كربلاء ـ الثورة والمأساة 173


إذا فإن اختيار الإمام الحسين للكوفة كان إختيارا معقولا في مثل ظروف الحسين ، وخياراته المحدودة .

الحسين وتصديق أهل الكوفة :

لقد رأينا من كتاب مسلم بن عقيل أن ثمانية عشر ألفا من أهل الكوفة قد بايعوه ، ومسلم بن عقيل صادق في ما قال ، وهذا يعادل 181 ضعفا للعدد الذي بايع الرسول في العقبة، وبناءً على تلك البيعة هاجر الرسول وأهله من مكة إلى المدينة ، لقد تعهد الذين بايعوا رسول ألله في العقبة حماية الرسول وأهله كما يحمون إزرهم ، فلم يطلب رسول الله غير ذلك، ولم يطلب ضمانات، لأن فكرة طلب الضمانات في مثل هذه الحالات غير معقولة ، ثم ما نوع تلك الضمانات ، قد يقال : إن أهل المدينة ليسوا كأهل العراق ، أو كأهل الكوفة ، لكن هذا القول ليس علميا ، فقد شرع الخلفاء بإحراق بيت فاطمة بنت محمد على من فيه وفيه الحسن والحسين طفلان ، وعلي وفاطمة ، أمام سمع أهل المدينة وبصرهم كما وثقنا ، ولم يروِِ ِ لنا مؤرخ قط بأن أحدا من أهل المدينة استنكر ذلك ، أو نهى عنه بل كان أهل المدينة يتفرجون وكأن ألأمر لا يعنيهم ، مع أنهم بايعوا رسول الله على أن يحمونه ويحمون أهل بيته كما يحمون أنفسهم وذراريهم ، فتصديق الحسين لأهل الكوفة وتعامله مع ظاهر ألأمور هو المتفق مع المنطق والمعقول والمنقول .


الحسين وحمل أطفاله وأهل بيته :


قال أبو الفرج ألأصفهاني : «بعد خروج الحسين أمر عمرو بن سعيد بن العاص صاحب شرطته على المدينة ، أن يهدم دور بني هاشم ، وبلغ منهم كل مبلغ » (1)لقد وصلنا هذا الخبر المختصر ، بالرغم من سيطرة دولة الخلافة على وسائل ألإعلام وكتابة التاريخ ، وحرصها على أن لا يسمع الناس إلا بما تعتز به ، ولا يظهر عن جرائمها أي دليل . وعملية هدم دور بني هاشم ، والبلوغ منهم كل مبلغ عمل خطير جدا ومن غير المعقول أن يتولى أمير المدينة القيام به على

(1) راجع ألأغاني لأبي الفرج ألأصفهاني ج4 ص155
كربلاء ـ الثورة والمأساة 174


مسؤوليته ، مما يجعلنا نقطع بأن أمير المدينة قد تلقى أمرا مباشرا من يزيد في دمشق .
فإذا كان الخليفة وأركان دولته يهدمون دور الهاشميين الذين بقوا في المدينة ، فماذا عسى يزيد وجنوده أن يفعلوا بإخوة الحسين وأبناء الحسين ، وينات الرسول لو ظفروا بهم !!! فمن المؤكد أنه سيذبح الرجال وألأبناء ويستحي النساء !!! ويزيد وابوه اخترعا هدم الدور كفنٍ من فنون التنكيل بخصومهم ، وقد رأينا أن معاوية أصدر أمرا لكل ولاة أقاليم مملكته جاء فيه وبالحرف : «من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القومـ يعني أهل بيت النبوة ـ فنكلوا به واهدموا داره ».(1)
بمعنى أن الحسين إن ترك ذريته وأطفاله خلفه ، فإن كل الاحتمالات الرهيبة واردة، ثم إن الشخص من عامة الناس لا يقبل أن ينجو بنفسه وأن يترك أولاده من خلفه تحت رحمة عدوه، فكيف بالإمام الحسين الذي يحمل أكبر القلوب وأنبل العواطف كيف يتركهم تحت رحمة ألأمويين وأتباعهم .
وما الذي يمنعهم من أن يهدوا دار الحسين ، ودور اخوته على رؤوس من فيها وهم أحياء !! .
وما الذي يمنع يزيد من أن يعلن بأنه سيقتل كل يوم واحدا من ابناء الحسين أو اخوته أوابناء اخوته ما لم يأت الحسين صاغرا ويسلم نفسه !! وما الذي يمنعه من أن يسبي بنات الرسول !!!، فكل شنيع ، وكل قبيح ، وكل رذيلٍ من ألأعمال محتمل جدا من الطاغية وجنوده ، فيزيد ، مدمن بالعنف ، وبالرعب ، تربى في بيئة ألإدمان على العنف والرعب !!! إنك لاتستطيع أن تتصور أن أكلة لحوم البشر يمكن أن يفعلوا كما فعلت هند جدته بمعنى أنهم رضعوا الإدمان على العنف والقتل والرعب فصار هذا ألإدمان مظهرا عاديا من مظاهر حياتهم .
ثم أي عار في الدنيا يمكن أن يلحق بمن يتخلى عن فلذات كبده وأحب الناس إلى قلبه لينجو بنفسه !!! وكيف يتقوّل الناس عندما يعلمون أن ابن بنت

(1) راجع شرح نهج البلاغة لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد ج3 ص595 ـ 596 نقلا عن كتاب ألأحداث للمدائني .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 175


رسول الله، والامام الشرعي الذي اختاره الله ، وابن علي ، وحفيد أبي طالب قد ترك اخوته وأبناءه ، وأبناء اخوته تحت رحمة عدوه وعدوهم ، ونجا بنفسه !!! إن نفسه القدسية الشريفة ، وعواطفه العميقة النبيلة ، تترفع عن مجرد تصوّر هذا !!! .
ثم انه ليس في الدنيا كلها عاقل واحد يمكن أن يترك ذرية خلفه تحت رحمة خصمه ، وفي ظروف كظروف الحسين ، وخيارات محدودة لخياراته !! فكان قراره بإخراج ذريته معه قرارا حكيما ومنطقيا ، وفطريا ومنسجما مع طبيعة تركيبة النفس البشرية ، ومع الفطرة النقية السليمة التي لم تمسها تعقيدات الحياة ، ولم يدنسها مرض المكر والإلتواء وألأنانية .
ثم إن ذريته الطيبة كنفسه التي بين جنبيه ، يصونها ويحميها بكل وسائل الحماية التي ألهمه ألله إياها ، فأينما حلت تلك النفس الزكية تحل تلك الذرية الطاهرة ، وأينما رحلت ترحل ، يغدق عليها أقدس عواطفه ، ويحبوها بعظيم رعايته ، ومن ساواك بنفسه ما ظلمك .
عندما خرج الإمام الحسين من المدينة إلى مكة ومعه اخوته وذراريهم ، وأبناء عمومته وذراريهم ، قال له أهل بيته : « لو سلكت الطريق ألأقرع لكان أصلح ، فقال لهم ألإمام الحسين : « أتخافون الطلب ؟ قالوا : أجل » .
قال الإمام الحسين : لن أحِد الطريق حذر الموت ، وأنشأ يقول :
إذا المرء لا يحمي بنيه وعرضه وعترته كان اللئيم المسببا(1)

هذه طبيعة الرجل الذي خرج ، وأخرج ذريته معه ، وأخال أخوته وأبناء عمومته ، قد حللوا الموقف كما حلله الإمام الحسين ، وتوصلوا إلى ذات النتائج التي توصل إليها الإمام الحسين ، وأخال النسيج النفسي لكل واحد منهم يتشابه مع النسيج النفسي لذات ألإمام الحسين !! ولِمَ لا !! فهم أحفاد شيخ البطاح أبي طالب ، وأبناء فارس الإسلام وسيد العرب والعجم ، والمسلمين عامة علي (ع) .(2)

(1) راجع مقتل الحسين لأبي مخنف ص25 وينابيع المودة 402 والموسوعة ص300 .
(2) راجع تاريخ دمشق لابن عساكر ترجمة الإمام علي ج2 ص772 ، والرياض النضرة للطبري =
كربلاء ـ الثورة والمأساة 176


ثم من جهة أخرى فإن الرسول نفسه عاش هذه المحنة ، فليلة هجرته تآمرت بطون قريش الـ 23 على قتله ، وشرعت بتنفيذ المؤامرة وكان النبي يعرف أنها ستطارده إن نجا من الموت ، ومن هذا فإن النبي أمر علي بن ابي طالب ، بأن يحمل ذريته ويلتحق به في اليوم التالي لهجرته .
ثم إن الإمام الحسين يريد من ألأمة ان تستفيق من غفوتها القاتلة ، وأن تصحو ، ويريد أن يقيم الحجة عليها ، وخروج الإمام باهل بيته وذريته كلها أبلغ بالحجة ، وأعمق تأثيرا ، فعندما تسمع ألأمة وتعلم بأن عميد أهل بيت النبوة ، وأهل البيت ، وآل محمد قد أُخرجوا ، كبيرا وصغيرا ذكرا وأنثى ، وأن الخليفة قد خيّرهم بين الموت أو البيعة ، وإنه وجنوده في أثرهم يطاردونهم ، وأن أهل بيت النبوة يبحثون عمّن ينصرهم ويحميهم ، فلن يبقى أمامها إلا أن تستجيب ، أو تغلق أسماعها ، وتغمض عيونها ، وتتابع سباتها المذل ، وتتجاهل نداء إمامها الشرعي ، وتعيش بذل تحت حكم يزيد الظالم وتفعل ذلك مع سبق ألترصد والإصرا ، وبعد إقامة الحجة القاطعة عليها .

لماذا لم ينسحب ألإمام الحسين؟ :

من المؤكد أن الإمام الحسين قد تلقى رسالة من ابن عمه مسلم بن عقيل أخبره فيها أن ثمانية عشر الفا من أهل الكوفة قد بايعوه (1)ومن المؤكد أن مئات الكتب والرسائل قد وصلته من أهل الكوفة تدعوه للقدوم ، وتعد بالنصرة والحماية والمنعة (2)ومن المجمع عليه ان العديد من الرسل جاؤوه وطلبوا منه القدوم إلى الكوفة (3)ولا خلاف بأن الإمام الحسين قد وعدهم بالقدوم عليهم وعلى هذا

= ج2 ص234 وكنز العمال ج5 ص157 ح443 ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج9 ص70 واسد الغابة ج1 ص19 وج3 ص116، والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص107، وكنز العمال ج15 ص126.
(1) راجع تاريخ الطبري ج6 ص116 وتذكرة الخواص ص138 والمناقب لابن شهر آشوب ج2 ص240 .
(2) راجع تاريخ الطبري ج6 ص210 ومقتل الخوارزمي ص468 .
(3) راجع تاريخ الطبري ج3 ص278 والكامل لابن ألأثير ج2 ص524 وبحار ألأنوار ج44 ص324 =
كربلاء ـ الثورة والمأساة 177


ألأساس أرسل ابن عمه مسلم بن عقيل ليأخذ له البيعة عليهم ، وعلى هذا ألأساس توجه الإمام الحسين إلى العراق لأنه يقدم على جند مجندة له كما وصف أحدهم في رسالته (1)ونسَف كل هذه ألأمور المجمع على صحتها ، وتجاهل وقوعها امر غير معقول ، فلم يثبت للإمام الحسين ان ثمانية عشر ألفا الذين بايعوا مسلم بن عقيل قد نكثوا بيعتهم إلا يوم المذبحة ، عندما اكتشف أنه لا ناصر له منهم ولا معين ، ولوأنه تراجع قبل تأكده من ذلك لكان ملوما ، وعلى هذا ألأساس رفض الإمام الحسين عرض الطرماح بن عدي عندما قال له : «فإن أردت أن تنزل بلدا ً يمنعك الله به حتى ترى من رأيك ، ويستبين لك ما أنت صانع ، فسِر حتى أنزلك مناع جبلنا الذي يدعى أجا ، امتنعنا والله به من ملوك غسّان وحِميّر ومن النعمان بن المنذر ومن ألأسود وألأحمر ، والله ما إن دخل علينا ذلٌ قطُ ، فأسير معك حتى أنزلك القرية ثم نبعث إلى الرجال ممن بأجأ وسلمى من طيء ، فوالله لا ياتي عليك عشرة أيام حتى تأتيك طيء رجالا وركبانا ، ثم أقم فينا ما بدا لك ، فإن هاجمك هيج فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائي ، يضربون بين يديك بأسيافهم . . . . ، فقال له الحسين : جزاك الله خيرا ، إنه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الإنصراف ، ولا ندري على ما تنصرف بنا وبهم ألأمور في عاقبة » .(2)
ثم إن الطرماح بن عدي ، ليس اكثر من رجل واحد ، ومن المحال أن تكون له القدرة على جمع عشرين الفا بعشرة أيام ، ومن جهة أخرى فإن قومه قد علموا بخروج الإمام الحسين من المدينة ، ويإمتناعه عن البيعة منذ أكثر من شهرين ، فما الذي منعهم خلال هذه المدة من الإلتحاق بالحسين ومن نصره وحمايته ،!! فلو وقف من عشرين الف الطرماح الفين مع الإمام الحسين لكان بإمكان الحسين أن

= والعوالم ج17 ص183 .
(1) وقعة الطف ص89 والموسوعة ص312 .
(2) راجع مصادر لقاء الإمام الحسين مع الحر في تاريخ الطبري ج6 ص237 ، وابن ألأثير ج4 ص9ـ21 وابن كثير ج8 ص172 ـ 174، وألأخبار الطوال للدينوري ص348 ـ 253، وأنساب ألأشراف ص169 ـ 176، وإرشاد المفيد ص305 ـ 310 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 178


يهزم جيش الفرعون وأن يغيّر موازين القوى وحركة التاريخ ، وهذا ما يؤكد لنا بأن أقوال الطرماح ليست اكثر من تصورات شاعر ، وما كان ينبغي للإمام الحسين او لأي عاقل مقامه أن يترك ما بينه وبين القوم ويتبع تلك التصورات النظرية دون ان يعرف عاقبة أو مآل ما تم عليه الإتفاق بينه وبين أهل الكوفة ! ومع هذا فإن الإمام الحسين لم يتجاهل هذه الناحية بل كانت محور حجته ، فقد خطب الإمام بجيش الخليفة الذي كان يقوده الحر قائلا : «إنها معذرة إلى الله وإلى من حضر من المسلمين إني لم اقدم على هذا البلد حتى أتتني كتبكم ، وقدمت عليّ رسلكم أن أقدم إلينا فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم ، فإن تعطوني ما يثق به قلبي من عهودكم ومن مواثيقكم دخلت معكم إلى مصركم ، وإن لم تفعلوا وكنتم كارهين لقدومي انصرفت إلى المكان الذي أقبلت منه عليكم » (1)ومثل قول الإمام الحسين مخاطبا بعض القتلة . . . فإنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله عنكم ، ونحن أهل بيت محمد ، أولى بولاية هذا ألأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم والسائرين فيكم بالجور والعدوان ، وإن أبيتم إلا الكراهية لنا والجهل بحقنا ، وكان رأيكم غير ما اتتني به كتبكم ، وقدمت به علي رسلكم إنصرفت عنكم» » .(2)
ومن الواضح أيضا أن الإمام الحسين قد قال لعمر بن سعد بن أبي وقاص قائد جيش الفرعون نفس الذي قاله للحر وجيشه ، بدليل أن عمر بن سعد بن أبي وقاص قد كتب إلى عبيدالله بن زياد ما نصه : « بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد فإني حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي فسألته عما أمامه ، وماذا يطلب ويسأل ؟ فقال : «كتب إلي أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم ، فسألوني القدوم ففعلت فأما إذ كرهوني ، فبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم ، فأنا منصرف عنهم » . فلما قرأ الكتاب على ابن زياد قال :

(1) راجع الفتوح لابن أعثم الكوفي ج5 ص85 ، مقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص231 والإرشاد للمفيد ص224 ، وانظر النص في الطبعة المحققة من تاريخ الطبري ج5 ص406 ط دار المعارف ـ مصر . مقتل الحسين للمقرم ص187.
(2) راجع الإرشاد للمفيد ص224، والكامل لابن ألأثير ج2 ص552 ، وأعيان الشيعة ج1 ص596، وبحار ألأنوار ج44 ص377 ، ووقعة الطف ص170 والموسوعة 350 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 179


ألآن إذ علقت مخالبنا به يرجو النجاة ولات حين مناص

وكتب عبيدالله بن زياد إلى عمر بن سعد :«بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فقد بلغني كتابك ، وفهمت ما ذكرت ، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد بن معاويةهو وجميع أصحابه ، فإن فعل ذلك رأينا رأينا والسلام» أنت تلاحظ أن عبيدالله بن زياد قد أجاب عمر بن سعد بغير ما صمم عليه وأنه كلف عمر بأخذ البيعة من الإمام الحسين ومن معه ، ثم يرى رأيه في الحسين فلو كان الحسين يريد بيعة يزيد لبايعه في المدينة ، ولكان في غنى عن رحلته المليئة بالمكاره والمتاعب ، ولو اراد ان ينزل على حكم لنزل على حكم الفرعون نفسه يزيدبن معاوية بدلا من النزول على حكم عبد تافه من عبيده كأبن زياد ، مثلما نلاحظ بان الإمام الحسين لو اقتنع بالعاقبة المفجعة بينه وبين القوم واراد الإنسحاب والرجوع ، لما وجد إلى ذلك سبيلا ، فجيش الفرعون لن يسمح له بذلك ، إنه مصمم على ارتكاب المذبحة ، انظر إلى قول عبيدالله بن زياد : «يرجو النجاة ولات حين مناص» ويؤكد ذلك ما رواه الطبري ، عن أبي مخنف لإن عبيدالله بن زياد بعث إلى برسالة إلى عمر بن سعد بن أبي وقاص جاء فيها : «أما بعد فإني لم أبعثك إلى حسين لتكف عنه ، ولا لتطاوله ، ولا لتمنيه السلامة والبقاء ، ولا لتقعد له عندي شفيعا ، انظر فإن نزل حسين واصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إلي سلما ، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثِل بهم ، فإنهم لذلك مستحقون ، فإن قتل حسين فأوطيء الخيل صدره وظهره . . . وإن أنت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع ، وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا وخلّ بين شمر بن ذي الجوشن ، وبين العسكر فإنا قد أمرناه بامرنا والسلام » .(2)
والخلاصة أنه لما قامت البيّنة الشرعية على نكث القوم وغدرهم صار انسحاب الحسين ورجوعه من أعظم المستحيلات ، لأن يزيد وجنوده قد خططوا للمذبحة ، وخططوا لتنفيذها ، ولم تعد بيعة ألإمام الحسين مهمة ، بل ألأهم منها

(1) راجع تاريخ الطبري ج6 ص235 وما بعدها .
(2) راجع تاريخ الطبري ج6 ص238 وما بعد .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 180


هو القتل ، والمذبجة لإبادة أهل بيت النبوة ومن تجرّأ على إعلان ولايته لهم ووضع حدً لخطرهم على دولة الخلافة .

الموت هو الخيار الوحيد للإمام الحسين :

عندما امر يزيد واليه على المدينة أن «يأخذ بيعة الإمام الحسين وإن أبى يضرب عنقه » ،(1)وعندما أعلن الإمام الحسين انه لن يبايع ليزيد أبدا (2)انحصرت كل الخيارات أمام الحسين بخيار واحد هو الموت !!! بمعنى أن على الإمام الحسين أن يستعد للموت ، فالمواجهة مع يزيد وجنوده آتية لا ريب فيها وبما أنه لا طاقة له بمواجهة جيش الخلافة لذلك فإنهم سيقتلونه ، أما متى يموت ، وكيف يموت ، فهذا الذي لا يعرفه أحد !!!
إن الإمام الحسين بذل جهده لحماية نفسه واخوته وذراريهم ، وحماية موقفه واغتنم الفسحة المتبقية فأقام الحجة البالغة على ألأمة التي تدعي ألإسلام ، وناداها لتفيق من غفلتها ولتنفض عن هامات رجالها غبار الذل والهوان وتستعيد انسانيتها وكرامتها المهدورة !!!! لقد اختار الإمام الحسين وصمم على الموت بعز وكبرياء ، فهو يقول لأهل بيته :
ومن دون ما ينعي يزيد بما غداً نخوض بحار الموت شرقا ً ومغرباً
ونضرب ضربا كالحريق مقدما ً إذا مــا رآه ضيغم فـرّ َ مهربـاً

فالإمام الحسين لن تكون ميتته إلا بشرف ، وبرونق خاص يليق بمقام النبوة والإمام ، فقبل أن يموت على يد يزيد غدا ، فإنه يريدأن يخوض بحار الموت شرقا ، ومغربا ، ويضرب أولا ضريا كأنه الحريق إذا ما رأته العمالقة ألأبطال فرت هاربة .

(1)راجع كتاب الفتوح لإبن أثم الكوفي ج5 ص10 ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص 180 ـ 185 ومثير ألأحزان ص14 ـ 15 ،واللهوف ص 9 ـ 10 .
(2)راجع كتاب الفتوح لإبن أعثم الكوفي ج5 ص14و ص23 ومقتل الإمام الحسين للخوارزمي ج1 ص184 ، ومثير ألأحزان ص24 ، وبحار ألأنوار ج44 ص325 والموسوعة ص283 ، ومقتل الحسين ج1 ص188 وبحار ألأنوار ج44 ص329 والعوالم ج17 ص178 ، وأعيان الشيعة ج1 ص588 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 181



حتمية مقتل الحسين :

كان ألإمام الحسين قبل امتناعه عن البيعة بعشرات السنين على علم يقيني بكافة أخبار السماء عن مذبحة كربلاء ، وقد تلقى هذه ألأخبار من أبيه علي عن جده رسول الله ، وتلقاها من اخيه الحسن عن جده رسول الله ، وتلقاها من رسول ألله مباشرة ، وكان يعلم انه سيموت بالعراق ، وعلى شط الفرات ، وفي مكان يقال له كربلاء ، أو كرب وبلاء ، وكان يعلم أنه سقتل في زمن خليفة مترف ، مستهتر ، يقال له : يزيد ، وباشراف عمر بن سعد بن أبي وقاص ، وبالاشتراك الفعلي من رجل أبق « أبرص » عرفه في ما بعد بانه شمر بن ذ ي الجوشن ، وكان يعلم أن ألأمة المحسوبة على جده هي التي ستقتله ، فهي بين مشارك بالقتل ، أو مؤيد له ، أو خاذل ومتفرج عليه ، كان يعلم كل ذلك بالرواية الصادقة اليقينية الموثوقة ، وهو كان يسعى إلى قتل مشرف ينال به أعلى درجات الشهادة ، ضمن إطار المعقول المنقول من نظرية الإبتلاء الإلهية «خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا» (الملك /2 ) «إنا جعلنا ما على ألأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا» (الكهف /7 ) .
قال الإمام الحسين لأخيه محمد بن الحنفية : «يا أخي لو كنت في بطن صخرة لاستخرجوني منها فيقتلونني »(1)وقال : « والله لو كنت في جحر هامة من هوام ألأرض لاستخرجوني منها حتى يقتلونني » .(2)
وقالت له أم سلمة قبل خروجه من المدينة : إني سمعت جدك يقول : «يقتل ولدي الحسين بأرض العراق في أرض يقال لها كربلاء ، فقال لها الإمام : يا أماه وأنا والله أعلم ذلك وإني مقتول لا محالة ، وليس لي من هذا بد ، وإني والله لأعرف اليوم الذي أقتل فيه ، واعرف من يقتلني ، وأعرف البقعة التي أدفن فيها ،

(1) ينابيع المودة 402 ت 404 .
(2) بحار ألأنوار ج44 ص99 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 182


وإني لأعرف من يقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي ، وإن أردت يا اماه أريك حفرتي ومضجعي » .(1)
قالت له عمته أم هانيء : «سيدي أنا متطيّرة عليك من هذا المسير لهاتف سمعته البارحة يقول :
وإن قتيل الطف من آل هاشم أذل رقاباً من قريش فذلّت

لم يندهش ألإمام من رؤى عمته ، بل اقترح عليها ان تعدّل عجز البيت ألأول فتقول : «أذل رقاباً المسلمين فذلت » ، ثم قال ألأمام بعد هذا الإقتراح :
وما هم بقوم يغلبون أبن غالب ولكن بعلم الغيب قد قدر ألأمرُ(2)

ثم أُنظر إلى كتاب ألإمام لبني هاشم عندما خرج من المدينة ، وهذا الكتاب يفيض باليقين وهذا نصه : «بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي بن أبي طالب إلى بني هاشم اما بعد ، فإن من لحق بي منكم أستشهد ، ومن تخلف لم يبلغ مبلغ الفتح ، والسلام » (3)
وعندما اقترح عليه بعض أهله أن يسلك طريقا جانبيا خوفا من جلاوزة بني أمية قال الإمام بيقين الواثق : «لا سبيل لهم عليّ ، ولا يلقوني بكريهة أو أصل إلى بقعتي » .(4)
وعندما اقترح عليه عبدالله بن عمر بن الخطاب العودة إلى المدينة قال له ألإمام : «هيهات يا ابن عمر إن القوم لا يتركوني إن أصابوني ، وإن لم يصيبوني فلا يزالون حتى أبايع ويقتلونني . . »(5)

(1) راجع بحار ألأنوار ج44 ص331 ، والعوالم ج17 ص180 ، وينابيع المودة 405 والموسوعة ص392 .
(2) معالي السبطين ج1 ص241 ، والموسوعة ص296 .
(3) بصائر الدرجات ص481 حديث 5 ، واللهوف ص28 ، والمناقب لابن شهر آشوب ج4 ص76 ومثير ألأحزان ص39 ، وبحار ألأنوار ج44 ص330 و ج 45 ص 84 و ج 42 ص 81 والعوالم ج17 ص139 .
(4) بحار ألأنوار ج44 ص330 ، والعوالم ج17 ص180 .
(5) راجع الفتوح لإبن أعثم الكوفي ج5 ص36 ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص196 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 183


وبالثقة واليقين نفسها قال لابن عباس عندما ألح عليه وحاول منعه من الذهاب إلى العراق : « يا ابن عبا س اما علمت إن منعتني من هنالك ، فإن مصارع أصحابي هناك !! فقال له ابن عباس : أنّى لك ذلك ؟ فقال ألإمام : بسرّ سُرّ لي ، وعلم أعطيته » .(1)
وعندما اقترح عليه ابن عباس أن يدخل في صلح القوم ، قال له ألإمام: «هبهات هيهات يا ابن عباس ، إن القوم لن يتركوني ، وإنهم يطلبوني أين كنت حتى أبايعهم كرها ويقتلونني . . .إلى أن قال: وإني ماض في أمر رسول الله حيث أمرني وإنا لله وإنا إليه راجعون » .(2)
وقال ألإمام الحسين يوما للواقدي ، وزرارة وقبل خروجه إلى العراق بثلاثة أيام ، وبعد أن أراهما آية كبرى: « لولا تقارب ألأشياء ، وحبوط ألأجر لقاتلتهم بهؤلاء «الملائكة» ولكني أعلم يقينا أن هناك مصرعي ، ومصرع أصحابي ، ولا ينجو منهم إلا ولدي علي » .(3)
ولما عزم ألإمام على الخروج إلى العراق قام في أصحابه خطيبا وقال: . . . خُطّ الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي إشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخيّر لي مصرع أنا لاقيه ، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات . . . إلى أن قال : «ولا محيص عن يوم خط بالقلم» . وأثناء اجتماع ألأمام مع وفود الجن المؤمن ، وعندما قالت له الجن:«يا سيدنا نحن شيعتك وأنصارك ، فمرنا بامرك وما تشاء ، فلو أمرتنا بقتل كل عدو لك وأنت بمكانك لكفيناك» !!!.
فجزاهم ألإمام الحسين خيرا وقال لهم : «أوما قرأتم كتاب الله المنزل على جدي«ص» «أينما تكونوا يُدرككم الموتُ ولو كنتم في بُروج ٍ مشيّدةٍ»

(1) راجع دلائل ألإمامة ص74 والموسوعة ص321 .
(2) راجع معالي السبطين ج1 ص246 والموسوعة ص321 .
(3) دلائل ألإمامة ص74 ، ومثير ألأحزان ص39 ، وبحار ألأنوار ج44 ص364 والعوالم ج17 ص213 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 184


(النساء / 78 ) وقال سبحانه وتعالى :« لبرز الذين َ كُتِبَ عليهِم ُ القتلُ إلى مضاجعهم »(آل عمران / 154 ) ، وإذا أقمت بمكاني فبماذا يبتلى هذا الخلق المتعوس ؟ وبماذا يختبرون ؟ ومن ذا يكون ساكن حفرتي ، وقد اختارها الله تعالى ، يوم دحا ألأرض ، وجعلها معقلا لشيعتنا ، ويكون لهم أمناً في الدنيا وألآخرة ، ولكن تحضرون يوم السبت وهو يوم عاشوراء الذي في آخره أقتل ، ولا يبقى بعدي مطلوب من أهلي ونسبي واخوتي وأهل بيتي ، ويسار برأسي إلى يزيد لعنه الله » .(1)
فقالت الجن : «نحن والله يل حبيب الله وابن حبيبه لولا أن امرك طاعة وأنه لا يجوز لنا مخالفتك ، قتلنا جميع أعدائك قبل أن يصلوا إليك !! فقال ألإمام لهم : نحن والله أقدر عليهم منكم ولكن«ليهلك من هلك عن بيّنةٍ ويحيى من حيّ عن بيّنة ٍ»(2)( ألأنفال / 42 ) .
ثم أنظر إلى قول ألإما لأبي هرّة : «يا أبا هرّة إن بني أمية أخذوا مالي فصبرت ، وشتموا عرضي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت ، وأيمُ الله يا أبا هرة لتقتلني الفئة الباغية ، وليلبسهم الله ذلا ً شاملاً . . . » .(3)ويحدد ألإمام ألأمور بدقة متناهية فيقول : « هذه كتب أهل الكوفة إليّ ولا أراهم إلا قاتلي ، فإن فعلوا ذلك لم يدعوا لله حرمة إلا انتهكوها ، فيسلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من فرم ألأمة » .(4)
وأنظر إلى قول ألإمام لأحد محدثيه : «يا عبدالله ليس يخفى عليَّ الرأي ، ولكن الله تعالى لا يغلب على أمره ، والله لا يدعونني حتى يستخرجوا هذه العلقة

(1) راجع النص حوار ألإمام مع وفود الجن في بحار ألأنوار ج44 ص330 ، والعوالم ج17 ص179 ، واللهوف ص78.
(2) المصدر السابق .
(3) راجع الفتوح لابن اعثم ج5 ص79 ، ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص226 ومثير ألأحزان ص46 ، وبحار ألأنوار ج44 ص368 ، وأعيان الشيعة ج1 ص595 .
(4) تاريخ ابن عساكر ترجمة ألإمام الحسين ص211 .
كربلاء ـ الثورة والمأساة 185


من جوفي ، فإذا فعلوا سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل فرق ألأمم » .(1)
فالإمام الحسين يتكلم عن حتمية مقتله بيقين النبيين والصديقين والشهداء ويتعامل مع وقائع لم تخرج بعد إلى حيّز الوجود وكأنها حقائق ثابتة ، وينظر نظرة شمولية ، ويتكلم عن الوقائع التي ستحصل وهي في عالم الغيب وملفات القضاء الإلهي ، في سياق صميم نواميس الكون ومقتضيات الإبتلاء ألإلهي ، كلام العارف البصير بكنهها ومداخلها ومخارجها ومنابعها الخفية !! انظر إلى قول ألإمام أمام وفود الجن ، فبماذا يبتلى هذا الخلق المتعوس ، وبماذا يختبرون !! ومن ذا يكون ساكن حفرتي ؟
إن ألإمام بهذه التساؤلات يبرز بيسر وسهولة أخطر وأجل قوانين الحياة ، وتلك لغة النبيين والصديقين والشهداء ، ويقين ألإمام الحسين عين يقينهم ، ويزيد وجنوده يجهلون تلك اللغة ، ولا يفهمون هذا اليقين !!

(1) راجع ألإرشاد للشيخ المفيد ص223 ، والكامل لابن ألأثير إلى قوله : «لا يغلب على أمره» وبحار ألأنوار ج44 ص375 ، والعوالم ج17 ص22 ، وأعيان الشيعة ج1 ص595 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي