كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 201


ولأي وظيفة من وظائفها إلا إذا كان مواليا للخليفة وأركان دولته ، ومعاديا لأعداء الخليفة وأعداء دولته ، ومع ان عصر الخلفاء الثلاثة ألأول عصر ذهبي وراشد إذا ما قيس بعصور الخلفاء الذين جاءوا من بعد ألأربعة ،ومع هذا لم يصدف أن استعمل أي خليفة منهم رجلا واحدا مواليا لأهل بيت النبوة أو كارها للخلفاء الثلاثة إلا شخصا واحدا استعملاه للدعاية !! ولما آلت مقاليد الحكم والخلافة إلى معاوية أعلن وبكل صراحة وخطياً بسلسلة من مراسيمه الملكية بأنه لا عطاء ولا مكان بدولته لأي إنسان لا يواليه ولا يطيعه ، ولا عطاء ولا مكان بدولته لأي إنسان يحب علي بن أبي طالب وأهل البيت ومن ثبتت موالاته لعلي وأهل بيت النبوة فيتوجب على ولاة معاوية أن ينكلوا به ويهدوا داره (1)وإذا جهر مواطن من رعايا دولة الخلافة بهذا الحب ، وامتنع عن مسبة علي بن أبي طالب ، فإن عقوبته حسب قوانين دولة البطون هي الموت صبرا ، وما فعله معاوية بالصحابي الجليل حجر بن عدي وأصحابه المخبتين الصالحين دليل قاطع على ذلك ، فقد قتلهم صبرا بتهمة رفضهم الشتم ولعن عدو الخليفة علي بن أبي طالب ، ولا مانع لدى الخليفة من نهب أموال الذين لا يوالونه ، وقتل أطفالهم كما فعل بسر بن أرطاة ، ولم تكتف دولة الخلافة بذلك بل فرضت على رعاياه أن يعلنوا رضاهم بكل ما يفعله الخليفة وأركان دولته وان يعرفوا بأنه لا حق لهم بالإعتراض على فعل من أفعال الخليفة ، وجاءت وسائل إعلام هذه الدولة ، ومن سار في ركابها من علماء السوء فألقوا بروع الناس أن محبة الخليفة وطاعته ، وعدم معصيته ، وعدم الخروج عليه ، والقبول بأعماله كلها واجبات دينية مفروضة على كل ذكر وأنثى من رعايا دولة الخلافة !!! وان الخليفة ليس مسؤولا أمام احد ، فبإمكانه أن يظلم ، وأن يعطل الحدود ، ويضيق الحقوق ، ويغصب ألأموال ، ويضرب ألأبشار ، ومع هذا تبقى طاعته فرضا مقضيا على كل فرد من أفراد الرعية ، ولا يجوز الخروج عليه ، والخروج عليه حرام بإجماع علماء دولة الخلافة ،(2)ثم إنه لا علاقة لأحد من

(1) راجع شرح نهج البلاغة لآبن أبي الحديد نقلا عن المدائني في كتابه ألأحداث ج3 ص595 تحقيق حسن تميم.
(2) راجع صحيح مسلم ج6 ص 20 ـ 22 باب «الأمر بلزوم الجماعة»و ج12 ص229 بشرح النووي =
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 202


الرعية بالمسلك الشخصي للخليفة ، فإن كان الخليفة فاسقا فتجب طاعته ، ولا علاقة لأحد بفسقه .(1)لقد خُلق الخليفة الغالب ليطاع ، وليحكم ، وخلقت الرعية لتطيعه وتقبل بحكمه إن أرادت السلامة في الدنيا والجنة في ألآخرة !! وإذا رفض فرد من أفراد الرعية ذلك ،فلا عطاء له ولا رزق ، ولا مكان له في دولة الخلافة ولا في المجتمع «ألإسلامي» ويتولى الخليفة وأركان دولته قتله بتهمة شق عصا الطاعة ومفارقة الجماعة ، ويوم القيامة يدخل النار جزاء وفاقا لمعصيته لخليفة البطون . وأمام هذه ألآلية المحكمة من إرهاب الدولة إقتصر دور الرعية على الطاعة والقبول بافعال الخليفة مهما كانت ، نحن أمام نظام يرفع شعار الدين ، ويقوم بعمل المحرمين ، نحن أمام نظام الفراعنة ، ولكنه يلبس لباس الدين ، نظام يديره أولئك الذين حاربوا رسول ألله ودينه بكل وسائل الحرب ، حتى أحيط بهم ، فاستسلموا وتظاهروا بالإسلام ، وبعد موت النبي استولوا على منصب الخلافة بالقوة والغصب ، وحكموا ألأمة باسم الإسلام الذي لا يعرفونه ، وهم كانوا بالأمس من أشد أعدائه ، فكمموا ألأفواه ، وصادروا الحريات ، وغصبوا الحقوق وألأموال ، وقتلوا النفوس المحرمة ، وأذلوا عباد ألله ، وزيفوا الدين ، وحرفوه ، وسخّروه مطية لمطامعهم وأهواءهم ، وعاثوا في ألأرض فسادا على سنة من آل فرعون ، فذلت ألأمة واستذلت أكثريتها ، واختارت الحياة مع الذل والعافية على الموت ، وكانت ألأمم الكافرة تتفرج عليها وهي تتآكل من الداخل، وتتعجب كيف تمكن الخلفاء من قلب كل شيء هذا ألإنقلاب المريع ؟!
لقد أدرك ألإمام الحسين بوصفه ألإمام الشرعي ، وبوصفه الوارث الوحيد للنبي أن ألأمة تعيش أخطر مراحل حياتها ، وأنه لا بد للإسلام من منقذ ولا غنى للأمة عمن يوقظها من سباتها العميق ، وان تركت ألأمة على ما هي عليه ، فقد تعتقد ألأمم ألأخرى أن ألإسلام في حقيقته ما هو إلا ألإسلام الذي تمارسه دولة الخلافة ، والنظم التي تتبناها دولة الخلافة وإن كانت إسلامية في ظاهرها ، ولكن لا

= وسنن البهيقي ج8 ص158 ـ 159 ، وكتاب التمهيد لأبي بكر الباقلاني باب «ما يوجب خلع ألإمام» طبعة القاهرة 1366 .
(1) راجع المراجع السابقة .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 203


علاقة ألإسلام بجوهرها ومحتواها ، ثم ترك ألأمر وشأنه فقد تنجح دولة الخلافة بفرض مفهومها السطحي والسقيم للإسلام ، وإجبار ألأمة على تبنيه ، ومع العادة والتكرار وضغط وسائل إعلام دولة البطون ، يصبح إسلام الخليفة وأركان دولته هو الإسلام ولا إسلام غيره ، بعد أن تنجح دولة الخلافة بتحريف الكلم عن مواضعه وتبديل مضامين دين ألله الحنيف ، وتحريفه بعدما أعتدل ، لكل هذه ألأسباب كان ألإمام الحسين موقنا أنه لا بد من إنتفاضة ، وثورة من نوع خاص ، تعيد ألإسلام لمساره الصحيح ، وتقدمه للعالم بوجهه المشرق ، وتنقذ ألأمة من ذلها وتفضح خزعبلات وألاعيب دولة الخلافة ومتاجرتها بالدين ولكن ألإمام الحسين موقن أيضا بان ألأمر ليس بهذه السهولة ، فدولة النبي حكمت الجزيرة وأهلها سنتين ، ودولة الخلفاء حكمت بضعا وخمسين سنة وخلال مدة حكمها الطويل أوجدت سننا ، ورسختها أكثر من سنن رسول ألله نفسه !!

من يجرؤ على ألإنتفاضة ؟ :

الكلمة العليا في المجتمع ألإسلامي كله كانت للخليفة وأركان دولته ، فالخليفة وأركان دولته هم وحدهم من الناحية الرسمية والفعلية وألأعداد الصحيحة يقولون ويفعلون ، وما عداهم كسور ، فالقلة المؤمنة اختفت نهائيا عن مسرح التأثير على الحياة ، وقررت أن تكتم إيمانها كما فعل المؤمنون في المجتمعات الكافرة للأمم السابقة ، وألأكثرية الساحقة من ألأمة سلمت ، ويئست من المقاومة بعد أن أدركت أن الخليفة لا يقهر ، وأن أُمة ألقت وسائل إعلامها بروع الناس أن رضى ألله من رضى الخليفة ، وبعد أن أكتشفت أن مفاتيح كل شيء بيد الخليفة ،فلا شيءيمنعه من أن يقتل أيا كان ، أو أن يترك أيا كان ، إنه الطاغية ، القاهر فوق الرعية ، فمن يخطر بباله مثل هذه الظروف أن ينتفض ، أو أن يثور !!، ومن يجرؤ على قيادة الثورة ، ومن يجرؤ على تأييد الثورة أو ألإلتحاق في صفوفها !! ثم لنفترض أن أحدهم قد ثار ، فإن الخليفة وأركان دولته سيخمدون الثورة قبل أن يسمع بها أحد ، وسيصوّرون الثائر إعلاميا بصورة الكافر الشاق لعصا الطاعة ، والمفارق للجماعة ، العاصي والخارج على «أمير المؤمنين وخليفة رسول رب

كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 204


العالمين»ثم يقوم الخليفة بتقطيع الثائر إربا إربا أمام ألأمة وستتفرج ألأمة عليه وهو يقطع أوصال ضحيته ، دون أن تقوى على أن تقول «لا» لأن كلمة لا حذفت عمليا من قواميس اللغة .
إن ألإمام الحسين هو المؤهل الوحيد للقيام بانتفاضة وقيادة ثورة !!! فهو في قاموس الشرعية ألإلهية ألإمام الشرعي من بعد أبيه وأخيه ، ثم إنه الوحيد من ذرية النبي ، فليس في بلاد ألإسلام من هو أقرب للنبي منه ، فهو أبنه ، وهو حفيده وحبيبه ، وسيد شباب أهل الجنة ، وكل المسلمين ، وعلى رأسهم الخليفة يعلمون ذلك علم اليقين ، ولنترك المجال للإمام الحسين ليعرف نفسه بالمزايا التي تفرد بها واختص بها عن غيره ، قال ألإمام الحسين مخاطبا القتلة من جيش الخليفة :
«أما بعد : فانسبوني ، فانظروا من أنا ؟ ثم أرجعوا إلى أنفسكم فعاتبوها ، فانظروا هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي !! ألست ابن بنت نبيكم وابن وصيه وابن عمه ؟! وأول المؤمنين بألله ، والمصدق لرسوله بما جاء به من عند ربه ؟1 أوَ ليس حمزة سيد الشهداء عم أبي ؟! أوَ ليس جعفر الطيار ذو الجناحين عمي ؟! أوَ لم يبلغكم قول مستفيض فيكم أن رسول ألله قال لي ولأخي : «هذان سيدا شباب أهل الجنة »فإن صدقتموني بما أقول وهو الحق فوألله ما تعمدت كذبا . . . . ولإن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم ، سلو جابر بن عبدالله ألأنصاري ، أو سعيد الخدري ، أو سهل بن سعد الساعدي ، أو زيد بن أرقم ، أو أنس بن مالك ، يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول ألله لي ولأخي ، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي ؟! . فإن كنتم في شك من هذا القول أفتشكون أثرا ما أني ابن بنت نبيكم ، فوألله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري منكم ولا من غيركم ، أنا ابن بنت نبيكم خاصة . . . » .(1)
وقال ألإمام الحسين لرجل من أهل الكوفة : «وألله لو لقيتك بالمدينة

(1) راجع تاريخ الطبري ج3 ص318 وألإرشاد للمفيد ص234 والكامل لابن ألأثير ج2 ص561 وبحار ألأنوار ج45 ص6 والعوالم ج17 ص250 وأعيان الشيعة ج1 ص601 ووقعة الطف ص206 والموسوعة ص419 ـ 421 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 205


لأريتك أثر جبريل من دارنا ، ونزوله على جدي بالوحي ، يا أخا الكوفة ، مستسعى العلم من عندنا ، أفَعلموا وجهلنا ؟ هذا لا يكون »(1)فعلم الحلال والحرام والصواب والخطأ ، والفيصل بين الشرع والهوى هو قول ألإمام الحسين لأنه ألإمام المؤهل لقيادة ألأمة ، ووارث علم النبوة والكتاب .
ثم إن العرب كلها تعرف ألإمام الحسين ، فهو العالم الفذ الذي لا يدانيه عالم ، والشخص الفريد من نوعه الذي واجه جيشا وبرباطة جأش ، وببأس لا مثيل له ، وهوالرجل الشامخ المقام الذي واجه محنة تهد الراسيات بأعصاب فولاذية ولم يهن ولم يستسلم ، وهوالذي أقدم بمحض اختياره على تقديم روحه دفاعا عن الحق ، فألإمام الحسين كان أوحد زمانه لأنه ألإمام الشرعي ، فهو ألأعلم وهو ألأتقى وهو ألأفضل ، كان متألقا كالشمس الطالعة في النهار ، وكالبدر في ظلمات الليل . فكان هو الوحيد المؤهل ليبعث انتفاضته ، وليقود ثورة من نوع خاص . فلن يقوى الخليفة ، وإعلام دولته على التشكيك بدين ألإمام ، أو النيل من مكانته ، أو إقناع المسلمين بخزعبلات ودعايات إعلام دولة الخلافة التي يسمون بها عادة أعداء الخليفة ودولته .

من هم ألمنتفضون وألثوار ؟

لقد قرر ألإمام الحسين أن يستجيب لنداء الواجب ولدوره التاريخي ، لقد قرر أن ينتفض وأن يكون أول ثائر ، وعزم على تحمل مسؤولية قيادة ألإنتفاضة المباركة وقيادة الثورة.
ولكن في ذلك المناخ الذليل من يجرؤ على ألإنتفاضة ، ومن يجرؤ على الثورة ، ومن يجرؤ على تأييد قائد الثورة ألإمام الحسين ، ومن يجرؤ على ألإلتفاف حوله والسير معه إلى نهاية الشوط ؟ بل ومن يستطيع أن يصافح ألإمام الحسين ؟ أو يجتمع معه ؟ فعمّ الذل وألإرهاب في ذلك المجتمع ، وأماتا فيه ، كل قيم ألإسلام ، وقيم النخوة وألإباء !!! يبدو أن ألإمام الحسين قد أراد المنتفضين

(1) بصائر الدرجات 11 ح1 والكافي ج1 ص398 ح3 وبحار ألأنوار ج6 ص157 و ج45 ص93 والموسوعة ص347 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 206


والثوار من نوعية خاصة ليتمكنوا من القيام بانتفاضة وثورة من نوع خاص ، فمنذ اليوم ألأول لإعلان موقف ألإمام الحسين :
1ـ نهض آل محمد ، وأهل بيت النبوة ، وذوو القربى وأعلنوا إنضواءهم تحت راية الحسين وتأييدهم له ومباركتهم لخطواته واستعدادهم للمضي معه قدما حتى الشهادة في سبيل ألله ، وتبعا لهم انضمت نساؤهم ، وذراريهم ، وهكذا تكونت الخلية ألأولى من خلايا ألإنتفاضة والثورة ، وهذه الخلية عبارة عن آل البيت ، وأهل البيت ، وذوي القربى مع نسائهم وأطفالهم . إن هذه الخلية ألأولى تتكون من أولاد الرسول وأحفاده وبناته ، ومن أبناء عمومة الرسول وأحفادهم !! وهذه فئة يعرفها كل المسلمين بما فيهم الخليفة وأركان دولته ، ولا يخفى شرفها ومكانتها على أحد من الناس ، إنهم عائلة الرسول ، وحرمة الرسول !!! فهم أحد الثقلين الذي أمر رسول ألله بالتمسك بهما ، وهم آل محمد الذين لا تجوز صلاة عبد إن لم يصل عليهم، وهو أهل المودة في القربى الذين افترض ألله مودتهم على كل مسلم ومسلمة ، وهم أهل البيت الذين أذهب ألله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، فماذا عسى الخليفة أن يقول عنهم ، وبماذا يمكن لوسائل إعلام دولته أن تصفهم ؟ فقول الخليفة وأركان دولته مقابل قول ألله ورسوله . فهل في الدنيا كلها عاقل واحد يمكنه ان يكذب ألله ورسوله ويصدق الخليفة وأركان دولته ؟! ثم إن هذه الفئة المباركة هي سنام القدسية في المجتمع ألإسلامي ، فهل يعقل أن يدوس الخليفة على قدسية هذه الفئة أمام كل المسلمين !!! وإن داس عليها علنا فما الذي يبرر وجوده وشرعية هذا الوجود كحاكم للمسلمين إذا داس على أقدس مقدساتهم وهو آل محمد وأهل بيته وذوو قرباه !!! صحيح أن الخليفة وأركان دولته يمكنهم أن يهدموا الكعبة المشرفة إذا اقتضت مصلحتهم ذلك ، وقد هدموها بالفعل ، ولكن هل يعقل أن يقتلوا ابن النبي الوحيد في مشارق ألأرض ومغاربها ، وأحفاد النبي ، وبني عمومته وأن يسبوا بنات النبي وبنات عمومته !!! إن فرعون مصر وهامانه ، ونمرود ووزراءه أسمى وأجل من أن يفكروا بذلك ! فهل أن يفعل (خليفة المسلمين) ما يخجل فرعون ونمرود عن فعله !!! وهل يعقل أن يفعل أركان دولة الخليفة ما يستحيي هامان

كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 207


ووزراء نمرود عن فعله ، !! فإن فعل الخليفة وأركان دولته ذلك فما هم إلا كفرة ، ملحدون ، يتسترون بلفظ الشهادتين ومظاهر الإسلام وقشوره ليحكموا مجتمعا يدين أفراده بدين ألإسلام !! ثم إن فعل الخليفة وأركان دولته ذلك فما هو المتبقي من التبريرات لسكوت ألأمة وخنوعها وهي تشاهد الخليفة وأركان دولته وهم يدوسون على آخر ما تبقى لهم من مقدسات !!! خاصة وأن إنتفاضاتهم سلمية وثورتهم قائمة على الدين والمنطق والحوار ، ولا يطلبون إلا الحق فما الذي يمنع الخليفة من إعطائهم هذا الحق ، ومن رفع ظلاماتهم وألإستماع لمطالبهم في ملأ من الناس !!!
2ـ وأيد انتفاضة ألإمام الحسين وثورته أيضا بالإضافة لآل محمد مجموعة من نخبة ألأمة ألإسلامية ، وهم أهل البصائر ، وأهل النخوة ، وألإيمان ، والتضحية طمعا برضوان ألله وجنته ، وقد وصفهم أحد القادة الموالين للخليفة بقوله لجنوده : «. . . أتدرون من تقاتلون ؟ إنما تقاتلون فرسان المصر ، وأهل البصائر ، وقوما مستميتين . . . »(1)هذه شهادة عدوهم بهم ، صحيح أن هذا العدو لا أخلاق له ولا دين ، ولا يمكن ألإعتداد بشهادته لفساد دينه وخلقه وتردي إنسانيته ، لكن الظروف التي جرت فيها الشهادة ، وألأسباب الدافعة لتلك الشهادة ، وسماع المئات لها دون أن ينفي صحتها أحد منهم ، مع أنه يثاب على النفي ولا يعاقب ، كل هذا يجعلنا نجزم بصحة هذه الشهادة ، فالذين وقفوا مع الحسين من أبناء ألأمة ألإسلامية وأيدوه هم نخبة في قمة ألإباء والرجولة ، فهم فرسان ، وفي قمة الوعي ، لأنهم أهل بصائر ، ومن الملحدين بثقافة الهوان والذل ، لأنهم طلاب موت لا طلاب حياة ، وأن شرفهم وتفوقهم وتميزهم مستمد من أعمالهم وأصيل في نفوسهم . وقد أثبتت مجاري ألأحداث طبيعة تلك النخبة التي اختارها ألله تعالى لتقف مع ألإمام الحسين ، ومع آل محمد وأهل بيت النبوة وذوي القربى ، فقد تحملوا مشاق رحلة الشهادة ، فلم يهنوا ولم يحزنوا ، وليلة المذبحة طلب منهم ألإمام الحسين أن ينسحبوا في جنح ألليل وستره وأن يتركوه وحده ليواجه

(1) راجع تاريخ الطبري ج5 ص435 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 208


مصيره لأن القوم إنما يطلبونه ، فإن ظفروا به (ذهلوا عن غيره ) ، وبين لهم ألإمام بانه ليس له في أعناقهم بيعة ولا عليهم ذمة ، وأنه راض منهم ، لكن أهل بيت النبوة ، والنخبة التي التحقت به من أبناء ألأمة ألإسلامية رفضت ذلك رفضا قاطعا ، ورأت أن ذلك عار الدنيا وشنارها إذا تركت إمامها وحيدا للوحوش الكاسرة ، وفي صبيحة المذبحة ، أراد شباب أهل بيت النبوة أن يتقدموا للقتال ، فأبت تلك النخبة المباركة ، وأصرت على أن تقاتل بين يدي ألإمام وأهل بيت النبوة حتى تفديهم وتموت دونهم .
اولئك هم أصحاب الحسين ، وأولئك هم الرجال الذين اختارهم ألله من أمة كاملة ليموتوا بين يدي ألإمام الحسين ، وأهل بيت النبوة ، ولينالوا شرف الشهادة دفاعا عن الحق وأهله ، وهم قلة لا يتجاوز عددهم التسعين رجلا !! ومن المدهش حقا ، أن فيهم عربا وموالي ، وفيهم من عرب الشمال وعرب الجنوب ، وفيهم الشباب وفيهم الشيوخ .

الناجون الراشدون :

قال ألإمام الحسين : «وإنما أدعوكم إلى سبيل الرشاد ، فمن أطاعني كان من المرشدين ، ومن عصاني كان من المهلكين »(1)فالذين اتبعوا ألإمام الحسين كانوا من الناجين الراشدين ، والذين لم يتبعوه كانوا من الهالكين ، لأن ألإمام الحسين كان كما كان جده وأبوه المعيار الموضوعي بين الحق والباطل ، وبين النجاة والهلاك .

حزب ألله وحزب الشيطان :

قال ألإمام الحسين لأصحابه :«أصحابي إن القوم قد إستحوذ عليهم الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ، وأنشد يقول :
تعديتم يا شر قوم ببغيكم وخالفتم فينا النبي محمدا


(1) راجع مقتل الحسين للخوارزمي ج2 ص6 وتاريخ ابن عساكر ترجمة ألإمام الحسين ص 206 وبحار ألأنوار ج45 ص8 والعوالم ج17 ص251 والموسوعة ص424 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 209


(1)
أما كان خير الرسل أوصاكم بنا أما كان جدي خيرة ألله أحمدا
أما كانت الزهراء أمي ووالدي علي أخا خير ألأنام المسددا

والثابت أن حزب أهل بيت النبوة هو حزب ألله ، وأن من يخالفهم من حزب إبليس(2)والخلاصة أن الذين وقفوا مع ألإمام الحسين هم حزب ألله ، وهم صفوة ألله من خلقه في زمانهم ، وهم الفئة المؤمنة حقا ، وهم أحباب الرسول ، أما الذين خذلوا حسينا وأهل بيت النبوة ، ولم ينصروهم ، بل وقفوا مع عدوهم وقاتلوهم فهم حزب الشيطان حقا ، وهم الخاسرون ، وهم الفئة الباغية ،(3)لأن رسول ألله قد أخبر ألأمة ، بأن الفئة الباغية هي التي تقتل ألإمام الحسين ، ثم إذا لم يكن قتلة ألإمام الحسين ومبيدوا آل محمد وأهل بيته والفئة الباغية فمن تكون هذه الفئة إذا !!! وإذا لم يك قتلة ألإمام الحسين وأعداء الحسين هم حزب الشيطان ، فمن يكون حزب الشيطان إذا !!! وإذا لم يكن الذين أيدوا ألإمام الحسين ووقفوا معه ودافعوا عنه وماتوا دفاعا عنه وعن آل محمد هم حزب ألله في زمانهم فمن يكن حزب ألله ؟!

(1) معالي السبطين ج1 ص348، بحار ألأنوار ج45 ص41 والعوالم /17 ص283 والموسوعة ص426 ـ 427 .
(2) راجع الصواعق المحرقة لابن حجر ص91 و140 وإحياء الميت للسيوطي بهامش ألإتحاف ص114 ومنتخب الكنز بهامش مسند ألإمام أحمد ج5 ص93 وينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص298 .
(3) راجع مقتل ألإمام الحسين للخوارزمي ج1 ص87 ـ 88 وذخائر العقبى للطبري ص119 انظر إلى وصف ألإمام الحسن لهم بالفئة الباغية ، الفتوح ج5 ص79 ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص26 ومثير ألأحزان ص 46 وأعيان الشيعة ج1 ص595 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 210




كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 211

الفصل الرابع
رحلة ألإمام الحسين للشهادة في سبيل ألله

الطريق إلى الموت :

يوم امتنع ألإمام الحسين عن مبايعة يزيد ، كان موقتا أنه قد سلك الطريق إلى الموت ، وأن يزيد وجنوده سيقتلونه ، وسيقتلون أهل بيت النبوة إن عاجلا أم آجلا ، وأن مسألة قتلهم مسألة وقت ليس إلا ، وقد خصصنا بحثا في الفصول السابقة بعنوان «يقين ألإمام الحسين»أثبتنا فيه أن ألإمام كان يعرف أين يقتل ، وكيف يقتل ، ومن يقتل معه ، ومتى يقتل ، ومن هم القتلة ،!! كان موقنا أن المنايا يرصدنه ليبقى دائما على طريق الموت لا يحيد عنها قيد أنملة ، وكان ألإمام دقيقا إلى درجة التصوير الفني عندما تمثل بقول يزيد بن المفرّع الحميري وهو يدخل لوداع جده العظيم :
(1)
يوم أعطى مخافة الموت ضيما والمنايا ترصدنني أن أحيدا

ومع يقين ألإمام انه يسلك هو وأهل بيته الطاهرين ، وأصحابه الصادقين الطريق إلى الموت ، وأن الفرعون وجنوده سيطاردونهم حتى يظفروا بهم ، وانهم سيقتلونهم أشنع قتلة ، إلا أن ألإمام قد صمم بأن يكون موته ، وموت أهل بيته ، وأصحابه الصادقين ، (موتا من نوع خاص ) يليق بعظمة ألإمام وطهر أهل بيت النبوة ، وجلال وشموخ الصادقين من أصحابه ، موتا ينالون به أعظم درجات الشهادة عند ألله تعالى ، وهكذا وصّاه الجد العظيم يوم جاء الحسين لوداعه ، (2)

(1) تاريخ الطبري ج3 ص271 ، ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص186، وتاريخ ابن عساكر ، ترجمة ألإمام الحسين ص195، ووقعة الطف ص83 والموسوعة ص286 .
(2) راجع الفتوح ج5 ص20 ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص186 وبحار ألأنوار ج44 ص328 والعوالم ج17 ص177 والموسوعة ص287 .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 212


يريده ألإمام موتا بحجم عظمة المهمة وألأهداف التي خرج لتحقيقها ، موتا يكشف حقيقة الفرعون وجنوده .

إستغلال فترة المطاردة :

مثلما صمم ألإمام الحسين على أن يكون موته وأهل بيته وأصحابه من نوع خاص كذلك صمم ألإمام على إستغلال فترة مطاردة ألأمويين له ، وما تبقى له من حياة أحسن إستغلال ، لتسمع ألأمة كلها بخروجه ، ولإقامة الحجة عليها ، وليكشف ألأمويين على حقيقتهم البشعة ، ولفضح يزيد ونظامه ، وليعلن باسم ألله ورسوله وبإسم ألإسلام الذي يمثله ، بطلان الخلافة ، وعدم شرعيتها ، وبطلان كافة الفتاوى الفارغة التي كانت تضفي هالة من القداسة الزائفة على الخليفة الجبار المتغلب ، وتحرم معصيته ، والخروج عليه ، وليظهر الخليفة المتغلب بصورته الحقيقية ، كغاصب ما ليس له ، وجالس بالقهر بالمكان الذي خصصه ألله لغيره (1)وكمدع لما ليس له (2)وكمطيع للشيطان وتارك للرحمن ، ومبطل للحدود ، وشارب للخمور ، ومستأثر بأموال المسلمين (3)وكمفسد كبير في ثوب مصلح ، وكقائد لحزب الشيطان ، (4)وكإمام فاسق يحكم بالجور والعدوان .(5)
وألإمام يريد من الأمة ومن العالم كله أن يتساءل : كيف يمكن التوفيق بأن إدعاء الخليفة «أنه خليفة رسول رب العالمين»وبين أعماله ألإجرامية المنبثقة عن سلوكه الشخصي القذر ، ومسيرته ألإرهابية كحاكم مستهتر بألأموال وألأرواح ،

(1) راجع الفتوح ج5 ص11، ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص182 وانظر إلى قول ألإمام برسالته لأشراف البصرة «وكنا أهله وأولياؤه وأوصياؤه وورثته وأحق الناس بمقامه . . »في تاريخ الطبري ج3 ص280 ومثير ألأحزان ص27 وبحار ألأنوار ج44 ص340 وأعيان الشيعة ج1 ص590 ووقعة الطف ص107 .
(2) ألإرشاد للمفيد 224 والكامل لآبن ألأثير ج2 ص552 وأللهوف ص24 وأعيان الشيعة 596 وبحار ألأنوار ج44 ص377 .
(3) راحع تذكرة الخواص ص217 والموسوعة ص326 .
(4) معالي السبطين ج1 ص348، وبحار ألأنوار ج45 ص41 والعوالم ج17 ص283 .
(5) الفتوح ج5 ص35 ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص195 والموسوعة 313 وراجع المراجع في البند الثاني لتر تكيز ألإمام على جورهم وعدوانهم .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 213


وبأحكام الدين ، وطويته الفاسدة التي تضمر الحقد والبغض للبقية من آل الرسول .(1)
وألإمام يريد من ألأمة أن تستفيق من غفلتها ومن نومها العميق ومن تطرفها وحبها للحياة مع الذل ، فالعيش كالمرعى الوبيل ، هوخسة ، فالحق لا يعمل به ، والباطل لا يتناهى عنه ، والموت للخلاص من هذه الحياة ما هو إلا شهادة ، والحياة مع الظالمين ليست إلا برما .(2)
ويريد ألإمام الحسين من ألأمة أن ترجع لدينها وتعرف من هم الذين اختارهم ألله ولاة لأمرها ، فتلتف حولهم ، وتتخلى عن طاعة بني أمية ، فإنها إن فعلت ذلك فإن يزيد سيسقط تلقائيا ، لقد تمكن ألإمام خلال فترة المطاردة ، وبوسائل محدودة ، ومن خلال تصريحاته ، وخطبه ومقابلاته التي كانت تفيض بالصدق واليقين ، وأنبل المشاعر نحو الدين وألأمة ، من أن يوصل ما أراد إيصاله للأمة ، ومن إقامة الحجة عليها وعلى ألأمويين معا ، وتمكن خلال الفترة المتبقية له من الحياة من أن يضرب المثل ألأعلى ، بالشجاعة والتضحية وألإقدام ، وألإقبال على الموت بنفس مطمئنة ، راضية في سبيل نصرة الحق ، ولا يخفى ما لذلك من أثر في بعث الحياة بأمة أذلها الأمويين فذلت ، وما لذلك من أثر في تحجيم بني أمية وجنوده كعصاة وكاعداء لله ولرسوله ، وكقتلة مجرمين لا همّ لهم إلا مصالحهم ألأنانية الضيقة ، وألأهم انه مزق وبمنتهى القوة كافة البراقع والمظاهر الزائفة التي كانوا يتسترون بها ، وعرّاهم وكشفهم للأمة وللعالم كله حقيقتهم البشعة .

الحوار بين لغة الدين والمنطق ولغة المخالب وألأنياب :

لقد ترك ألإمام الحسين جوار جده العظيم وهو كاره ، وخرج وهو كاره وتمنى لو أتيحت له الفرصة ليبقى في المدينة ، ويتنقل في بلاد ألإسلام ، ويدخل

(1) راجع الفتوح ج5 ص11 ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص182 .
(2) تاريخ الطبري ج3 ص307 وتاريخ ابن عساكر ترجمة ألإمام الحسين ص214 ومقتل الخوارزمي ج1 ص237 على سبيل المثال .
كربلاء ـ ألثورة وألمأساة 214


مع يزيد وجنوده في حوار بلغة الدين والمنطق ، ويقنعهم أنه ألأولى بسلطان النبي وميراثه ، وألأحق ، وأنه ألإمام الشرعي المؤهل إلهيا لهذا المنصب ، وأنه ألأولى بمبايعتهم لهم ، وأن يزيد الذي يصر على أخذ البيعة من ألإمام الحسين أو أن يضرب عنقه ليس مؤهلا للخلافة والقيادة لا في سلوكه ، ولآ في سيرته ، ولا في علمه ، ولا في تاريخ أبيه وجده الدموي المتميز بعداوة صارخة لله ولرسوله ، فصدور يزيد وجنوده أضيق من أن تتسع بذلك، وأسماعهم أضعف من أن تطيق سماع ذلك ، لقد أتسع فرعون مصر على جبروته بموسى وهارون ، وأتاح لهما الفرصة ليدليا بما عندهما ، وسمع منهما حجتهما كاملة ، بل وأتاح لهما الفرصة ليثبتا صحة هذه الحجة على مرأى ومسمع من الشعب المصري كله ، وكان موسى آمنا خلال فترة طرحه لما جاء به ، ولم يتعرض له فرعون بسوء !! وعندما التقى موسى بالسحرة على مشهد من الناس ، ليثبت صحة ما جاء به ، كان موسى آمنا ، لم يتعرض له فرعون ولا جنوده بالسوء ، وعندما نجح موسى بهزيمة السحرة أمام الناس لم يتعرض له ، ولم يقتله بل أتهمه والسحرة بالمكر وتركهم أحياء ، وتركهم طلقاء !! .
ليت فرعون ـ يزيد ـ المسلمين قد تخلق بأخلاق فرعون مصر ، وأتاح للإمام الحسين ما أتاحه فرعون مصر لموسى !! ليته منح ألإمام الحسين الفرصة والحرية التي منحها فرعون مصر لموسى !!!.
ليته سمع حجة ألإمام الحسين كاملة ، وأتاح له الفرصة ليثبت صحة ما جاء به ، وما عنده ، وأعطاه الحرية وألأمن إلى حين على ألأقل لما كان هنالك داع للخروج ، ولما كانت هنالك ضرورة لنثر شمل أهل بيت النبوة ، وتشتيتهم في البلاد ،ومطاردتهم بهذه الهمجية والوحشية التي لم يعرف لها التاريخ مثيلا !!!.
إن فرعون مصر لم يطلب من موسى أن يبايعه ، ولم يطلب منه أن يعترف بشرعية حكمه ، لأنه يدرك بأن طلبه غير معقول وغير منطقي . إن فرعون مصر لم يخير موسى بين ألإعتراف بشرعية حكمه أو بالموت كما فعل يزيد عندما أمر واليه

السابق السابق الفهرس التالي التالي