كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 255


ينكث على نفسه»(الفتح / 10 )وسيغني الله عنكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ».(1)
ولما فرغ ألإمام من خطبته قام إليه أصحابه وتكلموا وأجمعوا لنصرته ، فجزاهم ألإمام خيرا ، وخرج ولد الحسين واخوته وأهل بيته حين سمعوا الكلام فنظر إليهم وجمعهم عنده وبكى ، ثم قال : «للهم أنا عترة نبيك محمد صلواتك عليه ، قد أخرجنا وأزعجنا وطردنا عن حرم جدنا ، وتعدت بنو أمية علينا ، اللهم فخذ لنا بحقنا وانصرنا على القوم الظالمين».(2) أما الحر وطليعة جيش الفرعون فقد سمعوا كل ما قاله ألإمام ، وشاهدوه وهو يبكي ، فلم تتأثر نفوسهم ، لا من قريب ولا من بعيد ، وأخالهم قد كتبوا لأبن زياد كل ما سمعوه ، ولم يفرحوا بكلمة مما قاله ألإمام ، وكأني بهم وقد أخذوا يتندرون ببعض ما قاله ألإمام !!! إنهم قوم فقدوا دينهم وشرفهم ، ونخوتهم .

عذيب الهجانات :

رحل ألإمام الحسين من موضعه المسمى بالبيضة إلى العذيب ،(3)والحر يسايره ، وبينما هم يسيرون إذ أقبل أربعة نفر من الكوفة ، فلما انتهوا إلى ألإمام الحسين أنشدوه هذه ألأبيات :
يا ناقتي لا تذعري من زجري و شمري قبل طلوع الفجر
بخيـر ركبـان وخيـر سـفر حتـى تحلي بكريـم النجر
المـاجد الحـر رحيب الصدر أتـى بـه الله لخيـر أمـر
ثمة أبقاء بقاء الدهر

فقال الحسين : «أما والله إني لأرجو أن يكون خيرا ما أراد ألله بنا ، قتلنا أم ظفرنا».ولما رآهم الحر جاء إلى ألإمام الحسين وقال له : «إن هؤلاء النفر الذين

(1) تاريخ الطبري ج3 ص 306 وابن ألأثير ج2 ص552 ووقعة الطف ص172 .
(2) مقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص236 وبحار ألأنوار ج44 ص383 يوم عاشوراء .
(3) العذيب : ماء ما بين القادسية والمغشية ، ويبعد عن القادسية أربعة أميال وعن المغشية إثنان وثلاثون ميلا.
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 256


من أهل الكوفة ليسوا ممن أقبل معك ، وانا حابسهم أو رادهم «.
فقال له الحسين : «لأمنعهم مما أمنع منه نفسي ، إنما هؤلاء أنصاري وأعواني ، وقد كنت أعطيتني ان لا تعرض لي بشيء حتى يأتيك كتاب من ابن زياد»، فقال الحر : أجل ولكن لم يأتوا معك ، فقال الحسين : «هم أصحابي ، وهم بمنزلة من جاء معي ، فإن تممت علي ما كان بيني وبينك وإلا ناجزتك ، فكف عنهم الحر».(1)
فقال ألإمام الحسين للأربعة : أخبروني خبر الناس وراءكم؟ .
فقال مجمع بن عبدالله العائذي : «أما أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم ، وملئت غرائرهم ، يستحال ودهم ، ويستخلص به نصيحتهم ، فهم ألب واحد عليك، وأما سائر الناس بعد فإن أفئدتهم تهوي إليك ،وسيوفهم غدا مشهورة عليك ».
قال ألإمام : أخبروني فهل لكم برسولي إليكم ؟ قالوا :من هو ؟ قال ألإمام قيس بن مسهر الصيداوي ، قالوا نعم ، أخذه الحصين بن تميم ، فبعث به إلى ابن زياد فأمره أبن زياد أن يلعنك ويلعن أباك ،فصلى عليك وعلى أبيك ولعن ابن زياد وأباه ، ودعا إلى نصرتك وأخبرهم بقدومك ، فأمر به ابن زياد فألقي به طمّار القصر. فترقرقت عينا الحسين ولم يملك دمعه ، ثم قال : «فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا»(ألأحزاب / 23)أللهم اجعل لنا ولهم الجنة نزلا ، واجمع بيننا وبينهم في مستقر رحمتك ، ورغائب من مذخور ثوابك».(2)
ودنا الطرماح بن عدي من الحسين فقال له : «إني وألله لأنظر فما أرى معك احدا ولو لم يقاتلك إى هؤلاء الذين أراهم ملازميك لكان كفى بهم ، وقد رأيت قبل خروجي من الكوفة اليوم وفيه من الناس ما لم ترَ عيناي في صعيد واحد

(1) تاريخ الطبري ج3 ص307 والكامل لابن ألأثير ج2 ص552 والبداية والنهاية لابن ألأثير ج8 ص178 وأعيان الشيعة ج1 ص587 والموسوعة ص362 ووقعة الطف ص173 .
(2) تاريخ الطبري ج3 ص308 والكامل لابن الأثير ج2 ص553 والبداية والنهاية ج8 ص188 وأعيان الشيعة ج1 ص597 ، ووقعة الطف ص174
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 257


جمعا أكثر منه ، فسألنا عنهم فقيل اجتمعوا ليعرضوا ثم ليسرحوا إلى الحسين ، فأنشدك إن قدرت أن لا تقدم عليهم شبرا إلا فعلت ، وإن أردت أن تنزل بلدا يمنعك فسر حتى أنزلك مناع جبلنا الذي يدعى أجأ».
فقال له ألإمام الحسين : «جزاك الله وقومك خيرا ، إنه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على ألإنصراف ، ولا ندري علام تنصرف بنا وبهم ألأمور في عاقبة .(1)فودعه الطرماح لأرسال الميرة إلى أهله ، وإعطائهم نفقة ، وودعه بأن يعود بعد ذلك ليكون من أنصاره فقال الإمام : «فإن كنت فاعلا فعجل يرحمك ألله».
وقال ابن نما : إن ألإمام الحسين قال للطرماح عندما اقترح عليه أن يذهب إلى جبل «أجأ» : إن بيني وبين القوم موعدا أكره أن أخلفهم ، فإن يدفع الله عنا فقديما ما أنعم علينا ، وإن يكن ما لا بد منه ففوز وشهادة إن شاء الله . قال الطرماح : ثم حملت الميرة ورجعت ، فلقيني سماعة بن زيد النبهاني فأخبرني بقتله فرجعت ».(2)

أقساس مالك والرهيمة :
ثم سار ألإمام إلى أقساس مالك (3)ومنها إلى الرهيمة (4)والحر وطليعة جيش الفرعون يسيرون إلى جانبه .

قصر مقاتل
:
رأى ألإمام الحسين فسطاطا مضروبا في قصر مقاتل (5)فسأل الحسين : لمن هذا الفسطاط ؟ فقيل : لرجل يقال له عبيدالله بن الحر الجعفي ، فأرسل الحسين له

(1) تاريخ الطبري ج3 ص308 والكامل لابن ألأثير ج1 ص554 ، والبداية والنهاية ج8 ص188 وأعيان الشيعة ج1 ص597 ، ووقعة الطف .
(2) مثير ألأحزان ص39 .
(3) أقساس مالك : قرية بالكوفة .
(4) الرهيمة وهي ضيعة قرب الكوفة .
(5) قصر مقاتل قرب القطقطانة وهو منسوب إلى مقاتل بن حسان ، معجم البلدان ج4 ص364 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 258


الحجاج بن مسروق ولما دخل الحجاج الفسطاط سلم ـ فرد السلام ، وقال له : ما وراءك ؟ فقال الحجاج : والله ورائي يا ابن الحر والله قد أهدى الله إليك كرامة إن قبلتها ، قال : وما ذاك ؟ فقال : الحسين بن علي يدعوك إلى نصرته فإن قاتلت بين يديه أجرت ، وإن مت فإنك استشهدت ، فقال عبيدالله : وألله ما خرجت من الكوفة إلا مخافة أن يدخلها الحسين وأنا فيها فلا أنصره ، لأنه ليس له في الكوفة شيعة ولا أنصار ، إلا وقد مالوا إلى الدنيا إلا من عصم ألله منهم ، فارجع إليه وخبره بذلك .
فأخبر الحجاج ألإمام الحسين بما جرى ، فقام الحسين ثم صار إليه في جماعة من إخوانه ، فلما دخل وسلم وثب عبيدالله بن الحر من صدر المجلس ، وجلس ألإمام الحسين ، فحمد ألله وأثنى عليه ثم قال : «أما بعد يا ابن الحر فإن مصركم هذه كتبوا إليّ وخبروني أنهم مجتمعون على نصرتي وأن يقوموا دوني ، ويقاتلوا عدوي ، وأنهم سألوني القدوم فقدمت ، ولست أدري القوم على ما زعموا لأنهم قد أعانوا على قتل ابن عمي مسلم بن عقيل رحمه ألله وشيعته ، وأجمعوا على ابن مرجانة عبيدالله بن زياد يبايعني ليزيد بن معاوية ، وأنت يا ابن الحر فاعلم أن ألله عز وجل مؤاخذك بما كسبت وأسلفت من الذنوب في ألأيام الخالية وأنا أدعوك في وقتي هذا إلى توبة تغسل بها ما عليك من الذنوب ، وأدعوك إلى نصرتنا أهل البيت ، فإن أعطينا حقنا حمدنا الله على ذلك وقبلناه ، وإن منعنا حقنا وركبنا بالظلم كنت من أعواني على طلب الحق».
فقال عبيدالله بن الحر : «والله يا ابن رسول الله لو كان لك بالكوفة أعوان يقاتلون معك لكنت أنا اشدهم على عدوك ، ولكني رأيت شيعتك بالكوفة وقد لزموا منازلهم خوفا من بني أمية ومن سيوفهم ، وهذه فرسي ملجمة وألله ما طلبت عليها شيئا إلا اذقته حياض الموت ، ولا طُلبت وأنا عليها فلحقت ، وخذ سيفي هذا ، فقال ألإمام : يا ابن الحر ما جئنا لفرسك وسيفك إنما أتينك لنسألك النصرة ، فإن كنت قد بخلت علينا بنفسك فلا حاجة لنا في شيء من مالك ، ولم أكن بالذي اتخذ المضلين عضدا ، لأني سمعت رسول الله يقول : «من سمع داعية

كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 259


أهل بيتي ولم ينصرهم على حقهم إلا أكبه الله على وحهه في النار ، ثم سار الحسين من عنده ورجع إلى رحله».(1)
وفي قصر مقاتل إلتقى ألإمام مع عمرو بن قيس المشرفي وابن عمه فقال لهما ألإمام : «جئتما لنصرتي ؟ فقال عمرو : إني رجل كبير السن ، كثير الدين كثير العيال ، وفي يدي بضائع للناس ، ولا أدري ما يكون ، وأكره أن أضيع أمانتي ، وقال له ابن عمه مثل ذلك . فقال ألإمام لهما : فانطلقا فلا تسمعا لي واعية ، ولا تريا لي سوادا ، فإنه من سمع واعيتنا ، أو رأى سوادنا ، فلم يجبنا ولم يغثنا كان حقا على الله عز وجل أن يكبه على منخريه في النار».(2)
وروي عن علي بن الحسين قال : خرجنا مع الحسين ، فما نزل منزلا ، ولا ارتحل منه إلا ذكر يحيى بن زكريا وقتله ، وقال يوما : «ومن هوان الدنيا على الله أن رأس يحيى بن زكريا أهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل».(3)
وقال علي بن الحسين إن ألإمام قد قال له : «يا ولدي والله لا يسكن دمي حتى يبعث الله المهدي ، فيقتل على دمي من المنافقين الكفرة ، والفسقة سبعين ألفاً» (4)وهو العدد الذي قتل حتى سكن دم يحيى بن زكريا .
وتساير الحر بن يزد مع ركب الحسين حتى وصلوا إلى نينوى (5)فإذا راكب على نجيب له مقبلا فوقفوا جميعا ينتظرونه ، فلما انتهى إليهم سلم على الحر وأصحابه ولم يسلم على الحسين وأصحابه ، ودفع إلى الحر كتابا من عبيدالله بن زياد فإذا فيه : «أما بعد : فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي هذا ، ويقدم

(1) الفتوح ج5 ص83، وكنز الدقائق ج6 ص69 .
(2) راجع تاريخ الطبري ج2 ص309 وألإرشاد للمفيد ص226 ، والكامل في التاريخ لإبن ألأثير ج2 ص554 ، وبحار ألأنوار ج44 ص379 ، والعوالم ج17 ص229 ، ووقعة الطف ص176 .
(3) ألإرشاد ص251 ، والمناقب لابن شهر آشوب ج4 ص85 ، وبحار ألأنوار ج45 ص89 ، وكنز الدقائق ج6 ص162 والموسوعة ص370 .
(4) المناقب لابن شهر آشوب ج4 ص85، وبحار ألأنوار ج45 ص229 والعوالم ج17 ص 608 .
(5) نينوى : قرية يونس بن متى بالموصل ناحية بسواد الكوفة يقال لها نينوى ومنها كربلاء ، راجع معجم البلدان ج5 ص339 والموسوعة ص372 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 260


عليك رسولي ، ولا تنزله إلا بالعراء في غير خضر ، ولا غير ماء ، قد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري والسلام».
فلما قرأ الكتاب ، قال لهم الحر : هذا كتاب ألأمير عبيدالله يأمرني أن أجعجع بكم في المكان الذي يأتيني كتابه ، وهذا رسوله وقد أمره أن لا يفارقني حتى أنفذ امره فيكم ، فنظر يزيد بن مهاجر الكندي إلى رسول ابن زياد فعرفه ، فقال له : ثكلتك أمك ماذا جئت فيه ؟ فقال : أطعت إمامي ، ووفيت ببيعتي !! فقال له ابن مهاجر : بل عصيت ربك ، وأطعت إمامك في هلاك نفسك ، وكسبت العار والنار ، بئس ألإمام إمامك ، قال تعالى :« وجعلناهم أئمة ً يدعونَ إلى النارِ ويوم القيامة لا ينصرون»(القصص / 41 ) ، فإمامك منهم .
وأخذهم الحر بالنزول في ذلك المكان على غير ماء ، ولا في قرية ، فقال له الحسين : دعنا ويحك ننزل في هذه القرية أو هذه ـ يعني نينوى والغاضرية ـ ، او هذه يعني شفيّه ، فقال الحر : لا والله لا أستطيع ذلك، هذا رجل قد بعث لي عينا عليّ فقال له زهير بن القين : إني والله لا أرى أن يكون بعد الذي ترون إلا اشد مما ترون يا ابن رسول الله إن قتال هؤلاء القوم الساعة ، أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم ، فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به .
فقال ألإمام الحسين: ما كنت لأبدأهم بالقتال، ثم نزل ألإمام الحسين وكان ذلك اليوم هو يوم الخميس الثاني من محرم سنة إحدى وستين .(1)
وأقبل ألإمام الحسين على أصحابه فقال : «الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم ، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون ، ثم قال : أهذه كربلاء ؟ قالوا : نعم يا ابن الرسول ، فقال : هذا موضع كرب وبلاء ههنا مناخ ركابنا ، ومحط رحالنا ، ومقتل رجالنا ، ومسفك دمائنا».فنزل القوم ، وأقبل

(1) تاريخ الطبري ج3 ص309 ، وألإرشاد للمفيد ص 226 ، والمناقب لابن شهر آشوب ج4 ص96 والكامل لابن ألأثير ج2 ص552 وبحار ألأنوار ج44 ص380 والعوالم ج 17 ص230 ، وألأخبار الطوال 252 وينابيع المودة ج2 ص407 والموسوعة ص373 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 261


الحر حتى نزل حذاء الحسين في ألف فارس ، ثم كتب إلى ابن زياد بنزول الحسين في كربلاء .(1)
وفي رواية «قال زهير : سر بنا إلى هذه القرية حتى ننزلها فإنها حصينة وهي على شاطىء الفرات . . . فقال الإمام : وما هي ؟ قالوا : هي العقر ، فقال : اللهم إني أعوذ بك من العقر».(2)
وتذكر ألإمام الحسين ، فقال : «ولقد مرَّ أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفين وأنا معه فوقف فسأل عنه ، فأخبره باسمه ، فقال : ها هنا محط ركابهم ، وها هنا مهراق دمائهم ، فسئل عن ذلك ، فقال : ثقل لآل محمد ينزلون ها هنا ، وقبض قبضة منها فشمها ، وقال : هذه والله هي ألأرض التي أخبر بها جبرئيل رسول الله إنني أقتل فيها .
وقال ألإمام لأصحابه : «أرض كرب وبلاء ، ثم قال : قفوا ولا ترحلوا منها فها هنا وألله مناخ ركابنا ، وها هنا والله سفك دمائنا ، وها هنا والله هتك حريمنا وهاهنا والله قتل رجالنا ، وهاهنا والله ذبح أطفالنا ، وهاهنا والله تزار قبورنا وبهذه التربة وعدني جدي رسول الله ولا خلف لقوله ».(3)

كتاب ابن زياد إلى ألإمام الحسين :

كتب ابن زياد إلى ألإمام الحسين كتابا قد جاء فيه : «اما بعد يا حسين فقد بلغني نزولك بكريلاء ، وقد كتب إليّ أمير المؤمنين يزيد أن لا أتوسد الوثير ، ولا اشبع من الخمير ، أو ألحقك باللطيف الخبير أو ترجع إلى حكمي وحكم يزيد بن معاوية والسلام».فلما ورد الكتاب على ألإمام الحسين وقرأه رماه من يده ثم قال : «لا يفلح قوم آثروا مرضاة أنفسهم على مرضاة الخالق».
فقال الرسول : جواب الكتاب أبا عبدالله ، فقال ألإمام : ما له عندي

(1) مقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص234 ، وبحار ألأنوار ج44 ص383 والعوالم ج17 ص224 .
(2) الكامل لابن ألأثير ج2 ص552 ووقعة الطف ص179 ، وألأخبار الطوال 252 .
(3) الدمعة الساكبة ج4 ص256 ، وناسخ التواريخ ج2 ص168 ، وذريعة النجاة ص67 وراجع ينابيع المودة ص406، وإثبات الهداة ج5 ص202 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 262


جواب لأنه قد حقت عليه كلمة العذاب»، فرجع الرسول إليه ، فأخبره بذلك فغضب أشد الغضب .(1)

المحطة ألأخيرة من رحلة الشهادة :

عندما وصل ألإمام الحسين إلى كربلاء ، انتهت رحلة الشهادة تماما وكانت كربلاء هي المحطة ألأخيرة من محطات رحلة الشهادة ، لذلك لزمها ألإمام واستقر بها ولم تعد له الرغبة بالتنقل والرحيل ، لقد كانت نهاية رحلة الشهادة ، وآخر محطة من محطات تلك الرحلة الطويلة المضنية ، لقد حطت الرحال نهائيا في كربلاء ، كأن الرواحل قد أقعدت ، فالكرة ألأرضية على رحابتها بقعتان : البقعة التي ولد فيها ألإمام ، والبقعة التي تجشم الرحلة للوصول إليها لتكون مستقره النهائي ، ومضجعه ، لما نزل ألإمام في كربلاء كتب إلى أخيه محمد بن الحنفية وجماعة من بني هاشم : «أما بعد فكأن الدنيا لم تكن ، وكأن ألآخرة لم تزل».(2)
لقد تمت كلمة ربك على الوجه الذي أراد ، فخرج ألإمام وأهل بيت النبوة والصحب الصادقون من بيوتهم ، وقطعوا كامل محطات رحلة الشهادة ، وبرزوا إلى مضاجعهم !! إن القضاء يخرج من عالم الغيب إلى عالم الشهادة ، ويتشكل او يأخذ شكله في عالم الشهادة ، ولكن بالتصوير الفني البطيء.

(1) الفتوح ج5 ص85، ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص229، وبحار ألأنوار ج46 ص382 والعوالم ج17 ص234 .
(2) كامل الزيارات لابن قولويه ص75 باب 23 وراجع ألأغاني ج8 ص105 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 263


الباب الرابع
استعدادات الخليفة وأركان دولته
لمواجهة ألإمام

الفصل ألأول : المواجهة
الفصل الثاني : خطط الخليفة لقتل ألإمام الحسين وإبادة أهل بيت النبوة (عليهم السلام)
الفصل الثالث : ألإمام يقيم الحجة على جيش الخلافة
الفصل الرابع : ألإمام يأذن لأصحابه بالإنصراف وتركه وحيدا
الفصل الخامس : ألإستعدادات النهائية وإتخاذ المواقع القتالية
الفصل السادس : مصرع الحسين وأهل بيته (عليهم السلام)

كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 264




كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 265


الفصل ألأول
المـواجهـة

يقين الخليفة وأركان دولته :

كان الخليفة يزيد بن معاوية موقنا بأن ألإمام الحسين هو أخطر خصومه على ألإطلاق ، فالطليعة المؤمنة موقنة بأن رسول الله قد عهد إليه بالإمامة من بعد أخيه الحسن ، وكل المسلمين يعلمون علم اليقين أن الحسين هو ابن علي ، وابن فاطمة الزهراء ، وحفيد النبي وحبيبه ، وكل المسلمين يعلمون علم اليقين ، أن ألإمام الحسين هو عميد آل محمد ، وأهل بيته ، وذوي قرباه ، فهو ألسنام الذي لا يعلو عليه احد ، فهو نسب ، وشرف ، ودين وسجل حافل بالأمجاد لا يدانيه بهذه ألأمجاد مسلم قط ، وهو المؤهل الوحيد في زمانه لإمامة المسلمين ، وخلافة النبي الشرعية ، وابن معاوية يعلم علم اليقين ، أن أمجاده وأمجاد أبيه معاوية ، وجده أبي سفيان مرتبطة بتاريخ الشرك ، ومستمدة من الدفاع عن الشرك ، ومن قيادتهم لجبهة الشرك ، ومن شهرتهم بعداوتهم لرسول الله ولدينه طوال 23 عاما ، وهي أفعال لم تعد أمجادا في العرف ألإسلامي ، بل فضائح ومخاز يتستر منها أصحابه ويفرون من ذكرها ، وابن معاوية يعلم علم اليقين أن مؤهله الوحيد ، ومؤهل والده من قبله للخلافة هو القوة ، والقهر والغلبة ، وهي مؤهلات لا تصلح للدخول في حوار منطقي وشرعي مع الخصوم ، واليقين الوحيد الذي استقر في قلب يزيد بن معاوية هو أن أباه معاوية ، قد نجح بهزيمة الشرعية ، وبهزيمة جوهر ألإسلام ، ونجح في قهر ألأمة ، ونجح في التآمر عليها دون رضاها ، ونجح بإقامة ملك أموي ، وبعد موت معاوية صار ابنه يزيد هو الوارث الوحيد لهذا الملك العريض الذي أسسه وبناه والده معاوية !!!.

إمكانيات الخليفة وأركان دولته :

قبل أن يهلك معاوية ، سلم ابنه يزيد مفاتيح خزائن أموال الدولة ، ليتصرف بها كأنها أمواله الخاصة ، وليستعين بها على تثبيت ملكه ، وتأليف قلوب الرعية

كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 266


من حوله ، وليجعلها أحد ألأسلحة التي يحارب بها خصومه !! وقبل أن يهلك معاوية أيضا سلم ابنه قيادة جيوش مدربة على طاعته وتتقاضى رواتبها من خزانته ، وأوصاها معاوية أن طاعة ابنه كطاعته ، فبالطاعة تدوم الرواتب والمعايش والمنافع ، وإن إنعدمت الطاعة تزول النعم كلها ، وفوق ذلك يتعرض العاصي للقتل .
وقبل أن يهلك معاوية أيضا أخذ البيعة لإبنه من كافة عماله على أقاليم مملكته بعد أن إختارهم من خاصته ومن الموالين للعرش ألأموي وقبل أن يهلك معاوية استقرت القوانين التي أوجدها ، وهي أن العطاء والرزق الشهري سيصل باستمرار لكل رعايا الدولة المخلصين للخليفة ، والمطيعين له ، والقابلين بأعماله ، والمعادين لأعدائه ، فإذا ثبت ولو بالظن أن أحد أفراد الرعية غير مخلص للخليفة ، أو غير مطيع له ، أو غير قابل بأعماله ، أو موال لأعدائه ، فلا رزق له ولا عطاء ، ولا مكان له في أعمال الدولة أو إدارتها ، أو جيشها ، وبالتالي فهو عضو فاسد في المجتمع يجب أن يقتل وأن تُهدم داره حتى لا ينشر عدوى العصيان ، فهو مريض معد .(1)
وقبل أن يهلك معاوية ، عرّف ابنه على أقطاب إعلام دولته الذين اصطفاهم لنفسه ، وخرّجهم من مدرسته ، فصارت لهم القدرة على جعل الحق يبدو بصورة الباطل وجعل الباطل يبدو بصورة الحق ، مثلما مهروا بتحريف الكلم عن مواضعه ، والمهارة على قلب ألألوان وتبديلها ، فلهم القدرة على جعل ألأبيض أسود وتحويل ألأسود إلى أبيض .
والخلاصة أن يزيد بن معاوية ورث دولة مستقرة ، وأُمة ذليلة خاضعة ، ودينا سياسيا لا يحمل من الإسلام إلا إسمه وقشوره ، وورث إمكانيات وطاقات دولة عظمى ، بل من أعظم دول العصر في زمانها من حيث إمكانياتها وطاقاتها

(1) راجع شرح نهج البلاغة لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديدج3 ص 595 ـ 596 تحقيق حسن تميم ، وإقرأ نص المراسيم الملكية التي أصدرها معاوية وعممها على كافة عمال أقاليمه ليعملوا بها وليعتبروها قانونا يعلو فوق أي قانون .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 267


وورث الآلية أو المكنة التي تساعده وبكل يسر على تسخير كل موارد الدولة وطاقاتها لتثبيت دعائم عرشه ودوام ملكه ، وسحق خصومه ، سحقا لا رحمة فيه ، بهذا المناخ المملوء بالرهبة والرعب والإرهاب والذل ، امتنع ألإمام الحسين عن البيعة ، وخرج ، وتوالت خطبه وتصريحاته المملوءة بأنقى ألأفكار الدينية وأنبل المشاعر الإسلامية ، وأعلن ألإمام عدم شرعية خلافة يزيد ، وبطلانها ، وبطلان كافة الفتاوى الصادرة عن علماء دولة الخلافة ، وفساد إعلام تلك الدولة ، وتهدم ألأساس الذي قامت عليه ، وعدم شرعيته كما أسلفنا ، واستمع المسلمون إلى كل ما صدر عن ألإمام من خطب وتصريحات وهم بين مصدق ومن يكذب !! وفركوا أعينهم ، وتأكدوا أنها مفتوحة ، وأنهم ليسوا بحلم !! لقد جُن جنونهم بالفعل !! فمن يجرؤ على انتقاد الخليفة !! ومن يجرؤ على عصيانه أو ألأمتناع عن طاعته !! ومن يجرؤ على المخاطرة برزقه وعطائه الشهري !!! ومن يجرؤ على انتهاك هيبة الخليفة وجلاله !!! بل ومن يجرؤ على المغامرة بمستقبله وحياته ، وحياة من يحبهم !! ومن يجرؤ على مواجهة الخليفة وأركان دولته !! إن هذا لأمر عجاب !! لقد تصور المسلمون لطول الذل وعمقه أن الخليفة قد خُلق ليطاع ، ووجدت أعماله ليقبل الناس بها ، بل لقد وُجد الناس أنفسهم خصيصا لطاعته !! وها هو ابن النبي ألإمام الحسين يخرج فجأة ليعلن بطلان كل شيء ، وفساد كل ألإعقادات السابقة !!! ويدعو إلى مراجعة ذاتية شاملة !!!.
والمثير حقا أن يشارك ألإمام الحسين بكل هذا أهل بيت النبوة ، وآل محمد وذوي قرباه ، فهل يعقل أن يكون الخليفة مخطئا !!! وكيف يكون مخطئا وعنده مفاتيح ملك دولة الخلافة !!! وتحت أمرته كل رعايا الدولة يغضبون لغضبه ويرضون لرضاه !!! الخليفة الذي قدمته وسائل إعلام دولته كقديس !!! وكخليفة لرسول الله !! بل وكخليفة لله تعالى نفسه !!! إن هذا أمر لا يصدق !!!.
ومن جهة أخرى فهل يعقل أن يخطأ ألإمام الحسين !! فالصفوة الباقية من الصحابة تؤكد أن رسول الله قد عهد إليه بالإمامة من بعد اخيه الحسن ، وكل الناس يعرفون أنه ابن فاطمة الزهراء ابنة النبي ، وأنه حفيد النبي ، وعميد ألآل ، وألأهل ، وذوي القربى ، كيف يخطأ من جعله الله ثقلا ملازما للقرآن !! وإن أخطأ فهل يعقل أن

كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 268


يخطأ آل محمد ، والناس يذكرونهم في الصلاة ، وهل يعقل أن يخطأ أهل البيت الذين شهد الله لهم بالطهارة ، وهم أهل المباهلة ، وهل يعقل أن يجمع على الخطأ أيضا ذووا القربى الذين أوجب الله على كل مسلم مودتهم !!!.
إن الشرعية الإلهية ورموزها تتواجه إعلاميا مع واقعية دولة الخلافة ورموزها !!
الشرعية الإلهية ورموزها لا يملكون إلا الحجة ، والواقعية لا تملك الحجة ولكنها تملك القوة والنفوذ ولسلطان وإلإعلام !!!.
فمن يغلب من ؟ !! كيف يفعل الخليفة وأركان دولته يا ابن النبي وآل النبي وأهل بيت النبي !! وذوي قرباه !!! وهل لابن النبي وآله الطاقة والقدرة على مواجهة الخليفة وأركان دولته ، !! تلك نماذج لفيض الأسئلة التي طرحتها انتفاضة ألإمام وأهل بيت النبوة !!!.
الجموع الذليلة تنتظر رد فعل الخليفة ، وتتوقع المواجهة وهي بشوق بالغ لتتفرج على هذه المواجهة ، ولترى من هو الفائز بهذه المواجهة غير المتكافئة !! وليس مهماً عندها على من تدور الدائرة !! فالجماهير مهيأة نفسيا لتصفق للغالب ، كائنا من كان !! ولتنهب المغلوب وتأكله كائنا من كان ، وهي بتربيتها الذليلة مؤهلة لإرجاء حساباتها ، ولترشيح الخليفة وأركان دولته للغلبة .
إن الجماهير الذليلة ليست في عجلة من أمرها لتتفرج أولا على المواجهة ، فالإمام الحسين يخطب ودّها ولكن بالحجة ، !!! ومن المحزن حقا أنه لا يدفع لها مالا ولا يعدها إلا بالجنة ورضوان الله ورسوله وهذه مكافآت لا تشبع البطون ولا الفروج ، ولا تملأ الجيوب !!! والخليفة يطلب ودّها أيضا ويدفع بلا حساب ، فيشبع بطونها ويملأ جيوبها من «أمواله»الطائلة التي« لا تنفذ»وحبيب الجماهير من ينفعها في الدنيا !!! والسؤال الكبير الذي بقي مطروحا بإلحاح هو : ما هو رد فعل الخليفة على امتناع الحسين عن البيعة ، وعلى خروجه ، وعلى تصريحاته الملتهبة التي هتكت هيبة دولة الخلافة ، وشكلت سابقة خطيرة من رعاياها ؟ !

كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 269



قرار الخليفة بقتل ألإمام وإبادة أهل بيت النبوة :

عندما تيقن ابن معاوية من امتناع الحسين عن البيعة ، وبخروجه بأهل بيته ومن والاه ، قرر الخليفة قرارا نهائيا لا رجعة فيه بأن يقتل ألإمام الحسين وأن يبيد أهل بيت النبوة إبادة كاملة ، وأن يبطش بهم بطشة كبرى لا تقوم لهم قائمة من بعدها.

ما هو دليلنا على هذا القرار ؟ :

1ـ كتاب عبيدالله بن زياد للإمام الحسين و جاء فيه : «أما بعد يا حسين ، فقد بلغني نزولك في كربلاء ، وقد كتب إلي أمير المؤمنين يزيد أن لا أتوسد ألوثير ، ولا اشبع من الخمير ، أو ألحقك باللطيف الخبير ، أو ترجع إلى حكمي وحكم يزيد بن معاوية ، والسلام .(1)
2ـ كتاب عبيدالله بن زياد إلى عمر بن سعد بن أبي وقاص وجاء فيه : «أما بعد ، فإني لم أبعثك إلى حسين لتكف عنه ولا لتطاوله ، ولا لتمنيه السلامة والبقاء ولا لتقعد له عندي شفيعا ، إنظر فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إليّ سلما ، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم فإنهم لذلك مستحقون ، فإن قتل حسين ، فأوطىء الخيل صدره وظهره ، فإنه عاق،مشاق ، قاطع ، ظلوم . . . ».(2)
3ـ كتاب عبيدالله بن زياد للحر قائد طليعة جيش الخليفة ، إذ جاء فيه : «أما بعد فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي هذا ويقدم عليك رسولي ، ولا تنزله إلا بالعراء وعلى غير ماء . . . ».(3)

(1) الفتوح ج5 ص95 ، ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص239 ، وبحار ألأنوار ج10 ص189 والعوالم ص76، ومقتل المقرم ص236 والموسوعة ص276 .
(2) راجع تاريخ ابن ألأثير ج2 ص23 ، وتاريخ الطبري ج6 ص236 ومعالم المدرستين ج3 ص89 كما نقلها عن الطبري ج6 ص225 وابن ألأثير ج4 ص27 والدينوري ص247 باختصار وابن كثير ج8 ص168 وما بعد .
(3) راجع تاريخ الطبري ج3 ص309 ، وألإرشاد ص226 ، والمناقب لإبن شهر آشوب ج4 ص96 =

السابق السابق الفهرس التالي التالي