كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 242


«بزرود» (1)فنظر ألإمام إلى فسطاط مضروب ، فسأل عنه فقيل هو لزهير بن القين ، ولما قابل زهير ألإمام إقتنع به ، فلحق بإلإمام وصار أحد رجاله وبهذا المكان جاء رجل من أهل الكوفة أسدي ، فأخبر اثنان من عشيرته أنه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة ، وقال : إنه رآهما وهما يجران بألأسواق من أرجلهما .
الثامنة :الثعلبية
ترك ألإمام زرود وتوجه إلى الثعلبية ،(2)فجاءه ألأسديان اللذان عرفا بمقتل مسلم وهانيء فسلما وقالا له : يرحمك الله إن عندنا خبرا ، فإن شئت حدثناك علانية ، وإن شئت سرّا ، فنظر ألإمام إلى أصحابه وقال : «ما دون هؤلاء سر»(3)فأخبراه بما سمعاه من ألأسدي عن مقتل مسلم وهانيء ، فقال : «إنا لله وإنا إليه راجعون ، رحمة الله عليهما ، وردد ذلك مرارا ، عندئذ ناشده ألأسديان ألإنصراف لأنه ليس له بالكوفة ناصر ولا شيعة »(4)قال ألأسديان : فوثب عند ذلك بنو عقيل بن أبي طالب وقالوا : لا وألله لا نبرح حتى ندرك ثأرنا ، أو نذوق ما ذاق أخونا ، قالا : فنظر إلينا الحسين فقال : «لا خير في العيش بعد هؤلاء »، قال : وفي السحر أمر فتيانه وغلمانه بأن يتزودوا من الماء فاستقوا وأكثروا .(5)
وفي الثعلبية وضع ألإمام الحسين رأسه ، فأغفى ثم انتبه من نومه باكيا ، فقال له ابنه علي بن الحسين : ما لك يا أبت لا أبكى ألله لك عينا ، فقال الحسين : «يا بني إنها ساعة لا تكذب فيها الرؤيا ،فأُعلمك أني خفقت برأسي خفقة ، فرأيت فارسا على فرس وقف علي فقال : يا حسين إنكم تسرعون المسير ، والمنايا بكم تسرع إلى الجنة ، فعلمت أن أنفسنا نعيت إلينا فقال له ابنه علي : يا

(1)محطة مشهورة في طريق حاج بغداد بين الثعلبية والخزيمية ، راجع معجم البلدان ج4 ص327 .
(2) الثعلبية : من منازل طريق مكة ـ الكوفة ، بين الثعلبية والخزيمية ثلاثة وعشرون ميلا.
(3) تاريخ الطبري ج3 ص302 وألإرشاد للمفيد ص222 ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص228 والكامل لابن ألأثير ج2 ص549 ، واللهوف ص30 ، والبداية والنهاية ج8 ص182 وبحار ألأنوار ج44 ص373 ، وأعيان الشيعة ج1 ص595 ، ووقعة الطف ص164 .
(4) المصدر نفسه .
(5) المصدر نفسه .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 243


أبت أفلسنا على الحق ؟ فقال ألإمام : بلى يا بني والذي إليه مرجع العباد ، فقال ابنه علي : إذا لا نبالي الموت . فقال الحسين : جزاك الله عني يا بني خير ما جزى به ولد عن والد».(1)
ولما اصبح ألإمام الحسين وإذا برجل من الكوفة يكنّى أبا هرة ألأزدي ، فسلم على ألإمام ثم قال : «يا ابن بنت رسول الله ما الذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدك محمد (ص) ؟ فقال ألإمام : يا أبا هرة ، إن بني أمية أخذوا مالي فصبرت ، وشتموا عرضي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت ، وأيم الله يا ابا هرة لتقتلني الفئة الباغية ، وليلبسهم الله ذلا شاملا ، وسيفا قاطعا ، وليسلطن ألله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من قوم سبأ ، إذ ملكتهم إمرأة منهم ، فحكمت في أموالهم وفي دمائهم».(2)
وسأله أحدهم : بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله ما أنزلك هذه البلاد والفلاة التي ليس بها أحد ؟! فقال : «هذه كتب أهل الكوفة إليّ ، ولا أراهم إلا قاتلي ، فإذا فعلوا ذلك لم يدعوا لله حرمة إلا انتهكوها فيسلط ألله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من فرم ألأمة».(3)
التاسعة : بطان
رحل ألإمام الحسين من الثعلبية ، وتابع سيره حتى وصل إلى بطان .(4)
العاشرة : الشقوق
وتابع ألإمام الحسين المسير حتى وصل إلى الشقوق .(5)

(1) مقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص226، والفتوح ج5 ص79، وبحار ألأنوار ج44 ص367 وج61 ص181 وأعيان الشيعة ج 1 ص595 .
(2) الفتوح لابن أعثم ج5 ص79، ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص226، ومثير ألأحزان ص56، وبحار ألأنوار ج44 ص368، وأعيان الشيعة ج1 ص595 والموسوعة ص345 .
(3) تاريخ ابن عساكر ، ترجمة ألأمام الحسين ص211 .
(4) بطان : منزل بطريق الكوفة يبعد عن الثعلبية تسعة وعشرون ميلا .
(5) منزل بطريق الكوفة وبين الشقوق وبطان اثنان وعشرون ميلا .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 244


الحادية عشر : زبالة
وتابع ألإمام الحركة دون توقف حتى وصل إلى زبالة(1)وفي زبالة وصله خبر لأخيه في الرضاعة عبدالله بن يقطر ، فأخرج للناس كتابا ونادى : «بسم ألله الرحمن الرحيم ، اما بعد : فقد أتانا خبر فظيع ، قتل مسلم بن عقيل ، وهاني بن عروة ، وعبدالله بن يقطر ، وقد خذلتنا شيعتنا ، فمن أحب منكم ألإنصراف ، فلينصرف ليس عليه منا ذمام» (2فتفرق الناس عنه ولم يبق معه إلا الذين جاءوا من المدينة . (3)
وقال القندوزي : إن ألإمام الحسين قال في زبالة : «أيها الناس فمن كان منكم يصبر على حد السيف ، وطعن ألأسنة فليقم معنا ، وإلا فلينصرف عنا» (4) وتوارت أنباء مقتل مسلم وهانيء وعبدالله ، ووصلته رسالة محمد بن ألأشعث بهذا الخصوص ، فقال ألإمام : «كل ما حمّ نازل ، وعند الله نحتسب أنفسنا وفساد أمتنا » (5)ويبدو أن هلال بن نافع لقي ألإمام الحسين أيضا ، فأكد له أنباء مقتل الثلالة ، وقال له : «إن قلوب ألأغنياء مع ابن زياد وأما باقي قلوب الناس فإليك ، فقال ألإمام «اللهم اجعل الجنة لنا ولأشياعنا منزلا كريما ، إنك على كل شيء قدير». (6)
ويرسل الرواة لقاء ألإمام الحسين مع الفرزدق إرسال المسلمات ، وقول الفرزدق للإمام : يا ابن رسول ألله كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمك مسلم بن عقيل وشيعته ، وكذلك قول ألإمام : رحم الله مسلما فلقد صار إلى

(1) منزل معروفة بطريق الكوفة إلى مكة ومن زبالة إلى الشقوق واحد وعشرون ميلا .
(2) تاريخ الطبري ج3 ص303 ، وألإرشاد ص223 ، واللهوف ص32 ، والبداية والنهاية ج8 ص182، وبحار ألأنوار ج44 ص374، والعوالم ج17 ص225 وأعيان الشيعة ج1 ص600، ووقعة الطف ص166 .
(3) المصدر السابق .
(4) ينابيع المودة ص406 .
(5) بحار ألأنوار ج44 ص374 .
(6) ينابيع المودة ص405 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 245


روح ألله وريحانته وجنته ورضوانه ، ألا إنه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا ، ثم أنشأ يقول :
فإن تكن الدنيـا تعد نفيــسة فـدار ثــواب الله أعلى وأنبـلُ
وإن تكن ألأبدان للموت أنشئت فقتل إمرىء بالسيف في ألله أفضلُ
و إن تكن ألأرزاق قسما مقدرا فقلة حرص المرء في الرزق أجملُ
وإن تكن ألأموال للترك جمعها فما بـال متروك بـه الـحر يبخلُ(1)

وقال لإبنة مسلم : يا ابنتي أنا أبوك وبناتي أخواتك .(2)
الثانية عشر : القاع
ثم سار ألإمام الحسين إلى القاع.(3)
الثالثة عشر : العقبة
ومن القاع سار ألإمام إلى العقبة (4)وفي القاع لقيه شيخ من بني عكرمة يقال له : عمرو بن لوذان ، فسأل ألإمام : أين تريد؟ فقال ألإمام : «الكوفة »فقال له الشيخ : انشدك الله لما إنصرفت فوالله ما تقدم إلا على ألأسنة ، وحد السيوف ، وإن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ، ووطأوا لك ألأشياء فقدمت عليهم ، كان ذلك رأيا ، فأما على هذه الحال التي تذكر فإني لا ارى لك أن تفعل .
فقال ألإمام : «يا عبدالله ليس يخفي عليّ الرأي ، ولكن ألله تعالى لا يغلب على أمره ، ثم قال : «وألله لا يدعونني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فإذا فعلوا سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل فرق ألأمم».(5)

(1) بحار ألأنوار ج44 ص374 وتاريخ ابن عساكر ، ترجمة ألإمام الحسين ص163 ومثير ألأحزان ص45 ، واللهوف ص32 ، والعوالم ج17 ص214 ، وأعيان الشيعة ج1 ص605 .
(2) مثير ألأحزان ص45 .
(3) القاع : منزل بطريق مكة يبعد عن زبالة ثمانية عشر ميلا .
(4) العقبة : منزل في طريق مكة .
(5) ألإرشاد ص223 ، والكامل لابن ألأثير ج2 ص549 إلى قوله «على أمره »وبحار ألأنوار ج44 ص375، والعوالم ج17 ص226، وأعيان الشيعة ص598 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 246


ولما صعد ألإمام الحسين عقبة البطن قال لأصحابه : «ما أراني إلا مقتولا» قالوا : وما ذلك يا ابا عبدالله ، قال : رؤى رأيتها في المنام ، قالوا : وما هي ، قال : رأيت كلابا تنهشني أشدها علي كلب أبقع».(1) الرابعة عشر: واقصة ـ القرعاء
وسار ألإمام من العقبة قاصدا واقصة(2)، وسار من واقصة حتى إنتهى إلى القرعاء(3)، ثم سار إلى مغيثة (4)ولم ينلها ، وتابع سيره حتى وصل إلى شراف .
الخامسة عشر: شراف
لما وصل الإمام الحسين إلى شراف نزل فيها ، وأمر فتيانه وغلمانه أن يستقوا من الماء ، فاستقوا وأكثروا ثم ساروا حتى انتصف النهار ، فقال رجل : «الله أكبر ، فقال الحسين : ألله أكبر مما كبرت»قال : رأيت النخل ، فقال ألأسديان عبدالله بن سليم والمذري بن المشمعل : إن هذا المكان ما رأينا به نخلة قط !! فقال الحسين : فما تريانه رأى ؟ فقالا : نراه رأى هوادي الخيل أي رؤوسها ، فقال ألإمام : «وأنا والله أرى ذلك».
ثم قال ألإمام : «ما لنا من ملجأ نلجأ إليه فنجعله في ظهورنا ، ونستقبل القوم بوجه واحد ؟ فقال ألأسديان : بلى هذا ذو حسم إلى جنبك تميل إليه عن يسارك ، فإن سبقت إليه فهو كما تريد ، فأخذ إليه ذات اليسار وملنا معه ، فما كان أسرع من ان طلعت علينا هوادي الخيل ، فتبيناها فعدلنا ، فلما رأونا عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا».(5)

(1) بحار ألأنوار ج45 ص87 ح24 .
(2) منزل دون زبالة بمرحلتين .
(3) منزل على الطريق بين القرعاء وواقصة ثمانية فراسخ .
(4) منزل في طريق مكة بعد العذيب وبينهما وبين القادسية أربعة وعشرون ميلا .
(5) تاريخ الطبري ج3 ص305، وألإرشاد ص223، ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص229 والكامل لابن ألأثير ج2 ص551، والبداية والنهاية ج8 ص168، وبحار ألنوار ج44 ص375، والعوالم ج17 ص225، وأعيان الشيعة ج1 ص597 ووقعة الطف ص167.
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 247


السادسة عشر : ذو حسم ، وطليعة جيش بني أمية
لما وصل ألإمام الحسين إلى ذي حسم (1)وأمر بأبنيته فضربت خيمة ، وجاء القوم وهم قرابة ألف فارس بقيادة الحر بن يزيد التميمي حتى وقف وخيله مقابل الحسين في حر الظهيرة ، فقال ألإمام الحسين لفتيانه : اسقوا القوم ، وأرووهم من الماء ورشفوا الخيل ترشيفا ،(2)وهكذا كان ، ثم سألهم ألإمام الحسين قائلا : أيها القوم من أنتم ؟ قالوا : نحن أصحاب ألأمير عبيدالله بن زياد ، فقال الحسين : ومن قائدكم ، قالوا : الحر بن يزيد الرياحي ، فناداه الحسين : ويحك يا ابن يزيد ألنا أم علينا ؟ فقال الحر : بل عليك يا أبا عبدالله ، فقال الحسين : «لاحول ولا قوة إلا بالله».(3)
ويبدو أن مهمة طليعة هذا الجيش تنحصر في مراقبة تحركات ألإمام والحيلولة بينه وبين الوصول إلى الكوفة ، أو بينه وبين الرجوع إلى المدينة .

نهاية المرحلة ألأولى من رحلة الشهادة :

عندما التقت طليعة الجيش ألأموي مع ألإمام وصحبه في شراف وبالتحديد بمنطقة جبل ذي حسم انتهت المرحلة ألاولى من رحلة الشهادة وبدأت المرحلة الثانية من تلك الرحلة الخالدة .
وخلال المحطات التي وقف بها ألإمام ، أو مر منها ، كان الناس يتبعونه عند كل محطة ، تحت شعار التعاطف مع قضية ألإمام العادل ، وتحت شعار نصرة ابن النبي وسلامة وإسلامية موقفه ، ويمكنك القول بكل أرتياح إن عددا كبيرا من الناس قد اتبع ألإمام ، وسارت معه تلك الجموع حتى وصلت إلى زبالة ، وعندما توقف ألإمام في زبالة وتيقن من قتل مسلم بن عقيل ، وهاني بن عروة ، وعبدالله ابن يقطر ، اذاع ألإمام هذا النبأ وأطلع الجموع التي التحقت به عند كل محطة على

(1) موضع في طريق مكة بينه وبين الهجانات ثلاث وثلاثون ميلا .
(2) ألأخبار الطوال ص248 .
(3) الفتوح لابن أعثم ج5 ص85 ، ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص230، واللهوف ص33 وأعيان الشيعة ج1 ص598 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 248


حقيقة الموقف ، لأن أهل بيت النبوة لا يخدعون ، ولا يطلبون النصر بأي وسيلة ، إنما يلزمون أنفسهم بالوضوح وبالوسائل الشرعية ، وأحاط ألإمام الجموع التي التحقت به علما بأنهم مقبلون على ضرب السيوف ، وحد ألأسنة ، فلما عرفت تلك الجموع بان الكفة راجحة مع بني أمية ، وأنه لا أمل لها بالمغانم ، انفضت من حول ألإمام وتفرقت عنه ذات اليمين وذات الشمال ، وبقيت معه الفئة التي خرجت معه من المدينة ، وكانت خطوة ألإمام بتوضيح ألأمور أمرا في غاية النبل والشرف ، ومن جهة ثانية فإنه يريد أن يصحبه فقط أولئك الذين يريدون مواساته والموت معه ،(1)وخلصهم ألإمام من أي شعور محتمل بالحرج عندما قال لهم : «فمن أحب منكم ألإنصراف فلينصرف ليس عليه منّا ذمام ».(2)ثم إن القوم قد اتبعوه أصلا طمعا بالغنائم والمغانم المرتقبة ، وعلى تقدير أن ألإمام سيكون هو الغالب ، وستكون أموال المغلوبين غنيمة لمن سارعوا بالإنضمام للإمام ، وفكرة نصرة الحق ، ومحاربة الباطل ما هي إلا تغطية لأهداف المرتزقة ، والمرتزقة على استعداد أن ينقضوا على من يقع ويأكلونه وينهبونه ، فليس للمرتزقة دين ولا أخلاق ولا مبادىء ، الم تر أن جيش الخليفةقد استباح مدينة الرسول ، ونهب أموالها ، وهتك أعراضها ، وأخذ البيعة ممن تبقى من سكان المدينة على أنهم أقنان وعبيد لأمير المؤمنين يتصرف بهم تصرف المالك بعبيده ، إنها أخلاق المرتزقة نفسهم الذين انضموا للإمام الحسين عند مروره أو توقفه عند محطات رحلة الشهادة ، حتى إذا قدّر المرتزقة أن ألإمام لن يغلب انفضوا من حوله ، وتركوه وحيدا !!!، وهكذا عندما عرفوا حاجته للعون والنصرة وشاهدوا بأم أعينهم ابن النبي وآل النبي وأهل بيته وذوي قرباه قاب قوسين أو أدنى من الموت ، تركوهم للموت وخذلوهم مع سبق ألإصرار .
ويلاحظ أيضا أن ألإمام الحسين قد أبتلي بطائفة من الوعاظ الذين لا يجيدون إلا الوعظ ، ولو أن أولئك الوعاظ قد التحقوا بألإمام الحسين وواسوه

(1) تاريخ الطبري ج3 ص303، وألإرشاد للمفيد ص223 ، والبداية والنهاية ج8 ص182، وبحار ألأنوار ج44 ص374 .
(2) راجع المراجع السابقة نفسها .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 249


لكان من الممكن أن تتغير نتيجة المعركة .
ويلاحظ أيضا أن بعض الذين انضموا للإمام في محطات رحلات الشهادة ، قد انضموا من باب (الوجاهة) ، حتى يقولوا في ما بعد إنهم رافقوا الحسين ، وإنهم كانوا موضع ثقته ، ومن خلص مستشاريه ، وليس من المستبعد أنهم قد أقاموا اتصالات مع أولياء عبيدالله بن زياد، وهكذا أظهروا أنفسهم بمظاهر البطولة ، والمغامرة ، وهو لا يدرون أنهم أقاموا الحجة عليها ، وشهدوا على أنفسهم من حيث لا يشعرون ، وتخلقوا بأخلاق المنافقين فقالوا للإمام : إنا معك ، أو أوحوا بذلك ، وقالوا لجنود الطاغية : إنا معكم أو أوحوا لهم بذلك ،« فلما خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون» (البقرة/ 14).
ويلاحظ أيضا ان بعض الوعاظ الذين تثاقلوا عن نصرة ألإمام وأهل بيت النبوة ، وخذلوهم وهم بأمس الحاجة إليهم ، صاروا في ما بعد ثوارا ونصروا ابن الزبير ، وقاتلوا الجيش ألأموي في المدينة ، كما فعل ابن مطيع العدوي ، فقد ترأس قريش يوم الحرة ، وانضم إلى ابن الزبير ، وقاتل معه ، وتولى له الكوفة .

المرحلة الثانية من رحلة الشهادة


بدأت هذه المرحلة من اللحظة التي اكتشف فيها ألإمام وجود طليعة لجيش بني أمية تسايره ، وتراقب حركاته وسكناته ، وبالتحديد بجبل ذي حسم يوم تقابل ألإمام وصحبه مع طليعة هذا الجيش ، فلم يعد ألإمام حرا بحركته ، انما عليه أن يدرس رد فعل طليعة هذا الجيش على هذه الحركة ، انظر إلى قول الإمام لأصحابه : «احملوا النساء ليركبوا حتى ننظر ما الذي يصنعه هذا وأصحابه».قيل : فركب أصحاب الحسين ، وساقوا النساء بين أيديهم ، فقدمت خيل الكوفة حتى حالت بينهم وبين المسير ، فضرب الحسين يده إلى سيفه ثم صاح بالحر : «ثكلتك أمك ما الذي تريد أن تصنع ؟ فقال الحر : لا بد أن أنطلق بك إلى عبيدالله بن زياد ، فقال له الحسين : إذاً والله لا اتبعك أو تذهب نفسي ، فقال الحر : إذا وألله لا أفارقك أو تذهب نفسي وأنفس أصحابي».

كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 250



ترتيبات المسير
:
قال الحر : «أبا عبدالله إني لم أؤمر بقتالك ، وإنما أمرت أن لا أفارقك ، أو أقدم بك على ابن زياد ، وأنا وألله كاره ، . . . . ولكن يا أبا عبدالله لست أقدر الرجوع إلى الكوفة في وقتي هذا ، ولكن خذ عني هذا الطريق ، وإمض حيث شئت حتى أكتب إلى ابن زياد ، إن هذا خالفني في الطريق فلم أقدر ، وأنا أنشدك الله في نفسك ، فقال الحسين : كأنك تخبرني أني مقتول ، فقال الحر : أبا عبدالله نعم ما أشك في ذلك إلآ أن ترجع من حيث جئت ، فقال الحسين : لا أدري ما أقول ، ولكني أقول كما قال أخو ألأوس :
(1)
سأمضي وما بالموت عار على الفتى إذا ما نوى خيرا وجـاهد مسلما
وواسى الرجـال الصالحيـن بنفسه وفارق مذموما وخـالف مجرما
أقـدم نفسـي لا أريــد بقائــها لتلقى خميسا في الوغاء عرمرما
فـإن عشـت لـم ألم وإن لـم أذم كفى بـك ذلا أن تعيـش مرغما

وعلى أي حال وبعد عدة اجتماعات بين ألإمام وبين قائد طليعة هذا الجيش ، حدث نوع من ألأتفاق غير المعلن ، فقد تابع ألإمام سيره بهذه الظروف ، وقام الحر وأصحابه بمسايرة ألإمام ومراقبته ، ومازالوا كذلك قد استقر ألإمام نهائيا في كربلاء أو أن الحر قال : خذ طريقا لا يدخلك الكوفة ، ولا تردك إلى المدينة تكون بيني وبينك نفقا حتى أكتب للأمير .

وقائع ما حدث في ذي حم :

قلنا إن ألإمام قد عرف أن الحر وأصحابه الذين يبلغون ألف فارس هم طليعة جيش بني أمية ، وأن مهمتهم منحصرة في مراقبة ألإمام ومسايرته ، ومنعه من العودة إلى المدينة ، ومنعه من دخول الكوفة ، وليس هنالك ما يمنع تلك الطليعة من أن تقتاد ألإمام إلى عبيدالله بن زياد إن استطاعت إلى ذلك سبيلا ، فإن

(1) راجع الفتوح لآبن أعثم ج5 ص87، ومقتل الحسين للخوارزمي في ج1 ص232، وبحار ألأنوار ج45 ص238 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 251


لم تستطع تبقى مهمتها منحصرة بالمراقبة والمسايرة ، والحيلولة بين الرجوع إلى المدينة أو الدخول إلى الكوفة .

صلاة الظهر :

أمر الحسين الحجاج بن مسروق بألأذان قائلا : «أذن رحمك الله وأقم الصلاة حتى نصلي»، فأذن الحجاج ، فلما فرغ من أذانه ، قال الحسين : يا ابن يزيد أتريد أن تصلي باصحابك وأصلي باصحابي ، فقال الحر : بل تصلي بأصحابك ونصلي بصلاتك ، وبالفعل صلى ألإمام بالمعسكرين ، فلما فرغ من صلاته ، وثب قائما ، فاتكأ على سيفه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : «أيها الناس إنها معذرة إلى الله وإلى من حضر من المسلمين ، إني لم أقدم على هذا البلد ، حتى اتتني كتبكم ، وقدمت عليّ رسلكم أن أقدم إلينا ، إنه ليس علينا إمام ، فلعل الله أن يجمعنا بك على الهدى ، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم ، فإن تعطوني ما يثق بي قلبي من عهودكم ومواثيقكم دخلت معكم إلى مصركم ، وإن لم تفعلوا وكنتم كارهين لقدومي عليكم انصرفت إلى المكان الذي أقبلت منه إليكم»فسكت القوم ولم يجيبوا بشيء.(1)
ويبدو أن ألإمام قد خطب بأصحابه خاصة قبل أن يخطب بالجميع بعد الصلاة ، فقال في خطبته أمام أصحابه :
«إنه قد نزل من ألأمر ما ترون ، وإن الدنيا قد تغيرت ، وتنكرت وأدبر معروفها ، واستمرت جدا، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة ألإناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به ، وإلى الباطل لا يتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء ربه حقا حقا ، فإني لا أرى الموت إلا سعادة ، والحياة مع الظالمين إلا برما»(2)وقال المجلسي إن ألإمام أضاف إلى ما سبق : «إن الناس

(1) راجع الفتوح لابن أعثم ج5 ص85، ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص231، وقريب منه في ألإرشاد للمفيد ، وبحار ألأنوار ج44 ص376، وأعيان الشيعة ج1 ص596 .
(2) تاريخ الطبري ج3 ص307، وتاريخ ابن عساكر ، ترجمة ألإمام الحسين ص214 ومثير ألأحزان ص44 واللهوف ص79، وينابيع المودة ص406 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 251


عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم ، يحوطونه ما دارت معائشهم ، فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديانون».(1)
ومن الطبيعي أن يسمع الحر وأصحابه ما قاله ألإمام الحسين ، فهم يراقبونه مراقبة دقيقة ، ويتابعون أوامره لأصحابه ، ومن الطبيعي جدا أن يكتبوا لعبيدالله بن زياد أو أن ينقلوا له كل ما قاله ألإمام أو صرح به ، لأن هذا من صميم مهامهم .

التهيؤ للرحيل:

أمر الحسين أن يتهيأوا للرحيل ففعلوا ، ثم أمر مناديه فنادى بالعصر وأقام ، فصلوا جميعا خلفه وبعد الصلاة انصرف بوجهه إليهم ثم قال :
«أما بعد أيها الناس فإنكم إن تتقوا ألله وتعرفوا الحق لأهله تكن أرضى لله عنكم ، ونحن أهل بيت محمد ، أولى بولاية هذا ألأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان ، فإن أبيتم إلا الكراهية لنا والجهل بحقنا ، وكان رأيكم ألآن غير ما أتتني به كتبكم ، وقدمت به عليّ رسلكم انصرفت عنكم».(2)
فقال الرجل : أبا عبدالله لسنا من القوم الذين كتبوا إليك ، وقد أمرنا إن لقيناك ، ألا نفارقك حتى نأتي بك على ألأمير .(3)فتبسم الحسين ثم قال : «الموت أدنى إليك من ذلك».(4)
قال الحر : «يا حسين إني أذكرك ألله في نفسك فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلن».
إن نظام التخويف جزء من الخطط العسكرية العربية ، وقد مارسها العرب ، فاستأجروا طوال التاريخ أصحاب أللسن لتخويف أعدائهم ، ويبدو أن أكثرية

(1) بحار ألأنوار للمجلسي ج78 ص116، ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص227 .
(2) ألإرشاد للمفيد ص224، والكامل لابن ألأثير ج2 ص552، واللهوف ص34، وأعيان الشيعة ج1 ص596، وبحار ألأنوار ج44 ص377، ووقعة الطف ص170 .
(3) الفتوح ج5 ص87، ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص232، وبحار ألأنوار ج45 ص238 .
(4) المصدر السابق .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 253


الناصحين الذين خوّفوا الإمام الحسين جزء من قوة تعمل لصالح دولة الخلافة ، وأمام تركيز الحر على هذه الناحية ، طمعا بتحطيم روح المقاومة لدى ألإمام الحسين ، لعله ينجح بجر الحسين معه إلى ابن زياد فتكون مفخرة له ولرجاله .
وكانت فرصة أمام ألإمام الحسين ليعرفهم بطبيعته المحصنة أمام هكذا حملات ، فقال الحسين : «أفبالموت تخوفني ، وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني ، وسأقول كما قال أخو ألأوس لابن عمه».وردد ألإمام الشعر الذي أوردناه قبل قليل .(1)
وفي رواية أنه قال : «ليس الموت في سبيل العز إلا حياة خالدة ، وليست الحياة مع الذل إلا الموت الذي لا حياة معه ، أفبالموت تخوفني ، هيهات طاش سهمك وخاب ظنك ، لست أخاف الموت ، إن نفسي لأكبر وهمتي لأعلى من أن أحمل الضيم خوفا من الموت ، وهل تقدرون على أكثر من قتلي ، مرحبا بالقتل في سبيل الله ولكنكم لا تقدرون على هدم مجدي ، ومحو عِزي وشرفي ، فإذا لا أبالي بالقتل» (2)ثم أقبل ألإمام نحو أصحابه وقال : هل فيكم أحد يخبر الطريق على غير الجادة ؟ فقال الطرماح بن عدي : يا ابن رسول الله أنا أخبر الطريق ، فقال الحسين : سر بين أيدينا ، وسار فاتبعه ألإمام الحسين وأصحابه .

إقامة الحجة على طليعة جيش الخلافة :

كل ما ينبغي أن يقال قاله ألإمام لطليعة الجيش ألأموي ، لقد أقام عليهم الحجة ، وعرفوا أنه على الحق ، وأن الواجب الديني يدعوهم لنصرته وحمايته وأهل بيته ، ولكنهم خذلوه مع سبق ألإصرار ، وأخلصوا لطاغيتهم كما أخلص المؤمنون الصادقون لله ، أو خوفا منه . إن قلوبهم غلف تماما ، ويبدو أن قائدهم هو الرجل الوحيد الذي تأثر بما قاله ألإمام الحسين ، ولكن بعدفوات الأوان ، ولو أن وعي الحر قد كان مبكرا ، ولو أنه تعاون مع ألإمام الحسين ربما كان بالإمكان

(1) الإرشاد للمفيد ص225 ، وتاريخ الطبري ص63 ، والعوالم ج17 ص228 .
(2) أعيان الشيعة ج1 ص581 ، وإحقاق الحق ج11 ص601 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 254


إقناع ألأكثرية الساحقة من رجال الطليعة ، ولو تم ذلك لربما تغير مجرى التاريخ ولكن وحسب تعبير ألإمام : «لقد حال القضاء دون الرجاء».
وما يعنينا أن ألإمام الحسين قد اسمع صوت الحق لقائد طليعة جيش بني أمية ولمنتسبي تلك الطليعة ، وأقام الحجة كاملة عليهم ، وشهدوا لذلك على أنفسهم من حيث لا يشعرون ، فعصوه وهم يعلمون أن طاعتهم هي ألأولى ، وخذلوه وهم يعلمون أن الله تعالى فرض عليهم نصرته ، فجاء عصيانهم وخذلانهم بعد إقامة الحجة ، ومع سبق الترصد والإصرا ، ولم ييأس ألإمام الحسين ، إنما تابع جهده لكسب هذه الطليعة وللتضييق عليها إمعانا بإقامة الحجة أثناء مسيرته .

البيضة :

سار الحسين بأصحابه في ناحية ، وسار الحر بطليعة جيش الفرعون بناحية أخرى حتى وافوا البيضة (1)وفي البيضة عاود ألإمام الحسين المحاولة ، فخطب في أصحابه وأصحاب الحر قائلا : «أيها الناس إن رسول ألله قال : «من رأى منكم سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله ، ناكثا لعهد ألله ، مخالفا لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول ، كان حقا على الله أن يدخله مدخله ، ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلوا حرام الله ، وحرموا حلاله ، وأنا أحق من غيّر ، قد أتتني كتبكم ، وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم . إنكم لا تسلموني ، ولا تخذلوني فإن تممتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم ، فأنا الحسين بن علي ، وابن فاطمة بنت رسول الله ، نفسي مع انفسكم ، وأهلي مع أهليكم ، فلكم فيّ أسوة ، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم ، وخلعتم بيعتي من أعناقكم ، فلعمري ما هي لكم بنكر ، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم والمغرور من أغتر بكم ، فحظكم أخطأتم ، ونصيبكم ضيعتم «فمن نكث فإنما

(1) البيضة : موضع بين العذيب وواقصة من ديار بني يربوع ، معجم البلدان ج1 ص532 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي