كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 298



جواب ألأهل :

قال العباس بن علي : لم نفعل ذلك ، ألِنبقى بعدك ؟ لا ارانا ألله ذلك أبدا . وبمثل هذا أجابه أخوته ، وأبناؤه ، وبنو أخيه الحسن ، وابنا عبدالله بن جعفر محمد وعبدالله .
وقال بنو عقيل : فما يقول الناس ؟ يقولون :إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير ألأعمام ، ولم نُرم معهم بسهم ، ولم نُطعن معهم برمح ، ولم نضرب معهم بسيف ، ولا ندري ما صنعوا ؟ لا والله لا نفعل ، ولكن نفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا ، ونقاتل معك ، حتى نرد موردك ، فقبح ألله العيش بعدك .

جواب ألأصحاب :(1)

قام مسلم بن عوسجة ألأسدي فقال : «أنحن نخلي عنك ، ولما نعذر ألله في أداء حقك ، اما والله حتى أكسر في صدورهم رمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ، ولا أفارقك ، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك ، وتكلم زهير بن القين وبقية ألأصحاب بكلام مشابه».(2)

ألإمام يطلعهم على النتائج :

قال ألإمام : «إنكم تقتلون غدا لا يفلت منكم رجل »(3)فقالوا : الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك ، وشرفنا بالقتل معك .
فقال ألإمام : جزاكم الله خيرا ، ودعا لهم بخير ، فأصبح وقتل وقتلوا معه أجمعون كما قال ، وهكذا جعل ألإمام أهل بيته وأصحابه على بينة من ألأمر

(1) ألإرشاد للمفيد ،وتاريخ الطبري ج3 ص315، والكامل في التاريخ ج2 ص559 والعوالم ج17 ص244 ، ووقعة الطف ص198 .
(2) ألإرشاد ص231 ، وتاريخ الطبري ج3 ص315، والكامل في التاريخ ج2 ص559 والعوالم ج17 ص244 ووقعة الطف ص198 .
(3) بحار ألأنوار ج44 ص298 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 299


ووضع ألأمور بنصابها الصحيح ، فأماط الحرج عن نفسه ، وأتاح الفرصة أمام ألإيمان العجيب لأهله وأصحابه ليتألق ببهاء .
ودخل ألإمام خيمة أخته زينب ، فقالت له : حتى استعلمت من أصحابك نياتهم ، فإني أخشى أن يسلموك عند الوثبة ، فقال ألإمام : والله لقد بلوتهم ، فما وجدت فيهم إلا ألأشوس ألأقعس ، يستأنسون بالمنية إستئناس الطفل إلى محالب أُمه .(1)

(1) الدمعة الساكبة ص325 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 300




كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 301


الفصل الخامس
ألإستعدادات النهائية وإتخاذ المواقع القتالية

جيش الفرعون:

برز الجيش ألأموي وإتخذ مواقعه القتالية ، وهو مؤلف من ثلاثين ألف مقاتل ومقسم إلى أربعة فرق : 1ـ فرقة أهل المدينة ويقودها عبدالله بن زهير بن سليم ألأزدي ، 2ـ فرقة مذحج وأسد ويقودها عبدالله بن سبرة الحنفي ، 3 ـ وفرقة ربيعة وكندة ويقودها قيس بن ألأشعث ، 4ـ فرقة تميم وهمدان ويقودها الحر بن يزيد الرياحي ، الذي تركها قبل القتال بقليل والتحق بالحسين ، والقائد الميداني العام لهذا الجيش هو عمر بن سعد بن أبي وقاص ، حيث كان همزة الوصل بين الجيش وبين عبيدالله بن زياد، وبين يزيد بن معاوية .
جعل عمر بن سعد على ميمنة جيشه عمرو بن الحجاج الزبيدي ، وسلم قيادة الميسرة لشمر بن ذي الجوشن العامري ، وعلى الخيل عزرة بن قيس ألأحمسي ، وعلى الرجالة شبث بن ربعي ، وأعطى الراية لمولاه ذويد (1)واتخذت الفرق والتشكيلات العسكرية مواقعها الميدانية القتالية وهي تنتظر على أحر من الجمر ألأمر بالقتال لتنقض على عدوها اللدود ابن رسول الله وآل محمد وأهل بيت النبوة وذوي القربى !!!.

الحسين وأهل البيت وأصحابهم :

لما أيقن ألإمام الحسين أن القتال قدر لا مفر منه ، وأنه صار قاب قوسين أو أدنى رتب أصحابه ، وصفهم للحرب ، وكانوا مائة ،أقل بقليل أو أكثر بقليل ، فجعل على ميمنة رجاله زهير بن القين ، وسلم قيادة الميسرة لحبيب بن مظاهر ، وثبت هو وأهل بيته في القلب ، وأعطى الراية لقمر بني هاشم ، العباس بن علي بن

(1) راجع تاريخ الطبري ج6 ص241 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 302


أبي طالب ، أخيه ، وكان ألإمام الحسين قد أمر أصحابه بحفر حفرة على هيئة خندق ، وأمر أن تشعل فيها النيران ،(1)«مثلما أمر أن يقرب بعضهم بيوتهم من بعض ، وأم يدخلوا ألأطناب بعضها في بعض ، وأن يكونوا بين البيوت حتى يستقبلوا القوم من وجه واحد والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وشمائلهم »(2)والعلة في ذلك تكمن في أن جيش بني أمية يحيط بمعسكر ألإمام إحاطة السوار بالمعصم ، فلو لم يفعل ألإمام ذلك لما إستطاع وصحبه أن يصمدوا أكثر من دقيقتين ولتمكن جيش الخلافة من اجتياح معسكر ألإمام بسهولة !!، إذ لم يصدف في التاريخ العسكري كله أن تجمع جيش بهذه الكثرة والضخامة ليحارب فئة محدودة بهذه القلة !!
وما يعنينا هنا أن أصحاب ألإمام الحسين أصروا على أن يقاتلوا بين يدي ألإمام وأهل بيت النبوة ، حتى يموتوا جميعا عن بكرة ابيهم ، وبعد ذلك لا لوم عليهم إن أضطر أهل بيت النبوة للقتال !!!.
والخلاصة أن ألإمام وأهل بيته وأصحابه أخذوا مواقعهم الدفاعية وهم ينتظرون بين لحظة وأخرى وقوع العدوان ، هم على أهبة ألإستعداد للتصدي للمعتدين ، والقتال حتى الموت ، وهذا أقصى ما يمكن لهم أن يفعلوه ، وتفصيل ذلك أن ألإمام جمع أخوته وبني إخوته وبني عمومته وخطب فيهم ثم سألهم في النهاية إذا كان الصباح فما يقولون ، فقالوا بلسان واحد : ألأمر إليك ونحن لا نتعدى لك قولك .
فقال العباس : إن هؤلاء يعني ألأصحاب ، قوم غرباء ، والحمل الثقيل لا يقوم به إلا أهله ، فإذا كان الصباح فأول من يبرز للقتال أنتم ، نحن نقدمهم للموت ! لئلا يقول الناس : قدموا أصحابهم ، فلما قتلوا عالجوا الموت بأسيافهم ساعة بعد ساعة .

(1) راجع تاريخ الطبري ج6 ص459 ـ 460 ، والفتوح لابن أعثم ج5 ص107 ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص248 والموسوعة ص393 .
(2) راجع تاريخ الطبري ج3 ص217 ، وألإرشاد ص232 والعوالم ج17 ص246 ووقعة الطف ص201 ، وراجع ما كتبناه تحت عنوان «ألإمام يقيم الحجة على الفرعون وجنوده».
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 303


فقامت بنو هاشم وسلوا سيفهم في وجه العباس ، وقالوا : نحن على ما أنت عليه.
وفي خيمة أخرى اجتمع ألأصحاب فقال لهم حبيب بن مظاهر : يا أصحابي لم جئتم إلى هذا المكان ، أوضحوا كلامكم رحمكم الله ؟ ، فقالوا بلسان واحد : أتينا لننصر غريب فاطمة !! فقال لهم :لم طلقتم حلائلكم ؟ فقالوا لذلك ، قال حبيب : فإذا كان الصباح فما أنتم قائلون ؟ فقالوا : الرأي رأيك ، ولا نتعدى قولا لك . قال حبيب : فإذا صار الصباح فأول من يبرز إلى القتال أنتم ، نحن نقدمهم القتال ، ولا نرى هاشميا مضرجا بدمه ، وفينا عرق يضرب لئلا يقول الناس : قدموا ساداتهم للقتال ، وبخلوا عليهم بأنفسهم ، فهزوا سيفهم على وجهه وقالوا : نحن على ما أنت عليه ، قالت الراوية زينب عليها السلام ،«فلقيت الحسين بعد ذلك فسكنت نفسي وتبسمت في وجهه فقال «أُخية» قلت لبيك يا أخي ، فقال : يا أختاه منذ رحلنا من المدينة ما رأيتك مبتسمة ، اخبريني ما سبب تبسمك ؟ قالت : فقلت له : رأيت من فعل بني هاشم وألأصحاب كذا وكذا . . . فقال ألإمام : يا أختاه إعلمي أن هؤلاء أصحابي من عالم الذر ، وبهم وعدني رسول ألله ، هل تحبين أن تنظري إلى ثبات أقدامهم قال : نعم ، قال : عليك بظهر الخيمة ، ثم ناداهم وعرض عليهم أن ينصرفوا في سواد ألليل ، فأبوا »(1).

دعاء ألإمام الحسين :

عندما رأى ألإمام الحسين جمع جيش الخلافة كأنه السيل ، ورأى الخيل تتأهب للإنطلاق نحوه ، رفع ألإمام يديه وقال : «اللهم أنت ثقتي في كل كرب ، وأنت رجائي في كل شدة ، وأنت لي في كل امر نزل بي ثقة وعدة ، كم من هم يضعف فيه الفؤاد ، وتقل فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصديق ، ويشمت فيه العدو ، أنزلته بك ، وشكوته إليك ، رغبة مني إليك عمن سواك ، ففرجته عني وكشفته ، فأنت ولي كل نعمة ، وصاحب كل حسنة ، ومنتهى كل رغبة ».(2)

(1) راجع الموسوعة ص408 ـ 410 .
(2) ألإرشاد للمفيد ص233 ، وتاريخ الطبري ج3 ص318 ، وتاريخ ابن عساكر ترجمة ألإمام الحسين =
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 304


تجاوز حد التصّور والتصديق :

عندما تستعرض بذهنك صور كثرة جيش الخلافة ، وصور عدته واستعداداته وإمكانياته وطاقات الدولة التي تدعمه ، ومكانتها في العالم السياسي المعاصر لها كدولة عظمى ، وتستعرض صورة الجمع ألآخر الذي كان يضم ألإمام الحسين وآل محمد وذوي قرباه ، والقلة القليلة التي أيدتهم ووقفت معهم ، فإنك لا تستطيع أن تصدق أن مواجهة عسكرية يمكنم أن تحدث بين هذين الجمعين !!! وإن إحتمال حدوث مواجهة عسكرية أمر يفوق حد التصور والتصديق ، فجيش الخلافة بغنى عن هذه المواجهة ، لأنه ليست له على الإطلاق ضرورة عسكرية وليست هنالك ضرورة لتعذيب ألإمام الحسين وأهل بيت النبي وذوي قرباه وصحبه وأطفالهم ونسائهم وهم أحياء ، والحيلولة بينهم وبين ماء الفرات الجاري ، ومنعهم من الماء حتى يموتوا عطشا في صيف الصحراء الملتهب !!! ثم أن جيش الخلافة لو حاصرهم يومين آخرين فقط لماتوا من العطش من دون قتال ، ولما كانت هنالك ضرورة لتلك المواجهة العسكرية المخجلة !!! إن أي إنسان يعرف طبيعة ألإمام الحسين ، وطبيعة آل محمد ، وذوي قرباه يخرج بيقين كامل بأنهم أكبر وأعظم من أن يعطوا الدنية مخافة الموت ، لأن الموت بمفاهيمهم العلوية الخالدة أمنية ، وخروج من الشقاء إلى السعادة المطلقة !! ثم لو أن جد ألإمام الحسين كان رجل دين لأي ملّة من الملل لوجد الجيش ـ أي جيش ـ حتى جيوش المشركين حرجا كبيرا لمجرد التفكير في قتله !!! ولكان وضعه الديني حاجزا لذلك الجيش عن سفك دمه !! فكيف بابن بنت رسول الله محمد ، وبإمام كألإمام الحسين !!! ثم إن قتل الرجل وأولاده وأهل بيته دفعة واحدة يثير بألإنسان أي إنسان !! حتى إنسان العصور الحجرية شعورا بألإشمئزاز والإستياء ، لأنه عمل يعارض الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها ، فكيف برجل كالإمام وبأهل بيت كأهل بيت النبوة !!! ويظهر لنا أن تصرفات الخليفة وأعماله ، وأعمال أركان دولته ، ما هي في الحقيقة

= ص214 ، والكامل لابن ألأثير ج2 ص561 ، وبحار ألأنوار ج45 ص4 ، والعوالم ج17 ص248 ، ووقعة الطف ص205 ، والموسوعة ص414
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 305


إلا إنعكاس لقلوب مملوءة بالحقد على النبي ، وعلى آل محمد ، ومسكونة بشبح الوتر والثأر كما بينا ، وسيظهر بهذا التحليل أن الذين وقفوا على أهبة ألإستعداد لقتال ألإمام الحسين وقتله ، وإبادة أهل بيت النبوة لم يكونوا بشرا ، إنما كانوا وحوشا مفترسة ضارية ولكن على هيئة البشر !!! لم يعرف التاريخ البشري جيشا بهذا الخلق وألإنحطاط ، ولا حاكما بتلك الجلافة ، والفساد ، والحقد ، إنها نفوس مريضة نتنة ، وتغطي على مرضها ونتنها بالإدعاء الزائف بالإسلام ، والإسلام بريء منهم ، فلقد دخلوه مكرهين ، وخرجوا منه طائعين ، ألا بُعدا لهم كما بعدت ثمود ، وما يعنينا هنا أن الجمعين بحالة التأهب القصوى ، وأن كلمة سوء واحدة تخرج من فم عمر بن سعد ستشعل نار الحرب بعد أن صلى عمر بن سعد بن أبي وقاص بالجيش ألإسلامي صلاة العصر وصلوا جميعا على محمد وآل محمد ، نادى عمر بن سعد بأعلى صوته قائلا : «يا خيل ألله إركبي وإبشري » ثم زحف نحو الحسين وأصحابه ، وجاء العباس بن علي ، وقال للإمام : «يا أخي أتاك القوم»،فنهض ألإمام الحسين وقال : «يا عباس إركب ، بنفسي أنت يا أخي حتى تلقاهم فتقول لهم : ما لكم ؟ وما بدا لكم ، وتسألهم عما جاء بهم ؟».
فاستقبلهم العباس في عشرين فارسا فيهم زهير بن القين ، وحبيب بن مظاهر فقال لهم العباس : ما بدا لكم ، وما تريدون ؟ قالوا : جاء أمر ألأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو ننازلكم . قال العباس : فلا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عبدالله فأعرض عليه ما ذكرتم . فوافقوا ، ووقف أصحاب العباس يخاطبون القوم بالوقت الذي انطلق فيه العباس ليخبر ألإمام ، وأخبره العباس بما سمع .
فقال ألإمام الحسين :«إرجع إليهم ، فإن إستطعت أن تؤخرهم إلى غدوة وترفعهم عنا العشية لعلنا نصلي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره ، فهو يعلم أني كنت أحب الصلاة له ، وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء وألإستغفار»(1)وأقبل العباس بن علي

(1) راجع تاريخ الطبري ج3 ص314، وألإرشاد للمفيد ص230، ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص249 والبداية والنهاية ج8 ص190، وبحار ألأنوار ج44 ص391 والعوالم ج17 ص242 ووقعة الطف ص193 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 306


يركض على فرسه حتى انتهى إليهم فقال : يا هؤلاء إن أبا عبدالله يسألكم أن تنصرفوا هذه العشية حتى ينظر في ألأمر ، فإن هذا أمر لم يجر بينكم وبينه فيه منطق ، فإذا أصبحنا إلتقينا إن شاء ألله ، فأما رضيناه فأتينا بألأمر الذي تسألونه وتسومونه ، او كرهناه فرردناه . وهدفه أن يردهم تلك العشية .
فقال عمر بن سعد : يا شمر ما ترى ؟ قال شمر : أنت ألأمير والرأي رأيك ، وأقبل عمر بن سعد على الناس فقال : ما ترون ؟ قال عمرو بن الحجاج الزبيدي : سبحان الله والله لو كانوا من أهل الديلم ثم سألوك هذه المنزلة لكان ينبغي لك أن تجيبهم إليها ، فأجابهم عمر بن سعد ، وروى الطبري عن الضحاك بن عبدالله المشرفي قال : فلما أمسى حسين وأصحابه ، قاموا الليل كله يصلون ويستغفرون ، ويدعون ويتضرعون ، وتمر بنا خيل لهم تحرسهم ، وإن حُسينا ليقرأ «ولا يحسبن الذين كفروا انما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين وما كان ألله ليدر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب »( آل عمران / 178 ـ 179 ) ، فسمعه رجل من تلك الخيل التي كانت تحرسنا فقال : «نحن ورب الكعبة الطيبون ميزنا منكم . . . »(1)وكانت تلك الليلة هي ليلة العاشر من محرم .
القتال الضاري في كربلاء

من الذي بدأ القتال ؟ :

القتال بطبيعته كره ، وشر على الغالب ، ومن يبدأ القتال ، يلج ما تكرهه النفس ، ويفتح أبواب ألشر المغلقة، وطوال عهد النبوة الزاهر لم يصدف على ألإطلاق أن بدأ النبي القتال مع أعدائه، فكان المشركون هم الذين يبدأون بالقتال ولم يصدف أن أمر أحد رجاله أو أولياءه بالخروج للمبارزة بدءا ، وكان أعداؤه هم الذيم يخرجون أولا بعض رجالهم للمبارزة وبعد ذلك ينتدب النبي من أوليائه من يبارزهم !! كان يتجنب دائما أن يبدأ خصومه بالقتال فإذا بدأ خصمه بالقتال عندئذ

(1) راجع معالم المدرستين ج1 ص92 نقلا عن الطبري من ج6 ص232 ـ 270 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 307


كان النبي يقاتل القوم بعد أن يبلغهم الحجة ، وكذلك فعل ألإمام علي ، فطوال عهده الرائد لم يبدأ أعداءه بالقتال ، وكان أعداؤه هم الذين يبدؤون .
وألإمام الحسين هو ألإمام الشرعي ، وهو الوارث لعلم الشرعية ألإلهية وأخلاقياتها وهو الملتزم بسنة جده ، ومسلك أبيه ، سواء في ما يتعلق ببدأ القتال أو بأخلاقيات هذا القتال ، فعندما أجبرتهم طليعة جيش بني أمية أن ينزلوا في كربلاء بعراء وبغير خضرة ولا ماء ، وقبل أن يحضر الجيش قال له زهير بن القين : «إني والله لا أرى أن يكون بعد الذي ترون إلا أشد مما ترون ، يا ابن رسول الله إن قتال هؤلاء القوم الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم ، فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به ، فقال ألإمام الحسين : «ما كنت لأبدأهم بالقتال »،(1)ويوم المذبحة نادى شمر بن ذي الجوشن بأعلى صوته : «يا حسين استعجلت النار في الدنيا قبل يوم القيامة ! فقال ألإمام الحسين : من هذا كأنه شمر بن ذي الجوشن ؟ فقالوا : نعم أصلحك ألله هو هو ، فقال ألإمام : يا ابن راعية المعزى أنت أولى بها صليا . فقال له مسلم بن عوسجة : يا ابن رسول الله جعلت فداك ألا أرميه بسهم ، فإنه قد امكنني ، وليس يسقط سهم مني ، فالفاسق من أعظم الجبارين ، فقال ألإمام الحسين : «لا ترميه فإني أكره أن أبدأهم »،(2)ولم يفكر ألإمام بقتالهم إلا بعد إعذارهم وإقامة الحجة عليهم ، وقتال ألإمام دفاعي من جميع الوجوه .

كيف بدأ القتال ؟ :

أصبح ألإمام يوم عاشوراء ، وصلى الصبح بأصحابه ثم وقف بينهم فحمد ألله وأثنى عليه ثم قال : «أذن الله تعالى بقتلي وقتلكم في هذا اليوم فعليكم بالصبر والقتال» ثم صفهم للحرب الدفاعية ، فجعل زهير بن القين في الميمنة

(1) تاريخ الطبري ج3 ص309، وألإرشاد ص236، والمناقب لابن شهر آشوب ج4 ص96، وبحار ألأنوار ج44 ص380، والعوالم ج17 ص230 وألأخبار الطوال ص452 والموسوعة ص373 .
(2) تاريخ الطبري ج3 ص318، وألإرشاد للمفيد ص233 والكامل لابن ألأثير إختصارا ج2 ص561 وبحار ألأنوار ج45 ص5 والعوالم ج17 ص248 ووقعة الطف ص204 والموسوعة ص415 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 308


وحبيب بن مظاهر في الميسرة ، وثبت وأهل بيته في القلب وأعطى رايته لأخيه العباس بن علي ، وإتخذوا مواقعهم أمام بيتهم وإنتظروا .
بهذا الوقت بالذات وفي صبيحة العاشر من محرم صلى عمر بن سعد بن أبي وقاص صلاة الصبح ، وصلى بصلاته جيش بني أمية البالغ ثلاثين الف مقاتل ، ولم ينس بن سعد ولا أي فرد من أفراد جيشه الصلاة ألإبراهيمية ، لقد صلوا على محمد وآل محمد !! بالوقت الذي صمموا فيه على قتل ابن بنت النبي وإبادة آل محمد !!!.
بهذا الوقت بالذات تقدم عمر بن سعد بن أبي وقاص على فرسه ، وأشرف على الجيش كله وعلى معسكر الحسين ، ثم نادى بأعلى صوته : «إشهدوا لي عند ألأمير أني أول من رمى »فرمى سهما ، وتبعا له رمى جيش الخلافة (1)وسقطت السهام معسكر ألإمام الحسين مثل زخات المطر !! فلم يبق من أصحاب ألإمام الحسين أحد إلا اصابه من سهامهم ،(2)ولا عجب من ذلك فإن جيش الخلافة جيش دولة عظمى وهو مسلح تسليحا كاملا والسهم من ألأسلحة الضرورية ، فلك أن تتصور ثلاثين ألفا أو عشرين ألفا وهم يطلقون معا سهامهم بوقت واحد ومن مكان واحد !!.
قال ألإمام الحسين لأصحابه : «قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بد منه ، فإن هذه السهام رسل القوم إليكم».

المبارزة:

جرت العادات الحربية على أن تستهل الحرب بمبارزة ، وهو ما تم في بدر ، وما تم في أُحد والخندق . وفي كربلاء برز من جيش الخلافة يسار مولى زياد «ابن أبي سفيان» وسالم مولى عبيدالله بن زياد ، فقالا : من يبارز ؟ ليخرج إلينا بعضكم ، فوثب حبيب بن مظاهر وبرير بن خضير ، فقال لهما ألإمام الحسين :

(1) الخطط والآثار للمقريزي ج2 ص287.
(2) اللهوف ص56.
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 309


اجلسا ، فقال عبدالله بن عمير الكلبي : أبا عبدالله أتأذن لي لأخرج إليهما ، فرآه ألإمام الحسين رجلا طويلا ، شديد الساعدين ، بعيد ما بين المنكبين ، فقال ألإمام : إني لأحسبه للأقران قتالا ، اخرج إن شئت فخرج إليهما . فقالا له : من أنت فانتسب لهما ، فقالا : لا نعرفك ليخرج إلينا زهير بن القين أو حبيب بن مظاهر أو برير بن خضير !!!.
فقال الكلبي ليسار : يا ابن الزانية ، وبك رغبة عن مبارزة أحد من الناس ، وما يخرج إليك احد من الناس إلا هو خير منك ، ثم شد الكلبي عليه فضربه بسيفه ، فبينما هو منشغل به يضربه بسيفه شهر عليه سالم مولى عبيدالله ، فصاح به أصحاب الحسين : قد رهقك العبد فلم يأبه له حتى غشيه ، فبدره الضربة فاتقاه الكلبي بيده اليسرى ، فأطاح أصابع كفه اليسرى ، ثم مال عليه الكلبي فضربه حتى قتله ، فأقبل الكلبي وقد قتل ألأثنين ، فأخذت إمرأته أم وهب عمودا ثم أقبلت نحو زوجها تقول له : فداك أبي وأمي قاتل دون الطيبين ذرية محمد ! ورجته أن تقاتل إلى جانبه لتموت معه ، وتعلقت بأثوابه ، فناداها ألإمام الحسين قائلا : «جزيتم من أهل بيت خيرا ، إرجعي يرحمك ألله إلى النساء فاجلسي معهن ، فإنه ليس على النساء قتال». فانصرفت إليهن.(1)
أخذ أصحاب ألإمام الحسين يبرزون ، إثنين إثنين وأربعة اربعة ، فيبرز لهم من جيش الخلافة ، أعداد مماثلة ، وفي كل مرة كان أصحاب الحسين يقتلون أندادهم من جيش الخلافة ، ويفتكون بمن يجدوه في طريقهم من ذلك الجيش فتكا ذريعا ، واكتشف قادة جيش الخلافة خطورة المبارزة على الجيش ، فصاح عمر بن الحجاج بأصحابه : «أتدرون من تقاتلون ، إنكم تقاتلون فرسان المصر وأهل البصائر ، وقوما مستميتين ، لا يبرز إليهم أحد منكم إلا قتلوه على قلتهم ، والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم ، فقال عمر بن سعد : «صدقت الرأي ما رأيت أرسل في الناس من يعزم عليهم أن لا يبارزهم رجل منهم ، ولو خرجتم

(1) تاريخ الطبري ج3 ص321، والكامل لابن ألأثير ج2 ص564، وبحار ألأنوار ج45 ص17، والعوالم ج17 ص260، وأعيان الشيعة ج1 ص603 ووقعة الطف ص217، والطبري ج6 ص245 وابن ألأثير ج4 ص37 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 310


إليهم وحدانا لأتوا عليكم »(1)لقد كان عمر بن سعد دقيقا بتكييفه للواقع العسكري ، فجيشه كثرة ، وأصحاب ألإمام الحسين نوعية ، ولو أعطيت النوعية الفرصة كاملة لتمكنت من هزيمة ألكثرة .
كان قتل الواحد من اصحاب ألإمام يبين فيهم بوضوح لقلتهم ، بينما قتل المئات من جيش الخلافة لا يظهر لكثرتهم .

الهجوم الشامل :

أمام تلك المعطيات التي نجمت عن المبارزة ، ولأن عمر بن سعد مهزوز ، ولا يثق بنفسه ولا بجيشه ، ولا بعواقب ألأمور ، وبعد التشاور من أركان حربه منع أي واحد من جيشه من الخروج لمبارزة أي واحد من أصحاب الحسين كما أسلفنا ، وبالوقت نفسه أصدر أوامره لتنفيذ الهجوم الشامل على معسكر ألإمام الحسين ، فزحفت ميمنة جيش الخلافة بقيادة عمرو بن الحجاج على ميمنة أصحاب الإمام، فلما دنت تلك الميمنة من معسكر الحسين جثا أصحاب ألإمام على الركب ، وأشرعوا الرماح ، فلم تقدم خيلهم على الرماح ، فذهبت الخيل لترجع ، فرشقتهم ميمنة الحسين بالنبل فقتلوا فريقا وجرحوا فريقا ، وانسحب فريق ثالث ، ثم حملت خيل الحسين «32 فارسا» حملات موفقة ، فما حملت على جانب من خيل أهل الكوفة إلا وكشفته ، فلما رأى عزرة بن قيس أن خيله تنكشف من كل جانب نتيجة حملات خيل الحسين بعث عبدالرحمن بن حصن إلى عمر ابن سعد ليصف له ما لاقت خيله من خيل الحسين ، وليبعث له رماة ليعقروا خيل الحسين !!.
فقال عمر بن سعد لشبث بن ربعي : ألا تقدم إليهم ؟ فقال : سبحان الله تعمد إلى شيخ مصر وأهل المصر عامة تبعثه في الرماة !! لم تجد من تندب لهذا ويجزي عنك غيري ؟ فدعا عمر بن سعد الحصين بن تميم فبعث معه المجففة وخمسمئة من الرماة ، فأقبلوا حتى دنوا من ألإمام الحسين وأصحابه ورشقوهم

(1) تاريخ الطبري ج6 ص249 و ج5 ص435 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 311


بالنبل ، فلم يلبثوا أن عقروا كل خيولهم فصاروا رجالة ، ولما قتل مسلم بن عوسجة قال شبث بن ربعي لمن حوله : «ثكلتكم أمهاتكم أبقتل مثل مسلم تفرحون !! رأيته يوم أذربيجان وقد قتل ستة من المشركين قبل أن تنام خيول المسلمين»! قال أبو زهير العبسي لقد سمعته يقول : «لا يعطي ألله أهل هذا المصر خيرا أبدا ، ولا يسددهم لرشد ، ألا تعجبون أنا قاتلنا مع علي بن أبي طالب ومع ابنه من بعده آل أبي سفيان خمس سنين ، ثم عدونا على ابنه وهو خير أهل ألأرض نقاتله مع آل معاوية وابن سمية الزانية ، ضلال يا لك من ضلال»!!.
وقال عمر بن الحجاج لأصحابه : «قاتلوا من مرق عن الدين !! وفارق الجماعة »فصاح به ألإمام الحسين : «ويحك يا حجاج أعلي تحرض الناس ، انحن مرقنا من الدين !! وأنتم تقيمون عليه ، ستعلمون إذا فارقت ارواحنا أجسادنا من أولى بها صليا»(1)وحمل عمرو بن الحجاج ، واقتتل الفريقان ، وقتل مسلم بن عوسجة ، فمشى إليه ألإمام الحسين ومعه حبيب بن مظاهر ، فقال له ألإمام «رحمك الله يا مسلم»«فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا»( ألأحزاب / 23 ) (2)وقال له حبيب بن مظاهر :عزّ علي مصرعك يا مسلم ، أبشر بالجنة ، فقال بصوت خافت : بشرك الله بخير ، قال حبيب : لو لم أعلم أني في ألأثر لأحببت ان توصي إلي بما أهمك ، فقال مسلم : اوصيك بهذا ، وأشار إلى الحسين أن تموت دونه ، فقال حبيب : أفعل ورب الكعبة ، ثم فاضت روحه الطاهرة .
وبالوقت الذي هجمت فيه ميمنة جيش الخلافة على ميمنة أصحاب ألإمام الحسين ، هجمت فيه ميسرة ذلك الجيش بقيادة شمر بن ذي الجوشن على ميسرة أصحاب ألإمام ، وثبتت ميسرة ألإمام الحسين ثباتا بطوليا خارقا وقاتل عبدالله بن عمير الكلبي قتالا رهيبا فقتل تسعة عشر فارسا ، وإثني عشر راجلا ، فشد عليه هاني بن ثبيت الحضرمي فقطع يده اليمنى ، وقطع بكر بن حي ساقه ، فأخذه

(1) البداية والنهاية لابن ألأثير ج8 ص182 .
(2) راجع تاريخ الطبري ج3 ص324 ومقتل الحسين للخوارزمي ج2 ص15، وبحار ألأنوار ج45 ص19، والعوالم ج17 ص263 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي