كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 283


إن ألإمام الحسين على حق ، وأنه الممثل الشرعي لهذا الحق ، ويعرفون والده ألإمام علي ، ومكانته العالية ، وعدله ، وصبره ، ورحمته بالعباد ، والتزامه الصارم بالشرعية ألإلهية ، وهم يعرفون أيضا بني امية ، وتاريخهم الدموي ألأسود ، وظلمهم الذي جاوز المدى ، وبشاعة حكمهم ، ومعاداتهم الصارمة للشرعية ألإلهية ، وجهلهم بها ، وتجاهلهم لها ويبدو أن ألإمام لم يقطع الرجاء بنصرة أهل الكوفة له حتى بعد أن وصل إلى كربلاء ، فهل يعقل أن يبايعه ثمانية عشر ألفا ، ولا يفي له منهم بهذه البيعة مائة !!! كان بإمكان ألإمام أن يرجع من الطريق قبل أن يلقاه الحر ومعه طليعة جيش الخلافة ، لكنه رأى أنه ملزم أخلاقيا ودينيا بالقدوم إلى الكوفة من أجل الذين كتبوا له ، وأرسلوا له الرسل ، ومن أجل الثمانية عشر ألفا الذين بايعوا ابن عمه مسلم بن عقيل !! فهل يعقل أن يتخلى عنه أهل الكوفة بهذه السهولة وأن يتركوه وحيدا !! ثم ما الذي أجبرهم على كتابة كتب الدعوة ، وإرسال الرسل !!! تلك امور لا تصدق بالفعل!! وهل قضية الكتب والرسل مؤامرة من معاوية وابنه كما أسلفنا ووثقنا !! فإذا كانت الكتب والرسل أجزاء من مؤامرة وفصول فيها ، فما هو موضوع بيعة الثمانية عشر ألفا الذين شهد مسلم بن عقيل بأنهم قد بايعوه !! وهل يعقل أن تكون فصلا من المؤامرة !! وانها نوع من ألإختراق ، أو تغلغل مخابرات دولة الخلافة !! .
وما يعنينا هو أن ألإمام الحسين قد ركز تركيزا خاصا على إقامة الحجة على أهل الكوفة من خلال رسائله التي أشرنا إلى بعضها وسنشير إلى بعض آخر منها ، ومن خلال تصريحاته ، ومن خلال خطبه التي انتهت كلها إلى أسماع أهل الكوفة وإلى أسماع جيش الخلافة .

تقريع ألإمام لأهل الكوفة :

عبّأ عمر بن سعد جيش دولة الخلافة لمحاربة ألإمام الحسين ، ورتبهم في مراتبهم ، وأقام السرايا في مواضعها ، وعبأ ألإمام الحسين أصحابه في الميمنة والميسرة فأحاطوا بالحسين من كل جانب حتى جعلوه في مثل الحلقة ، فخرج الحسين من أصحابه حتى أتى الناس فقال لهم : «ويلكم ما عليكم أن تنصتوا إليّ ، فتسمعوا قولي ، وإنما أدعوكم إلى سبيل الرشاد ، فمن أطاعني كان من الراشدين ،

كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 284


ومن عصاني كان من المهلكين ، وكلكم عاص لأمري غير مستمع لقولي ، قد انخزلت أعطياتكم من الحرام ، وملئت بطونكم من الحرام ، فطبع على قلوبكم ، ويلكم ألا تنصتون ؟ الا تسمعون ؟ فتلاوم أصحاب عمر بن سعد وقالوا : انصتوا له ، ربما تصوروا أن ألإمام سيعلن استسلامه . فقال ألإمام الحسين : تبا لكم أيتها الجماعة وترحا ، أفحين إستصرختمونا ولهين متحيرين ، فأصرخناكم مؤدين مستعدين ، سللتم علينا سيفا في رقابنا ، وحششتم علينا نار الفتنة التي جناها عدوكم وعدونا،فأصبحتم إلبا على أوليائكم ، ويدا عليهم لأعدائكم ، بغير عدل أفشوه بكم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم ، إلا الحرام من الدنيا أنالوكم وخسيس عيش طمعتم فيه ، من غير حدث كان منا ، ولا رأي تفيّل لنا .فهلا لكم الويلات إذ كرهتمونا وتركتمونا ، تجهزتموها والسيف لم يشهر ، والجأش كامن ، والرأي لم يستحصف ، ولكن أسرعتم علينا كطيرة الدبا ، وتداعيتم إليها كتداعي الفراش ، فقبحا لكم فإنما أنتم من طواغيت ألأمة ، وشذاذ ألأحزاب ، ونبذة الكتاب ، ونفثة الشيطان ، وعصبة ألآثام ، ومحرفي الكتاب ، ومطفيء السنن ، وقتلة أولاد ألأنبياء ومبيري عترة ألأوصياء ، وملحقي العهار بالنسب ، ومؤذي المؤمنين ، وصراخة أئمة المستهزئين ، الذين جعلوا القرآن عضين، وانتم ابن حرب وأشياعه تعتمدون ، وإيانا تخذلون ، اجل وألله ، الخذل فيكم معروف ، وشجت عليكم عروقكم ، وتوارثته أصولكم وفروعكم ونبتت عليه قلوبكم ، وغشيت صدوركم ، فكنتم أخبث شيء سنخا للناصب ، وأكله للغاصب ، ألا لعنة ألله على الناكثين ، الذين نقضوا ألأيمان بعد توكيدها ، وقد جعلتم ألله عليكم كفيلا فانتم والله هم . ألا إن الدعي ابن الدعي قد ركز بين إثنتين بين القلة والذلة ، وهيهات ما آخذ الدنية ، أبى ألله ذلك ورسوله ، وجدود طابت . وحجور طهرت ، وأنوف حمية ، ونفوس أبية لا تؤثر طاعة أللئام على مصارع الكرام . ألا قد أعذرت وأنذرت ، ألا إني زاحف بهذه ألأسرة على قلة العتاد وخذلة ألأصحاب ، ثم أنشد يقول :
فإن نهزم فهزامون قدما وإن نُهزم فغير مُهزمينا
وما أن طبنا جبن ولكن منايانا ودولـة آخرينـا


كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 285

أما إنه لا تلبثون بعدها إلا كريث ما يركب الفرس ، حتى تدور بكم دور الرحى،عهد عهده إليّ أبي عن جدي ، فأجمعوا أمركم وشركاءكم فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون، إني توكلت على ألله ربي وربكم ، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم، اللهم احبس عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنين كسني يوسف، وسلط عليهم غلام ثقيف، يسقيهم كأسا مصبرة،فلا يدع فيهم احدا،قتلة بقتلة، وضربة بضربة ينتقم لي ولأوليائي ولأهل بيتي وأشياعي منهم،فإنهم غرونا وكذبونا وخذلونا، وأنت ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا وإليك المصير» ثم قال: «أين عمر بن سعد ؟ ادعوا لي عمر »،فدعي له، وكان كارها لا يحب أن يأتيه، فقال : «يا عمر ، أنت تقتلني تزعم أن يوليك الدعي ابن الدعي بلاد الري وجرجان ، والله لا تتهنأ بذلك أبدا ، عهدا معهودا ، فاصنع ما انت صانع ، فإنك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة ، ولكأني برأسك على قصبة قد نصب بالكوفة ، يتراماه الصبيان ، ويتخذونه غرضا بينهم».(1)

ألإمام يقيم الحجة على جيش الخليفة وقيادته :

بعث عمر بن سعد بن أبي وقاص قرة بن قيس الحنظلي فقال له : ويحك يا قرة ألق حسينا فسله ما جاء به ؟ وماذا يريد ، وجاء قرة وأبلغه رسالة عمر بن سعد إليه فقال الحسين : «كتب إلي أهل مصركم أن أقدم ، فأما إذ كرهوني فانا أنصرف عنهم».(2)
وروى الخوارزمي أن ألإمام قال : «يا هذا أبلغ صاحبك عني أني لم أرد هذا البلد ، ولكن كتب إلي أهل مصركم هذا أن آتيهم فيبايعونني ، ويمنعونني ، وينصروني ولا يخذلوني ، فإن كرهوني انصرفت عنهم من حيث جئت».(3)

(1) راجع مقتل ألإمام الحسين للخورازمي ج2 ص6، وتاريخ ابن عساكر، ترجمة ألإمام الحسين ص216، وبحار ألأنوار ج45 ص8 والعوالم ج17 ص251 والموسوعة ص422ـ424 .
(2) راجع تاريخ الطبري ج3 ص310 وألإرشاد ص227 ، والفتوح ج5 ص97 والكامل لابن ألأثير ج2 ص556 ، وبحار ألأنوار ج44 ص384 ، والعوالم ج17 ص235 وأعيان الشيعة ج1 ص599 ، ووقعة الطف ص184 والموسوعة ص383 .
(3) راجع مقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص241 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 286


وروى الدينوري ان ألإمام الحسين قال : «أبلغه عني أن أهل هذا المصر كتبوا إلي يذكرون أن لا إمام لهم ، ويسألونني القدوم عليهم ، فوثقت بهم ، فغدروا بي بعد أن بايعني منهم ثمانية عشر ألف رجل ، فلما دنوت علمت غرور ما كتبوا به إلي أردت ألإنصراف إلى حيث أقبلت ، فمنعني الحر بن يزيد حتى جعجع بي في هذا المكان ، ولي بك قرابة قريبة ، ورحم ماسة فأطلقني حتى أنصرف».(1)
وأحاط رسول ابن سعد بن ابي وقاص بكل كلمة قالها ألإمام الحسين ، وتولى ابن سعد نقل كل ما قاله ألإمام الحسين إلى عبيدالله بن زياد ، فأجابه ابن زياد : أعرض على الحسين ان يبايع ليزيد بن معاوية هو وجميع أصحابه ، فإن فعل ذلك رأينا فيه رأينا ، فأرسل عمر بن سعد كتاب ابن زياد إلى الحسين ، فقال ألإمام الحسين للرسول : «لا أجيب ابن زياد بذلك ، فهل هو إلا الموت فمرحبا به»(2)ومن الطبيعي أن يسمع الجيش المتمركز في كربلاء بكل ما قاله ألإمام ، وكل ما قاله عمر بن سعد ، وكل ما قاله عبيدالله بن زياد ، فالجيش مشدود كالوتر ، ويترقب ألأمر ببدء القتال ثانية بثانية .
وأرسل ألإمام إلى عمر بن سعد : «إني اريد اكلمك فالقني الليلة بين عسكري وعسكرك»، وإلتقى ألإثنان ، فقال له ألإمام الحسين : «ويلك يا ابن سعد أما تتقي ألله الذي إليه معادك ،أتقاتلني ، وأنا إبن من علمت ، ذر هؤلاء القوم وكن معي فإنه أقرب لك إلى ألله تعالى ، فقال ابن سعد : أخاف أن تهدم داري ! فقال الحسين : أنا أبنيها لك ، فقال ابن سعد : أخاف أن تؤخذ ضيعتي ، فقال ألإمام الحسين : أنا اخلف عليك خيرا منها من مالي بالحجاز ، فقال ابن سعد : أنا لي عيال وأخاف عليهم ، ثم سكت ، فإنصرف عنه ألإمام الحسين وهو يقول : مالك ، ذبحك ألله على فراشك ، ولا غفر لك يوم حشرك ، فوالله إني لا أرجو أن لا تأكل

(1) ألأخبار الطوال للدينوري ص252 .
(2) ألأخبار الطوال ص253 والموسوعة ص 382 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 287


من بر العراق إلا يسيرا ، فقال ابن سعد مستهزئا من قول الإمام : في الشعير كفاية عن البر».(1)
وعندما نزل ألإمام الحسين في كربلاء كتب له عبيدالله بن زياد كتابا مليئا بالغرور والغطرسة طلب منه في نهايته أن ينزل على حكمه وحكم يزيد بن معاوية وأرسل عبيدالله ابن زياد هذا الكتاب مع رسول من خواصه ، فلما قرأه ألإمام الحسين رماه أمام الرسول فطلب منه الرسول جوابا على كتاب عبيدالله بن زياد فقال ألإمام الحسين : «ما له عندي جواب ، لأنه قد حقّت عليه كلمة العذاب».فعاد الرسول وأخبر عبيدالله بن زياد بما قاله ألإمام فجن جنونه من الغضب .(2)
وتقدم ألإمام حتى وقف بإزاء القوم ، ونظر إلى ابن سعد واقفا في صناديد الكوفة ، فقال ألإمام :
«الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء ، وزوال ، متصرفة بأهلها حالا بعد حال ، فالمغرور من غرته ، والشقي من فتنته ، فلا تغرنكم هذه الدنيا ، فإنها تقطع رجاء من ركن إليها ، وتخيب طمع من طمع فيها . واراكم قد اجتمعتم على أمر قد اسخطتم الله فيه عليكم ، وأعرض بوجهه الكريم عنكم ، وأحل بكم نقمته ، وجنبكم رحمته ، فنعم الرب ربنا ، وبئس العبد أنتم . أقررتم بالطاعة ، وآمنتم بالرسول محمد «ص» ثم إنكم زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم ، لقد استحوذ عليكم الشيطان ، فأنساكم ذكر الله العظيم ، فتبا لكم ولما تريدون ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبعدا للقوم الظالمين».
فقال عمر بن سعد : «ويلكم كلموه»،فتقدم شمر بن ذي الجوشن فقال : «يا حسين ما هذا الذي تقول ؟ أفهمنا حتى نفهم».

(1) راجع الفتوح لابن أعثم ج5 ص102، ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص245، والبداية والنهاية لابن كثير ج8 ص189، وبحار ألأنوار ج44 ص388، والعوالم ج17 ص239 وأعيان الشيعة ج1 ص599 .
(2) راجع الفتوح لابن أعثم ج5 ص95، ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص239 وبحار ألأنوار ج44 ص383 والعوالم ج17 ص234 والموسوعة 377 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 288


فقال ألإمام الحسين : «اتقوا ألله ربكم ولا تقتلوني ، فإنه لا يحل لكم قتلي ، ولا انتهاك حرمتي ، فإني ابن بنت نبيكم ،وجدتي خديجة زوجة نبيكم ، ولعله قد بلغكم قول نبيكم : الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة».(1)
ودنا الجيش «ألإسلامي» من معسكر ألإمام ، فدعا ألإمام براحلته فركبها ، ونادى بأعلى صوته : «أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوني حتى أعظكم بما لحقٌ لكم علي وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم ، فإن قبلتم عذري وصدقتم قولي ، وأعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد ، ولم يكن لكم علي سبيل ، وإن لم تقبلوا عذري ، ولم تعطوا النصف من أنفسكم «فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون»(يونس / 71)« إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين»(ألأعراف / 196 ) .
لما سمعت أخواته ، وبناته كلام ألإمام صحن ، وبكين ، وارتفعت أصواتهن وسمع الجيش «ألإسلامي» نحيب بنات الرسول وبكاءهن فأرسل ألإمام أخاه العباس بن علي ، وعليا ابنه وقال لهما :«اسكتاهن ، فلعمري ليكثرن بكاؤهن».
وبعد ذلك حمد الله ألإمام ربه وشكره وصلى على نبيه وآله ثم قال : «أما بعد : فانسبوني فانظروا من أنا ، ثم ارجعوا إلى انفسكم وعاتبوها ، فانظروا هل يحل لكم قتلي ، وانتهاك حرمتي ؟ !! ألست ابن بنت نبيكم(ص) وابن وصيه وابن عمه وأول المؤمنين بالله والمصدق لرسوله بما جاء به من عند ربه ؟ أوَ ليس حمزة سيد الشهداء عم أبي ؟ أوَ ليس جعفر الشهيد الطيار ذو الجناحين عمي ؟ .
اوَلم يبلغكم قول مستفيض فيكم أن رسول الله قال لي ولأخي : هذان سيدا شباب أهل الجنة ؟ فإن صدقتموني بما أقول ، وهوالحق ، فوألله ما تعمدت كذبا مذ علمت أن ألله يمقت عليه أهله ، ويضر به من اختلقه ، وإن كذبتموني ، فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم ، سلوا جابر بن عبدالله ألأنصاري ، أو أبا سعيد الخدري ، أو سهل بن سعد الساعدي ، أو زيد بن أرقم ، أو أنس بن مالك ،

(1) مقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص252 ، والمناقب لابن شهر آشوب ج4 ص100 وذكر بعض الخطبة ، وبحار ألأنوار ج45 ص5 والعوالم ج17 ص249 والموسوعة ص 416/ 417 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 289


يخبرونكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله (ص) لي ولأخي افما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي ؟ «.
فقال شمر بن ذي الجوشن : هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما يقول !!! وتابع ألإمام قوله : «فإن كنتم في شك من هذا القول ، أفتشكون أثرا ما أني ابن بنت نبيكم ، فوألله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري منكم ولا من غيركم ، أنا ابن بنت نبيكم خاصة . أخبروني أتطلبوني بقتيل منكم قتلته ،أو مال استهلكته أو بقصاص من جراحة »؟.
ونادى ألإمام : يا شبث بن ربعي، يا حجار ابن أبجر ، يا قيس بن ألأشعث يا يزيد بن الحارث ألم تكتبوا إلي «أن قد أينعت الثمار ، واخضر الجناب ، وطمت الجمام ، وانما تقدم على جند مجندة فأقبل ؟ ».
فقالوا له : لم نفعل .
فقال ألإمام : سبحان ألله بلى والله لقد فعلتم .
ثم قال : أيها الناس إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من ألأرض ، فقال له قيس بن ألأشعث : أو لا تنزل على حكم بني عمك ، فإنهم لن يروك إلا ما تحب ، ولن يصل إليك منهم مكروه !.
فقال له الحسين : «أنت أخ أخيك محمد بن ألأشعث»أتريد ان يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل ، لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد ، عباد ألله« وإني عُذتُ بربي ورَبكُم أن تَرجمون»(الدخان / 20 )«إني عُذتُ بربي وربكُم من كل مُتَكبرٍ لا يؤمنُ بيومِ الحساب »(غافر /27 ) .
ولما وصل ألإمام إلى هذا الحد أناخ راحلته ، وأمر عقبة بن سمعان يعقلها وأقبل الجيش «ألإسلامي» يزحف نحوه .(1)

(1) تاريخ الطبري ج3 ص318، وألإرشاد للمفيد 234، والكامل لابن ألأثير ج2 ص561، وبحار ألأنوار ج45 ص6، والعوالم ج17 ص250، وأعيان الشيعة ج1 ص602، ووقعة الطف ص206، مع اختلاف ببعض ألألفاظ.
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 290


أصحاب ألإمام يساعدونه بإقامة الحجة :

تقدم ألإمام الحسين نحو القوم وبين يديه برير بن خضير فقال له ألإمام كلم القوم ، فتقدم برير فقال : «يا قوم اتقوا الله ، فإن ثقل محمد قد أصبح بين أظهركم ، هؤلاء ذريته وعترته ، وبناته وحرمه ، فهاتوا ما عندكم وما الذي تريون أن تصنعوا بهم ؟ فقالوا : نريد أن نمكن منهم ألأمير ابن زياد فيرى رأيه فيهم ، فقال لهم برير : أفلا تقبلون منهم أن يرجعوا إلى المكان الذي جاءوا منه ؟ ويلكم يا أهل الكوفة أنسيتم كتبكم وعهودكم التي أعطيتموها ، وأشهدتم الله عليها !! .
يا ويلكم أدعوتم اهل بيت نبيكم وزعمتم أنكم تقتلون أنفسكم دونهم ، حتى إذا أتوكم أسلمتموهم إلى ابن زياد وحلأتموهم عن ماء الفرات ، بئسما خلفتم نبيكم في ذريته ، ما لكم لا سقاكم الله يوم القيامة ، فبئس القوم أنتم !.
فقال له نفر منهم : يا هذا ما تدري ما تقول ؟
فقال برير : الحمد لله الذي زادني فيكم بصيرة ، اللهم إني أبرأ إليك من فعال هؤلاء القوم ، اللهم ألق بأسهم بينهم ، حتى يلقوك وأنت غضبان ، فجعل القوم يرمونه بالسهام ، فرجع برير إلى ورائه».(1)
وبلغ العطش من الحسين وأصحابه فدخل عليه أحد رجاله «يزيد بن الحصين الهمداني»، فقال : يا ابن رسول الله أتأذن لي فأخرج إليهم فأكلمهم ؟ فأذن له فخرج إليهم ، فقال : يا معشر الناس إن ألله عز وجل بعث محمدا بالحق بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، وهذا ماء الفرات تقع فيه خنازير السواد وكلابها ، وقد حيل بينه وبين ابنه .
فقالوا يا يزيد : فقد أكثرت الكلام فاكفف ، فوالله ليعطشن الحسين كما عطش من كان قبله ، فقال الحسين : إقعد يا يزيد .
فلما سمع الحسين إلتفت إلى أصحابه وقال : «أصحابي إن القوم قد

(1) مقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص252 ، والمناقب لابن شهر آشوب ج4 ص100 وبحار ألأنوار ج45 ص5 والعوالم ج17 ص249 والموسوعة ص415 ـ 416 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 291


استحوذ عليهم الشيطان ، ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون وأنشد يقول :
تعـديتم يا شـر قـوم ببغيكـم وخـالفتم فينـا النبـي محمد
أما كان خير الرسل أوصاكم بنا أما نحن من نجل النبي المسدد
أما كانت الزهـراء أمي ووالدي علي أخـا خير ألأنام المسددا(1)

خطب زهير بن القين ، ودعا القوم إلى نصرة ابن بنت رسول الله ، فسبوه ، وأثنوا على عبيدالله بن زياد ، فقال زهير : إن ولد فاطمة سلام ألله عليها أحق بالود والنصرة ، فرماه شمر بن ذي الجوشن بسم وقال له : اسكت ، ثم أقبل زهير على الناس ، وقال : عباد ألله لا يغرنكم من دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه . فناداه رجل فقال له : إن أبا عبدالله يقول لك أقبل ، فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح قومه وأبلغ في الدعاء لقد نصحت لهؤلاء ، وأبلغت لو نفع النصح وألإبلاغ .(2)

الحر بن يزيد يساعد ألإمام بإقامة الحجة :

توبة الحر


رأينا أن الحر بن يزيد كان هو قائد طليعة جيش بني أمية ، تلك الطليعة المكلفة بمنع ألإمام من العودة إلى ألمدينة أو الدخول إلى الكوفة ، والمكلفة بمسايرة ألإمام ومرافقته ومراقبته ، وانزاله وصحبه بمكان عراء ليس فيه خضرة ولا ماء ولا ملجأ ، وقد التقى الحر وقواته مع ألإمام في منطقة شراف وبالتحيد في جبل ذي حسم كما أسلفنا ، وقام الحر وقواته بالمهمة الموكولة لهم على الوجه الذي أراده عبيدالله بن زياد .
روى الطبري أنه لما زحف عمر بن سعد قال له الحر : أمقاتل أنت هذا الرجل ؟ فقال عمر : أي والله قتالا أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح ألأيدي . فقال

(1) معالي السبطين ج1 ص348 ، وبحار ألأنوار ج45 ص41 والعوالم ج17 ص283 والموسوعة ص427 .
(2) تاريخ الطبري ج3 ص320، ووقعة الطف ص213 ، واللهوف ص37، وأعيان الشيعة ج1 ص599، وبحار ألأنوار ج44 ص318 والموسوعة ص429 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 292


له الحر : أفما لكم في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضى ؟ قال عمر بن سعد :أما والله لو كان ألأمر بيدي لفعلت ، ولكن أميرك قد أبى ذلك . عندئذ صمم الحر أن ينضم إلى ألإمام الحسين ، فوقف أمام الناس وادعى أنه يريد أن يسقي فرسه ، وانطلق حتى أتى ألإمام فقال له : جُعلت فداك يا ابن رسول الله ، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع ، وسايرتك في الطريق ، وجعجعت بك في هذا المكان ، وألله الذي لا أله إلا هو ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبدا ، ولا يبلغون منك هذه المنزلة ، فقلت في نفسي : لا ابالي أن أطيع القوم ببعض أمرهم ، ولا يرون أني خرجت من طاعتهم ، واما هم فسيقبلون من حسين هذه الخصال التي يعرض عليهم ، والله لو ظننت أنهم لا يقبلونها منك ، ما ركبتها منك ، وأني قد جئتك تائبا مما كان مني إلى ربي ، ومواسيا لك بنفسي حتى أموت بين يديك أفترى ذلك لي توبة ؟ قال ألإمام : نعم يتوب ألله عليك ويغفر لك ، ما اسمك ؟ قال : أنا الحر بن يزيد ، قال ألإمام : أنت الحر كما سمتك أمك ، أنت الحر إن شاء ألله في الدنيا وألآخرة ، انزل ، قال الحر : أنا لك فارسا خير مني راجلا ، أقاتلهم على فرسي ساعة وإلى النزول ما يصير آخر أمري ، قال ألإمام فاصنع يرحمك ألله ما بدا لك .
موعظة الحر لأهل الكوفة


سكان الكوفة كانوا يشكلون نسبة عالية من جيش الطاغية ، وها هو بعض السر في تركيز ألإمام عليهم ، والحر كواحد من أبرز قادة هذا الجيش الفرعون كان يعرف هذه الحقيقة ، فلما تاب وهداه ألله ، أراد أن يعلن ذلك ، فعندما يعلم جيش الدولة أن أبرز قادته وأذكاهم ، قد تركهم والتحق بالإمام ، فإن ذلك سيكون له أثر عظيم ، واستهل الحر بسؤال وجيه ومنطقي وجهه إلى هذا الجيش فقال : «أيها القوم ألا تقبلون من حسين خصلة من الخصال التي عرض عليكم ، فيعافيكم الله من حربه وقتاله ؟ قال الجيش : هذا ألأمير عمر بن سعد فكلمه ، فكلمه الحر بمثل ما كلمه به من قبل .
قال عمر بن سعد : قد صرحت لو وجدت إلى ذلك سبيلا فعلت.

كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 293


فقال الحر : يا أهل الكوفة لأمكم الهبل والعبر إذ دعوتموه ، حتى إذا أتاكم أسلمتموه ، وزعمتم أنكم قاتلوا دونه، ثم عدوتم عليه لتقتلوه ، أمسكتم بنفسه ،وأخذتم بكظمه ، وأحطتم به من كل جانب فمنعتموه التوجه في بلاد ألله العريضة ، حتى يأمن ويأمن أهل بيته وأصبح في أيديكم كألأسير لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع ضرا ، وحلأتموه ونساءه وأحبته وأصحابه عن ماء الفرات الذي يشربه اليهودي والمجوسي والنصراني ، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه ، وها هم قد صرعهم العطش، بئسما خلفتم محمدا في ذريته ، لا سقاكم ألله يوم الظمأ إن لم تتوبوا ، وتنزعوا عما أنتم عليه من يومكم هذا في ساعته هذه ، فحملت عليه رجالة الجيش ترميه بالنبل ، فأقبل حتى وقف أمام ألإمام الحسين».(1)

(1) معالم المدرستين ج3 ص99ـ100 نقلا عن الطبري .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 294




كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 295


الفصل الرابع
ألإمام يأذن لأصحابه بألإنصراف وتركه وحيدا

تيقن ألإمام من أن بني أمية سيهجمون عليه بين لحظة وأخرى ، وأن الحرب واقعة لا مفر منها ، وهي حرب غير متكافئة من جميع الوجوه ، وأن مصيره ومصير من يبقى معه سيكون القتل لا محالة ، ورأى ألإمام أن واجبه أن يرفع الحرج عن نفسه ، وأن يعطي أصحابه الفرصة لإعادة النظر في مواقفهم النبيلة قبل أن يبدأ القتال ، وفي مساء اليوم السابق ليوم عاشوراء جمع ألإمام أصحابه وخطب فيهم الخطبة التالية :
«أُثني على الله أحسن الثناء ، وأحمده على السراء والضراء ، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة ، وعلمتنا القرآن ، وفقهتنا في الدين ، وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وافئدة ، ولم تجعلنا من المشركين ، أما بعد:
فإني لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي ، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم ألله عني خيرا ، ألا وإني لأظن يوما لنا من هؤلاء ، ألا وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعا في حل ، ليس عليكم حرج مني ولا ذمام ، هذا ألليل غشيكم فاتخذوه جملا».(1)
وقال ابن أعثم الكوفي إن ألإمام قد قال : «إني لا أعلم أصحابا أصح منكم ولا أعدل ، ولا أفضل أهل بيت ، فجزاكم ألله عني خيرا ، فهذا الليل قد أقبل فقوموا فاتخذوه جملا ، وليأخذ كل واحد منكم بيد صاحبه أو رجل من أخوتي وتفرقوا في سواد الليل ، وذروني وهؤلاء القوم ، فإنهم لا يطلبون غيري ، ولو

(1) تاريخ الطبري ج3 ص315، وألإرشاد للمفيد ص231، والكامل في التاريخ ج1 ص556، والعوالم ج17 ص243، وأعيان الشيعة ج1 ص600، ووقعة الطف ص197 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 296


أصابوني وقدروا على قتلي لما طلبوكم».(1)
وقال المجلسي : إن ألإمام قد قال : «اللهم إني لا أعرف أهل بيت أبر ولا أزكى ولا أطهر من أهل بيتي ، ولا أصحابا هم خير من أصحابي ، وقد نزل بي ما ترون ، وأنتم في حل من بيعتي ، ليست في أعناقكم بيعة ، ولا لي عليكم ذمة وهذا الليل قد غشيكم ، فاتخذوه جملا وتفرقوا في سواده ، فإن القوم إنما يطلبوني ، ولو ظفروا بي لذهلوا عن طلب غيري».(2)
وفي رواية عن ألإمام علي بن الحسين زين العابدين أن ألإمام الحسين قد قال : «إن هؤلاء يريدوني دونكم ، ولو قتلوني لم يقبلوا إليكم ، فالنجاة النجاة ، وانتم في حل ، فإنكم إن أصبحتم معي قتلتم كلكم ».(3)
وفي رواية أخرى : «عرض ألإمام الحسين على أهله ومن معه أن يتفرقوا عنه ويجعلوا ألليل جملا وقال : إن القوم يطلبونني وقد وجدوني ، وما كانت كتب من كتب إلي إلا مكيدة لي ، وتقربا إلى ابن معاوية بي».(4)
وفي رواية أن ألإمام قد قال : إعلموا أنكم خرجتم معي لعلمكم أني أقدم على قوم بايعوني بألسنتهم وقلوبهم ، وقد انعكس ألأمر لأنهم قد استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله ، وألآن ليس يكن مقصد إلا قتلي وقتل من يجاهد بين يدي ، وسبي حريمي بعد سلبهم ، وأخشى أنكم لا تعلمون أو تعلمون وتستحيون ، والخداع عندنا أهل البيت محرم ، فمن كره منكم ذلك لينصرف ، فألليل ستير ، والسبيل غير خطير ، والوقت ليس بهجير ، ومن واسانا بنفسه كان معنا غدا في الجنان ، نجيا من غضب الرحمن ، وقد قال جدي : ولدي حسين يقتل بطف كربلاء غريبا وحيدا ، عطشانا فريدا ، من نصره فقد نصرني ، ونصر ولده القائم ، ولو نصرنا بلسانه فهو في حزبنا يوم القيامة .

(1) الفتوح لابن أعثم ج5 ص105، وتاريخ الطبري ج3 ص315، والكامل لابن ألأثير ج2 ص559، وأيان الشيعة ج1 ص600 ووقعة الطف ص197 .
(2) راجع بحار ألأنوار للمجلسي ج44 ص315 .
(3) بحار ألأنوار ج45 ص89 .
(4) أنساب ألأشراف ج3 ص185 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 297


قالت سكينة : فوالله ما أتم كلامه إلا وتفرق القوم من عشرة ، وعشرين فلم يبق معه إلا واحد وسبعين رجلا ، فنظرت إلى أبي منكسا رأسه فخنقتني العبرة فخشيت أن يسمعني ، ورفعت طرفي إلى السماء وقلت : اللهم إنهم خذلونا فاخذلهم ، . . . . فرأتني عمتي ام كلثوم وقالت : ماذا دهاك يا بنتاه فأخبرتها الخبر ، فصاحت واجداه ، واعلياه ، وا حسناه ، وا حسيناه ، وا قلة ناصراه ، أين الخلاص من ألأعداء ؟ ليتهم يقنعون بالفداء . . .فسمع أبي ذلك ، فأتى إلينا يعثر في أذياله ودموعه تجري وقال : ما هذا البكاء ؟ .
فقالت : يا أخي ردّنا إلى حرم جدنا .
فقال ألإمام : يا أختاه ليس إلى ذلك سبيل .
قالت : اجل ذّكرهم محل جدك وأبيك وأخيك .
فقال ألإمام : ذّكرتهم فلم يذكروا ، ووعظتهم فلم يتعظوا ، ولم يسمعوا قولي ، فما لهم غير قتلي سبيلا ، ولا بد أن تروني على الثرى جديلا ، لكن اوصيكن بتقوى ألله رب البرية ، والصبر على البلية ، وكظم نزول الرزية وبهذا وعد جدكم ، ولا خلف لما وعد ، ودعتكم إلهي الفرد الصمد .(1)
وروى البحراني أن ألإمام قد قال : «يا أهلي وشيعتي إتخذوا هذا الليل جملا لكم ، وانجوا بأنفسكم ، فليس المطلوب غيري ، ولو قتلوني ما فكروا فيكم ، فانجوا رحمكم ألله وانتم في حل وسعة من بيعتي وعهدي الذي عاهدتموني ».(2)
وقال ألإمام الحسين : يا بني عقيل حسبكم من القتل بمسلم ، إذهبوا أذنت لكم .

(1) الدمعة الساكبة ج4 ص271، وأسرار الشهادة ص268، وناسخ التواريخ ج2 ص160 والموسوعة ص399 ـ 400 .
(2) الموسوعة ص401 .
السابق السابق الفهرس التالي التالي