قال الطبري : وبرز عمر بن خالد ، وجابر بن الحارث السلماني ، وسعد مولى عمر بن خالد ، ومجمع بن عبدالله الصائدي ، فانقضوا على جيش الخلافة وتوغلوا بالصفوف ، فأحاط بهم جيش الخلافة ، وقطعوهم عن أصحابهم ، فحمل العباس بن علي فاستنقذهم ، وهم جرحى ، فلما دنا منهم الجيش شدوا باسيافهم

(1) أمالى الصدوق ص7 مجلس 30 .
(2) راجع تاريخ الطبري ج6 ص252 والبدلية والنهاية ج8 ص183 وج6 ص248 و 250 من تاريخ الطبري .
(3) مقتل الحسين للخوارزمي ج2 ص11 واللهوف ص104 وبحار ألأنوار ج45 ص14 والعوالم ج17 ص257 والموسوعة ص440 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 314


وقاتلوا معا حتى قتلوا معا في مكان واحد .(1)

مقتل برير بن خضير :

روى الطبري عن عفيف بن زهير بن أبي ألأخنس قال : «خرج يزيد بن معقل من بني عميرة بن ربيعة فقال : يا برير بن خضير كيف ترى ألله صنع بك ؟ قال صنع الله والله بي خيرا ، وصنع الله بك شرا ، قال : كذبت وقبل اليوم كنت كذابا هل تذكر وأنا أماشيك في بني لوذان وأنت تقول : إن عثمان كان على نفسه مسرفا ، وإن معاوية بن أبي سفيان ضال مضل ، وان إمام الهدى والحق علي بن أبي طالب ؟ قال برير : أشهد أن هذا رأيي وقولي ، فقال له يزيد بن معقل : فإني أشهد أنك من الضالين ، فقال له برير بن خضير : فهلا باهلتك ولندع الله أن يلعن الكاذب وأن يقتل المبطل ثم أخرج فلأبارزك ، فخرجا فرفعا أيديهما إلى ألله يدعوان أن يلعن الكاذب وأن يقتل المحق المبطل ، فضربه برير بن خضير ضربة قدت المغفر وبلغت الدماغ وبعد أن قتل برير يزيد بن معقل حمل عليه رضي بن منقذ العبدي ، فاعتركا ساعة ثم إن برير قعد على صدر العبدي ، فاستغاث العبدي جيش الخلافة فسمعه كعب بن جابر بن عمرو ألأزدي وركض نحوه ، فقال : إن هذا برير بن خضير القارىء الذي كان يقرئنا القرآن في المسجد ، ثم رفع رمحه ووضعه في ظهره ولما أحس برير بوقع الرمح برك على يزيد ، فعض وجهه وقطع طرف أنفه ، فطعنه كعب وما زال به حتى ألقاه ، ثم أخذ يضربه بالسيف حتى قتله . فلما رجع كعب بن جابر قالت له إمرأته أو أخته : أعنت على أبن فاطمة ، وقتلت سيد القراء ، لقد أتيت عظيما من ألأمر والله لا أكلمك أبدا وقال شعرا جاء فيه :
فابلـغ عبيدالله إما لقيتـه بأني مطيـع للخليفة سـامع
قتلت بريرا ثم حملت نعمة أبا منقذ لما دعا من يماصع

فرد عليه رضي بن منقذ بشعر جاء فيه :
لقد كان ذاك اليوم عارا وسبة تعيره ألأبناء بعد المعاشر


(1) معالم المدرستين ج3 ص102 نقلا عن الطبري .وتاريخ الطبري ج6 ص248 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 315


فياليت أني كنت من قبل قتله ويوم حسين كنت في رمس قابر

مقتل عمرو بن قرظة ألأنصاري :

كان بقرب ألإمام الحسين لا يأتي الحسين سهم إلا أتقاه بيده ، ولا سيف إلا تلقاه بمهجته ، ولما اشتد الوطيس إستاذن ألإمام الحسين فأذن له ، فقاتل قتالا خارقا حتى قتل خلقا كثيرا وأثخن بالجراح ، فالتفت إلى ألإمام الحسين وقال له : يا ابن رسول ألله أوفيت ؟ قال له ألإمام : نعم أنت في الجنة ، فاقرأ رسول الله (ص) مني السلام وإعلمه أني في ألأثر ،(2)وفاضت روح عمرو المباركة في عالم الملكوت .

مقتل نافع بن هلال :

كانت لنافع خطيبة ، ولما رأت أن نافعا قد برز ، تعلقت بأذياله وبكت بكاء شديدا ، وقالت : إن تمض ، فعلى من أعتمد بعدك ؟ فسمع الحسين بذلك فقال: «يا نافع إن أهلك لا يطيب لها فراقك ، فلو رأيت أن تختار سرورها على البراز»، فقال نافع : يا ابن رسول الله لو لم أنصرك اليوم فبماذا أجيب رسول الله غدا ، وبرز فقاتل قتالا شديدا (3)وكان يرتجز ويقول :
أنا الغلام اليمني الجملي ديني على دين الحسين وعلي
إن أقتل اليوم فهذا أملي وذاك رأيـي وألاقـي عملي

ولم يزل يقاتل حتى قتل ثلاثة عشر رجلا من جيش الخلافة (4)وفنيت نباله فجرد سيفه واخذ يضربهم به ، فاحاطوا به ، ورموه بالحجارة والنصال حتى كسروا عضديه ، وأخذوه أسيرا(5) فقال لهم : لقد قتلت منكم إثني عشر سوى من جرحت

(1) راجع تاريخ الطبري ج6 ص248 .
(2) اللهوف ص46 ومثير ألأحزان ص61، وبحار ألأنوار ج45 ص22، والعوالم ج17 ص265، وأعيان الشيعة ج1 ص605 .
)3) ادب الحسين ص210 ، معالي السبطين ج1 ص384، وناسخ التواريخ ج2 ص277 .
(4) مقتل الحسين للخوارزمي ج2 ص20 ـ 21.
(5) مقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص21 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 316


وما ألوم نفسي على الجهد ، ولو بقيت لي عضدي ما أسرتموني ،(1)وجرد شمر بن ذي الجوشن سيفه ، فقال له نافع : والله يا شمر لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا ، فالحمد لله الذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه ، ثم قدمه شمر وضرب عنقه صبرا.(2)
ميمنة وميسرة وقلب جيش الخلافة البالغ ثلاثين ألفا يهجمون هجوما واحدا مركزا على معسكر الحسين الذي فيه أهله وقرابة مائة من اهل بيته وأنصاره ، وأستعمل جيش الخلافة كامل عدته وعتاده أثناء هجومه المركز على ثلاثة محاور ، ومع هذا صمد ألإمام الحسين وأهل بيته وأنصاره وهم لا يتجاوزون المائة وقاتلوا قتالا يفوق حد الوصف والتصور من بعيد صلاة الفجر حتى منتصف النهار ، ووصف الطبري قتالهم «بأنه أشد قتال خلقه الله»، وفشل جيش الخلافة باختراق معسكر الحسين أو الوصول إلى خيامه ، بعد أن خسر ذلك الجيش المئات إن لم يكن الآلآف من أفراده القذرين الذين لا خلاق لهم ، ولم يقدر هذا الجيش على قتال ألإمام الحسين وأهله وأصحابه إلا من جهة وذلك لاجتماع ابنيتهم وتقارب بعضها من بعض كما وصف ذلك الطبري في تاريخه .

صلاة الظهر :

أخذ أصحاب ألإمام يتساقطون كالفراقد ، واحدا واحدا وإثنين إثنين وأربعة أربعة ، وضيق جيش الخلافة الخناق على ألإمام ، وإقتربوا منه ، فقال أبو ثمامة عمرو بن عبدالله الصائدي : يا أبا عبدالله نفسي لك الفداء ، إني لأرى هؤلاء قد اقتربوا منك ، ولا والله لا تقتل حتى أقتل دونك وأحب أن ألقى ربي وقد صليت هذه الصلاة التي دنا وقتها ، فرفع ألإمام رأسه ثم قال : «ذكرت الصلاة ، جعلك الله من المصلين الذاكرين ، نعم هذا اول وقتها»، ثم قال : «سلوهم أن يكفوا عنا حتى نصلي ، فنادى منادي اصحاب الحسين بذلك ، فقال الحصين بن تميم : إنها لا تقبل !! فقال له حبيب بن مظاهر : زعمت ان الصلاة من آل رسول الله لا تقبل

(1) تاريخ الطبري ج 6 ص253 .
(2) العوالم ص91 ، وأبصار العين .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 317


وتقبل منك يا حمار (1)وفي رواية للطبري ، قال أبو مخنف : فأذن الحسين بنفسه ، فلما فرغ من ألأذان نادى : «يا ويلك يا عمر بن سعد أنسيت شرائع ألإسلام ، ألا تقف عن الحرب حتى نصلي وتصلون ونعود إلى الحرب ؟»فلم يجبه ، فنادى الحسين : «إستحوذ عليهم الشيطان».(2)
و أمام رفض جيش الخلافة التوقف عن القتال ولأداء الصلاة قيل : «إنه صلى فيهم صلاة الخوف».(3)
ولما فرغ ألإمام من الصلاة حرض أصحابه على القتال فقال : «يا أصحابي إن هذه الجنة قد فتحت أبوابها ، واتصلت أنهارها ، وأينعت ثمارها ، وزينت قصورها ، وتألقت ولدانها ، وحورها وهذا رسول الله والشهداء الذين قتلوا معه أبي وأمي يتوقعون قدومكم ، ويتباشرون بكم ، وهم مشتاقون إليكم ، فحاموا عن دين ألله وذبوا عن حرم رسول ألله .
وصاح ألإمام بأهله ونسائه ، فخرجن مهتكات الجيوب ، وصحن : يا معشر المسلمين ، يا عصبة المؤمنين الله، الله ، حاموا عن دين الله ، وذبوا عن حرم رسول الله ، وعن إمامكم ، وابن بنت نبيكم ، فقد امتحنكم الله بنا ، فانتم جيراننا في جوار جدنا ، والكرام علينا ، والله فرض مودتنا ، فدافعوا بارك ألله فيكم عنا .
وصاح الحسين : يا أمة القرآن هذه الجنة فاطلبوها ، وهذه النار فاهربوا منها ، وسمع الجميع صياح النساء ، ولم يرمش لأحد من جيش الخلافة رمش ، لأن قلوبهم غلف بل على العكس استبشروا «بالنصر»على ابن بنت محمد ، وآل محمد ، وأمّا أصحاب ألإمام فأجابوا : لبيك يا حسين ، لبيك يا ابن رسول ألله وضجوا بالبكاء والنحيب .(4)

(1) تاريخ الطبري ج3 ص326 ، ومقتل الحسين للخوارزمي ج2 ص17 وبحار ألأنوار ج45 ص21 ، والعوالم ج17 ص267 ، وأعيان الشيعة ج1 ص606 ووقعة الطف ص229 .
(2) أسرار الشهادة ص294 ومعالي السبطين ج1 ص361 .
(3) الدمعة الساكبة ج4 ص301 وأعيان الشيعة ج1 ص606 ، و الخلافة ج1 ص 231 .
(4) معالي السبطين ج1 ص361، والدمعة الساكبة ج4 ص302، وناسخ التواريخ ج2 ص287 ، وأسرار الشهادة ص295 والموسوعة ص446 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 318



شهامة عمر بن سعد وجيش الخلافة :

لأن عمر بن سعد هو القائد الميداني لجيش الخليفة ، وهو رمز أخلاقيات وعقائد ذلك الجيش ، فقد تأثر عندما سمع بكاء بنات النبي واستغاثتهن وعندما شاهدهن واقفات باكيات أمام أبنية الحسين وخيمه ، ولما شاهد ان جيشه الجرار البطل لا يقوى على قتال ألإمام وأصحابه إلا من جهة واحدة لأن هذه ألأبنية والخيام متماسكة ومتداخل بعضها في بعض وتعيق حركة جيش الخلافة ، ولأن عمر بن سعد يريد أن يحسم الحرب سريعا لصالحه ، ولكل هذه ألأسباب أرسل عمر بن سعد رجالا وكلفهم بتقويض تلك ألأبنية والخيام ، وتشجيعا لرجاله الأشاوس أباح لهم أن ينهبوا ما في تلك الأبنسة والخيام، ووصل رجال جيش الخليفة المكلفين بمهمة تقويض ألأبنية والخيام ، واكتشف ألإمام وأصحابه ذلك فأخذ الثلاثة وألأربعة من أصحاب ألإمام الحسين يتخللون البيوت كما قال الطبري فيشدون على الرجل وهو يقوض وينهب فيقتلونه ويرمونه من قريب ، وهكذا أفشلوا إحدى المشاريع ألإجرامية لعمر بن سعد بن أبي وقاص .
لما اكتشف عمر بن سعد بن أبي وقاص ما حل برجاله الذين أرسلهم لتقويض خيام ألإمام وأبنيته جن جنونه ، وفقد صوابه فقال : «أحرقوها بالنار ولا تدخلوا بيتا ولا تقوضوه ، فجاءوا بالنار ، وأخذوا يحرقون الخيام وألأبنية ، فقال ألإمام لأصحابه : دعوهم فليحرقوها فإنهم لو قد حرقوها لم يستطيعوا أن يجوزوها إليكم .
وحمل شمر بن ذي الجوشن حتى طعن فسطاط الحسين برمحه ونادى : علي بالنار حتى أحرق هذا البيت على أهله ، فصاحت النساء وخرجن من الفسطاط ، وصاح الحسين : يا ابن ذي الجوشن أنت تدعو بالنار لتحرق بيتي على أهلي ، احرقك الله بالنار .
وروى الطبري ، عن حميد بن مسلم ، قال قلت لشمر بن ذي الجوشن : «سبحان الله هذا لا يصلح لك ، أتريد أن تجمع على نفسك خصلتين تعذب بعذاب

كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 319


الله وتقتل الولدان والنساء ، والله إن في قتلك الرجال لما ترضي به أميرك ، قال حميد فقال : من أنت ؟ قال قلت : لا أخبرك من أنا ، وخشيت وألله لو عرفني ان يضرني عند السلطان !! وجاءه رجل كان أطوع له مني شبث بن ربعي فقال : «ما رأيت مقالا أسوأ من مقالك ، ولا موقفا أقبح من موقفك أمرعبا للنساء صرت»، قال حميد : فاستحيا شمر ، فذهب وانصرف ، وبهذا الوقت حمل عليه زهير بن القين فكشفه وأصحابه وانصرفوا ، ونجت الخيام من الحريق إلى حين .

مقتل أبي ثمامة الساعدي :

قاتل أبو ثمامة شأنه شأن كل واحد من أصحاب ألإمام دون الإمام قتالا عجيبا ، وأخيرا قال للإمام : إني قد هممت أن ألحق بأصحابي ، وكرهت أن أتخلف وأراك وحيدا من أهلك قتيلا فقال له ألإمام الحسين : تقدم فإنا لاحقون بك عن ساعة ، فتقدم أبو ثمامة وقاتل حتى قتل .(1)

تقويم الموقف وألإستعجال بطلب الموت والشهادة

إستذكار خطة ألإمام وأصحابه :

بينا أن ألإمام الحسين ، عندما قدر أن المواجهة بينه وبين الفرعون وجنوده لا مفر منها ، وأن القتال سيحدث لا محالة ، أعد للأمر عدته واستثمر امكانياته المحدودة أحسن استثمار :
1 ـ فقد أمر بحفر خندق حول معسكره من ثلاث جهات : اليمين واليسار والخلف، وأمر بأن يملأ بالحطب حتى إذا ما بدأ القتال أشعلوا النار فيه .
2 ـ أمر أصحابه وأهل بيته بأن يقربوا بيوتهم بعضها من بعض وأن يدخلوا بعضها في بعض بحيث يتعذر على جيش الفرعون أن يتخللها أو يجوس خلالها .
3 ـ إن الخندق بمثابة سور يحول بين جيش الخلافة وبين الوصول إلى داخل المعسكر، وكان تداخل ألأبنية والخيام ببعضها سورا آخر .

(1) الموسوعة ص428 ، ويوم الطف ص91 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 320

4 ـ حققت هذه الترتيبات حماية منيعة لمعسكر ألإمام وللإمام وأهل بيته وصحبه بحيث حمتهم من أيمانهم وشمائلهم ومن خلفهم وحمت الذرية .
5 ـ فرضت هذه الترتيبات على جيش الخلافة فرضا بأن يواجهوا ألإمام وأهل بيته وأصحابه من جهة واحدة ، وفوتت على الجيش الفائدة التي توخاها من توزيع قواته على شكل دائرة أو حلقة محيطة بالإمام وعسكره ، واضطر هذا الجيش ، يعيد تجميع قواته لتهاجم ألإمام وأهله وصحبه من جهة واحدة .
6 ـ وبالوقت نفسه قسم ألإمام أهل بيته وأصحابه إلى ثلاثة أقسام : ميمنة وميسرة وثبت هو وأهل بيته في القلب .
7 ـ عندما بدأ هجوم جيش الخلافة الشامل على ثلاثة محاور ميمنة وميسرة وقلب ، تلقت ميمنة وميسرة وقلب جيش ألإمام جيش الطاغية ـ يزيد ـ .
8 ـ وبالرغم من التفوق العددي الهائل لجيش الخلافة ، ومن التفوق بالعدة والعتاد إلا أن ألإمام الحسين وأهل بيته وصحبه قد نجحوا نجاحا ساحقا بالصمود ، وبالتصدي ، وألأهم من ذلك أنهم قد أفشلوا الموجة ألأولى من الهجوم ، واضطروا قادة وجيش الخلافة للتراجع وتنظيم صفوفهم وإعادة خططهم .
9 ـ خلال فترة التراجع أخذ فرسان الحسين من الميمنة والميسرة والقلب يشنون هجمات ساحقة على ميمنة وميسرة وقلب جيش الخلافة ، وامعنوا قتلا وجرحا بكل من طالت أيديهم . إنه وإن لم تتوفر لدينا إحصائيات إلا أن منطق ألأشياء ونوعية الرجال الذين كاموا حول ألإمام تؤكد أن جيش الخلافة قد خسر المئات إن لم يكن الآلاف خلال المواجهة ألأولى من الهجوم وخلال الهجمات الساحقة التي قام بها أصحاب ألإمام .
10 ـ هذه النتائج المذهلة التي حققها ألإمام وجماعته هزت قيادة جيش الخلافة هزة عنيفة ، فاستعملت تلك القيادة كامل قواتها لعقر خيول ألإمام وبذلت جهودها لتقويض أبنية وخيم ألإمام ، وأصدرت أمرا بحرق معسكر ألإمام

كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 321


وخيمه بالفعل ولو استطاهت تنفيذ هذا ألأمر لنفذته ، لأنه لا قيادة جيش الخلافة ولا جيشه لديهم أي ذرة من الدين أو الخلق ليرعوا في مؤمن إلا ً ولا ذمة .
11 ـ لقيادة جيش الخلافة هدف محدد وواضح وهو قتل ألإمام الحسين وإبادة أهل بيت النبوة ، وهذه القيادة على استعداد لقتل كل من يحول بينها وبين تحقيق هذا الهدف ، فقادة الجيش وأفراده مندفعون نحو هدفهم كالوحوش الكاسرة ، وقد طلقوا دينهم وأخلاقهم ، وإنسانيتهم طلاقا بائنا لا رجعة فيه ، وهم مصممون على تحقيق هدفهم فكلما ردوا عادوا .
12 ـ وهدف ألإمام وأهل بيت النبوة وأصحاب ألإمام منحصر بالدفاع عن دينهم ، وعن حرمات ألإسلام ، وعن أنفسهم ونيل رضوان الله بجهاد أعدائه ، الذين يحكمون باسم ألإسلام ، ويتاجرون به وهم أعداؤه ، واغلى ما يملكه ألإمام وأهل بيته وأصحابه الحياة وقد صمموا على تركها وعلى لقاء الله ، لأن الحياة تحت حكم الظالمين ذل وشقاء ، والموت في سبيل الله سعادة مطلقة ، ولكن قبل أن يموت ألإمام وأهل بيته وأصحابه يتوجب عليهم أن يذيقوا الذين أجرموا وبال أمرهم ، وأن يرغموا أنوفهم ، ويمرغوا كبرياءهم القذر ، ويجاهدوا في الله حق جهاده ، وكان عليهم أن يخوضوا بحار الموت شرقا ومغربا كما وعد ألإمام ، وأن يضربوا ضربات كالحريق ، تولي الضياغم من هولها مدبرة .
13 ـ خلال الكر والفر ، والهجمات المتكررة من الجانبين ، قتل أكثر أصحاب ألإمام الحسين ، فمن بعيد الفجر إلى صلاة العصر وأقل من مائة يتصدون لجيش دولة عظمى قوامه ثلاثون ألف مقاتل !!! ، وحسب المقاييس والموازين الموضوعية كان من المفترض أن يتمكن الجيش من سحق ألإمام وأهل بيته وأصحابه خلال ربع ساعة من الزمن، ومن دون خسائر تذكر في صفوفه !!! لقد بدأ القتال بعيد صلاة الفجر ، وجاءت صلاة الظهر ، وجاء العصر ، والوطيس في أوجه ، فأي قائد أنت يا مولاي وأي رجال رجالك !!.

قتل من تبقى من ألأصحاب :

لا نعرف على وجه التحديد عدد ألأصحاب ، ولا الكثير من سيرهم

كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 322


الشخصية ، لأن السجلات الرسمية كانت بيد دولة الخلافة ، وهذه الدولة تعتبر ألإمام وأهل بيت النبوة وآل محمد وذوي قرباه ومن والاهم «فئة مجرمة» ـ حاشاهم ـ ، لذلك تعمدت طمس أخبارهم والتعتيم عليهم ، ومنعت أولياءها من ذكرهم ، وحاولت أن تشوه قدسية عدالة قضيتهم . لكن الباحث تكاد تتوفر لديه القناعة المطلقة ليجزم بأن أهل البيت وأصحاب ألإمام الذين خاضوا غمار الحرب في كربلاء كانوا مائة رجل ينقصون قليلا أو يزيدون قليلا ، فكل مراجع دولة الخلافة رسميا تتطابق على أن العدد أقل من المائة ومراجع أهل بيت النبوة تجزم بأنه ربما كان أقل من المائة قليلا أو أكثر قليلا ، فإذا أخرجنا من العدد ثمانية عشر مقاتلا «الحسين وأهل بيته فإن عدد أصحاب الحسين سيكون 82 رجلا ينقصون قليلا أو يزيدون قليلا ، فإذا عرفت إصرار أولئك ألأصحاب على أن يفدوا ألإمام بمهجهم وأرواحهم ، وأن يحولوا بين جيش الخلافة وبين الإقتراب من ألإمام وإذا أخذنا بعين ألإعتبار عدد جيش الفرعون وعدته ، وفساد عقيدة قادته وأفراده وانعدام الخلق عندهم ، وإذا أخذنا بعين ألإعتبار ان المعركة مستمرة من بعيد الفجر وحتى العصر وكانت ما زالت مستمرة وإذا أخذنا بعين ألإعتبار أن أصحاب ألإمام الحسين كانوا كما وصفهم عدوهم «فرسان المصر، وأهل البصائر ، وقوما مستميتين . . . »فأننا نكاد نجزم أنه لم يقترب وقت العصر ومن أصحاب ألإمام على قيد الحياة إلا عدد لا يتجاوز العشرة كانوا متحلقين حول ألإمام وأهل بيت النبوة يدافعون عنهم دفاع المستقتل المستميت ، وكان دورهم دفاعيا ، مقتصرا على البقاء في مكان واحد والذب عن ألإمام الحسين وأهل بيته بالوقت الذي كانت تتدفق فيه نحو مكان ألإمام ألآلاف من جيش الخلافة ، ولا غاية لتلك ألآلف إلا قتل ألإمام وإبادة أهل بيت محمد وذوي قرباه !! .

طريقة للإستعجال بالشهادة / الخروج :

جيش الخلافة يقترب من ألإمام وأهل بيت النبوة ، وما تبقى من ألأصحاب عاجز عن مواجهة الجموع المتدفقة نحو موقع ألإمام وأهل بيت النبوة ولا بد من خروج عناصر لتعترض سبيل جند الخلافة ، فتعيق حركته إن لم تستطع أن تغير

كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 323


مجراه ، ما تبقى من ألأصحاب يجالد بين يدي ألإمام وأهل بيت النبوة.

زهير بن القين وابن عمه :

قال سلمان بن مضارب البجلي ابن عم زهير بن القين : أئذن لي بالخروج يا ابن رسول الله ، فأذن له ألإمام فقاتل الجموع الزاحفة نحو ألإمام حتى قتل واستأذن بعده زهير بن القين ووضع يده على منكب ألإمام وقال مستأذنا :
أقدم هديت هاديا مهديا فاليوم ألقى جـدك النبيـا
وحسنا والمرتضى عليا وذا الجناحين الفتى الكميا
وأسد الله الشهيد الحيا

فقال الحسين : وانا ألقاهم على أثرك ، فحمل زهير على القوم وقتل منهم مائة وعشرون وكان يقول في حملاته :
أنا زهير وأنا ابن القين أذودكم بالسيف عن حسين

وتربص به كثير بن عبدالله الصمي والمهاجر بن أوس فقتلاه ، فوقف الحسين وقال : «لا يبعدنك الله يا زهير ، ولعن قاتليك لعن الذين مسخوا قردة وخنازير ».(1)

حبيب بن مظاهر :

واستأذن حبيب بن مظاهر ، وقاتل قتال ألأبطال ، وتربص به رجل من بني تميم يقال له : بديل بن صريم فطعنه فوقع ، وحاول حبيب أن ينهض فضربه الحصين بن تميم على رأسه بالسيف فوقع نهائيا ونزل إليه التميمي فاحتز رأسه ، قال أبو مخنف : لما قتل حبيب بن مظاهر هد ذلك حسينا وقال : «احتسب نفسي وحماة أصحابي».(2)

(1) بحار ألأنوار ج45 ص26 والعوالم ج17 ص269 ، وأعيان الشيعة ج1 ص606 ، وتاريخ الطبري ج6 ص253 ، ومقتل الحسين للخوارزمي ج2 ص20 .
(2) تاريخ الطبري ج3 ص327 ، ومقتل الحسين للخوارزمي ج2 ص19 والكامل في التاريخ لابن ألأثير =
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 324



عبدالله وعبدالرحمن ابنا عزرة الغفاريان :

جاءا إلى ألإمام الحسين فقالا يا أبا عبدالله عليك السلام ، وحازنا العدو إليك ، فأحببن أن نقتل بين يديك نمنعك وندافع عنك ، قال ألإمام : «مرحبا بكما إدنو مني فدنوا منه وقاتلا بين يديه قتالا شديدا حتى قتلا».(1)
وورد انهما بكيا ، ولما سألهما ألإمام قالا: «والله ما نبكي على أنفسنا ولكن نبكي عليك ، نراك قد أحيط بك ولا نقدر على أن ننفعك . . .»(2)

أبناء العم الجابريان :

جاء الفتيان الجابريان سيف بن الحارث بن سريع ، ومالك بن عبد بن سريع ، وهما ابنا عم وأخوان لأم إلى ألإمام الحسين وهما يبكيان فقال لهما ألإمام : «أي ابني أخي ما يبكيكما ؟ فوالله أنا لأرجو أن تكونا قريري العين بعد ساعة ، قالا : لا جعلنا فداك ، لا وألله ما على أنفسنا نبكي ، ولكن نبكي عليك ، نراك قد أحيط بك ولا نقدر على أن ننفعك ، فقال ألإمام : فجزاكما الله يا إبني أخي بوجدكما من ذلك ، ومواساتكما إياي بأنفسكما أحسن جزاء المتقين ، والتفت الجابريان إلى ألإمام الحسين فقالا : السلام عليك يا بان رسول الله ، فقال ألإمام: وعليكما السلام ورحمة ألله ، وقاتلا حتى قتلا».

حنظلة بن أسعد الشبامي :

قام بين يدي ألإمام ونادى بأعلى صوته «يا قوم إني أخافُ عليكم مثل يوم ألأحزاب * مثل دأب قوم نوحٍ وعادٍ وثمود والذين من بعدهم وما أللهُ يريدُ ظلما

= ج2 ص567 وأعيان الشيعة ج1 ص606 والبداية والنهاية ج8ص198، وبحار ألأنوار ج45 ص27 والعوالم ج17 ص270 .
(1) تاريخ الطبري ج3 ص328 ، ووقعة الطف 234 والبداية والنهاية ج8 ص200 .
(2) مقتل الحسين للخوارزمي ج2 ص23، والكامل لابن ألأثير ج2 ص568 والبحار ج45 ص29 والعوالم ج17 ص273 .
(3) تاريخ الطبري ج3 ص328 ، وأعيان الشيعة ج1 ص701، ووقعة الطف ص234 ومقتل الحسين للخوارزمي ج2 ص24، وبحار ألأنوار ج45 ص31 والعوالم ج17 ص274 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي